هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٨٣

وعدمها : فالمعروف بينهم دلالته على ذلك ذهب إليه أصحابنا وأكثر العامّة وعزاه الآمدي إلى أصحابه الأشاعرة والفقهاء وأكثر المعتزلة ، وعن أبي هاشم والقاضي عبد الجبّار ومن تبعه المنع من ذلك.

ثمّ اختلف المثبتون فالأكثر على دلالته عليه لغة ، وعن السيّدين دلالته على ذلك شرعا لا لغة. ويجري في جميع العبادات سواء كانت واجبة أو مندوبة بل في كلّ ما تعلّق الطلب به في الشرع وإن لم يكن من العبادة بالمعنى الأخصّ ، وكذا في الأوامر الصادرة من الموالي للعبيد وكلّ مطاع ومطيع ، إذ الدلالة اللغويّة لا يفرق فيها بين المقامات.

ثمّ إنّهم ذكروا أنّه ليس المراد بالإجزاء في المقام إفادة الامتثال للقطع بحصوله بموافقة المأمور به على حسبه والاتّفاق عليه ، بل المراد إسقاط القضاء ، ومنهم من عبّر بسقوطه. والأوّل أقرب إلى لفظ الإجزاء بل هو المتعيّن ، إذ قد يسقط القضاء بامور اخر ـ كالموت ، والجنون ، والإسلام ، وغيرها ـ إلّا أن يقيّد سقوطه بفعل المأمور به. وذلك أحد المعنيين المذكورين للفظ الصحّة في العبادات ، كما أنّ موافقة الأمر معناه الآخر ـ كما يأتي في محلّه إن شاء الله تعالى ـ فالكلام في أنّ المعنى الثاني هل يقتضي الأوّل أو لا؟

والصواب : التعبير عنه بإسقاط التعبّد به ثانيا ، لشموله لما لا قضاء له بأصل الشرع ـ كالجمعة والعيدين وغيرها ـ دون الأوّل ، ولأنّ الفعل قد يسقط القضاء ولا يسقط الإعادة ، كما في ناسي القصر والنجاسة والقبلة وغيرها على بعض الوجوه والأقوال ، وكذا الجاهل في بعض المقامات.

وقد يوجّه الأوّل بالفرض والتقدير فيراد إسقاط القضاء على فرض ثبوته ، وهو تكلّف.

والثاني بأنّ الناسي ونحوه إن تذكّر في الوقت وجب عليه الإعادة والقضاء أيضا عند الإخلال بها ، وإلّا لم يجب عليه شيء منهما.

ويمكن التفرقة بين الحدّين على التقدير الأوّل : بأنّ ثبوت القضاء على تارك

٧٠١

الإعادة عند تذكّره في الوقت إنّما يستند إلى ترك امتثال الأمر المتعلّق بالإعادة وإن رجع في الحقيقة إلى عدم أداء المأمور به حينئذ ، إلّا أنّ الظاهر من إسقاط القضاء إسقاطه من غير واسطة أمر آخر ، وهو ثابت في المثال المفروض.

وعلى الثاني : بأنّ الفعل المفروض لا يصلح لإسقاط الإعادة في نفسه وإن سقط التكليف بها عند استمرار العذر في الوقت ، إذ المسقط لها حينئذ هو العذر المفروض دون نفس الفعل.

والأوجه أن يقال : إنّه إن قلنا بصحة الفعل المفروض في الواقع مشروطا مراعى باستمرار النسيان في الوقت فيبطل مع التذكّر في الوقت ـ بمعنى أنّه ينكشف به بطلانه من أوّل الأمر ـ كان مجزيا على الأوّل بكلا الوجهين دون الثاني كذلك. وإن قلنا بفساده في الحقيقة إلّا أنّه لا قضاء له مع استمرار العذر ، فيخصّ به عمومات القضاء لم يكن مجزيا على الوجهين أيضا ، إذ الفعل المفروض لا يصلح لإسقاط القضاء حينئذ وإنّما سقط قضاؤه بالنصّ كالعبادات الّتي لا قضاء لها من الأصل ، فعدم اندراجه في الحد الأوّل كعدم اندراجها.

وربما يظهر من كلام بعضهم أنّ المراد بالإجزاء في المقام ترتّب الأثر على المأمور به على حسب ما فسّر الصحّة به في المعاملات ، ومقتضاه شمول الكلام للأوامر المتعلّقة بالمعاملات سواء كانت مستعملة في الطلب ـ كما في النكاح والتجارة والمكاتبة والوقف والعتق وغيرها ـ أو في مطلق الإذن كالبيع والطلاق وغيرهما ، لتمثيلهم في محلّ المسألة بتلك الأمثلة ، وهو بعيد عن كلام النافين. بل من البيّن خروجه عن محلّ المسألة واختصاصه بما عرفت فهو كلام آخر.

ثمّ إنّ الكلام في هذه المسألة يتصوّر على وجوه ثلاثة :

الأوّل : أنّ الأمر بالشيء هل يقتضي سقوط التعبّد به ـ بمعنى عدم مطلوبيّة فعله ثانيا في الوقت أو خارجه ـ أو لا يقتضي ذلك؟ فيمكن بقاء التعبّد به ووجوب الإتيان به مرّة اخرى ، كما هو الظاهر من كلام الخصم حيث ذكر أنّه لا يمتنع أن يأمر بالفعل ويقول : «إن فعلته أدّيت الواجب ويلزم القضاء مع ذلك» فيكون الحكم

٧٠٢

في ذلك تابعا لدليل آخر ، ومع عدمه فالأصل البراءة عنه. وعلى المشهور يقع المعارضة إذن بين الدليلين. فنفي القضاء مع عدم الدليل لا يكون مستندا إلى مجرّد الأصل بل إلى الدليل.

واورد عليه : بأنّه لا يعقل النزاع في جواز تعلّق أمر آخر بمثل الفعل الأوّل ، لوضوح إمكانه ووروده في موارد لا يحصى ، فيكون النزاع في صدق القضاء عليه وعدمه فيرجع إلى اللفظ ، فإن اعتبر في مفهوم القضاء استدراك المصلحة الفائتة لم يكن قضاء.

وفيه : أنّ الأمر المتعلّق بفرد آخر من الطبيعة المأمور بها غير الأوّل خارج عن محلّ المسألة قطعا ، كالأمر المتعلّق بتكرار العبادات بحسب أوقاتها وأسبابها ـ كالصلاة والصيام والزكاة وغيرها ـ إذ الثاني غير الأوّل وإن تماثلا في الصورة فيرجع إلى الأمر بالمتماثلين. وإنّما الكلام في اقتضاء الأمر لسقوط التكليف بنفس المأمور به في الوقت أو بمثله لاستدراكه ثانيا في الوقت أو خارجه ولو بأمر آخر متعلّق بعين الأوّل.

وأنت خبير : بأنّ الضرورة كما قضت بجواز الأوّل كذا تقضي بامتناع الثاني ، لكونه تحصيلا للحاصل. إلّا أن يقال : إنّ قيام الضرورة على بطلان أحد القولين لا يمنع من وقوع الخلاف فيه ، فإنّ الخلاف في الامور الضروريّة ليس ببعيد ، ولذا استدلّ المشهور على القول الأوّل بلزوم تحصيل الحاصل. وكان الباعث على التوهّم المذكور قياس الأمر في دلالته على الإجزاء على النهي في دلالته على الفساد ، كما ذكره الخصم مع وضوح الفرق بين المقامين كما سنشير إليه إن شاء الله.

الثاني : أنّ الأمر بالشيء هل يقتضي فعله ثانيا في الوقت من باب الإعادة أو في خارجه على وجه القضاء ولو في الجملة أو لا يقتضي ذلك بل يتبع تعلّق أمر آخر بذلك فيثبت به وعدمه فينتفي بالأصل؟

وبهذا الوجه قرّر بعض المتأخّرين محلّ الكلام في المسألة استبعادا لوقوع النزاع على الوجه الأوّل لرجوعه إلى اللفظ كما مرّ. وزعم أنّه لا يبتني على

٧٠٣

الخلاف في المرّة والتكرار ولا في تبعيّة القضاء للأداء وعدمها. وهو من غرائب الكلام إذ الخلاف في ذلك أشدّ غرابة من الأوّل ، لما عرفت من أنّ تعلق الأمر بمثل الأوّل ليس من المسألة ، بل الكلام في جواز استدراكه ثانيا وعدمه. وإنّما يستبعد الخلاف فيه لقيام الضرورة على امتناع تحصيل الحاصل ، فكيف يعقل القول بدلالة الأمر عليه ، بل وكذا القول بلزوم الإعادة في خارج الوقت ولو لغير جهة الاستدراك بعد فرض الإتيان بالمأمور به على وجهه : من مرّة ، أو تكرار ، أو غير ذلك.

ثمّ لو فرضنا وقوع الخلاف في دلالته على ذلك فكيف يعقل اجتماع القول به مع القول بعدم تبعيّة القضاء للأداء ، إذ الأمر لو لم يقتض التكليف بالقضاء مع الإخلال بالمأمور به في الوقت فكيف يعقل اقتضاؤه له مع الإتيان به على وجهه ، ثمّ كيف يجتمع القول بذلك مع القول بدلالته على المرّة أو على طلب الطبيعة الحاصلة في ضمن الفرد.

نعم ما ذكر في الوجه الأوّل لا يبتني على الخلاف المذكور في شيء من المسألتين كما لا يخفى ، ثمّ ليس في كلام الفريقين ما يشير إلى إرادة المعنى المذكور ، بل كلماتهم في عنوان المسألة وأدلّتها صريحة في خلافه فلا تغفل.

الثالث : أنّ الأمر المتعلّق بالعمل بالطرق الشرعيّة المقرّرة لمعرفة الأحكام أو الموضوعات الخارجيّة هل يقتضي الإجزاء عند الإتيان بالواجبات والمستحبّات الشرعيّة على ما يقتضيه تلك الطرق وإن اتّفق مخالفتها للواقع إلّا أن يقوم دليل على خلافه أو لا يقتضي ذلك إلّا مع قيام دليل آخر عليه؟ فالأصل دوران الأمر في ذلك مدار إصابة الواقع وعدمها. فإن اتّفق مصادفتها للواقع حصل الاجتزاء به وإلّا فلا ، إلّا أنّه يجوز الاكتفاء به من حيث الحكم عليه في الظاهر بأنّه هو الواقع ما لم ينكشف الخلاف ، فإذا تبيّن ذلك انكشف فساد العمل وبقاء الواقع على حاله فيجب الإتيان به في الوقت ، والقضاء في خارجه لتحقّق الفوات فيه. فمحصّله أنّ الأمر الظاهري هل يقتضي الإجزاء عند مخالفة الحكم الواقعي أم لا؟

٧٠٤

وهذا هو الّذي ينبغي أن يكون محطّا لنظر العلماء دون الأوّلين ، وإطلاق العنوان في كلام القوم يوهم اندراجه في محلّ المسألة. ويشهد به احتجاج الخصم بالصلاة الواقعة باستصحاب الطهارة بعد انكشاف الخلاف ، إلّا أنّ الأظهر أنّ الغرض من عنوان المسألة أنّ الإتيان بالمأمور به يقتضي سقوط الأمر المتعلّق به لا سقوط أمر آخر يتعلّق بفعل آخر قد انكشف مخالفته للأوّل بعد اعتقاد توافقهما فلا يشمل الفرض المذكور.

وقد يقرّر المسألة في الأوامر الواردة في حقّ أصحاب الأعذار كالأفعال الواقعة على وجه التقيّة ، ووضوء صاحب الجبيرة ، وطهارة المسلوس والمبطون ، وتيمّم العاجز عن الطهارة المائيّة ، وصلاة العاجز عن القيام أو القراءة أو الطهارة ، أو غيرها من الأجزاء والشرائط المقرّرة إلى غير ذلك ، فهل الأصل الاجتزاء بها بعد زوال تلك الأعذار أو يدور الأمر في ذلك مدار العذر فإذا زال بقي الواقع على حاله؟

وفيه : أنّ أصالة الاجتزاء بتلك الأفعال حيث تحقّق بدليّتها عن الواقع واضح لا ينبغي التأمّل فيها. لسقوط التكليف عن المعذور بالواقع فلا يعود إلّا بدليل ، أمّا لو لم يثبت فيه البدليّة ـ كبعض موارد التقيّة ـ فالأصل بقاء الواقع في الذمّة وإنّما اضطرّ المكلّف فيه إلى الإتيان بفعل آخر غير المأمور به نظرا إلى تحقّق الخوف في تركه فلا يجزئ عنه بعد زواله.

وينبغي بناء المسألة الاولى على الوجهين المذكورين ، فإن ثبت بدليّة الأحكام الظاهريّة عن الواقع كانت واقعيّة ثانويّة ، فكان الحال في العمل بمقتضاها على نحو الحال في الأمثلة المذكورة ، بخلاف ما إذا قلنا بكونها عذريّة محضة وإنّما فائدتها نفي العقاب على مخالفة الواقع وعدم تنجّز التكليف به ما لم ينكشف الخلاف ، ومعه فالأصل ثبوت الواقع وبقاؤه على حاله.

ولتحقيق الكلام في ذلك محلّ آخر في مسألة التخطئة والتصويب وغيرها.

هذا كلّه في الأجزاء والشرائط الواقعيّة. وأمّا الشرائط العلميّة فهي راجعة إلى

٧٠٥

اشتراط العمل بعدم العلم دون الواقع ـ كاشتراط الصلاة بعدم العلم بالغصب في اللباس والمكان وغير ذلك ـ ومن البيّن تحقّق الشرط المذكور في نفس الأمر وإن انكشف بعد العمل مخالفته للواقع ، كما إذا علم بالغصب بعد الصلاة فليس ذلك من مخالفة الواقع في شيء.

وقد تقرّر المسألة على عكس الوجه المذكور فيقال : إنّ الأمر الواقعي هل يقتضي الإجزاء مع مخالفة الطريق الظاهري أم لا؟ ولابدّ فيه من إحراز جميع الشرائط الواقعيّة حتّى النيّة في العبادات الخاصّة ، لعدم اندراجه في المأمور به بالأمر الواقعي مع الإخلال بشيء منها ، لكن لا يعقل القول بالفساد مع الفرض المذكور. فيرجع المسألة إلى أنّ موافقة الطريق الشرعي أو عدم مخالفة الحكم الظاهري هل هو شرط في صحّة العمل بالواقع أم لا؟

ولتحقيق الكلام في ذلك محلّ آخر في أحكام عبادة الجاهل.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : حجّة القول بالإجزاء وجوه :

الأوّل : أنّ القضاء عبارة عن استدراك ما فات من مصلحة الأداء أو مصلحة صفته أو شرطه. وإذا كان المأمور قد أتى به على وجه الكمال والتمام من غير نقص ولا إخلال فوجوب القضاء استدراكا لما حصل تحصيل للحاصل ، وذلك أنّ الفعل المأتيّ به إن لم يكن كافيا في حصول المصلحة المقصودة لزم القصور في الأمر المتعلّق به ، وإلّا كان تحصيلها ثانيا تحصيلا للحاصل.

واعترض عليه : بأنّ كلام الخصم يشعر بأنّه ليس النزاع في الخروج من عهدة الواجب بهذا الأمر ، بل أنّه هل يصير بحيث لا يتوجّه إليه تكليف بذلك الفعل بأمر آخر أو لا؟ ولا خفاء في أنّ المأتيّ به ثانيا لا يكون نفس المأتي به أوّلا بل مثله ، فلا يكون تحصيلا للحاصل.

ولا نسلّم أنّ القضاء عبارة عن استدراك ما فات من مصلحة الأداء ، بل عن الإتيان بمثل ما وجب أوّلا بطريق اللزوم.

واجيب : بأنّ الواجب في الحقيقة إنّما هو نفس الطبيعة دون خصوصيّات

٧٠٦

الأفراد ، ولا ريب في أنّ الطبيعة الّتي وقعت أداء هي الّتي وقعت قضاء ، فإذا أتى بها المكلّف أداء ولم يسقط به القضاء فقد وجب الإتيان بها بعد ما حصلت وهو تحصيل الحاصل ، إذ ليس الواجب إلّا تحصيل الطبيعة في الجملة.

واعترض : بأنّه قريب من الهذيان إذ ذلك يستلزم أن يكون الإتيان بجميع الأنواع المندرجة تحت جنس بعد الإتيان بواحد منها تحصيلا للحاصل.

وأنت خبير : بأنّ المقصود في محلّ المسألة ليس تعلّق الأمر بمثل الفعل الأوّل فإنّه لا يعقل وجه للمنع منه ولا إطلاق القضاء عليه ـ كما مرّت الإشارة إليه ـ وإلّا لزم أن يكون تكرار العبادات بحسب الأوامر المتعلّقة بها تحصيلا للحاصل وأن يكون الإتيان بها ثانيا قضاء وهو خلاف الضرورة ، بل الغرض أنّ الأمر المتعلّق بالطبيعة لو لم يقتض الإجزاء لأمكن بقاء التكليف بعين ما تعلّق به الأوّل بعد حصوله وهو تحصيل للحاصل. وكذا لو تعلّق الأمر المفروض بالفرد المخصوص من حيث خصوصيّته فلا يمكن التكليف به بعينه بعد حصوله. وذلك غير الأمر المتعلّق بفرد آخر من أفراد الطبيعة ، لوضوح أنّه واجب آخر مغائر للأوّل ، إذ لا فرق في مغايرته للأوّل بين اختلاف الطبيعة واختلاف الخصوصيّة ، فليس الأمر المتعلّق بالفرد الثاني إلّا كالأمر المتعلّق بطبيعة اخرى مباينة للاولى في الحقيقة. فلا يعقل حينئذ أن يكون الثاني قضاء للأوّل ، لتفرّعه على فوات الأداء ، وإلّا فليس إطلاق القضاء على الفعل الثاني إلّا كإطلاقه على صيام ما عدا اليوم الأوّل من أيّام شهر الصيام أو صلاة سائر الأيّام، إذ المفروض هنا أيضا أنّ الفعل الثاني واجب آخر يثبت بأمر آخر ووقع في وقته المقرّر ، فليس الحال فيه إلّا كالأوّل ، فإطلاق القضاء عليه إذن ضروريّ البطلان.

إذا عرفت ذلك فلا حاجة في الاستدلال إلى التمسّك بحصول المصلحة المقصودة ، فقد يمنع ابتناء الأوامر الشرعيّة على المصالح الذاتيّة على بعض الوجوه والأقوال ، أو يمنع اعتبار استدراكها في صدق القضاء. بل لا يبتني الاستدلال على صدق القضاء وعدمه ليكون الكلام راجعا إلى تشخيص معنى

٧٠٧

اللفظ ، إنّما نقول بامتناع التكليف بعين ما تعلّق به الأمر الأوّل كلّيا كان أو شخصيّا في الوقت أو خارجه. وذلك معنى الإجزاء لا إسقاط الأمر الآخر المتعلّق بفعل آخر مغاير للأوّل من حيث الخصوصيّة. فالمراد به إسقاط المأمور به بعينه بعد وقوعه دون غيره ، فلا يمكن تعلّق أمر آخر بتحصيل الأمر الحاصل فضلا عن توهّم دلالة الأمر الأوّل عليه ، أو إسقاط الأمر الأوّل بعينه فلا يعقل بقاؤه بعد امتثاله. ومرجع الوجهين إلى واحد ، إذ الأمر الثاني حيث لا يكون تأكيدا للأوّل بل يكون مستقلّا في إفادة الوجوب يستدعي مطلوبا آخر غير الأوّل.

الثاني : أنّه لو لم يستلزم الاجزاء لزم تعذر العلم بالامتثال أبدا لجواز أن يأتي بالمأمور به حينئذ على وجهه ولا يسقط عنه.

واعترض أوّلا : بتوافق الفريقين على الإجزاء بمعنى إفادة الامتثال ، وإنّما الكلام في إسقاط القضاء.

وثانيا : بأنّ الخصم إنّما يدّعي عدم اللزوم عقلا فلا ينافي العلم بحصوله شرعا ، بل الأصل مع الشكّ أيضا عدم لزوم القضاء ، فيتوقّف ثبوته على دليل آخر ، فيحصل العلم بالامتثال مع انتفائه.

والجواب : أنّ المراد بالامتثال سقوط التكليف والخروج عن العهدة بحيث لو تعلّق الأمر به ثانيا لكان واجبا آخر غير الأوّل ، وكان الإتيان به حينئذ إتيانا للواجب في وقته فلا يعقل أن يكون قضاء للأوّل. فإن اقتضى الأمر ذلك لزمه الإجزاء وإسقاط القضاء ، وإلّا لزم امتناع العلم به وإن أتى به في الوقت وخارجه ألف مرّة إلّا مع قيام الدليل عليه بخصوصه ، إذ لو حصل العلم بدونه فإمّا أن يحصل بتكراره بعدد معيّن أو بعدد غير معيّن. والأوّل ترجيح لبعض الأعداد من غير مرجّح والثاني محال ، فتعيّن حصوله بالأوّل كما هو مقتضى الاتّفاق على إفادة الامتثال. فإذا حصل العلم بسقوط التكليف والخروج عن العهدة امتنع عوده بعينه فضلا عن بقائه بالأوّل ، وإنّما يعقل معه تعلّق تكليف آخر بفعل آخر ، وقد عرفت خروجه عن محلّ المسألة.

٧٠٨

الثالث : أنّه إن اكتفى في الإجزاء بإدخال الماهيّة في الوجود ثبت المطلوب ، وإلّا لزم اقتضاء الأمر للتكرار وهو باطل.

واعترض : بالفرق البيّن بين هذه المسألة ومسألة اقتضاء الأمر [للتكرار] ، إذ التكرار على القول به مدلول للأمر فكان الأمر قد تعلّق بكلّ فرد من الأفراد المتكرّرة أو بمجموعها بدلالة المطابقة أو التضمّن على قدر ما يدّعيه القائل به من المرّتين أو الأكثر بحسب اقتضاء العرف ، وحينئذ فيأتي الكلام في أنّ الإتيان بكلّ واحد منها أو بمجموعها هل يقتضي سقوط التعبّد به ثانيا بالالتزام أو لا يقتضي ذلك؟ فلا ربط له بالقول بالتكرار ولا يستلزمه.

وفيه : أنّ الغرض أنّ الأمر لو لم يستلزم سقوط التعبّد بالفعل ثانيا لكان باقيا على حاله ويلزمه التكرار ، إذ لا واسطة بين السقوط وعدمه. لكن قد يقال بعدم دلالة الأمر على شيء من الأمرين وإن لم يكن بينهما واسطة.

الرابع : أنّ النهي يدلّ على فساد مورده إذا كان عبادة ، فالأمر يدلّ على الإجزاء. وهو كما ترى ، إذ الثاني أوضح وأظهر من الأوّل فلا يمكن الاستدلال عليه بقياسه على الأخفى مع فساده.

احتجّ الخصم بوجوه :

الأوّل : أنّ الأمر إنّما يدلّ على طلب الماهيّة المعرّاة عن جميع القيود الخارجيّة فالطلب مدلول الهيئة والماهيّة المطلقة مدلول المادّة ، والسقوط أمر خارج عنهما. وفيه : أنّ غاية الأمر خروجه عن المدلول المطابقي بل والتضمّني أيضا ، والمدّعى دلالته عليه بالالتزام فلا منافاة.

الثاني : أنّ النهي لا يدلّ على فساد المنهيّ عنه ، فالأمر أيضا لا يدلّ على إجزاء المأمور به ، وهو قياس مع الفارق ، ولو تمّ ذلك لكان العكس أولى كما مرّ ، لثبوت دلالة النهي على الفساد عندنا.

الثالث : أنّه لو دلّ على السقوط لسقط قضاء الحجّ بالأمر المتعلّق بإتمام فاسده وهو خلاف الاتّفاق. وفيه : أنّ القضاء لو سلّم بالمعنى المعروف فإنّما يجب

٧٠٩

للحجّ الصحيح الّذي تحقّق فواته ، وأمّا الأمر المتعلّق بإتمام الفاسد فلا شكّ في سقوطه بفعله إذ لا يجب إعادة الفاسد.

الرابع : أنّه لو سقط لسقط عن المصلّي باستصحاب الطهارة إذا انكشف الخلاف بعد العمل لوضوح تعلّق الأمر بالصلاة على ذلك وهو خلاف الاتّفاق ، ويجري المسألة في مطلق الأحكام الظاهريّة عند انكشاف مخالفتها للواقع كما مرّت الإشارة إليه.

وقد عرفت أنّ هذه المسألة لا ربط لها بظاهر العنوان ولا هي ممّا يتفرّع عليه. بل هي مسألة اخرى مستقلّة قد مرّت الإشارة إلى مأخذها ومبناها ، وإنّه من ثمرات الخلاف في التخطئة والتصويب على الوجه الّذي وقع الكلام فيه بين أصحابنا من كون العمل بالحكم الظاهري بدلا عن الواقع عند مخالفته له واقعا فيسقط الواقع عند العمل به ـ كما قد يستظهر ذلك من الادلّة الدالّة على وجوب الأخذ بالظاهر وامتناع ثبوت الواقع معه ـ أو لا ، نظرا إلى إطلاق ما دلّ على ثبوت الحكم الواقعي في حقّ العالم والجاهل ، وأصالة عدم سقوطه بغير امتثاله ، غاية الأمر إعذار الجاهل في عمله بالظاهر ما لم ينكشف الواقع ، فإذا انكشف أثّر الواقع أثره.

وتحقيق الكلام في ذلك موكول إلى تلك المسألة فعلى الأوّل : يكون الأمر الظاهري مسقطا عن الواقع ، كما يقتضي الإجزاء عن نفسه كذا يقتضي الإجزاء عن الحكم الواقعي ـ بمعنى سقوطه عن المكلّف ـ فلا يعود بعد الانكشاف إلا بدليل خاصّ. وعلى الثاني : يكون الأصل بقاء الواقع في ذمّته شأنا ، بمعنى إعذاره في مخالفته ما دام جاهلا ، ولزوم امتثاله بعد انكشافه في الوقت ، وقضاؤه في خارجه نظرا إلى تحقّق فواته عن المكلّف فلا يجزئ عنه غيره إلّا بدليل مخصوص.

وحيث إنّ المختار عندنا هو الوجه الثاني فوجه الفرق بين المثال المذكور في الاحتجاج وما هو الظاهر من عنوان المسألة في كلامهم ظاهر ، بخلاف الأوامر المتعلّقة بأصحاب الأعذار المقتضية لتبدّل الحكم في حقّهم ، فيسقط الحكم الأوّلي

٧١٠

عنهم مطلقا إلّا حيث يكون هناك شاهد على دورانه مدار العذر وجودا وعدما ، لعدم اجتماع البدل والمبدل منه في حال واحدة.

ولتفصيل الكلام فيه محلّ آخر.

حجّة القول بالتفصيل على الإجزاء شرعا قيام الإجماع عليه لاتّفاقهم على الاحتجاج بالأوامر الواردة على الحكم بترتّب جميع الآثار على امتثالها ، وعلى عدمه لغة أنّ الإجزاء إشارة إلى أحكام شرعيّة ـ كوقوع التملّك بالبيع ، والاستباحة بعقد النكاح ، والفرقة بالطلاق ، والصحّة في الصلاة والصوم ـ فلا يجب إعادتها. وإذا كانت هذه الأحكام غير متعلّقة بالأمر لا في لفظه ولا في معناه نفيا ولا إثباتا ، فلا يدلّ امتثاله على ثبوتها لفقد التعلّق بينهما.

وأنت خبير بأنّ الإجزاء في المعاملات ـ بمعنى ترتّب الأثر عليها ـ خارج عن محلّ المسألة كما أشرنا إليه ، إذ ليس المقصود من تشريعها إلّا ترتّب الآثار عليها لا مجرّد الإذن في فعلها وإن لم يترتّب أثر عليها ، على أنّها لو كانت موضوعة للصحيحة فدلالة الأمر بها على صحّتها أوضح ، على أنّ كثيرا منها لا يتعلّق به أمر ـ كالطلاق ، وشبهه ـ وإنّما جاء الإذن في إيقاعها وترتيب الآثار عليها ، والباقي أيضا إنّما تعلّق الطلب الاستحبابي به بعد تشريعه على ذلك ـ كالوقف ، والعتق ، وغيرهما ـ فليس شيء من ذلك من محلّ المسألة في شيء.

نعم ما ذكر : من أنّ الصحّة في الصلاة والصوم وسقوط الإعادة غير متعلّقة بالأمر لا في لفظه ولا في معناه ، ممنوع جدّا ، إذ الصحّة بمعنى موافقة الأمر ، وقد عرفت استلزامها لسقوطه باللزوم البيّن ، فالدلالة على ذلك لغويّة التزاميّة كما لا يخفى.

ـ خامسها ـ

أنّ التكليف له أركان أربعة : المكلّف ، والمكلّف ، والتكليف ، والمكلّف به. ولكلّ منها شرائط ذكر المتكلّمون بعضها ، والفقهاء بعضها. وكان البحث فيها أقرب

٧١١

إلى علمي الكلام والفقه من الأصول ؛ ولذا لم يتعرّض لها بعض الاصوليين ، إذ لا دخل لها بالبحث عن أحوال الأدلّة من حيث هي لكن لا بأس بالإشارة إليها.

وهذه المسألة وإن كانت مشتركة بين الأوامر والنواهي إلّا أنّ أكثر مباحثها أقرب إلى بحث الأوامر وألصق به ، ولذا جرت العادة ممّن تعرّض لها بذكرها في المقام ، فنقول :

الركن الأوّل المكلّف الآمر :

ولابدّ فيه أن يكون ممّن يجب طاعته على المأمور عقلا أو شرعا وإن صدق الأمر من غيره إذا وقع بضرب من الاستعلاء ـ كما مرّ في محلّه ـ لكن لا يترتّب عليه ما هو المقصود في المقام من الوجوب المقتضي لتحتّم الامتثال. فإن كان حكيما عالما بعواقب الامور ـ كما هو المقصود في المقام ـ توقّف صدور التكليف منه على الحقيقة على امور أربعة : علمه بتمكّن المأمور من الإتيان بالمأمور به على وجهه ، وبتحقّق شرط الوجوب وانتفاء مانعه في وقت الفعل على وجه تقدّم في المسألة السابقة ويأتي في نسخ الوجوب قبل وقت العمل ، وبكون المأمور به على وجه يجوز الأمر به ، وتمكين المأمور منه بالألطاف الواجبة.

واشترط بعضهم كونه ممّا يترتّب عليه الثواب بأن يكون واجبا أو مندوبا ، وأن يكون الثواب على ذلك الفعل مستحقّا ، وعلمه بقدر المستحقّ عليه من الثواب ، وامتناع القبيح عليه ، وأن يكون غرضه إيصال الثواب إليه ليكون تعريضا له لكونه الفائدة في التكليف ، وأن يكون عالما بأنّه سيفعله على كلّ حال ولا يحبط عمله.

وأنت خبير بأنّ الوجه في اشتراط الامور المذكورة غير ظاهر ، لعدم انحصار فائدة التكليف في إيصال الثواب ، وإنّما ثبت التفضّل على العباد في إطاعتهم بذلك ، وإلّا فالأمر بالفعل الحسن والأمر النافع في الحال والنهي عن القبيح والضارّ حسن على كلّ حال فسقط أكثرها. وامتناع القبيح عليه ليس من الشرائط المعتبرة فيه ، لأنّه إن كان حكيما قادرا كما هو المفروض فلا يفعله ألبتّة ، وإلّا فقد يقع التكليف منه على غير الوجه المستحسن. وإنّما الغرض بيان ما يعتبر في حسن

٧١٢

التكليف ، فلا يشترط زيادة على ذلك امتناع القبيح عليه ، لحسن التكليف مع ذلك وإن لم يمتنع القبيح عليه.

وتعليله : بأن لا يخلّ بالواجب فلا يثيب المستحقّ للثواب ، ولا يغيّر صفات الأفعال بأن يجعل الحسن قبيحا وبالعكس ، ولا يكلّف بغير فائدة ، ولا يخلّ بالألطاف الواجبة.

عليل ، إذ المفروض حصول ما يعتبر في حسن التكليف ـ من حسن الفعل ، وفعل اللطف ، وترتّب الفائدة ، ونحو ذلك ـ وإن فرض إمكان خلافه في حقّه. وترك الإثابة لو فرض استحقاقها لا يوجب قبح التكليف ، وإنّما يقبح ذلك في نفسه بعد التكليف كترك سائر الواجبات العقليّة.

وأمّا التكليف الصادر من العبد بالنسبة إلى غيره فالمعتبر فيه ظنّه بحسن الفعل ، وتمكّن المكلّف ، وتعلّق الغرض به لنفسه أو غيره.

الثاني : المكلّف المأمور ويشترط فيه امور :

منها : أهليّته لتوجّه الخطاب ، فلو كان معدوما حال الخطاب امتنع تكليفه إلّا على سبيل الوضع معلّقا على وجوده ـ كما يأتي تفصيله في محلّه إن شاء الله تعالى ـ وكذا الحال في الموجود قبل بلوغه حدّ التميز والعقل ، فلا يجوز تكليف الصبيّ غير المميّز والمجنون ، لتوقّفه على الشعور وإمكان التفاته بنفسه إلى عواقب الامور وتميّز النفع من الضرر والطاعة من المعصية. وما يقع من الوليّ بالنسبة إلى أحدهما فليس من التكليف المبنيّ على الاختيار الباعث على المجازاة ، بل من باب التأديب وحمله على الصلاح ولو على سبيل الإلجاء والاضطرار. وأمّا البلوغ الشرعي فهو من الشرائط الشرعيّة ، إذ ليس في العقل ما يمنع من تكليف المميّز المراهق إلّا من باب حكمة اطّراد الأحكام وانتظامها. وكذا لا يجوز تكليف النائم والمغمى عليه والسكران إلّا معلّقا على رفع العذر أو سابقا عليه ، فلا يمنع منه إيجاد المانع الاختياري بل يصحّ العقاب عليه مع علمه بكونه مانعا عن أداء التكليف.

٧١٣

ومنها : قدرته على الفعل المكلّف به فلا يجوز التكليف بغير المقدور ، وهو من شرائط المكلّف به أيضا ـ كما سيجيء إن شاء الله تعالى ـ فهو باعتبار كونه وصفا للمكلّف وهو كونه قادرا مختارا يكون من شرائطه ، وباعتبار كونه وصفا للفعل وهو كونه مقدورا يكون من شرائطه. ومعنى القدرة تمكّنه من الفعل والترك جميعا ليتحقّق الاختيار المصحّح للتكليف والمجازاة عليه ، فلابدّ من انتفاء الإلجاء إلى الفعل بأقسامه ليبقى معه حقيقة الاختيار.

ومنها : تمكنه من قصد الامتثال والطاعة وإن لم يكن من العبادة ، فلا يكفي إمكان الموافقة الاتّفاقية وإن تحقّق بها الغرض والغاية. فلا يجوز تكليف الغافل عن الفعل ـ كالساهي والمخطئ ـ أو عن التكليف ، كالناسي والجاهل المطلق في حال الغفلة. ولا يجوز تكليفه بغير ما غفل عنه من أجزاء الفعل وشرائطه أيضا ، لتوقّف الامتثال على الشعور والالتفات إلى التكليف بأركانه الأربعة ولو على سبيل الإجمال ، فلا يمكن تعليق التكليف على عنوان الناسي ولو بغير موارد النسيان ، لامتناع التفاته إلى كونه مكلّفا بذلك في تلك الحال.

نعم يجوز اندراجه في عنوان المكلّف حيث لا يكون وصف النسيان ملحوظا فيه ، لإمكان التفاته في حال النسيان إلى العنوان الأعمّ.

والحاصل : أنّ الغافل عن أحد أركان التكليف يمتنع تكليفه في تلك الحال. لكنّ الغفلة عن المكلّف به راجعة إلى عدم القدرة على الفعل فيرجع إلى الشرط السابق. والغفلة عن سائر الأركان مانعة من القصد إلى امتثاله. ولا فرق بين حصول الغفلة في تمام العمل أو جزئه ، لانتفاء الكلّ بانتفاء جزئه وتعذّر الكلّ بتعذّر جزئه. وكما تمنع من ابتداء التكليف كذا تمتنع من استمراره ، إلّا أنّ الغفلة المستندة إلى الأسباب الاختياريّة كالمسامحة وقلّة العناية لا ترفع الإثم واستحقاق العقوبة. وأمّا الفعل الواقع في تلك الحال من باب الاتّفاق فليس من المأمور به.

وقد يورد النقض على ذلك بوجوه :

٧١٤

منها : أنّ ما ذكر إنّما يتمّ في العبادات الّتي يشترط فيها قصد الامتثال ، وأمّا الواجبات والمستحبّات الّتي لا يشترط فيها ذلك فلا وجه للقول بخروجها عن المطلوب بدون القصد المذكور ، إذ المفروض تعلّق الطلب بمطلقها وعدم اشتراطها بذلك.

وفيه : أنّ معنى عدم اشتراط الواجبات التوصّليّة بذلك حصول الغرض المقصود منها بدونه فيسقط التكليف بها حينئذ ، ولذا لو وقعت بغير اختيار المكلّف ـ كطهارة المتنجّس بورود المطر عليه ، أو إلقاء الريح ، أو الحيوان له في الماء ـ حصل المقصود وسقط التكليف عنه بذلك مع القطع بعدم كونه من المأمور به بعينه. فكذا الحال في الأفعال الواقعة من باب الاتّفاق فإنّ مطلق الطلب يستدعي الامتثال ، بل هو بمعنى استدعاء الامتثال ، وهو الإتيان بالمطلوب من حيث إنّه مطلوب. ثمّ قد يكون الحيثيّة المذكورة مأخوذة فيه على وجه الشرطيّة فيكون عبادة ، وقد لا يكون كذلك فيحصل الغرض بدونها ، فيكون الفعل حينئذ مسقطا للتكليف لا أداء للمطلوب بعينه ، لعدم كونه امتثالا للأمر. وكذا الحال في النواهي ، لحصول الغرض بالتروك الواقعة بدون القصد والاختيار مع امتناع تعلّق الطلب بها ، كما سيجيء بيانه في محلّه إن شاء الله تعالى.

ومنها : أنّ من الواجبات والمحرّمات ما يرجع إلى الأخلاق والملكات والاعتقادات ونحوها مع عدم استنادها إلى القصد وإرادة الامتثال.

وفيه : أنّ التكليف في ذلك راجع إلى أسبابها الاختياريّة ، بل الأفعال التوليديّة بنفسها امور اختياريّة ، فإنّ المقدور بالواسطة مقدور.

ومنها : أنّه لا شكّ في صحّة العبادات ـ كالصلاة ، والصوم ، والحجّ ـ بترك ما عدا الأركان منها جهلا أو نسيانا. وقد تقرّر أنّ الصحّة في العبادة بمعنى موافقة الأمر ، فلابدّ من كونها موافقة للأمر مطابقة للماهيّة المطلوبة ، مع أنّها لو وقعت من العالم الذاكر كانت باطلة، ويلزمه اختلاف الماهيّة المطلوبة باختلاف الجاهل والعالم والناسي والذاكر ـ كما في الجهر والإخفات ، والقصر والإتمام ـ فيكون الناسي مكلّفا بغير ما كلّف به الذاكر.

٧١٥

وفيه : أنّ النقض المذكور إنّما يرد لو توجّه الخطاب فيها إلى الناسي وهو ممنوع ، وإنّما تعلّق الطلب بنوع المكلّفين بالأركان وغيرها ممّا يعتبر في صحّة العمل مطلقا ، وهو القدر المشترك بين تكليفي الذاكر والناسي وخصّ التكليف بسائر الواجبات بغير الناسي ، فيكون الإخلال بها عمدا موجبا للخروج عن الماهيّة المطلوبة ولا يوجبه النسيان ، فليس ذلك من باب تنويع المكلّفين إلى قسمي الذاكر والناسي وتكليف كلّ منهما بغير ما كلّف به الآخر على نحو تكليفي الحاضر والمسافر وواجد الماء وفاقده ، بل من باب تعميم التكليف ببعض الأفعال ، فلا يكون الناسي عنها آتيا بالمكلّف به وإن كان معذورا في المخالفة حال النسيان وتخصيص التكليف ببعضها بخصوص العالم أو الذاكر ، فيكون الجاهل أو الناسي معذورا وعمله صحيحا مطابقا للأمر المتعلّق بالقدر المشترك. فالماهيّة المطلوبة مختلفة باختلاف المكلّفين والتكليف بها مشروط بالقدرة عليها وإمكان القصد إليها ، والناسي عن غير الأركان في الصلاة والحجّ أو في تناول المفطرات والمحرّمات في الصيام والإحرام معذور في ذلك، على معنى أنّ التكليف إنّما تعلّق بعدم تعمّد الإخلال بذلك.

ولتمام الكلام في ذلك محلّ آخر.

ومنها : أنّه قد يحصل الاجتزاء بفعل الفاقد لبعض الشرائط المذكورة في تمام العمل ـ كصوم النائم في أوّل النهار إلى آخره إذا وقع بعد تحقّق النية ـ أو في بعضه ، كنوم المعتكف والمحرم والصائم بعد انعقادها ، ونيّة الصوم قبل الظهر في القضاء أو عند قدوم المسافر أو قبل الغروب في المندوب ، والغفلة العارضة بعد النيّة في أثناء العبادة مطلقا. ولو تمّ ما ذكر لامتنع ورود التخصيص عليه.

وفيه : أنّ فعل النائم في تلك الموارد ليس من المكلّف به قطعا ، وإنّما يحصل الغرض المقصود فيها بالترك المسبوق بالنيّة كحصوله في المحرّمات بمطلق الترك. وأمّا الطلب فإنّما يتعلّق بالأمر الاختياري على نحو المطلوب في النواهي وغيره مسقط له لحصول المقصود به ـ كما في الواجبات التوصّليّة ـ ولا ينافي ذلك كون

٧١٦

تلك الأعمال عبادات ، إذ المراد لزوم اقترانها بالنيّة في الجملة. فيدور مدار الجعل الشرعي في لزوم اقترانه بأوّل العمل في غير الصوم وجواز تقديمه وتأخيره في الصوم ، فيرجع الأمر في غير الجزء المقترن مع النيّة إلى نحو ما يأتي بيانه في المطلوب بالنهي ـ إن شاء الله تعالى ـ من غير فرق بين الجزء الأوّل والأخير. فالمطلوب في الصيام ترك المفطرات مع النيّة في الجملة على التفصيل ، وفي الاعتكاف ترك الخروج من المسجد في المدّة المعيّنة مع النيّة في أوّلها ، وفي الإحرام ترك المحرّمات مع النيّة حال انعقاده.

وأمّا المسألة الأخيرة فإن فرض استمرار الداعي إلى آخر العمل واستناده بجميع أجزائه إليه لم يخرج شيء من أجزائه عن الاختيار فلا يقدح فيه ما لا ينافيه من السهو والغفلة ، إذ مثله لا يمنع من التكليف. وإن فرض انقطاعه وعروض النسيان المانع من دوامه فلا ينبغي التأمّل في خروجه عن المكلّف به في الحقيقة ؛ والأصل عدم الاجتزاء به ، لأنّ ما دلّ على اشتراطه بالنيّة يقضي باعتبارها في كلّ جزء من أجزائه. فالاكتفاء بالاستدامة الحكميّة يتوقّف على الدليل النقلي وقد عرفت توجيهه ، ولم يثبت ذلك في أكثر العبادات. فالمعتبر هو الاستدامة الحقيقيّة على ما ذكرناه.

نعم إن قلنا بكون النيّة هي الإخطار بالبال فلا محيص عن الاكتفاء بالحكميّة لتعسّر إيقائه أو تعذّره.

وقد ذكر بعض المحقّقين في توجيه المسألة : أنّ المانع من تعلّق التكليف بفعل النائم والناسي والغافل ونحوهم هو أنّ الإتيان بالفعل المعيّن لغرض امتثال الأمر تقتضي العلم بتوجّه الأمر نحوه مع امتناعه في حقّهم ، ومن المعلوم أنّ الموانع المذكورة إنّما تمنع من ذلك في ابتداء الفعل دون سائر أجزائه ، إذ لا يتوقّف صحّتها على توجّه الذهن إليها فضلا عن إيقاعها على الوجه المطلوب.

نعم قد يكون العارض مخرجا للمكلّف عن أهليّة الخطاب والتهيّؤ له أصلا كالجنون والإغماء ومثله يمنع من استدامة التكليف كما يمنع من ابتدائه. أمّا لو لم

٧١٧

يخرج عن ذلك ـ كالنوم والسهو والنسيان مع بقاء العقل ـ لم يمنع ذلك من الاستدامة. ومن ثمّ لو ابتدأ بالصلاة على وجهها ثمّ عرض له في أثنائها ذهول عنها بحيث أكملها وهو لا يشعر بها ، أو نسي وفعل منها أشياء على غير وجهها ، أو ترك بعضها ممّا هو ليس بركن ـ ونحو ذلك ـ لم تبطل الصلاة ، مع أنّه يصدق عليه أنّه في حالة النسيان والغفلة غير مكلّف. بل وكذا النوم وإن استلزم إبطالها من حيث نقضه للطهارة الّتي هي شرطها لا من حيث هو غفلة ونقص عن فهم الخطاب. وكذا القول في الصوم لو ذهل عن كونه صائما في مجموع النهار بعد نيّة الصوم ، بل لو أكل وشرب وجامع ناسيا للصوم لم يبطل. وهي مع مشاركتها للنوم في عدم التكليف حالتها أعظم منافاة للصوم منه.

وفيه : أنّ الإتيان بالفعل لغرض الامتثال إنّما يعقل مع وقوعه بجميع أجزائه على ذلك ، فلو وقع جزء منه على وجه النسيان والغفلة لم يكن مأتيّا به لغرض الامتثال إنّما قصد في ابتداء العمل إيقاعه على ذلك ولم يتمّ له ما قصده.

وأمّا عدم بطلان الصلاة بالسهو عن غير الأركان فمقتضاه خروجه عن الجزئيّة في حال النسيان ، كخروج المفطرات عن المانعيّة في تلك الحال وخروج بعض المنافيات للصلاة حينئذ عن الإبطال.

وقد عرفت : أنّ مرجعه إلى التكليف بالأركان على وجه الإطلاق وبغيرها من الأجزاء عند التذكّر لها ، فيكون الإخلال بالأوّل موجبا للبطلان مطلقا ، وبالثاني عند التذكّر دون النسيان.

وأمّا عدم بطلانها بعروض الغفلة في أثنائها فقد يمنع من ذلك إذا كان على وجه يمنع من بقاء الداعي ، ولو فرض قيام الدليل عليه لكان الحال فيه كما لو تركها على سبيل النسيان. ومرجعه إلى إسقاط التكليف بها وعدم اعتبار النيّة فيها في تلك الحال كما عرفت.

ومن العجيب! توهّم صحّة العمل مع وقوع ما عدا الجزء الأوّل منه في حال النوم حيث لا يكون هناك جهة اخرى للمنع كنقض الطهارة ، لإمكان دعوى القطع

٧١٨

بفساده كما يشهد به رفع مطلق القلم عن فعل النائم ، إنّما يسلّم ذلك في السهو الّذي لا يقدح في استمرار الداعي الحاصل في ابتداء العمل أو مع قيام الدليل على سقوط الواجب معه فلا يكون الفعل إذن من المكلّف به. وما ذكر من التفرقة بين النائم والمغمى عليه في الخروج عن أهليّة الخطاب والتهيّؤ له غير ظاهر أيضا ، إذ لا فرق بينهما في نظر العقل في امتناع تعلّق التكليف بهما.

واعلم أنّ الجاهل إمّا أن يكون جاهلا بالحكم أو بالموضوع ، جهلا مركّبا أو بسيطا ، مقصّرا أو قاصرا ، غافلا أو متردّدا بين وجوه محصورة أو غير محصورة ، متمكّنا من الجمع بينها أو لا ، قادرا على الفحص أو عاجزا ، مكلّفا بالفحص عقلا أو نقلا أو لا ، فهذه وجوه عديدة تمتنع تكليفه بالواقع في جملة منها ويجوز في اخرى. فالجاهل بالجهل المركّب ـ وهو الّذي يعتقد أحدهما على خلاف الواقع ـ لا يجوز تكليفه بالواقع مع عدم تقصيره بالمقدّمات ، وكذا الغافل والمتردّد العاجز عن الفحص والاحتياط مع عدم التقصير. ويجوز تكليف المتردّد القادر على أحد الأمرين بما هو الواقع إذا علم المكلّف به على الإجمال فيجب عليه أحدهما عقلا ، ولا يجب ذلك مع عدم العلم بالتكليف إجمالا إلّا مع الخوف من الضرر عاجلا ـ كاحتمال السمّ القاتل ـ أو آجلا بظنّ المؤاخذة على الإهمال فيه.

نعم يستحبّ أحدهما عقلا مع قيام الاحتمال وانتفاء الخوف. ويجوز قيام الدليل النقلي على وجوب أحد الأمرين حينئذ فيصح معه التكليف بالواقع على ما هو عليه ، ويمتنع ذلك مع عدم وجوبه عقلا ونقلا. والمراد من عدم تكليف الجاهل حيث يمتنع هو التكليف المنجّز الّذي يستتبع الثواب والعقاب ، أمّا التكليف الشأني الّذي لا يترتّب على مخالفته المؤاخذة ، فلا مانع منه.

فقد يقتضي حكمة اطّراد الأحكام جعلها أوّلا في حقّ العالم والجاهل على حدّ سواء، ثمّ إعذار الجاهل بها إذا لم يكن مقصّرا في مخالفتها. وهذا هو الظاهر من مذهب المخطئة. وليس ذلك من اشتراط التكليف بالعلم في الحقيقة ، لامتناع وجود المشروط بدون شرطه في الواقع ، فيكون الجاهل بالحجّ كغير المستطيع في

٧١٩

إصابة الواقع ، والجاهل بالأحكام كالصبيّ والمجنون في خروجه عن موضوع المكلّف بها واختصاصها بالعالم أو المتمكّن من العلم على التفصيل المذكور وهو قريب من مذهب المصوّبة. وما اشتهر من اشتراط التكليف بالعلم فكأنّ المراد به اشتراط تنجّزه وترتّب الأثر عليه بذلك. وسيأتي إن شاء الله تعالى تفصيل القول في المسائل المذكورة في مباحث أصل البراءة ، ومسألة التصويب والتخطئة ، والله سبحانه يهدي من يشاء من عباده إلى صراط مستقيم.

الثالث الأمر الّذي به يتحقّق التكليف وله شرطان :

أحدهما تقدّمه وتقدّم العلم به وبقيوده ومتعلّقاته على الوجه المعتبر في تنجّزه على المأمور به بجميع أجزائه ، وعلى وقته المضيّق بالأصل أو العارض بالقدر الّذي يتمكّن معه المأمور من الإتيان به وبمقدّماته المفقودة. فلا يصحّ تأخّره عن الفعل بالضرورة ولا مقارنته معه أو مع شيء من أجزائه ، إذ الفعل حينئذ مسبوق بعلّته التامّة لا محالة فيمتنع عدمه ؛ وكذا الحال في جزئه فيمتنع وقوعه في حيّز الطلب سواء كان مطلوبا لنفسه كما في الأفعال الّتي لا يرتبط بعض أجزائها بالبعض ، أو لحصول المجموع المركّب منه ومن سائر أجزائه ؛ وذلك أنّ التكليف حينئذ لغو لا حاصل له لتوقّفه على الاختيار ، وانتفاء ما يقصد في ذلك من الابتلاء والاختبار ، لوقوع الفعل حينئذ لا محالة. فلا يتصوّر معه عصيان الأمر ، على أنّ قصد الامتثال المعبّر في الطاعة ممّا يتعذّر حينئذ ، فيمتنع فيه الطاعة والمعصية جميعا.

واستدلّ عليه : بأنّ التكليف في حال حدوث الفعل يستلزم التكليف بإيجاد الموجود وتحصيل الحاصل وهو محال ، فالتكليف به تكليف بالمحال ، وهو غير واقع ولو على القول بجوازه بناء على ما قيل : من دعوى الاتّفاق على عدم وقوعه في غير ما يبتني على مسألة الجبر وخلق الأفعال.

وأورد عليه : بأنّه مغلطة ، فإنّ المحال إيجاد الموجود بوجود سابق ، لا بوجود حاصل بهذا الإيجاد ، فإنّه عين محلّ الكلام.

٧٢٠