هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٨٣

معنى للثمرات الّتي أخذوها لمحلّ النزاع ، فلابدّ لهم من القول بأنّها واجبة في حدّ ذاتها أيضا كما أنّها واجبة للتوصّل إلى الغير ليترتّب عليه عدم الاجتماع مع الحرام وأن يكون الخطاب به أصليّا ليترتّب العقاب عليه» انتهى.

وأنت خبير بأنّ الثمرات الّتي ذكروها ان سلّمنا عدم ترتّبها على الوجوب الغيري التبعي فليس عدم ترتّبها عليه بديهيّا ، ولو سلّم ظهوره فليس بأوضح من فساد القول بوجوبها النفسي الأصلي ، فإنّ فساد ذلك يشبه أن يكون ضروريّا ، فالإيراد عليهم بعدم ترتّب الثمرات المذكورة على وجوب المقدّمة أولى من حمل الوجوب في كلامهم على هذا المعنى السخيف الّذي لا ينبغي صدوره عن العقلاء فضلا عن أفاضل العلماء.

ثمّ إنّ ما ذكره من أنّ ترتّب العقاب عليه إنّما يتفرّع على كون الخطاب به أصليّا قد عرفت وهنه ، لوضوح أنّ العقاب إنّما يترتّب على ترك الواجبات النفسيّة ولو كانت تبعيّة على فرض ثبوتها كذلك ، كما مرّت الإشارة إليه. وأمّا الواجبات الغيريّة فلا يترتّب عليها عقوبة ولو كانت أصليّة ، كما عرفت الحال فيه ، فتفريعه استحقاق العقاب على ذلك ممّا لا وجه له كتفريعه عدم اجتماعه مع الحرام على كون الوجوب نفسيّا ، حسبما يجيء تفصيل القول فيه إن شاء الله.

ثمّ ذكر الفاضل المذكور وجها آخر لوجوب المقدّمة على القول بها ، وهو أن يكون الوجوب نفسيّا عقليّا لازما للأمر بذي المقدّمة بأن يكون هناك خطابان أصليّان للشارع : أحدهما : بلسان رسول الظاهر ، والآخر : بلسان رسول الباطن قال : «وإلى هذا ينظر استدلالهم الآتي على اثبات وجوب المقدّمة». وهذا أيضا في الوهن كسابقه.

وما ذكره من أنّ استدلالهم الآتي ناظر إلى ذلك كأنّه أراد به الاستناد إلى استحقاق الذمّ على ترك المقدّمة فإنّه ربما يوهم ذلك ولا دلالة فيه على ما ذكره أصلا كما سيأتي الإشارة إليه إن شاء الله تعالى.

وكيف يعقل تقرير النزاع فيما ادّعاه مع أنّ جمهور العلماء ذهبوا إلى الوجوب

١٠١

وادّعى جماعة عليه الإجماع بل جعله البعض من الضروريّات؟ وقد اعترف الفاضل المذكور بأنّ حكاية الإجماع ودعوى الضرورة يبعّد حمل كلامهم على ما قرّره. قلت بل يقضي بالقطع بخلافه سيّما بعد ملاحظة ما قرّرناه هذا.

وأمّا استحقاق الثواب على فعل المقدّمة فلا مانع منه لو أتى بها من جهة الإيصال إلى أداء مطلوب الشارع ، فيكون واجبا غيريّا مستحبّا نفسيّا حسب ما مرّ بيانه ، بل لا يبعد القول بتفرّعه عليه حينئذ على القول بعدم الوجوب أيضا ، نظرا إلى أنّها جهة مرجّحة للفعل يصحّ قصد التقرّب من أجلها وليس ذلك قولا باستحباب المقدّمة مطلقا بل إذا أوقعها على الجهة الخاصّة ، كما أنّ المباحات بل المكروهات أيضا تندرج في المندوبات بعد ملاحظة الجهات.

قال بعض الأفاضل بعد الحكاية عن بعض المحققّين ترتّب المدح والثواب على فعلها حاكيا له عن الغزالي أنّه لا غائلة فيه إلّا أنّه قول بالاستحباب ، ففيه إشكال إلّا أن يقال باندراجه تحت الخبر العامّ «فيمن بلغه ثواب ... الخ» فإنّه يعمّ جميع أقسام البلوغ حتّى فتوى الفقيه ، فإن أراد استحبابها إذا أتى بها على الجهة الّتي ذكرناه فهو كذلك إلّا أنّه لا إشكال إذن في استحبابها ولو على القول بعدم وجوب المقدّمة ولا حاجة إلى التمسّك بما ذكره مع ضعفه ، وإن أراد استحبابها مطلقا فهو موهون جدّا ، إذ لا دليل عليه أصلا ، والاستناد إلى ما ذكره ضعيف جدّا.

ثمّ الظاهر إنّه لا إشكال أيضا في عدم كون وجوب المقدّمة على فرض ثبوته أصليّا ، لوضوح أنّ الخطاب بالمقدّمة ليس عين الخطاب بذيها ولا جزئه ولا خارجه اللازم ، بحيث يفهم من مجرّد اللفظ الدالّ على وجوب شيء وجوب مقدّمته حتّى يندرج في الدلالة الالتزاميّة اللفظيّة ، لوضوح جواز الانفكاك بينهما بحيث لا مجال للريب فيه ، فالظاهر أنّ القائلين بالوجوب لا يقولون به ، وهو مع وضوح فساده ليس في شيء من أدلّتهم ولا المعروف من كلماتهم المنقولة في المسألة دلالة على ذلك بوجه.

وما قد يتخيّل من دلالة بعض ما ذكروه على ذلك قد عرفت ما فيه ، فلا وجه

١٠٢

لجعل النزاع في المسألة في خصوص الوجوب الأصلي بأن يكون اللفظ الدالّ على وجوب ذي المقدّمة دالّا على وجوب مقدّمته ليكون الخطاب به خطابا بها أصالة ، كيف وفساد ذلك أيضا يشبه أن يكون ضروريّا؟

فتنزيل كلماتهم على إرادة ذلك ـ كما في كلام الفاضل المتقدّم واحتمله بعض الأفاضل ـ ممّا لا وجه له أصلا بل فاسد قطعا ومع ذلك فلا ثمرة لإثبات تعلّق الخطاب بها أصالة ، إذ بعد وضوح كون الخطاب بها غيريّا كما مرّ لا يترتّب على تركها عقوبة مستقلّة حسب ما عرفت ، وتعلّق الطلب الحتمي بها حاصل على الوجهين ؛ غاية الأمر اختلافهما في مدرك الحكم وذلك ممّا لا يترتّب عليه ثمرة كما لا يخفى.

فالحقّ في تحرير محلّ النزاع في المسألة أن يقرّر الخلاف في الوجوب الغيري التبعي ، فالقائلون بالوجوب يقولون بكون المقدّمة مطلوبة للشارع للتوصّل إلى ذيها ، ويستفاد ذلك الطلب بحكم العقل بعد ملاحظة الطلب المتعلّق بذي المقدّمة ؛ والقائل بعدم الوجوب ينكر ذلك ويقول : إنّه لا يثبت للمقدّمة سوى اللابدّيّة المأخوذة في معناها أو يقول مع ذلك بثبوت الوجوب لها بالعرض ، على ما مرّ تفصيل القول فيه إلّا أن يتعلّق بها أمر من الخارج كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة ونحوها ممّا ورد الأمر به من مقدّماتها.

ثمّ إنّ لهم في المسألة أقوالا عديدة :

أحدها : القول بوجوب المقدّمة مطلقا ، وهو المختار وإليه ذهب المعظم من العامّة والخاصّة بل لا نعلم قائلا بخلافه من الأصحاب ممّن تقدم على المصنّف ، وحكاية الإجماع عليه مستفيضة على ما ذكره جماعة ؛ ويستفاد من تتبّع مطاوي المباحث الفقهيّة أنّ ذلك من المسلّمات عندهم ، وعن المحقّق الدواني دعوى الضرورة عليه ؛ وربما يستفاد ذلك من كلام المحقّق الطوسي أيضا وقد حكى الشهرة عليه جماعة.

ثانيها : القول بعدم وجوبها كذلك ، حكاه الفاضل الجواد والعضدي قولا

١٠٣

وحكي عن المنهاج أيضا حكاية ذلك ولم ينسبه أحد إلى قائل معروف ، بل نصّ جماعة من الأجلّة منهم المصنّف على جهالة القائل.

ثالثها : التفصيل بين السبب وغيره ، حكاه في النهاية عن الواقفيّة وعزى القول به إلى السيّد رحمه‌الله ، وليس كذلك كما بيّنه المصنّف بل كلامه صريح في وجوب مقدّمة الواجب المطلق مطلقا ، بل ظاهر كلامه أنّه من الأمور الواضحة حيث لم يجعله موردا للتأمّل والإشكال.

رابعها : التفصيل بين الشرط الشرعي وغيره ذهب إليه الحاجبي والعضدي في ظاهر كلامه ، ويحتمل ضمّ السبب إلى الشرط الشرعي إن ثبت الإجماع على وجوب الأسباب أو كان القائل ذاهبا إليه ، والحاصل أنّه يدور الأمر في التفصيل المذكور بين الوجهين.

خامسها : التفصيل بين الشرط وغيره من المقدّمات كرفع المانع ؛ وهذا القول غير معروف في أقوال المسألة إلّا أنّ ظاهر العلّامة في النهاية حكايته عن جماعة.

هذا وقد يتخيّل لثمرة النزاع في المسألة امور :

منها : أنّها تثمر في النذور والأيمان ونحوها ، كما إذا نذر الإتيان بواجبات عديدة فإنّه يكفيه الإتيان بواجب واحد ومقدّماته على القول بوجوب المقدّمة ، بخلاف ما لو قيل بعدم وجوبها ، وكذا إذا نذر دفع درهم لمن أتى بواجبات شتّى وهكذا. وقد يشكل ذلك بأنّه لا يبعد انصراف إطلاق الواجب في النذور وغيرها إلى الواجب المستقلّ دون الغيري التابع لوجوب الغير.

نعم لو صرّح بإرادة الأعمّ صحّ ذلك ، إلّا أنّه فرض نادر على أنّ ذلك ليس من ثمرات مسائل الأصول ، إذ لا ربط له باستنباط الأحكام عن الأدلّة فلا يعدّ ثمرة لعقد المسألة في عداد مسائل الفنّ.

ومنها : استحقاق الثواب على فعل المقدّمات والعقاب على تركها ، بناءا على القول بوجوبها بخلاف ما لو قيل بعدمه ، وقد عرفت ضعفه لابتنائه على كون وجوب المقدّمة نفسيّا لا غيريّا. وقد مرّ أنّ دعوى وجوبها كذلك موهونة جدّا بل

١٠٤

لا يعرف قائل به أصلا ، ووجوبها الغيري ـ كما هو مذهب القائل بالوجوب ـ لا يستلزم ترتّب الثواب على فعلها ولا العقاب على تركها من حيث إنّه تركها.

نعم يترتّب الثواب على فعلها إذا أتى بها على الوجه الخاصّ كما مرّ ، ولا يتفاوت الحال حينئذ بين القول بوجوبها وعدمه.

ومنها : لزوم ترتّب الفسق على ترك المقدّمات إذا كانت متعدّدة بحيث يقضي بصدق الإصرار المتفرّع على الإكثار ، ولو اكتفينا في صدقه بمجرّد العزم على معصية اخرى ولو من غير جنسه جرى ذلك مع وحدة المقدّمة أيضا بخلاف ما لو قيل بعدم وجوبها ، إذ لا عصيان حينئذ إلّا في ترك نفس الواجب فإن كانت صغيرة لم يكن هناك فسق وإن تكثّرت مقدّماتها.

وفيه : أنّ العصيان المترتّب على ترك المقدّمات على نحو العقوبة المترتّبة عليها إنّما يكون بالنظر إلى إدّائها إلى ترك ذيها ، إذ المفروض كون ذات المقدّمة من حيث إنّها هي غير مطلوبة للآمر فلا يزيد العصيان الحاصل من جهة ترك ألف من المقدّمات على العصيان المترتّب على ترك الواجب لاتّحاد جهة العصيان في الجميع على نحو جهة الأمر المتعلّق بها فإنّ كلّا منها إنّما يتعلّق الأمر به من حيث إدّائه إلى ذيه ، فلا يزيد العصيان الحاصل بترك كثير منها على الحاصل بترك واحد منها ، وليس العصيان الحاصل بملاحظة مخالفة كلّ منها إلّا من تلك الجهة الواحدة ؛ فلا يتّجه جعل كثرة المقدّمات المتروكة باعثة على حصول الفسق وصدق الإصرار مع اتّحاد جهة العصيان واتّحاد ما هو الواجب بالذات ، وما دلّ على حصول الفسق بالإصرار على الصغائر ينزّل على غير المعاصي الغيريّة ، كما يشهد به الاعتبار الصحيح ، فإنّ الظاهر منه تعدّد وجوه العصيان مع حصول الإصرار وهو غير حاصل في المقام كما عرفت.

ومنها : عدم جواز تعلّق الإجارة بها على القول بوجوبها كغيرها من الأفعال الّتي يجب على المكلّف الإقدام عليها مجّانا بخلاف ما لو كانت غير واجبة ، إذ لا مانع حينئذ من تعلّق الإجارة بها ؛ فيصحّ العقد ويستحقّ الاجرة المعيّنة بإزائها ،

١٠٥

فعلى هذا لو حصلت له الاستطاعة الشرعيّة جاز له أن يوجر نفسه لقطع المسافة عن غيره ثمّ إذا بلغ الميقات استأجره غيره لأداء أفعال الحجّ من الميقات وأتى بنفس الأفعال عن نفسه بناء على الثاني بخلاف الأوّل إلى غير ذلك من الفروض.

ويمكن دفع ذلك بأنّ ما لا يجوز الاستيجار عليه من الواجبات هو ما يكون الإتيان به واجبا على المكلّف في نفسه لا على الواجبات الغيريّة الملحوظ فيها حال الغير ، فإنّ المقصود هناك حصول ذلك الغير وإنّما يراد المقدّمة من جهة كونها موصلة إلى الواجب.

والحاصل : أنّ أقصى ما دلّ عليه الدليل عدم جواز وقوع الإجارة على الواجبات النفسيّة دون غيرها ، وفيه تأمّل يظهر الوجه فيه بملاحظة خصوصيّات ما حكموا بالمنع من جواز أخذ الاجرة عليه من الواجبات.

ثمّ إنّ الثمرات المذكورة على فرض تفرّعها على المسألة لا ربط لها باستنباط الأحكام عن الأدلّة ليكون من ثمرات المسائل الاصولية كما أشرنا إليه في الثمرة الاولى.

ومنها : عدم جواز اجتماعها مع الحرام على القول بوجوبها بناءا على ما هو التحقيق من عدم جواز اجتماع الأمر والنهي بخلاف ما لو قيل بعدم وجوبها للاجتزاء حينئذ بأدائها في ضمن الحرام.

ويدفعه : أنّ المقدّمة إن كانت عبادة في نفسها كالوضوء والغسل فلا ريب في عدم جواز اجتماعها مع الحرام وإن قلنا بعدم وجوب المقدّمة ، وإن لم تكن عبادة فعدم جواز اجتماع الوجوب مع الحرمة لا يقضي بعدم حصول المقصود من المقدّمة ـ أعني التوصّل إلى الواجب ـ ضرورة أنّ حصول التوصّل أمر عقلي أو عادي حاصل بحصول المقدّمة سواء كانت واجبة أو محرّمة ، ومع حصول التوصّل يصحّ الإتيان بذي المقدّمة من غير حاجة إلى إعادتها لحصول الغرض منها ، فالمقدّمة المحرّمة وإن لم تكن واجبة إلّا أنّها تغني عن الواجبة ، فيسقط وجوبها بعد الإتيان بها ، فلا فرق من الجهة المذكورة بين القول بوجوب المقدّمة وعدمه

١٠٦

ومجرّد عدم اجتماع المقدّمة الواجبة مع الحرام لا يفيد شيئا في المقام بعد الاجتزاء بالحرام في أداء ما هو المقصود من المقدّمة من التوصّل إلى ذيها.

هذا إذا قلنا بعدم جواز اجتماع الوجوب والتحريم في المقدّمة أيضا كما هو المختار ، وأمّا على ما ذهب إليه البعض من جواز الاجتماع فيها فلا إشكال رأسا.

ومنها : لزوم كون الأمر بالشيء نهيا عن ضدّه بناءا على القول بوجوب المقدّمة حيث إنّ ترك الضدّ من مقدّمات حصول الضدّ الآخر ، إذ وجود كلّ من الضدّين مانع من حصول الآخر ومن البيّن أنّ رفع المانع من جملة المقدّمات ، فحينئذ لو كان المأمور به واجبا مضيّقا وكان الضدّ واجبا موسّعا أو من المندوبات لم يصحّ الإتيان به ووقع فاسدا إذا أتى به حال تعلّق التكليف بالمضيّق نظرا إلى وجوب تركه حينئذ فلا يتعلّق التكليف بفعله ، لعدم جواز اجتماع الأمر والنهي أو بقضاء النهي في العبادة بالفساد.

وفيه : أنّه لا ملازمة بين القول بوجوب المقدّمة واقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه كما سيجيء بيانه في كلام المصنّف رحمه‌الله فيسقط الثمرة المذكورة وفيه نظر يعرف الوجه فيه ممّا قرّرناه ، وسيجيء تفصيل القول فيه إن شاء الله تعالى.

والتحقيق أن يقال : إنّ النهي المتعلّق بفعل الضدّ من باب المقدّمة لا يقضي بالفساد حسب ما سنقرّر الوجه فيه إن شاء الله تعالى ؛ ولا مانع من اجتماع وجوب النفسي والحرمة الغيريّة في بعض الوجوه كما سنفصّل القول فيه إن شاء الله تعالى.

نعم لا يبعد البناء على فساد الضدّ فيما إذا كانت إرادة الضدّ هي الباعثة على ترك الضدّ الواجب كما يأتي بيانه إن شاء الله فيتمّ جعل ذلك ثمرة للخلاف في المسألة.

ومنها : أنّه إذا كانت المقدّمة عبادة متوقّفة على رجحانها والأمر بها ولم يتعلّق بها أمر أصلي يفيد وجوبها لما يتوقّف عليها من الغاية توقّفت صحّة الإتيان بها لأجل تلك الغاية على وجوب المقدّمة ، فإنّه إذا كانت المقدّمة واجبة قضى الأمر بالغاية بالأمر بمقدّماتها ، فيفيد ذلك رجحان الإتيان بها لأجل الغاية. بخلاف ما لو

١٠٧

قلنا بعدم وجوب المقدّمة وذلك كالوضوء والغسل لمسّ كتابة القرآن فإنّ أقصى ما يستفاد من الأدلّة تحريم المسّ على المحدث ، وأمّا الأمر بالوضوء لأجله إذا وجب بأحد أسبابه الموجبة له فلا ، بل يتوقف ذلك على البناء على وجوب المقدّمة فإن قلنا بوجوبها صحّ الإتيان بالطهارة لأجلها لرجحانها إذن كذلك ، نظرا إلى تعلّق الأمر بها تبعا للأمر بما يتوقّف عليها.

فلا فرق حينئذ بين الغاية المذكورة وسائر الغايات الّتي تعلّق الأمر بالطهارة لأجلها ؛ غاية الأمر تعلّق الأمر بها هناك أصالة وهاهنا تبعا.

وقد عرفت أنّ ذلك لا يكون فارقا بينهما بحسب المعنى ؛ غاية الأمر أن يختلف لذلك وجه الدلالة والاستنباط وذلك لا يقضي باختلاف الحال في المدلول حسب ما بيّنّاه ، وإن قلنا بعدم وجوبها لم يصحّ الإتيان بها لأجل تلك الغاية ، إذ لا رجحان حينئذ في الطهارة من جهتها ، فلا يصحّ التقرّب بها لأجلها ، بل لابدّ حينئذ من الإتيان بها لسائر الغايات الّتي ثبت رجحان الطهارة لأجلها حتّى يصحّ الطهارة الواقعة ويجوز له الإتيان بتلك الغاية.

وفيه : أنّ الإتيان بالفعل لأجل التوصّل إلى الواجب جهة مرجّحة لذلك الفعل وان لم نقل بوجوب مقدّمة الواجب كما مرّت الإشارة إليه ، ولذا قلنا بترتّب الثواب عليه إذا أتى به على الوجه المذكور على القول بعدم وجوب المقدّمة أيضا وذلك كاف في رجحان الإتيان بالمقدّمة للغاية المفروضة.

نعم يثمر ما ذكر في جواز قصد الوجوب في الفعل المذكور أو وجوب قصده على القول بوجوب نيّة الوجه.

قوله : (مع كونه مقدورا ... الخ).

قد يقال : إنّ قوله : «مطلقا» يقضي بخروج الواجب المشروط عن محلّ النزاع مطلقا ، ولا ريب أنّ التكاليف كلّها مقيّدة بالنسبة إلى القدرة على نفس الواجب وعلى مقدّماته ، فلا يكون الأمر بالشيء مع عدم القدرة على مقدّمته مطلقا ليحتاج في إخراجه إلى التقييد بكونها مقدورة.

١٠٨

وقد يدفع ذلك بأنّ قوله : «مطلقا» ليس لإخراج الواجب المشروط ، بل المقصود منه بيان تعميم اعتبارات الأمر ومقايسته بالنظر إلى مقدّماته فيكون قوله : «شرطا كان أو سببا أو غيرهما» بيانا لمفاد الإطلاق. وحينئذ فلابدّ من اعتبار مقدوريّة المقدّمة لوضوح عدم وجوبها مع انتفاء القدرة عليها.

وفيه مع ما فيه من التكلّف الظاهر أنّه يلزم حينئذ اندراج غير القدرة من مقدّمات الواجب المشروط في العنوان مع خروجها عن محلّ النزاع.

ولو اجيب بأنّ إطلاق الأمر بالشيء إنّما ينصرف إلى المطلق دون المشروط لعدم تعلّق الأمر به قبل وجود شرطه.

ففيه : أنّ ذلك إن تمّ لجرى بالنسبة إليها فلا حاجة إلى القيد المذكور ، إذ لا فرق بين المقدّمة المذكورة وسائر مقدّمات الواجب المشروط.

وقد يقال : إنّ المراد بالإطلاق في المقام هو إطلاق الوجوب بحسب ظاهر اللفظ وهو لا يستلزم الإطلاق بالمعنى المصطلح ، إذ قد يكون الواجب مقيّدا بحسب العقل لانتفاء القدرة على مقدّمته وحيث إنّ تقييد الواجب عقلا منحصر في الجهة المذكورة ، والمفروض إطلاقه بحسب اللفظ أفاد القيد المذكور إطلاق الواجب بحسب المصطلح لإطلاقه إذن بحسب العقل والنقل. وهو كما ترى موهون من وجوه شتّى.

وقد يوجّه أيضا بأنّ مقدّمة الواجب قد تكون مقدورة وقد لا تكون مقدورة ، فإذا كانت مقدورة كان الأمر بالواجب مطلقا بالنسبة إليها فيصدق حينئذ أنّ الأمر به مطلق بالنسبة إلى تلك المقدّمة في الجملة ، وإن صارت غير مقدورة فالتقييد بالمقدوريّة من جهة الاحتراز عن تلك المقدّمة ، إذا لم تكن مقدورة فالكلام في قوّة أن يقال : مقدّمة الواجب المطلق واجبة ما دام مطلقا لا دائما.

وأنت خبير بما فيه من التكلّف ، كيف ولو لم يكن اعتبار إطلاق الأمر به كافيا في الدلالة على اعتبار بقاء الإطلاق لم يكن اعتبار المقدوريّة كافيا في اعتبار بقاءها ، لصدق كونها مقدورة في الجملة بعد تعلّق القدرة بها؟

١٠٩

فالأولى أن يقال : إنّ التقييد المذكور لإخراج الأفراد أو الأنواع الغير المقدورة من المقدّمات إذا كانت غيرها مقدورا عليه لاطلاق الأمر بالفعل حينئذ ، فلا يقضي اعتبار إطلاق الواجب بخروج ذلك مع أنّ الأمر بالشيء على وجه الإطلاق لا يقضي بوجوبها ، فالأمر بالشيء مطلقا على القول بوجوب المقدّمة إنّما يقتضي إيجاب النوع أو الفرد المقدورين دون غيره ، لعدم تعلّق التكليف بغير المقدور مطلقا وإن اكتفى بها في أداء الواجب على فرض حصولها ؛ فظهر بذلك أنّ ما ذكره جماعة من عدم الحاجة إلى القيد المذكور ليس على ما ينبغي.

قوله : (والضرب الآخر يجب فيه مقدّمات الفعل).

صريح في ذهابه إلى وجوب مقدّمة الواجب المطلق مطلقا سواء كانت شرطا أو سببا ، بل وسواء كانت شرطا شرعيّا أو غيره وإن [صحّ](١) كان ما ذكره من المثال من قبيل الشرط الشرعي. وظاهر كلامه يشير إلى أنّ ذلك أمر واضح لا حاجة إلى إقامة الدليل عليه.

ثمّ إنّ الظاهر منه إرادة الوجوب بالمعنى الّذي بيّنّاه لا مجرّد وجوب الإتيان بها بالعرض بمعنى وجوبها بوجوب الإتيان بما يتوقّف عليها ، إذ ليس ذلك من حقيقة الوجوب في شيء حسب ما مرّ بيانه ، فاحتمال حمل كلامه على ذلك بعيد غاية البعد كاحتمال حمله على إرادة الوجوب الأصلي أو الوجوب الّذي يترتّب عليه عقاب مستقلّ على ترك الفعل ، إذ لا باعث لحمل كلامه عليه مع وضوح فساده.

قوله : (إلّا أن يمنع مانع).

ظاهر كلامه يفيد تفسير السبب بالملزومات العاديّة ممّا يترتّب عليه غيره بحسب العادة، بحيث يكون التخلّف عنه خارقا للعادة ، وهو كما ترى أخصّ من المقتضي وأعمّ من العلّة التامّة لعدم إمكان التخلّف في الثاني ، وجواز التخلّف في الأوّل من غير خرق للعادة كما إذا قارنه عدم الشرط أو وجود المانع الّذي يمكن حصوله على النحو المعتاد.

__________________

(١) أثبتناه من نسخة ف.

١١٠

قوله : (وهذا كما ترى ينادي بالمغايرة).

قد عرفت : أنّ كلامه صريح في وجوب مقدّمة الواجب مطلقا ، وإنّما منعه من وجوب غير السبب بعد تعلّق الأمر بما يتوقّف عليه من جهة دوران الأمر عنده بين كون الواجب مطلقا بالنسبة إليها أو مقيّدا ، وذلك ممّا لا ربط له بمنع وجوب مقدّمة الواجب بعد ثبوت إطلاقه بالنسبة إليها كما هو محلّ النزاع في المقام.

قوله : (وما اختاره السيّد فيه محلّ تأمّل).

قد عرفت أنّ ظاهر ما يتراءى من كلام السيّد قدس‌سره ممّا لا وجه له فيما إذا كان الأمر المتعلّق بالفعل مطلقا.

وما احتجّ به ـ من تعلّق الأمر بالشيء تارة مطلقا واخرى مقيّدا ولا دلالة فيه على شيء من الصورتين ـ قد عرفت ضعفه ، كيف ولو تمّ ما ذكره لجرى بالنسبة إلى غير المقدّمة أيضا؟ إذ كما يكون الواجب بالنسبة إلى مقدّمته قسمين فكذا بالنظر إلى غير مقدّمته ، إذ قد يتوقّف وجوب الشيء على ما لا يتوقّف عليه وجوده.

وقد يحتجّ له أيضا بأنّه لو بقي الأمر على إطلاقه ولم يقيّد بوجود مقدّمته فإمّا أن يقال : بوجوب المقدّمة أو عدمه ، لا سبيل إلى الثاني وإلّا لزم وجوب التوصّل إلى الواجب بما ليس بواجب ولا إلى الأوّل ، لمخالفته للأصل ، فكما أنّ قضية الأصل إطلاق الأمر إلى أن يثبت التقييد فكذا الأصل عدم وجوب المقدّمة إلى أن يثبت وجوبها.

وضعفه أيضا ظاهر أمّا على القول بعدم وجوب المقدّمة فواضح وأمّا على القول بوجوبها فمن البيّن تقديم حال الإطلاق ولا وجه للقول بمقاومته لأصالة عدم وجوب المقدّمة، إذ تلك من اصول الفقاهة وأصالة عدم التقييد من اصول الاجتهاد ، كيف ولو صحّ ذلك لزم أن لا يصحّ الاستناد إلى شيء من الإطلاقات في إثبات الأحكام المخالفة للأصل؟ وهو فاسد بالاتّفاق. هذا.

وقد عرفت فيما مرّ إمكان توجيه كلام السيّد بما لا ينافي المشهور وكأنّه

١١١

الأظهر ، فإنّ ما يتراءى من ظاهر كلامه موهون جدّا لا يليق صدوره عنه قدس‌سره ولم يعهد منه الجري عليه في شيء من المطالب الفقهيّة والالتفات إليه في المسائل المتداولة.

قوله : (انّه ليس محلّ خلاف يعرف).

أنت خبير بأنّ مجرّد عدم ظهور الخلاف لا ينهض حجة في مسائل الفروع فكيف في مسائل الأصول؟ فجعله حجّة في المقام غير متّجه سيّما على طريقة المصنّف رحمه‌الله.

قوله : (بل ادّعى بعضهم فيه الإجماع).

قد حكى الإجماع عليه جماعة منهم التفتازاني في شرح الشرح.

وأنت خبير بأنّ حكاية التفتازاني لا ينهض حجّة عندنا سيّما بعد حكاية الخلاف فيه عن البعض ، ولا يعرف حال غيره من النقلة بل كونه من الأصحاب غير معلوم أيضا ، فالاستناد فيه إلى الإجماع محصّلا أو منقولا غير متّجه.

نعم عدم ظهور الخلاف في ذلك المنضمّ إلى الإجماع المحكي مؤيّد قويّ في المقام.

وقد يستدلّ عليه أيضا بالإجماع على وجوب التوصّل إلى الواجب ، وليس التوصّل بالشرط واجبا لما دلّ على عدم وجوبه كما سيجيء ، فتعيّن أن يكون الواجب هو التوصّل بالسبب.

ووهنه ظاهر ، إذ المسلّم من وجوب التوصّل إلى الواجب هو تحصيله والإتيان به في الخارج ، وأمّا فعل ما هو وصلة إليه ووسيلة في إيجاده فوجوبه أوّل الدعوى ، ولو سلّم ذلك لجرى في الشرط أيضا ، وما ذكر في الاستدلال على عدم وجوب المقدّمة إن تمّ جرى في السبب أيضا فيزاحم الدليل المذكور ، إلّا أن يقال : إنّ الوصلة إلى الواجب إنّما يكون بالسبب دون الشرط.

وتوضيحه : أنّه قد يراد بما يتوصّل به إلى الواجب ما يكون بالسبب حصوله معتبرا في الوصول إلى الواجب سواء كان الإتيان به هو الموصل إليه ـ كما في السبب ـ أو لا ، كما في الشرط.

١١٢

وقد يراد به ما يتحقّق به الإيصال إلى الواجب فيختصّ بالسبب ، وحينئذ فإذا خصّ الدعوى بالثاني كما هو الظاهر من العبارة لم يجر في الشرط إلّا أنّه لا حاجة حينئذ إلى التمسّك بما دلّ على عدم وجوب التوصّل بالشرط.

نعم قد يقال بجريانه بالنسبة إلى الشرط أيضا إذا وقع جزء أخيرا للعلّة لإيصاله إذن إلى الفعل ، فحينئذ يفتقر التمسّك به لوجوب خصوص السبب إلى ضمّ ذلك إليه.

قوله : (وأنّ القدرة غير حاصلة مع المسبّبات دون السبب فيبعد تعلّق التكليف بها وحدها).

كأنّه أراد بذلك أنّ القدرة غير حاصلة مع المسبّبات وحدها ، فإنّها إنّما تكون مقدورة مع ضمّ أسبابها إليها ، فالظاهر تعلّق التكليف بها على نحو ما يتعلّق القدرة بها نظرا إلى اعتبار القدرة في التكليف وكأنّه للإشارة إلى ذلك عبّر بقوله : «مع المسبّبات» لإيمائه إلى عدم اقتران القدرة بها بملاحظة نفسها وإن حصل القدرة عليها بملاحظة ضمّ الأسباب إليها ، ولو أراد عدم حصول القدرة على المسبّبات مطلقا ـ كما يتراءى من ظاهر إطلاقه ـ لم يتّجه التمسّك بالاستبعاد ، لوضوح امتناع التكليف بغير المقدور وأيضا قضيّة ذلك عدم جواز تعلق التكليف بها مطلقا لا وحدها على أنّ ذلك بعينه هو الوجه الآتي فلا وجه لتكراره هذا.

وأنت خبير بأنّ الاستبعاد المدّعى محلّ تأمّل ، إذ لا شكّ في كون المسبّبات ممّا يتعلّق القدرة بها ولو بتوسّط الأسباب ، والقدرة المعتبرة في تعلّق التكليف بالأفعال كونها مقدورة للمكلّف سواء كانت مقدورة بالذات أو بواسطة الغير ، فأيّ استبعاد إذن في تعلّق الأمر بها وحدها ، يعني : من غير أن يتعلّق بأسبابها الموصلة إليها كما هو محلّ الكلام في المقام ، وأمّا إيجادها وحدها أي : بشرط أن لا يكون معها أسبابها فلا شكّ في استحالته وعدم جواز تعلّق الأمر به ولا كلام فيه.

ولو سلّم الاستبعاد المدّعى فأيّ حجّيّة في مجرّد استبعاد العقل حتّى يجعل ذلك دليلا شرعيّا على تعلّق الأمر بالأسباب ؛ ومع الغضّ عن ذلك لو تمّ الوجه

١١٣

المذكور لجرى بالنسبة إلى الشرائط أيضا ، فإنّ القدرة على المشروط غير حاصلة إلّا مع الشرط ، فيبعد أيضا تعلّق التكليف به وحده فيكون الدليل المذكور على فرض صحّته قاضيا بوجوب المقدّمة مطلقا لا خصوص السبب ، كما هو الملحوظ في المقام.

قوله : (لعدم تعلّق القدرة بها).

هذا الوجه كما ذكره جماعة عمدة ما احتجّوا به على وجوب الأسباب ، وهو كما ترى يفيد نفي المقدّمة السببيّة وانحصار مقدّمة الواجب في غيرها ، إذ مع عدم تعلّق الأمر بالمسبّبات لا تكون واجبة حتّى ينظر في حال مقدّماتها ، وارتباط ما ذكروه بالمقام من جهة أنّ الانتقال إلى وجوب الأسباب إنّما حصل عندهم من ظاهر الأمر المتعلّق بالمسبّبات فكان إيجاب المسبّبات في الظاهر قاضيا بإيجاب الأسباب.

ثمّ إنّ الوجه المذكور موهون جدّا من وجوه شتّى : أمّا أوّلا : فبأنّه لو تمّ ما ذكر لقضى بعدم إمكان تعلّق الأمر بالأسباب أيضا فإنّها أيضا مسبّبات عن أسباب اخر وهكذا إلى أن ينتهي السلسلة إلى الواجب تعالى.

وأمّا ثانيا : فلأنّ أقصى ما ذكر أنّها مع انتفاء أسبابها تكون ممتنعة ومع وجودها تكون واجبة ، وذلك لا ينافي تعلّق التكليف بها ، إذ لا يخرج الفعل بذلك عن كونه اختياريّا لما تقرّر من أنّ الوجوب أو الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

نعم لو كانت واجبة أو ممتنعة لا باختيار المكلّف منع ذلك من تعلّق التكليف بها ، وهو حينئذ خارج عن محلّ الكلام ، كيف ولو صحّ ما ذكر لقضى بعدم جواز تعلّق التكليف بشيء من الأشياء؟ فإنّها مع وجود أسبابها واجبة الحصول غير قابلة لتعلّق التكليف ومع عدمها ممتنعة.

والفرق بين ما يكون سببه القريب نفس الإرادة والاختيار وما لا يكون كذلك غير متّجه فإنّه إن لم يكن الاختيار من جملة أسبابه الموصلة إليه ولو كان بعيدا

١١٤

كان خارجا عن محلّ البحث ، لوضوح كون الاختيار من شرائط التكليف وإن كان من جملتها فأيّ فرق بين كون الاختيار سببا قريبا لحصوله أو بعيدا ، لوضوح حصول الفعل في الصورتين عن اختيار المكلّف ، وكما أنّ الوجوب أو الامتناع بالاختيار غير مناف للاختيار في الصورة الاولى فكذا في الثانية.

وأمّا ثالثا : فباختيار تعلّق التكليف بها في حال انتفاء أسبابها ؛ والقول بامتناع وجودها حينئذ فاسد فإنّ الممتنع وجودها بشرط انتفاء أسبابها لا في حال عدمها ، لجواز الإتيان بها حينئذ ، فيقتدر بذلك على الإتيان بمسبّباتها حسب ما ذكروه من جواز تكليف الكافر بالفروع في حال الكفر.

وأمّا رابعا : فبما أشار إليه المصنّف بقوله (لأنّ المسبّبات وإن كان القدرة لا يتعلّق بها ابتداء ... الخ).

وتوضيحه : أنّ غاية ما يستفاد من الدليل المذكور عدم تعلّق القدرة بالمسبّبات بلا واسطة وأمّا القدرة عليها بواسطة الاقتدار على أسبابها فلا مجال لإنكاره كيف والمستدلّ معترف بتعلّق القدرة بالأسباب؟

ومن البيّن : أنّ الاقتدار على السبب اقتدار على المسبّب بالواسطة وذلك كاف في جواز تعلّق الأمر به ، إذ لا يعتبر في جواز التكليف ما يزيد على ذلك.

قوله : (ثمّ إنّ انضمام الأسباب إليها ... الخ).

لا يخفى أنّ قضيّة ما ذكره وجوب المقدّمة السببيّة ، إذ مع انضمام الأسباب إلى مسبّباتها في التكليف والقول بتعلّق التكليف بالأمرين يرتفع الاستبعاد المدّعي في تعلّق التكليف بالمسبّبات وحدها من دون انضمام أسبابها إليها حسب ما ذكره في الاستدلال.

وأنت خبير بأنّ ذلك عين ما أراده المستدلّ ، فإنّ مقصوده من دعوى الاستبعاد المذكور ضمّ الأسباب إلى المسبّبات في التكليف ، فيكون الأمر بالمسبّبات دليلا على تعلّق الأمر بالأسباب أيضا ودفع اختصاص المسبّبات في تعلّق التكليف بها كما يقتضيه القول بعدم وجوب المقدّمة مطلقا ، وليس غرضه من دعوى الاستبعاد

١١٥

إثبات اختصاص الأسباب في التكليف بها بأن ينصرف الأمر بالمسبّبات إلى الأمر بأسبابها حسب ما نسبه ثانيا إلى القيل ، فإنّ ذلك دعوى اخرى مبنيّة على امتناع التكليف بالمسبّبات لا على مجرّد الاستبعاد حسب ما اخذ في الوجه الأوّل.

ويمكن توجيهه بجعل ذلك من تتمّة دفع القول بعدم تعلّق الأمر بالمسبّبات ، فيكون مقصوده دفع ما قد يتوهّم من جريان الاستبعاد في تعلّق التكليف بالمسبّبات مطلقا فقال : إنّه لا استبعاد في تعلّق الأمر بها منضمّا إلى أسبابها ؛ غاية الأمر تسليم الاستبعاد في حال الانفراد كما ادّعاه القائل الأوّل ، فمقصوده من ذلك أنّه كما لم يقم دليل قطعي على عدم تعلّق التكليف بالمسبّبات كذا لم يقم عليه دليل ظنّي أيضا. وفيه : أنّه لا يرتبط بذلك.

قوله : (ومن ثمّ حكى بعض الاصوليّين ... الخ).

لوضوح أن دفع الاستبعاد من تعلّق الأمر بالمسبّبات والأسباب معا لا ربط له بالقول بتعلّق الأمر بالمسبّبات وحدها.

وقد يتكلّف في تصحيحه بجعله إشارة إلى ما ذكر أوّلا من دفع الدليل القطعي على عدم وجوب المسبّبات ، فالمراد أنّه لمّا لم يقم دليل قطعي على عدم صرف الأمر بالمسبّبات إلى الأسباب حكى بعض الاصوليّين القول باختصاص الوجوب بها من دون أسبابها ، وهو كما ترى.

ويمكن توجيه العبارة بإرجاعها إلى دفع ما ادّعى أوّلا من الاستبعاد بأن يقال : إنّ مقصوده من ضمّ الأسباب إلى المسبّبات ضمّها إليها في التكليف بالمسبّبات من غير أن يتعلّق التكليف بالأسباب ، بيان ذلك أنّ هناك وجوها أربعة :

أحدها : أن يكون الأسباب هي المتعلّقة للتكليف من غير أن يكون المسبّبات مكلّفا بها.

ثانيها : أن يتعلّق التكليف بالمسبّبات وحدها من غير أن يكون الأسباب ملحوظة معها في التكليف بها.

ثالثها : أن يكون المسبّبات متعلّقة للتكليف ملحوظة مع أسبابها من غير أن يكون الأسباب مكلّفا بها.

١١٦

رابعها : أن يتعلّق التكليف بالأسباب والمسبّبات جميعا ، وهذا هو مقصود المستدلّ بالاستبعاد المذكور ولا يتمّ له ذلك ، فإنّ الّذي يقتضيه الاستبعاد المفروض عدم تعلّق التكليف بالمسبّبات على الوجه الثاني ، فإنّه لمّا كانت القدرة غير حاصلة مع المسبّبات وحدها استبعد تعلّق الأمر بها بملاحظتها على الوجه المذكور ، وذلك لا يستدعي تعلّق الأمر بأسبابها أيضا ، لإمكان وقوع الأمر بها على الوجه الثالث بأن يكون المسبّبات مأمورا بها بملاحظة اقترانها مع أسبابها من غير أن يكون الأسباب مأمورا بها أصلا ، فإنّ تعلّق القدرة بها من جهة أسبابها لا يقتضي أزيد من تعلّق التكليف بها بملاحظة اقترانها معها. هذا.

وقد يستدلّ على تعلّق التكاليف بالأسباب دون مسبّباتها بوجوه اخر :

منها : أنّ كلّ ما يتعلّق به التكاليف من أفعال المكلّفين ولا شيء من المسبّبات بفعل للمكلّف ، وإنّما هي امور تابعة للفعل الصادر عنه من الحركات الإراديّة الحاصلة بتحريك العضلات حاصلة عند حصولها من غير أن يباشر النفس إيجادها فلا يكون شيء متعلّقا للتكليف.

ومنها : أنّ المكلّف به بالتكاليف المتعلّقة بالأفعال ليس إلّا إيجادها في الخارج لا وجودها في أنفسها ، إذ ليس الوجود من حيث هو قابلا لتعلّق التكليف به ، وحينئذ فنقول : إنّ إيجاد المكلّف للمسبّب إمّا أن يكون عين إيجاده للسبب ـ بأن ينتسب الإيجاد إلى السبب انتسابا ذاتيّا وإلى المسبّب انتسابا عرضيّا ـ أم إيجادا آخر غير إيجاد السبب ، لا سبيل إلى الثاني ، ضرورة أنّه ليس هناك إلّا تأثير اختياريّ واحد صادر عن المكلّف كما يشهد به الوجدان فتعيّن الأوّل ، فيكون الأمر بالمسبّب عين الأمر بسببه ، لاتّحاد السبب والمسبّب في الإيجاد الّذي هو متعلّق الأمر ، وحيث إنّ الإيجاد يتعلّق بالسبب أوّلا وبالذات وبالمسبّب ثانيا وبالعرض يكون متعلّق التكليف في الحقيقة هو السبب.

ومنها : أنّه لا شكّ في انقطاع التكليف بفعل المكلّف به ، وإنّما وقع الخلاف في انقطاعه حال حصول الفعل أو في الآن الّذي بعده ، وأمّا قبل حصول ما كلّف به

١١٧

فلا كلام في بقاء التكليف وعدم انقطاعه وحينئذ ، فنقول : إنّه بالإتيان بالسبب المؤدّى إلى المأمور به إمّا أن ينقطع التكليف بالمسبّب أو لا ، لا سبيل إلى الثاني ، إذ بعد حصول السبب المستلزم لحصول المسبّب يكون حصول المسبّب بالوجوب ولو بالنظر إلى العادة ، فلا يكون قابلا لتعلّق التكليف به ، إذ من شرط التكليف كون المكلّف به جائز الحصول والانتفاء كما قرّر في محلّه فتعيّن الأوّل. وذلك قاض بكون المأمور به في الحقيقة هو ما أوجده من السبب ، لما عرفت من عدم انقطاع التكليف قبل حصول الواجب.

ويرد على الأوّل أنّ ما يتعلّق به التكليف من فعل المكلّف يعمّ ما يكون فعلا له ابتداء أو بالواسطة ، فإنّ الأفعال التوليديّة هي أفعال المكلّف ولذا يتّصف بالحسن والقبح ويتعلّق به من جهتها المدح والذمّ ، فإن اريد بفعل المكلّف المأخوذ وسطا خصوص الأوّل فكلّيّة الصغرى ممنوع ومعه لا ينتج الكلّيّة ليثبت به المدّعى ، وإن اريد به الأعمّ فالكبرى ممنوعة.

وعلى الثاني أنّه إن اريد باتّحاد التأثير والإيجاد أنّ الأمر الحاصل من المكلّف ابتداء تأثير واحد فمسلّم ، وهو إنّما يتعلّق بالسبب ثمّ يحصل بعد حصول السبب تأثير آخر إمّا من نفس السبب ـ إن قلنا بكونه علّة فاعليّة لحصول المسبّب ـ أو من المبدأ الفيّاض أو غيره ـ إن قلنا بكون الأسباب العاديّة عللا إعداديّة ـ وعلى التقديرين يستند فعل المسبّب إلى المكلّف ، لكونه الباعث عليه وإن لم يكن مفيضا لوجوده ابتداء أو مطلقا ، إذ لا يعتبر في جواز التكليف أن يكون المكلّف به فعلا ابتدائيّا للمكلّف مفاضا منه على سبيل الحقيقة ، بل يكفي فيه كونه فعلا له عرفا مستندا إليه ولو كان فعلا توليديّا له كما مرّ.

وإن اريد به وحدة التأثير في المقام مطلقا فهو بيّن الفساد ، فإنّه إن قيل حينئذ بكون إيجاد المسبّب بالعرض بمعنى أنّه لم يتعلّق به إيجاد على الحقيقة وإنّما تعلّق به بنحو من المجاز فهو واضح الفساد ، إذ لا يعقل تحقّق موجود ممكن في الخارج من غير أن يتعلّق الإيجاد به على الحقيقة ، وإن قيل بعدم تعلّق الإيجاد به

١١٨

منفردا بل به وبسببه معا فهو أيضا في الفساد كسابقه ، إذ من الواضح كون كلّ من السبب والمسبّب فعلا مغايرا للآخر بحسب الخارج مباينا له ، ومن المستبين في أوائل العقول عدم إمكان حصول فعلين متعدّدين متباينين في الخارج بتأثير واحد شخصي متعلّق بهما ، لتوقّف كلّ من فعلين مختلفين كذلك على تأثير منفرد متعلّق به.

ودعوى شهادة الوجدان باتّحاد التأثير في المقام فاسدة جدّا كيف ومن البيّن أنّ التأثير المتعلّق بجزّ الرقبة مثلا غير التأثير المتعلّق بزهوق الروح؟ فكيف يقال بحصول الأمرين بتأثير واحد؟ غاية الأمر أن يكون التأثير المتعلّق بأحدهما حاصلا بواسطة التأثير المتعلّق بالآخر ومنوطا به في العادة وإن حصل التأثير الثاني من مؤثّر آخر بحسب الواقع كما قرّرنا ؛ وقد ظهر بذلك اتّحاد مناط الاستدلال في الوجهين المذكورين وفي الجواب عنهما.

ثمّ مع الغضّ عن جميع ما ذكرنا وتسليم اتّحاد التأثير المتعلّق بهما يكون نسبة الإيجاد إليهما على نحو واحد ، فكما يمكن أن يكون السبب متعلّقا للتكليف يمكن أن يكون المسبّب متعلّقا له من غير فرق أصلا ، وحينئذ فلا وجه لجعل انتساب أحدهما إليه ذاتيّا والآخر عرضيّا والحكم بكون الأوّل متعلّقا للتكليف حقيقة دون الآخر.

نعم لو جعل الوجه المذكور دليلا على عدم تعلّق الأمر بالمسبّبات وحدها مع أسبابها لكان له وجه ، نظرا إلى ما ادعي من اتّحادهما في الإيجاد فيكون الأمر بإيجاد المسبّب أمرا بإيجاد سببه أيضا.

لكنّك خبير بأنّه لا يتمّ الاحتجاج بالنسبة إلى ذلك أيضا ، فإنّه مع وضوح فساده بما عرفت مدفوع بأنّ مجرّد اتّحادهما في الإيجاد لا يستدعي تعلّق الأمر بهما ، إذ قد يكون ملحوظ الآمر حصول أحدهما من غير التفاته إلى حصول الآخر معه ، فمطلوبيّة الإيجاد من إحدى الجهتين لا يستلزم مطلوبيّته من الجهة الاخرى فضلا عن أن يكون عينه.

١١٩

نعم غاية الأمر أن يقال : إنّه لمّا كان إيجاد الواجب متّحدا مع الآخر بحسب الواقع وكان المطلوب نفس ذلك الإيجاد صحّ بملاحظة ذلك إسناد التكليف إلى ذلك الأمر الآخر بالعرض والمجاز ، نظرا إلى اتّحاده مع الواجب ، فيكون الأمر بالمسبّب أمرا بالسبب على النحو المذكور نظير ما مرّت الاشارة إليه في سائر المقدّمات ، وقد عرفت خروجه عن محلّ النزاع.

وعلى الثالث أوّلا : أنّه لا دليل على توقّف انقطاع التكليف على فعل المكلّف به ، بل لو قيل بحصول الامتثال لو أتى بسببه المستلزم له في العادة ، نظرا إلى إدّائه إلى أداء المطلوب لم يكن بعيدا إذا لم يحصل هناك ما يقضى بتخلفه عن المسبّب ، كما أنّه يحصل عصيان النهي بالإتيان بالسبب المفضي إلى الحرام من حيث إدّائه إليه ، وليس في كلامهم تصريح بخلافه ، وما ذكر من اختلافهم في زمان سقوط الواجب على قولين منزّل على غير الصورة المفروضة.

وثانيا : أنّه لا مانع من التزام بقاء التكليف بعد حصول السبب ، وما ذكر من اعتبار إمكان الفعل في جواز التكليف إنّما هو بالنسبة إلى التكليف الابتدائي دون الاستدامي ، إذ لا مانع من القول ببقائه إلى صدور الفعل منه ، لعدم صدق الامتثال قبله. فتأمّل.

قوله : (لأنّ تعلّق الأمر بالمسبّب نادر).

لمّا كان مراد القائل بتعلّق الأمر بالأسباب هو وجوب الأفعال الّتي يتعلّق بها إرادة المكلّف واختياره ابتداء دون ما يتسبّب عن ذلك من الأفعال ـ كما هو ظاهر كلامه ـ أراد المصنّف بيان قلّة الثمرة في المسألة ، فليس هناك فرق يعتدّ به بين القول باختصاص الوجوب بالأسباب أو المسبّبات أو تعلّقه بالأمرين ، وذلك لكون الأوامر الشرعيّة متعلّقة في الغالب بنفس الأفعال الصادرة من المكلّف ابتداءا كالوضوء والغسل والصلاة والصوم ونحوها ، وتعلّق الأمر بفعل توليديّ للمكلّف على فرض ثبوته نادر.

قوله : (وأثر الشك في وجوبه هيّن).

١٢٠