هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٨٣

خلاف الظاهر ، ولا أقلّ من الاحتمال القادح في الاستدلال ، فيحتمل إرادة الإتيان بالمأمور به ما دامت الاستطاعة باقية للفعل ، أو الإتيان من أفراد المأمور به بقدر الاستطاعة دون الإتيان بجزئه ، فإنّه حينئذ ليس منه ، إذ الفعل المقيّد في أجزائه بوصف الاجتماع لا يستطاع بدون أقلّ جزء منها ، لانتفاء الكلّ بانتفاء الجزء.

ويؤيّده ما نقل من وروده في الأمر بالحجّ عند السؤال عن تكراره في كلّ سنة.

وقد يجاب عن الأوّل : بالرجوع إلى العرف فإنّ التدقيق المذكور بعيد عن فهم العرف ، والمفهوم منه يعم محل المسألة فيكون المراد هو القدر المشترك بين الوجوب الأصلي والتبعي الغيري وهو تحتّم إيقاع الفعل ، فمفاده أنّه كما لابدّ من الإتيان به حال إمكان الكلّ كذا لابدّ منه حال تعذّر غيره أيضا ، فيقوم البعض مقام الكلّ عند تعذّره ، على أنّه ليس في الخبر ذكر الواجب حتّى يرد ما ذكر ، فيشمل نفس الجزء المفروض لا من حيث الجزئيّة أعني الفعل المخصوص وإن ثبت أوّلا في ضمن الكلّ ، فيدلّ على أنّ الجزء الميسور لا يسقط بسقوط غيره فيصير مستقلّا بعد أن كان منضمّا إلى غيره فتأمّل.

وعن الثاني : بظهوره في العموم غاية الأمر خروج بعض الموراد عنه ، بل ظاهره فرض عدم تيسّر إدراك الكلّ ونفي سقوط الكلّ معه ، فيبقى الباقي على حسب ما كان عليه من وجوب أو استحباب شرعيّين أو عرفيّين فلا يختصّ بالوجوب ، ولو حمل النفي على النهي المفيد للتحريم اختصّ بالواجب لأولويّة التخصيص من المجاز.

وأما حمله على مجرّد الإخبار بالواقع فينبغي القطع بفساده. ولو صحّ ذلك لكان إخبارا بطريقة العقلاء في الالتزام بذلك وتقريرا عليه لا على مجرّد جوازه ، ففيه دلالة على صحّته من وجهين.

واحتمال الاستحباب مع عدم القول به مدفوع ، بأنّ الجملة الخبريّة المستعملة في الإنشاء تدلّ على الوجوب. بل لعلّها أقوى في الدلالة عليه من الأمر ، لدلالتها على أنّه قد بلغ في التحتّم حدّا لا يقع خلافه.

٦٨١

وعن الثالث : بأنّ الغرض من هذا الكلام إمّا اشتراط القدرة في المأمور به ، أو لزوم تكرار العمل بقدر الإمكان ، أو عدم سقوط القدر الممكن بالمتعذّر. والأوّل بعيد خارج عن مساق الرواية لرجوعه إلى تأكيد ما دلّ عليه العقل والنقل من نفي التكليف بما لا يطاق والتأسيس أولى منه ، ولو اريد إفادة هذا المعنى لكان التعبير بنحو ما في الكتاب والسنّة أولى ليكون مفاده أنّ الأمر لا يتعلّق بغير المقدور لا أنّه بعد تعلّق الأمر به لا يجب الإتيان به مع عدم الاستطاعة. والثاني مبنيّ على التكرار وقد تقدّم فساده في محلّه ، كيف ولم يقل به أحد في غير ما دلّ الدليل المخصوص عليه سيّما الحجّ فتعيّن الثالث ، ولا أقلّ من ظهوره فيما يعمّ المقام ، فيجب الإتيان بالمستطاع الّذي يصدق عليه أنّه من الفعل المأمور به أفرادا وأبعاضا فتأمّل.

ولو سلّم عدم تماميّة الدلالة في تلك الأخبار أمكن انجبارها بما ينجبر به سندها ، لما عرفت من توقّف الاستناد إليها على وجود الجابر فينجبر به ضعف السند وقصور الدلالة في خصوص المسألة الّتي يراد الاحتجاج فيها بها.

هذا كلّه إذا اعتبر اجتماع الأبعاض في صحّة العمل.

ومنه يظهر إمكان الاستناد إليها في وجوب الإتيان بالفعل عند تعذّر بعض شرائطه أو الاضطرار إلى بعض موانعه أيضا ، لرجوع الأوّل إلى تعذّر الشرط أيضا وهو اجتماع الأجزاء ، إلّا أنّ الخبر الثاني بظاهره لا يعم سائر الشرائط كما مرّت الإشارة إليه ، لظهوره في الأجزاء العرفيّة دون العقليّة. بخلاف غيره ، إذ يصدق على الفعل عند تعذّر بعض شرائطه أنّه القدر الميسور المستطاع من الواجب ، لكن الاستدلال به موقوف على وجود الجابر كما عرفت.

وأمّا إذا علّق الحكم على العدد المخصوص أو المركّب المعلوم على وجه يسقط التكليف عنه على قدر ما يأتي به ـ كإطعام الستّين ، وصيام الشهرين في غير مقام التتابع ، وإعطاء الصاع إلى غير ذلك ـ فهل الأصل سقوط البعض بسقوط غيره؟ وجهان :

٦٨٢

أحدهما : السقوط كما في الأوّل فإنّ الطلب إنّما تعلّق بالمجموع ، غاية الأمر سقوطه في كلّ جزء بقدره بمعنى عدم لزوم إعادته ، وذلك لا يقتضي برجوعه إلى تكاليف عديدة ، إنّما يحصل الامتثال بالإتيان بالمجموع فإذا تعذّر سقط الأمر به ، فلا وجه لوجوب الإتيان بجزئه إلّا من جهة الأخبار المذكورة في موارد انجبارها.

والآخر : عدم السقوط فإنّ سقوط التكليف بالجزء المأتيّ به يقتضي انحلال الأمر في ذلك إلى الأمر بكلّ جزء من أجزائه فيصحّ استصحابه مع الشكّ. بخلاف ما إذا توقّف السقوط عنه على اجتماع الأجزاء وحصول الهيئة المطلوبة ، إذ لا وجه لبقاء وجوبه بعد تعذّر الإتيان بالمطلوب.

وفيه : أنّ مطلوبيّة الجزء حال وجوب الكلّ لا يقتضي مطلوبيّته بدونه ، وإنّما وقع هناك طلب واحد بسيط متعلّق بالمجموع ، فالجزء مطلوب حال مطلوبيّة الكلّ ، لتوقّف امتثال الأمر بالكلّ عليه ، لا لاستقلاله بالمطلوبيّة.

غاية الأمر عدم اشتراط صحّته بضمّ الباقي إليه ، بمعنى عدم لزوم إعادته عند انفصاله عن غيره ، فلا يكون حكم التارك لإطعام المسكين الواحد مع إتيانه بالباقي كحكم التارك للجميع ، وإنّما يبقى عليه إطعام ذلك الواحد ، فإذا حدث التعذّر فيه سقط من حينه وكان القدر المأتيّ به قبل ذلك من الواجب بخلاف القسم الأوّل ، إذ التارك للبعض والكلّ هناك في حكم واحد وبمنزلة واحدة ، فالثابت عليه حينئذ هو المجموع وإذا تعذّر البعض سقط الكلّ حينئذ وانكشف عدم كون القدر المأتيّ به من الواجب ، لانتفاء شرط الصحّة فيه ، وهو انضمام الباقي إليه ، وذلك اختلاف في كيفيّة المأمور به بحسب الشرائط المأخوذة فيه ، وإلّا فالطلب واحد في المقامين ، والمفروض سقوطه فيلزمه سقوط التكليف بمقدّماته الداخلة والخارجة ، فلا وجه لإثبات وجوب الجزء مستقلّا ، لتوقّفه على أمر آخر ولم يثبت.

ومنها : (١) أن يثبت مطلوبيّة الأبعاض وعدم إناطتها بوصف الاجتماع فيرجع

__________________

(١) أي : من وجوه تعلّق التكليف بالمجموع المركّب ، راجع ص ٦٧٣.

٦٨٣

إلى تعدّد الطلب والمطلوب ، ويكون كلّ جزء من أجزاء المأمور به مطلوبا على الاستقلال وإن كان الكلّ أيضا مطلوبا ، فيحصل الامتثال على قدر ما يأتي به من أجزاء المطلوب من غير أن يتوقّف تحقّق الامتثال به على ضمّ سائر الأجزاء إليه.

فإن لم يكن هناك للهيئة المجموعيّة مدخليّة في المطلوبيّة وإنّما اتّفق انضمام الأجزاء المتعدّدة فيه ـ كما في الديون والنفقات والأخماس والزكوات وغيرها ـ فلا إشكال في عدم سقوط بعضها بتعذّر الباقي أو سقوطه وهو ظاهر. ولو كانت الهيئة المفروضة أيضا مطلوبة وكلّ بعض من أبعاضها أيضا مطلوبا بطلب آخر ـ كالأمر المتعلّق بالأعداد المعيّنة من الأذكار ، والصلوات وغيرها ، كالصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الجمعة مائة مرّة ، والنافلة في الليل مائة ركعة وغيرها ـ فلا شبهة في سقوط الأمر بالهيئة المذكورة بتعذّرها كسقوطه بالقدر المتعذّر من أبعاضها ، ويبقى الأمر المتعلّق بالباقي على حاله كما ذكر فيكون مطلوبا بالأمر الثاني دون الأوّل. وهو أيضا واضح جدّا فلا يقبل المناقشة والترديد فيه.

فإن قلت : إنّ ما ذكر إنّما يتمّ مع تعدّد الأمر أو عمومه ، أمّا مع وحدة الأمر وتعلّقه بالمجموع المركّب فمن البيّن سقوطه بتعذّر جزئه ، فوجوب البعض يتوقّف على دليل آخر.

قلت : إنّ المفروض عدم كون المجموع متعلّقا للأمر من حيث الاجتماع وإنّما تعلّق الأمر في الحقيقة بالعنوان الشامل للكلّ والبعض كالدين ، لصدق الاسم على كلّ منهما فيكون كلّ جزء من أجزائه واجبا على نحو وجوب الكلّ فلا يسقط بسقوط غيره ، إنّما يتم ما ذكر فيما إذا لم يكن الاسم شاملا للبعض ، كما إذا وجب في الزكاة قسم مخصوص من الأنعام الثلاثة أو مقدار مخصوص كالصاع ، فلا يدلّ على وجوب البعض من ذلك بعد تعذّر الكلّ كما عرفت.

ومنها : أن يقع الشكّ في الأمرين المذكورين ، فهل الأصل حينئذ اعتبار الهيئة المجموعيّة في المطلوب مع الإمكان فلا يحصل الامتثال بشيء من أجزائها إلّا بالإتيان بالباقي فيرجع إلى الأوّل أو الأصل عدم اعتبارها فيحصل الامتثال بكلّ

٦٨٤

جزء منها على حسبه ولو مع تعمّد الإخلال بالباقي فيرجع إلى الثاني؟ كالأوامر المتعلّقة بالأدعية المأثورة والأعداد المعيّنة من الأذكار والعبادات المخصوصة ، فهل يحصل الامتثال على قدر ما يأتي به منها أو أنّه لا امتثال إلّا بأداء الكلّ؟ وهذه هي المسألة الثالثة ويتفرّع عليها حكم التعذّر على ما عرفت.

والوجه فيها هو الأوّل ، إذ القدر المتيقّن حينئذ إنّما هو تعلّق الطلب بالمجموع فيحصل الامتثال بالإتيان به خاصّة ، وأمّا البعض من ذلك فلم يقم هناك دليل على مطلوبيّته بنفسه ، وحينئذ فإن حصل العلم بسقوط التكليف به بقدره ـ كإطعام المسكين الواحد في الكفّارة ، وغسل بعض الأعضاء في الغسل الترتيبي ـ لزم الحكم بصحّته ، وغايته عدم لزوم إعادته في امتثال التكليف المتعلّق بالمجموع ، وإلّا رجع الشكّ في ذلك إلى الشكّ في اشتراط صحّة الجزء بضمّ سائر الأجزاء إليه وعدمه. وقد تقرّر في مثله لزوم الاحتياط بتكرار الجزء المأتيّ به عند إرادة الإتيان بالمجموع تحصيلا للموالاة ـ مثلا ـ لاقتضاء الاشتغال المعلوم للبراءة اليقينيّة المتوقّفة على إحراز الشرائط المشكوكة. وعلى الوجهين فالأصل عدم كون الجزء المفروض مطلوبا على الاستقلال ، وإنّما المتيقّن من ذلك كونه مطلوبا لغيره ، لتوقّف الإتيان بالكلّ عليه ، فلا يمكن الحكم بحصول الامتثال بقدره إلّا على نحو الامتثال الحاصل بالإتيان بسائر الواجبات الغيريّة ، فلا يمكن التقرّب به عند إرادة الاقتصار عليه ، ولا يبقى الأمر به عند تعذّر الإتيان بغيره. وحينئذ فيلحق مورد الشكّ بالقسم الأوّل سواء تعلّق الأمر بالكلّ أوّلا قبل تعذّر الجزء المفروض أو كان العذر حاصلا من أوّل الأمر.

فإن قلت : إنّ ما ذكر إنّما يتمّ مع العلم بتعلّق الطلب بالمجموع والشكّ في تعلّقه بالأبعاض ، أمّا دوران المطلوب بين الكلّ والبعض فلا يقين بالأول حتّى يلزم الاقتصار عليه.

قلت : إنّ المجموع على التقديرين مطلوب للآمر قطعا ، غاية الأمر أنّ الهيئة المجموعيّة على أحد التقديرين معتبرة في المطلوب دون الآخر ، فالمتيقّن من

٦٨٥

ذلك هو القدر المشترك بين الوجهين فيقتصر عليه ، ولا يحكم بشيء من الخصوصيّتين في ترتيب الآثار المتفرّعة عليها بخلاف الصورة الاولى ، للعلم بمطلوبيّة الهيئة فيها واختصاص الشكّ بالخصوصيّة الاخرى ، فيصحّ التقرّب بها حينئذ دون الثانية ، بل ينوي التقرّب بالقدر المشترك ، لأنّه المعلوم على الإجمال كما لا يخفى.

ومنها : أن يكون الفعل واجبا لأجل التوصّل به إلى غيره ، فإن كان سببا شرعيّا له فلا شكّ أنّ تعذّر بعض أجزائه لا يقضي بكون ما عداه كافيا في السببيّة ، فالأصل عدمها حتّى يثبت بدليل آخر ، وحينئذ فيكون الحال فيه كما لو تعذّر بعض مقدّمات الواجب مع إمكان الباقي فلا يجب الإتيان بالقدر الممكن ، إذ المقصود من المقدّمة إنّما هو التوصّل بها إلى المطلوب ، فإذا تعذّر ذلك بامتناع بعض مقدّماته سقط التكليف به فسقط التكليف بسائر مقدّماته.

نعم لو كان البعض المفروض مؤثّرا في الجملة ـ كالتخفيف الحاصل في النجاسة ببعض الغسلات والمنزوحات ـ أمكن القول بعدم سقوطه عند الاضطرار إلى استعمال النجس عملا بالقاعدة المتقدّمة ، لكنّها على تقدير جريانها في المقام محتاجة إلى الجابر كما عرفت.

وأما الشرائط والموانع الشرعيّة : فإن كان الحكم ثابتا لكلّ جزء من أجزائه وتحقّق صحّة المشروط بتعذّر شرطه لزم الإتيان بما أمكن من شرائطه ورفع ما أمكن من موانعه بالقاعدة المذكورة ، لأنّه ينحلّ إلى شرائط أو موانع عديدة ـ كستر العورة ، وإزالة النجاسة ، وغيرها من موانع الصلاة ـ فلا يسقط بعضها بسقوط الباقي. وفي عموم ما دلّ على شرطيّة القدر الممكن كفاية في ذلك.

وممّا ذكر يظهر الفرق في مسألة لزوم تخفيف النجاسة مع العذر بحسب الكم والكيف، لأنّ كلّ جزء من أجزاء النجاسة مانع للصلاة فيجب رفعه بحسب الإمكان ، أمّا تخفيفها ببعض الغسلات فلم يثبت له حكم في السابق على الاستقلال حتّى يحكم ببقائه ، إلّا من باب عدم سقوط الميسور بالمعسور إن كان له

٦٨٦

جابر في ذلك. وإن كانت الشرطيّة ثابتة للمجموع دون البعض إلّا من باب المقدّمة ـ كما في الطهارات الثلاث ـ لم يجب البعض عند تعذّر الباقي إلّا إذا اندرج في النصّ المذكور مع وجود الجابر.

وعلى الوجهين فإن لم يثبت بقاء التكليف بالمشروط فالأصل سقوطه بتعذّر شرطه إلّا من باب النصّ المذكور كما عرفت.

وأمّا الأسباب الشرعيّة الّتي لم يتعلّق بها أمر من الشرع فالأصل عدم ترتّب الأثر عليها مع تعذّر بعض أجزائها أو شرائطها ، إلّا أن يثبت بدليل آخر فيعتبر القدر الممكن منها في الحكم بترتّبه عليها.

ومنها : أن يكون الفعل واجبا للتوصّل به إلى العلم بحصول الواجب ـ كالصلاة إلى الجهات الأربع ـ فهل الأصل وجوب الإتيان بالقدر الممكن عند تعذّر البعض؟ وجهان : من أنّ المفروض تعذّر تحصيل العلم بأداء المطلوب لتعذّر بعض مقدّماته فيسقط التكليف به فلا يجب الإتيان بسائر مقدّماته أيضا ، ومن أنّ تحصيل العلم إنّما يجب للتحرّز عن ضرر المخالفة فإن اتّفق مصادفة الواقع للمتعذّر فلا شكّ في إعذار المكلّف في ترك الواقع ، ومن المحتمل مصادفة الواقع الغير المتعذّر. وحينئذ فلا دليل على معذوريّة التارك للواجب ، فوجوب التحرّز عن الضرر المخوف يقتضي الإتيان بالقدر الممكن ، للقطع معه بإعذار المكلّف وسقوط التكليف عنه ، ولا قطع به مع عدمه ، وهذا هو المتّجه.

فإن قلت : إنّ هذا إنّما يتمّ لو تعلّق التكليف به قبل حصول العذر فيستصحب حتّى يحصل العلم بسقوط التكليف بالإتيان بما أمكن من المحتملات ، أمّا لو حصل العذر من أوّل الأمر فلا علم بتعلّق التكليف به حتّى يستدعي العلم بالبراءة.

قلت : إنّ المفروض وجود المقتضي للتكليف والعلم به والشكّ في العذر الواقع له ، فيقتصر في الحكم به على المتيقّن ويبنى على المقتضي في غيره.

ويمكن التفصيل في المسألة بأن يقال : إنّه قد يكون المتعذّر أحد الأفراد الّتي يتردّد الواجب بينها لا بعينه كما إذا ضاق الوقت عن الصلوات الأربع دون الأقلّ ،

٦٨٧

وقد يكون المتعذّر فردا معيّنا من تلك الأفراد كالصلاة إلى جهة معيّنة. وعلى الوجهين : فإن حدث العذر بعد دخول الوقت وحصول الاشتغال بمراعاة الاستقبال في المثال أمكن استصحاب التكليف به حتّى يحصل القطع بسقوطه بالإتيان بالقدر الممكن كما ذكر. أمّا لو حصل العذر من أوّل الوقت فيمكن القول بثبوت التكليف في الصورة الاولى بخلاف الثانية ، لإمكان مصادفة القبلة لتلك الجهة المخصوصة الّتي تعذّر استقبالها من أوّل الأمر فلا علم بتعلّق التكليف بمراعاة الاستقبال عن أوّل دخول الوقت. وعمومات أدلّة البراءة تقضي بسقوطه من أصله ، فلا يجب الإتيان بما أمكن من مقدّمات العلم به.

وفيه : أنّ عموم ما دلّ على وجوب الاستقبال شامل له لعدم علمه بتعذّره ، إنّما يحتمل ذلك ومجرّد ذلك ليس عذرا عقليّا ولا شرعيّا في سقوط التكليف المذكور ، وإنّما يعلم ذلك مع الإتيان بالقدر الممكن فيجب ذلك للتحرّز عن خوف المخالفة.

فإن قلت : لا شكّ في تقييد التكليف بذلك بالإمكان ، والشكّ في الشرط يوجب الشكّ في المشروط فلا علم بالتكليف من أصله.

قلت : فرق بين الشرط والمانع وإن كان عدم المانع شرطا أيضا ، فإنّ الشكّ في الأوّل قاض بجواز نفي التكليف بالمشروط بالأصل بخلاف الثاني ، فإنّ احتمال المانع لا يكفي في رفع اليد عن التكليف الثابت بظاهره ، إذ الرفع يحتاج إلى الدليل كما أنّ الإثبات يتوقّف عليه.

ومنها : أن يحصل الشكّ في اعتبار بعض القيود المأخوذة في الواجب في مجموع أجزائه أو في كلّ جزء من أجزائه كالوقت ، إذ على الأوّل يسقط التكليف بتعذّر مراعاته في البعض إلّا مع اندراجه في النصّ وانجباره في مورده بخلاف الثاني. ومقتضى الاقتصار على المتيقّن هو الأوّل ، إلّا أنّ الشكّ في الثاني يرجع إلى الشكّ في شرطيّة الشيء للمأمور به ، فإن قلنا بلزوم الاحتياط فيه لزم مراعاته بقدر الإمكان.

وفيه : أنّ المفروض حصول البراءة بيقين مع مراعاة الوقت في البعض

٦٨٨

وعدمها ، إنّما الشكّ في ترتّب الإثم على تفويت الوقت وعدمه ، فالأصل عدمه إلّا مع قيام الدليل عليه كما في إدراك الركعة من الوقت فيجب ويكون أداء. وتمام الكلام في هذه المباحث في الفقه.

ـ ثانيها ـ

اختلفوا في أنّ المطلوب بالأمر هل هي الطبيعة المطلقة والماهيّة الكلّية الطبيعيّة أو خصوص الأفراد والجزئيّات المندرجة تحت تلك الماهيّة على قولين : والأكثر على الأوّل ، والمختار عند جماعة منهم الحاجبي هو الثاني.

حجّة القول الأوّل : أنّ المتبادر من الأوامر هو طلب مطلق الطبيعة حسب ما مرّت الإشارة إليه مرارا عديدة ، فيكون حقيقة في ذلك ، لأن الأصل في الاستعمال الحقيقة ، وأنّها مأخوذة من المصادر الغير المنوّنة والمعرفة وهي حقيقة في الماهيّة المطلقة حسب ما هو المتبادر منها ، والمحكي فيه عن السكّاكي إجماع أهل العربيّة. ومفاد الصيغة بحكم التبادر ليس إلّا الطلب فيكون مفاد الأمرين هو طلب الطبيعة ، فلا دلالة فيها على طلب الفرد.

ويرد على الأوّل : أنّه إن اريد به عدم دلالة الصيغة بمقتضى التبادر على تعلّق الطلب بالخصوصيّة المأخوذة في الفرد ليكون التكليف منوطا بالطبيعة والخصوصيّة معا فالأمر كما ذكر ، ولا يظهر من كلام القائل بتعلّقه بالفرد إرادة ذلك ، لوضوح فساده إذ الخصوصيّات اللاحقة للأفراد لا تندرج في مفاد الأمر حتّى تفيد الصيغة تعلّق الطلب بها ، بل وكذا الخصوصيّة المطلقة ، على أنّها لا تجعلها جزئيّة ليقضي بتعلّق الأمر بجزئيّات الطبيعة على ما هو منظور القائل المذكور. وإن اريد به عدم تعلّق الطلب بأفراد الطبيعة بملاحظة كونها مصاديق لتلك الطبيعة وكون الطبيعة ملحوظة على وجه يسري الحكم منها إلى أفرادها فيكون المحكوم عليه في الإخبارات هي الأفراد المندرجة تحتها كما هو في القضايا المسورة (١) ،

__________________

(١) في «ق» المحصورة.

٦٨٩

ويكون الطلب في الإنشاءات متعلّقا بمصاديقها من حيث كون الطبيعة عنوانا لها فهو ممنوع بل ليس المفهوم عرفا من القضايا المتعارفة إلّا ذلك ، فإنّه إذا قيل الصلاة واجبة أو البيع حلال ونحو ذلك كان المفهوم عرفا هو ما قلناه ، حسب ما نصّوا عليه في بحث المعرّف باللام ، وأثبتوا كونها محصورة كلّية بدليل الحكمة وإن كانت المهملة في قوة الجزئيّة عند المنطقيّين. وكذا المفهوم من صلّ أو بع فإنّ المطلوب هو الصلاة أو البيع من حيث كونه عنوانا لمصداقه فيكون الطلب قد تعلّق بالمصداق على ما هو الحال في القضيّة ـ حسب ما ذكرنا ـ فالمستفاد من صلّ والصلاة واجبة أمر واحد ، فكون المتبادر من اللفظ هو الطبيعة المطلقة لا ينافي تعلّق الطلب بالمصداق ، نظرا إلى كون الطبيعة عنوانا له. وحمل كلام القائل بتعلّق الأوامر بالجزئيّات على إرادة ذلك غير بعيد ، بل هو الظاهر. وحينئذ فلا دلالة في التبادر المدّعى على دفع القول المذكور.

ومن ذلك يظهر الحال في الدليل الثاني ، فإنّ كون معناه المادّي هو الماهيّة لا بشرط شيء لا ينافي كون المطلوب مصاديق تلك الماهيّة ، إذ الماهيّة قد تعتبر بحيث يسري الحكم إلى أفرادها ويكون الحكم عليها حكما على أفرادها. وقد يلحظ بحيث لا يسري الحكم منها إلى الفرد كما في القضيّة الطبيعيّة.

ومن البيّن أنّ الشائع في الاستعمالات هو الأوّل ، فمطلوبيّة الماهيّة على الوجه المذكور عين مطلوبيّة الأفراد على الوجه الّذي قرّرناه ، فلا منافاة فيما ذكر للقول بكون المطلوب هو المصاديق والجزئيّات. ولذا تراهم يحكمون في بحث الفور والتراخي والمرّة والتكرار بأنّ المطلوب بالأمر مطلق الطبيعة من دون أن ينافي ذلك القول بكون متعلّق الأمر في الحقيقة هو الأفراد ، نظرا إلى كون الطبيعة عنوانا لها ، فالاكتفاء بحسب فهم العرف بتحقّق المفهوم في الخارج على أيّ نحو يكون ، وعدم مدخليّة الخصوصيّات المعيّنة في الامتثال لا ينافي الحكم بتعلّق الحكم بالأفراد على الوجه الّذي قرّرناه.

نعم إنّما ينافيه لو اخذ الأفراد متعلّقا للحكم بخصوصيّاتها ، وهو فاسد جدّا خارج عن مقتضى فهم العرف قطعا.

٦٩٠

فما ذكره بعض الأفاضل : من أنّ الظاهر أنّ من يدّعي أنّ المطلوب هو الفرد لا ينكر أيضا كون مفاد اللفظ في العرف واللغة على وجه الحقيقة هو طلب الطبيعة فقد يقال : إنّهم لا ينكرون ذلك في شيء من الموارد فإنّهم يقولون في بحث المرّة والتكرار والفور والتراخي وغير ذلك : إنّ الأمر لا يقتضي إلّا طلب الماهيّة لكنّه يدّعى الخروج عن مقتضى الحقيقة لقيام القرينة على خلافه من جهة حكم العقل حسب ما يأتي الإشارة إلى شبهتهم.

ليس على ما ينبغي ، إذ قد عرفت عدم المنافاة بين القول بكون الصيغة موضوعة لطلب الطبيعة وكون المطلوب في الحقيقة هو مصاديق الطبيعة وجزئيّاته نظرا إلى كون الطبيعة عنوانا لتلك الجزئيّات ومرآتا لملاحظتها والحكم عليها حسب ما بيّناه. فلو قال القائل المذكور بكون متعلّق الأوامر هو المصاديق إنّما يريد به ذلك من دون دافع أصلا. والتزام الخروج من وضع اللفظ والتجوّز فيه على ما يقتضيه الثاني بالنسبة إلى معظم تلك الصيغ ممّا لا يصحّ إسناده إلى الجماعة ، ولا مجال للقول بذهاب هؤلاء ونظائرهم من أهل العلم إليه.

حجّة القول الثاني : أنّ التكليف إنّما يتعلّق بالممكن دون المحال ، وما يمكن حصوله في الخارج ليس إلّا الجزئيّات الخاصّة دون الماهيّة المطلقة ، لاستحالة وجود المطلق في الخارج ما لم يتشخّص ويتقيّد.

واجيب عنه : بأنّ ما يستحيل وجوده خارجا هو الطبيعة بشرط لا ، وأمّا هي لا بشرط شيء فيمكن وجودها بإيجاد الفرد. والممكن بالواسطة ممكن فيجوز التكليف به ، فيكون الفرد من مقدّمات حصولها فيجب من باب المقدّمة ، ولا يستلزم ذلك نفي مطلوبيّة الطبيعة.

ويرد عليه : أنّ الطبيعة اللابشرط إمّا أن يكون في ضمن بشرط لا أو في ضمن اللابشرط ، والأوّل مستحيل في الخارج فيستحيل التكليف به فتعيّن أن يكون الثاني هو المكلّف به. فتعلّق التكليف بالمطلق إنّما ينصرف إلى الممكن من قسميه بمقتضى ما ذكره في الاحتجاج من اختصاص التكليف بالممكن. فكون الجامع

٦٩١

بين الوجهين ممكنا لإمكان أحد قسميه لا يقضي بتعلّق التكليف بالمطلق على إطلاقه ليكون مرآتا لملاحظة أفراده كذلك ، بل إنّما يقيّد ذلك بالممكن على حسب ما ذكر ، فيكون الطبيعة مأمورا بها من حيث كونها عنوانا للأفراد والجزئيّات على ما هو الحال في المحصورات.

ثمّ إنّ ما ذكر من كون الفرد مقدّمة لحصول الطبيعة فاسد جدّا ، ضرورة أنّ النسبة بين الطبيعة والفرد اتّحادية ، وانحلال الفرد إلى الطبيعة والخصوصيّة إنّما هو في العقل ، فليس الفرد في الخارج إلّا أمرا بسيطا ، والمتّصف بالوجوب هو الطبيعة الخارجية المتّحدة بالخصوصيّة وهو المعبّر بالفرد ، فكيف يعقل أن يكون مقدّمة للواجب مع وضوح لزوم التغاير بين المقدّمة وذي المقدّمة. وأيضا لا توقّف لإيجاد الطبيعة على إيجاد الخصوصيّة بل الخصوصيّة من لوازم إيجاد الطبيعة فكما أنّ الطبيعة ما لم يتشخّص لم يوجد كذا ما لم يوجد لم يتشخّص.

والحاصل : أنّ وجود الطبيعة في الخارج يلازم وجود الخصوصيّة فهي إنّما توجد على الوجه المذكور وذلك لا ربط له بالتوقّف.

وقد عرفت في بحث المقدّمة أنّ الحكم فيما يلازم الواجب غير حكم المقدّمات.

ومع الغضّ عن جميع ذلك فلو صحّ ما ذكر كانت الخصوصيّة مقدّمة لحصول الطبيعة لا أن يكون الفرد مقدّمة للطبيعة ، فإنّ الفرد ملفّق من الطبيعة والخصوصيّة ، والمفروض أنّ الخصوصيّة الحاصلة مقدّمة لوجود الطبيعة الحاصلة به ، وأين ذلك من كون الفرد مقدّمة للطبيعة حسب ما ذكره.

والتحقيق في الجواب : أنّه إن اريد بها أنّه لمّا تعلّقت القدرة بالفرد ـ أعني الطبيعة المنضمّة إلى الخصوصيّة ـ لزم أن يكون المطلوب هو الطبيعة والخصوصيّة معا فهو فاسد ، لمقدوريّة الطبيعة أيضا. فالأمر إنّما يتعلّق بالفرد من حيث انطباقه على الطبيعة من دون أن يكون الخصوصيّة ملحوظة في الأمر. فعدم تعلّق القدرة بالطبيعة من غير انضمام الخصوصيّة لا يقضي إلّا بتعلّق التكليف بالمنضمّ إليها ،

٦٩٢

وذلك أعمّ من تعلّقه بالطبيعة المنضمّة إلى الخصوصيّة مع خروج الخصوصيّة عن كونها متعلّقا للتكليف وكون الخصوصيّة متعلّقا للتكليف أيضا. فلا دلالة في ذلك على تعيّن الثاني كما هو المدّعى.

وإن اريد أنّ الحكم المذكور لا يمكن تعلّقه إلّا بالفرد فإنّ المقدور إنّما هو الفرد والحكم إنّما يتعلّق بالمقدور دون الوجه الآخر ـ حيث لا يتعلّق به القدرة ـ فذلك مسلّم ، لكنّه لا يقتضي إلّا ثبوت الحكم المذكور للفرد من حيث انطباق الفرد على تلك الحقيقة ولا دلالة فيه على وجوب الخصوصيّة أيضا. فإن اريد به الوجه الثاني فلا دلالة في ذلك عليه أيضا كما عرفت.

وما يقال : من أنّ الفرد المأخوذ على الوجه المذكور أيضا كلّي ـ لصدقه على أفراد كثيرة ولا دلالة فيه على ثبوت الحكم لخصوص شيء من الأفراد ، فالمفسدة المذكورة جارية فيه ، لعدم تعلّق القدرة عليه إلّا في ضمن خصوص الأفراد ، ولو اريد إيجاد خصوص الفرد المعيّن فهو مع خروجه عن مقتضى التقرير المذكور ممّا لا دلالة في اللفظ عليه قطعا ـ مدفوع، بأنّ ما تعلّق به الحكم ليس مفهوم الفرد ليكون أيضا كلّيا صادقا على أفراد عديدة. بل المقصود ثبوت الحكم لمصداق الفرد ، يعني أنّ الحكم الثابت للطبيعة إنّما لوحظ ثبوته من حيث انطباقها على مصداق الفرد ليكون الحكم الثابت لها ثابتا لمصداقه ، فليس المقصود إلّا ثبوت الحكم للفرد الخاصّ بحسب الواقع من حيث انطباقه على الطبيعة. وإنّما ذلك من اعتبار الفرد مفهوما مستقلّا كلّيا حسب ما يتوهّم. وأداء الواجب بكلّ من الأفراد وحصول التخيير بينها إنّما هو من جهة انتفاء الدليل على العموم ، وحصول الطبيعة المنضمّة في الفرد بكلّ منها ، فيقضي (١) الأمر المتعلّق بها بالإجزاء عند إرادته كذلك ، فهو تخيير عقلي حاصل من ملاحظة القدرة ، وليس الفرد هناك إلّا واجبا أصليّا نفسيّا من غير أن يتحقّق هناك وجوب غيريّ تبعيّ أصلا.

__________________

(١) العبارة في المخطوطتين هكذا : حصول الطبيعة المنطبقة في الفرد بكلّ منها ليقضي.

٦٩٣

فما يقال : من أنّ وجوب الفرد هناك وجوب تبعي من باب المقدّمة وليست الطبيعة واجبة بالوجوب الأصلي النفسي ممّا لا وجه له ، كما هو ظاهر من التأمّل فيما قرّرناه.

نعم وجوب الخصوصيّة المأخوذة في الفرد الخاصّ بملاحظة ذاتها وجوب بالغير ، إذ لم يتعلق الوجوب به كذلك ، مثلا إذا قلت «النار حارّة» كان ثبوت الحرارة لفرد النار من حيث إنّه فرد منه ثبوتا أصليّا بالذات ، وكان ثبوته لغير ذلك من المفاهيم المتّحدة به ثبوتا بالعرض من حيث اتّحاد تلك الطبيعة ، سواء كانت خصوصيّات أو كانت مفاهيم عامّة ـ كثبوت الحرارة للجسميّة المطلقة ، أو للجوهر ، أو للممكن ، أو الخشب ونحوها ـ فليس في المقام وجوبان ، ينسب أحدهما إلى الطبيعة المطلقة ، وآخر إلى الخصوصيّة أو الفرد بما ذكرنا أنّ الأفراد وإن كانت متعلّقة للتكليف على حسب ما قرّرناه ، إلّا أنّ جهة التكليف بها أمر واحد هو الطبيعة المطلقة الّتي هي العنوان لتلك الأفراد فالفرق واضح.

ـ ثالثها ـ

أنّهم اختلفوا في أنّ الأمر بالأمر بالشيء هل هو أمر بذلك الشيء حتى يكون المأمور الثاني مأمورا من الأوّل أو لا؟ فيه قولان :

أحدهما : أنّه ليس أمرا بذلك الشيء ، ذهب إليه جماعة منهم العلّامة في النهاية والتهذيب ، والآمدي في الإحكام ، وحكاه في المنية عن المحقّقين.

وثانيهما : أنّه أمر بذلك الشيء ، حكاه في المنية عن قوم ، واختاره بعض المتأخّرين من أصحابنا.

ثمّ الظاهر أنّ الخلاف في المقام ليس من جهة الوضع ، إذ لا مجال لتوهّم القول بكون الأمر بالأمر بالشيء موضوعا لأمر المأمور بذلك الشيء. وكذا الظاهر أنّه لا مجال للقول باستلزام الأمر بالأمر لذلك لزوما عقليّا لا يمكن الانفكاك بينهما ، وإنّما الكلام حينئذ في اللزوم العرفي بحيث يستلزم الأمر بالأمر ذلك بحسب فهم العرف.

٦٩٤

وحجّة الأوّلين وجوه :

أحدها : أنّه لو كان أمرا للآخر لكان الأطفال مكلّفين شرعا بالصلاة ، لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم: «مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع» (١) وهو خلاف الإجماع بل الضرورة.

ثانيها : أنّه لو قال أحد لغيره : «مر عبدك أن يفعل كذا» لم يعدّ متعدّيا على عبد الغير ، ولو كان الأمر بالأمر أمرا لكان آمرا لعبد غيره ، متعدّيا عليه.

ثالثها : أنّه لو أمر أن يأمر غيره بشيء ثمّ نهى ذلك الغير عن فعل ذلك لم يعدّ ذلك تناقضا ، ولو كان الأمر بالأمر أمرا لكان تناقضا فإنّه بمنزلة أن يقول له : افعل ولا تفعل.

رابعها : أنّه لو كان الأمر بالأمر أمرا لما جاز أن يقول لغيره : «مرني بكذا» ـ مثلا ـ لكونه حينئذ أمرا لنفسه ، وهو واضح الفساد.

ويرد على الأوّل : أنّ ذلك خارج بالإجماع ، وليس القائل بكون الأمر بالأمر أمرا إلّا مدّعيا ظهوره في ذلك ، فلا مانع من قيام الدليل على خلافه ، وأيضا فليس الأمر المذكور وجوبيّا ، لعدم وجوب التمرين على الوليّ بل المراد به الندب.

وحينئذ فلا مانع من كونه أمرا من الشرع للطفل ، لإمكان تعلّق الأمر الندبي به ، فيكون ذلك دليلا على كون عبادته شرعيّة ، ويكون ذلك من ثمرات المسألة.

وعلى الثاني : أنّ أمر عبد الغير إذا كان بواسطة مولاه لم يعدّ تعدّيا ، وإنّما يكون تعدّيا لو كان على وجه الظلم لو سلّم كون مجرّد الأمر كذلك.

وعلى الثالث : أنّ القائل بكون الأمر بالأمر بالشيء أمرا إنّما يقول بكونه ظاهرا في ذلك ، فإذا قام الدليل على خلافه كما في المثال المذكور فلا إشكال في عدم إفادته ، وأين ذلك من التناقض؟ كيف! ولا يزيد ذلك على دلالة الحقيقة. ولا يتوهّم تناقض لو قام هناك دليل على إرادة خلافه. وبمثل ذلك يجاب عن الرابع.

__________________

(١) عوالي اللئالي : ج ١ ص ٣٢٨ ح ٧٤.

٦٩٥

احتجّ القائل بكونه أمرا بالشيء : بأنّ ذلك هو المفهوم منه بحسب العرف.

ألا ترى أنّه لو قال الملك لوزيره : «مر فلانا بكذا» لم يفهم منه عرفا إلّا كون السلطان آمرا إيّاه بذلك الشيء.

واجيب عنه : بالمنع من فهم العرف مطلقا ، وفهمه ذلك في المثال المفروض بقرينة المقام لكون الوزير مبلّغا لا أصيلا ، ولا كلام فيه مع قيام القرينة ودلالة خصوص المقام عليه.

هذا تمام ما ذكروه من أدلّة الطرفين مع بيان ما يرد عليه.

وتوضيح الكلام في المقام أنّ البحث هنا في أمرين :

أحدهما : أنّ الأمر بالأمر بالشيء هل هو أمر بذلك الشيء وإن لم يتحقّق أمر من المأمور بالأمر أو لا؟ وهذا هو الظاهر من العنوان.

والثاني : أنّه لو أمر المأمور بذلك الشيء هل يكون أمرا من قبل الآمر بالأمر سواء كان أمرا في الحقيقة من قبل المأمور أو لا؟ أو أنّه لا يكون أمرا إلّا من المأمور.

ثمّ نقول : إنّ الآمر بالأمر إمّا أن يأمر به مطلقا أو يأمره بالأمر من قبل نفسه أو من قبل الآمر ، وعلى كلّ حال فالمأمور بالأمر إمّا أن يأمره من قبل الآمر أو من قبل نفسه أو من قبلهما معا كمطلق الأمر ، أو لا يلاحظ شيئا من الوجوه المذكورة فإنّ أمره بالأمر من قبل الآمر وتحقّق الأمر من المأمور ، فلا شكّ في كونه أمرا من الآمر ، اذ لا مانع من التوكيل في الأمر فإن أوقع الأمر على الوجه المذكور لم يكن أمرا من الآمر بالفعل ، بل إنّما يكون في الحقيقة أمرا من الآمر بالأمر ، وهل يكون مجرّد أمره بالأمر أمرا وإن لم يتحقّق الأمر من الآخر؟ وجهان :

أحدهما : أن يكون ذلك الأمر أمرا للآخر بذلك الفعل فيجب عليه الفعل إذا بلغه ذلك وان لم يأمره الآخر ، وكان هذا هو الظاهر في العرف ، لدلالة ذلك على كون الفعل محبوبا له ، مريدا لوقوعه منه ، وهو معنى الأمر. ولذا لو بلغه ذلك ولم يفعل عدّ عاصيا في العرف وذمّه العقلاء وصحّ له عقوبته وإن لم يأمره الآخر إذا كان ممّن يجب عليه إطاعة الآمر.

٦٩٦

ثانيهما : أنّه لا يكون مأمورا إلّا بعد أمر المأمور فإنّ مجرّد الأمر بالأمر بالشيء ليس أمرا بذلك الشيء بحسب اللغة ، ضرورة أنّ الأمر بالشيء هو إيقاع طلب الشيء ، وليس الأمر بالأمر به إلّا إيقاعا لطلب الأمر به ، وهو غير إيقاع طلبه ضرورة ولا يستلزمه أيضا ، اذ قد يكون مطلوب الآمر إيقاع المأمور لذلك الشيء بعد أمر من أمره بالأمر ، لتعلّق المصلحة بفعله بعد ذلك ولا يريد إيقاعه الفعل من دون ذلك.

وأنت خبير : بأنّ ما يقتضيه اللفظ على مقتضى اللغة هو الوجه الأخير إلّا أنّ الغالب بحسب الإرادة هو الوجه الأوّل ، لقضاء شواهد الأحوال به بحسب المقامات فإن قضت به بحسب المقام فلا إشكال ، وإلّا فالظاهر حمله على ما هو الأغلب ، ويشهد له ملاحظة فهم العرف حسب ما مرّت الإشارة إليه.

نعم لو قام في المقام قرينة تمنع من الحمل عليه اتّبعت ولا كلام حينئذ. هذا إذا اريد بالأمر أمره به استقلالا. وأمّا إذا اريد تبليغ الأمر بصيغة الأمر فلا إشكال في كونه أمرا به وإن لم يأمر به الآمر ، اذ لا دخل لتبليغ الأمر في تحقّق الأمر ، والظاهر أنّ ذلك ممّا لا خلاف فيه.

هذا كلّه إذا تعلّق أمره بشيء مخصوص ، وأمّا إذا قال : «مره عنّي بما شئت» فالظاهر أنّه لا يكون الآخر مأمورا إلّا بعد أمر الآخر كما يشهد به العرف ويدلّ عليه اللفظ بحسب اللغة. ولو قال : «مره عنّي بإتيان ما يجب فعله» ففيه وجهان. ولو قال : «مره عنّي بإتيان ما يحبّه زيد» فالظاهر أنّه كالصورة الاولى.

وإن أمره بالأمر من قبل نفسه فالظاهر أنّه لا إشكال في عدم كونه أمرا منه بذلك الشيء بمجرّد ذلك قبل تحقّق الأمر من الآمر. وهل هو أمر منه بذلك الشيء بعد تحقّق الأمر من الآخر؟ وجهان :

من أنّ ذلك الآمر لمّا كان الأمر حاصلا عن أمره فكان قائما مقام أمره وأنّ مفاد الأمر بالفعل هو لزوم الفعل عند الآمر وفي أمره بالأمر به دلالة في العرف على كون ذلك الفعل محبوبا له مطلوبا عنده. ومن هنا ينقدح احتمال كونه أمر به من دون أمر الآخر.

٦٩٧

ومن أنّه قد يكون مطلوب الآمر مجرّد أمر الآخر به من غير أن يكون للآمر بالأمر مصلحة في إيقاعه الفعل ، فلا دلالة فيه على تعلّق أمر الآمر به أصلا وهذا هو الأظهر ، ومجرّد كون ذلك الأمر عن أمره لا يفيد تعلّق أمره به. والدلالة العرفيّة في هذه الصورة ممنوعة.

نعم لو قامت هناك قرينة على إرادة وقوع الفعل منه فهو المتّبع. فحينئذ قد يكون آمرا بعد أمر المأمور به ، وقد يكون آمرا به مع قطع النظر عن أمره به أيضا على حسب ما يقوم عليه شواهد الأحوال وقرائن المقام.

وإن أمره بالأمر وأطلق فالظاهر أنّه ليس محلّ البحث في المقام على ما يقتضيه ظاهر تعبيرهم ، ويجري فيه ما ذكرناه من الكلام في المقامين : من كون مجرّد الأمر المذكور أمرا للثالث أو لا بذلك الفعل مع قطع النظر عن أمر الثاني له ، ومن كون أمر الثاني إيّاه بمنزلة الأمر الأوّل قائما مقامه.

أمّا الأوّل : فقد عرفت أنّه الظاهر من العنوان إلّا أنّ كون مجرّد أمره بالأمر أمرا للثالث محلّ نظر ، وليس في إفادته ذلك إلّا من جهة قضاء ظاهر العرف بإرادة التبليغ وجريان المخاطبات على ذلك بحيث ينصرف الإطلاق إليه ، وذلك غير ظاهر. فالقول بإفادته ذلك عند الإطلاق على ما هو الملحوظ بالبحث في المقام نظرا إلى الوجه المذكور غير متّجه. فالأظهر عدم دلالته على كونه أمرا للثالث إلّا أن يقوم شاهد في المقام على إرادة التبليغ بحيث ينصرف إليه اللفظ وحينئذ فلا كلام. وكذا لو قام في المقام شاهد على كون نفس الفعل محبوبا عنده مطلوبا لديه وإن تحقّق في طلبه في الظاهر بواسطة أمر الآخر به فبعد علم المأمور بذلك يجب الجري عليه ولو مع قطع النظر عن أمر الثاني.

وأمّا الثاني : فلا يبعد قضاء الإطلاق به إمّا لكونه توكيلا في الأمر فيكون الأمر الثاني به بمنزلة الأمر الصادر من الأوّل قائما مقامه فإنّ الأمر بالشيء من صيغ التوكيل فيكون الأمر الأوّل توكيلا للثاني وأمر الثالث بالفعل حيث أمره بأمره ، وإمّا لإفادة أمره بالأمر إيجاب طاعته على الآخر.

٦٩٨

ألا ترى أنّه لو قال : «مر عبدي بما شئت وما أحببت» ونحو ذلك أفاد عرفا أنّه يريد من العبد انقياده لأوامره والإتيان بما يحبّه ويريده. وحينئذ فيكون الثالث مأمورا من الثاني أوّلا ومن الأوّل بواسطة أمر الثاني به من جهة إيجابه لطاعته لا لكون خصوص الفعل مطلوبا من قبل الأوّل ، كما أنّ إيجاب الله تعالى طاعة المولى على العبد قاض بكون العبد مأمورا من قبل الله سبحانه بأداء ما أمر به المولى لكن من الجهة المذكورة. وهذه أيضا طريقة جارية في العرف يجري في أوامر الرسول والأئمّة عليهم‌السلام لإيجابه سبحانه طاعتهم على الأمّة فيكون أوامرهم أمرا من الله تعالى من تلك الجهة ، فعلى الوجه الأوّل يكون الثالث مأمورا من الأوّل خاصّة ويكون وظيفة الثاني إيقاع الأمر من قبل الأوّل ، وعلى الثاني يكون مأمورا من كلّ منهما إلّا أنّ وجوب طاعة الثاني إنّما يجيء من جهة الإيجاب الأوّل.

فظهر بملاحظة ما ذكرناه أنّ مفاد الأمر بالأمر عند الإطلاق كون الثالث مأمورا بذلك الفعل من الأوّل بعد تحقّق الأمر من الثاني ، إلّا أن يقوم شاهد في المقام على إرادة مجرّد أمره بالفعل من غير أن يكون ذلك الأمر من جهة الأمر بالأمر ولا من جهة إرادته لأداء مطلوبه ، وإلّا فظاهر الإطلاق هو ما ذكرناه كما لا يخفى على من تأمّل فيما قرّرناه.

فتلخّص ممّا بيّناه أنّ جهات كون الأمر بالأمر بالشيء أمرا به امور :

أحدها : من جهة فهم العرف كون الفعل محبوبا عند الآمر مطلوبا لديه.

ثانيها : من جهة إرادة التبليغ والإيصال إليه.

فعلى الثاني إمّا أن يكون الأمر الصادر من الأوّل على حقيقته (١) وإنّما يراد به مجرّد إبلاغ الأمر. وعلى الأوّل لا يبعد إرادة الأمر منه على وجه الحقيقة وإن أفاد كونه مطلوبا للآمر الأوّل. وهذان الوجهان يفيدان كون الأمر بالأمر أمرا للثالث مع قطع النظر عن أمر الثاني إلّا أنّك قد عرفت أنّهما يدوران مدار شواهد

__________________

(١) العبارة إمّا ناقصة بسقوط بعض الكلمات منها وإمّا محرّفة.

٦٩٩

الأحوال وقرائن المقام. واستفادتهما عن الإطلاق غير ظاهر فلا يتمّ الاستناد إليهما في المقام.

ثالثها : من جهة إرادة توكيل الثاني في الأمر.

رابعها : أن يعدّ ذلك من جهة إيجاب الطاعة. وهذان الوجهان يفيدان أمره به بعد الأمر الثاني على حسب ما مرّ بيانه واخترناه.

هذا وينبغي أن يعلم أنّه لا فرق فيما ذكرناه بين أن يأمره إيجابا بالأمر الإيجابي ، أو أن يأمره ندبا بالأمر الندبي. ولو أمره ندبا بالأمر الإيجابي أو أمره إيجابا بالأمر الندبي أمكن القول بدلالته على ندبه للثالث ابتداء أو بعد الأمر الآخر به ، ويحتمل عدمه. ويعرف الحال فيه من التأمّل فيما قرّرناه.

ثمّ إنّه يجري جميع ما ذكرناه فيما إذا أمر بنهي غيره عن شيء في إفادة نهي الآخر عنه أوّلا أو بعد نهي الثاني ، ويجري فيه الوجوه المذكورة إلى آخرها. والظاهر أنّ القائل بكون الأمر بالأمر أمرا يقول به هنا ، والمانع منه يمنعه. ولو نهاه عن النهي عنه فمن الظاهر عدم إفادة النهي عنه. وإنّما التأمّل في دلالته على عدم المنع من الفعل وجواز الإتيان به ، ولا يبعد القول بإفادته ذلك. كما أنّه لو نهاه عن الأمر أمكن القول بدلالته على جواز الترك وعدم المنع منه ، إذ لا مانع من النهي عن الحرام والأمر بالواجب ، فيكون المنع منهما شاهدا على انتفاء التحريم والوجوب إلّا أن يكون في المقام شاهد على كون المنع منه من جهة النهي. ولو أمره بالإذن لغيره في الفعل أو الترك جرى فيه الكلام المتقدّم أيضا من كونه إذنا للثالث ابتداء أو بعد إذن الثاني ، وكذا لو أذن له في الإذن كذلك. ولو نهاه عن الإذن كذلك أمكن القول بدلالته على المنع من الفعل في الأوّل ومن الترك في الثاني. فيظهر الحال في الوجوه المحتملة في تلك الفروض من التأمّل فيما قرّرناه.

ـ رابعها ـ

أنّهم اختلفوا في دلالة الأمر على الإجزاء بفعل المأمور به على وجهه

٧٠٠