هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٨٣

يستعمل في كلام العرب في معنى القصر كما عرفت ، فيكون حقيقة فيه احترازا عن التجوّز في الاستعمالات الشائعة. والقول باستعمالها فيها في القدر المشترك واستفادة الحصر من دليل آخر وهم فاحش ، فإنّا نقطع باستعمالها في خصوص المعنى المذكور وتبادره منها ، وعدم الحاجة إلى استفادة معنى الحصر من غيرها ، بل كثيرا ما ينحصر دليل الحصر فيها ، فالاستعمال النادر لو فرض وقوعه أحقّ بأن يكون مجازا ، إذ النادر في حكم المعدوم سيّما مع معارضته بالمثل ، على أنّ تسليم استعمالها في الحصر تارة وفي غيره اخرى ينافي ما بني عليه من الحمل على القدر المشترك ، لرجوعه إلى نفي الأوّل وترجيح الآخر من غير مرجّح ، فإنّ القدر المشترك هو الثاني بعينه ، إذ ليس المراد منه استعمالها بشرط عدم وقوع الحصر فيصدق في مقام الحصر أيضا.

غاية الأمر اقتران الاستعمال إذا بثبوت الحصر من دليل آخر من غير أن يكون اللفظ مستعملا فيه ، فيكون استعماله على ذلك في خصوص الحصر كما هو الغالب مجازا ، وفساده ظاهر ، مضافا إلى ما تقرّر من عدم دلالة الاستعمال بمجرّده على الحقيقة ، مع أنّ المنع من استعمالها في الحصر في الأمثلة المذكورة غير ظاهر ، لإمكان إرادة الحصر المجازي ، أو الادّعائي ، أو الإضافي ، أو حصر الكمال. ولو اريد الحقيقة أمكن تقييد المثال الأوّل على فرض ثبوته بالمتساويين ، أو في بيع غير المكيل والموزون ، كما قاله جماعة من الأصحاب وأكثر العامّة في بعض الموارد.

ثمّ إنّ غاية الأمر أن يكون ظاهره إذا مخالفا للإجماع ، ووجه الحصر في الآيتين الأخيرتين عندنا ظاهر. وما ذكر من التسوية بين كلمتي «إنّ» و «إنّما» في المدلول واضح الفساد ، فإنّ الاولى تدلّ على تأكّد الإثبات ، والثانية على قصر الحكم على المذكور وحبسه فيه ، فيلزمه انتفاؤه عن غيره ، فهي موضوعة للحصر ، والمحصور هو اللفظ المتّصل بها ، والمحصور فيه إنّما يقع بعد ذلك في الغالب ، فإن كان المتّصل بها وصفا أو حكما دلّت على انتفائه عن غير المذكور فيه ، كما في قوله

٥٨١

تعالى (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ ...)(١) ، وإن كان موضوعا لأحدهما دلّت على انتفاء غيره عنه ، كما في قوله سبحانه : (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ...)(٢) ، وحيث كان الانتفاء على أحد الوجهين من اللوازم البيّنة لمعنى القصر كانت الدلالة عليه من باب المفهوم وإن كان دلالتها على الحصر بالمنطوق.

وقد قيل : إنّ دلالة «إنّما» على النفي إنّما يكون بالمنطوق تعليلا بوضعها للحصر ، وبما ذكر من تضمّنها معنى «ما» و «لا» وهو ضعيف ، فإنّ الدلالة المفهوميّة أيضا مستندة إلى الوضع غالبا ، غير أنّ اللفظ لم يستعمل في نفس المدلول ، إنّما وضع لملزومه واستعمل فيه ، كما في مفهوم الشرط والغاية ، فإنّ دلالة الأداة على أحدهما بالمنطوق وعلى ما يلزمهما من الانتفاء بالمفهوم ـ كما مرّ في محلّه ـ وما ذكر من تضمّنها معنى النفي إنّما يراد به ما ذكر ، وإلّا فلا دليل عليه كما عرفت ، ولذا يحسن التصريح بالنفي بعد «إنّما» عند إصرار المخاطب على الإنكار ، ولا يحسن تكراره بنفسه : إنّما زيد قائم لا قاعد ، ولا يقال : ما زيد إلّا قائم لا قاعد.

نعم ، لو قلنا بتركيب اللفظ المذكور من حرفي الإثبات والنفي وبقائه على المعنى التركيبي كانت في الدلالة في ذلك من المنطوق ، لتصريحه إذا بالانتفاء وإن كان متعلّقه مقدّرا في الكلام ، إذ المقدّر في حكم المذكور ، لكنّك قد عرفت ضعف الاحتمال المذكور وإن أمكن ذكره من باب المناسبة ، فتأمّل.

ومنها : مفهوم الاختصاص والتوقيت والتحديد والبيان حيث لا يكون في محلّ النطق، وهي قريبة من معنى الحصر ، بل راجعة إليه في الحقيقة ، سواء دلّ عليها أسماؤها أو الحروف المستعملة فيها ، كما في قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ)(٣) ، وقولك : استأجرت الدار الّتي لزيد ، إلى غير ذلك. أمّا لو كان مدلول القضيّة نفس تلك المعاني كأن تقول : المال لزيد ، وما بين الظهر والمغرب

__________________

(١) المائدة : ٥٥.

(٢) الكهف : ١١٠.

(٣) الأسراء : ٧٨.

٥٨٢

وقت للظهرين ، والكرّ ثلاثة أشبار في مثلها ، إلى غير ذلك فدلالتها على الانتفاء في غير المذكور من المنطوق ، كالنطق بالحصر وغيره.

[مفهوم العدد]

ومنها : مفهوم العدد ، وقد اختلفوا في أنّ تعليق الحكم عليه هل يقتضي من حيث هو نفيه عن سائر الأعداد الزائدة أو الناقصة ، أو لا بل هو ساكت عن حكم سائر الأعداد غير متعرّض له بنفي ولا إثبات إلى أن يقوم على أحد الأمرين شاهد آخر؟ المعروف بين الاصوليّين هو الثاني ، حتّى حكي اتّفاقنا عليه ، إلّا أنّ جماعة منهم ذكروا في المسألة تفصيلات مرجعها إلى ما ذكر من الفرق بين قيام شاهد آخر على أحد الأمرين وعدمه ، ومن البيّن خروج الأوّل عن محلّ الكلام فلا ينبغي عدّه قولا ثالثا في المقام.

فمنها : ما اختاره الآمدي في الإحكام بعد نقل الخلاف في المسألة من التفصيل بين العدد الّذي يكون الحكم فيه ثابتا بطريق أولى وما كان مسكوتا عنه. فمن الأوّل ما كان ثبوت الحكم في الزائد أولى دون الناقص ، كما لو حرم جلد الزاني ـ مثلا ـ بعدد معيّن ، أو قال : «إذا بلغ الماء قلّتين لم يحمل خبثا» فإنّه يدلّ على تحريم الزائد من الأوّل ، واعتصام الزائد من الثاني بالأولويّة ، لاشتمالهما على العدد المنصوص عليه وزيادة. أمّا الناقص فمسكوت عنه إلّا بشاهد آخر ، كمفهوم الشرط ، ومنه ما كان بالعكس من ذلك ، كما لو أوجب جلد الزائد مائة ، أو أباح ذلك ، فحكم ما نقص عن ذلك كحكم المائة ، لدخوله تحتها ، لكن لا مع الاقتصار عليه ، بخلاف الزائد فإنّه مسكوت عنه.

ومنها : ما ذكره السيّد عميد الدين وحكاه عن المحقّقين من أنّ العدد إذا كان علة كان الزائد عليه ملزوما للعلّة ، لاشتماله على الناقص ، إلّا إذا كان موصوفا بوصف وجوديّ فلا يجب حينئذ كون الزائد عليه موصوفا به. وأمّا الناقص فإن كان العدد الزائد إباحة لزم ثبوتها في الناقص مع دخوله تحت الزائد ، كإباحة جلد

٥٨٣

الزاني مائة فإنّه يوجب إباحة الخمسين بمعنى مطلق الإذن في الفعل ، وإلّا لم يلزم ، كإباحة الحكم بالشاهدين فإنّه لا يستلزم الحكم بالواحد ، لعدم دخوله تحت الحكم بالأوّل. وكذا لو كان إيجابا فإنّ إيجاب الكلّ مستلزم لإيجاب كلّ جزء منه ، وإن كان حظرا فقد يكون الحكم في الناقص أولى ، كحظر استعمال ما دون الكرّ عند حظر استعمال الكرّ ، وقد لا يكون ، كتحريم جلد الزاني زيادة على المائة فإنّه لا يوجب تحريم المائة.

ومنها : ما ذكره بعضهم من أن العدد إمّا أن يكون علّة لحكم ، أو لا ، فإن كان علّة دلّ التعليق عليه على ثبوته في الزائد ، لاشتماله على العلّة دون الناقص ، وإلّا فإن كان الحكم حظرا أو كراهة دلّ على ثبوت أحدهما في الزائد ، لاشتماله على موضوع الحكم دون الناقص ، وإن كان إيجابا أو ندبا أو إباحة دلّ على ثبوت مثله في الناقص ، لاندراجه في موضوعه دون الزائد.

وأنت خبير بأنّ الوجوه المذكورة لا محصّل لها إلّا ما ذكرناه ، إذ لا يطّرد الحكم في ما ذكر ، إنّما المدار على إلغاء الخصوصيّة بالنسبة إلى الزائد أو الناقص وعدمه ، فليس شيء منها تفصيلا في محلّ المسألة.

نعم ، قد يفصّل بين ما إذا وقع جوابا عن المقيّد فلا يفيد ، وما إذا اطلق ولم يظهر له فائدة سوى المفهوم فيفيد ذلك ، وإلّا فلا.

وفيه أوّلا : أنّه يمكن القول بخروج الأوّل والآخر عن محلّ المسألة.

وثانيا : أنّه لو تمّت الدلالة لم يكن في مجرّد ظهور الفائدة الاخرى ما يمنع ، بل ينبغي بناء الأمر فيه على أظهر الفوائد الممكنة ، وإلّا فلا فرق بين تحقّق فائدة اخرى في الكلام واحتمال وجودها في المقام ، فإنّ قيام الاحتمال أيضا يمنع من الاستدلال ، إلّا أن يقال بعدم العبرة بمجرّد الاحتمال في فهم العرف ، بل ينصرف الذهن إلى إرادة المفهوم حتّى يتحقّق هناك فائدة اخرى تبعث على صرف الكلام إليها ، أو التردّد في بنائه على إحداهما. وقد سبق في مفهومي الشرط والوصف ما يغني عن إعادة الكلام في هذا المقام.

٥٨٤

والحقّ أنّ تعليق الحكم على العدد المعيّن كتعليقه على سائر الألقاب لا يدلّ بمجرّده على حكم غيره من الأعداد إلّا بقرينة تفيد ذلك ، لأنّ الأعداد المختلفة قد تتّفق أحكامها ، وقد تختلف ، فتعليق الحكم على شيء منها لا يدلّ على ثبوته فيما عداه ، ولا على نفيه ، فلو دلّ على شيء من ذلك لكان باعتبار زائد على مجرّد التعليق ، لأنّ دلالته على ذلك على فرض ثبوتها ليست مستندة إلى وضع المفردات ، ولا إلى وضع الهيئة التركيبيّة ، كما مرّ بيانه في مفهوم الوصف ، ولذا لا يلزم التجوّز عند التصريح بخلافه ، للقطع بعدم صحّة السلب حينئذ ، فتكون مستندة إلى أمر زائد ، وهو ما ذكرناه ، وغاية ما يستدلّ به على ذلك وجوه :

الأوّل : أنّ تعليق الحكم على العدد المفروض لو لم يدلّ على انتفائه عن غيره لعرى التقييد به عن الفائدة ، وهو غير جائز في كلام الحكيم ، بل خارج عن وضع المخاطبات ، كما مرّ بيانه في مفهوم الوصف.

وفيه : ما عرفت أيضا من أنّ الفائدة لا تنحصر في ذلك ، لإمكان وقوعه لفوائد اخر على حسب ما مرّ ، على أنّه إنّما يلزم حيث يذكر العدد المخصوص بعد ذكر العدد العامّ ، كما في تقييد الموصوف العامّ بالوصف الخاصّ ، وذلك غير مفروض في المقام ، وإلّا فبيان حكم العدد المخصوص كغيره لا يدلّ على نفيه عمّا عداه ، إذ لا يلزم في بيان الحكم ذكر جميع موارده ، إنّما يذكر من ذلك ما يقتضيه الحال ، كما يأتي في اللقب.

الثاني : استقراء المحاورات العاديّة والمخاطبات العرفيّة الجارية بين الناس من قديم الدهر ، لاستمرار الطريقة على عدم ذكر العدد المخصوص إلّا مع اعتبار الخصوصيّة واستقرار العادة على عدم ذكره بمجرّد الاقتراح.

وفيه : أنّ ذلك إنّما يقتضي أن يكون في ذكره خصوصيّة ما في الجملة ، لا خصوص إرادة انتفاء الحكم في غيره ، ألا ترى أنّه لو قال : «صم ثلاثة أيّام» ثمّ قال : «صم خمسة أو يوما» لم يتصوّر هناك منافاة بين الخطابين أصلا؟! إنّما يقتضي أن يكون ذكر الثلاثة في الأوّل لخصوصيّة ما ، كما عرفت.

٥٨٥

الثالث : أنّا نقطع بأنّ من رأى عشرين أو خمسة أو ملك أحد العددين ثمّ قال : رأيت عشرة ، أو بعت ، أو اشتريت ، أو ملكت عشرة عدّ كاذبا ، وكذا في سائر الأمثلة ، وليس ذلك إلّا لاعتبار المفهوم المذكور.

وفيه : أنّ لزوم الكذب عند نقصان الواقع عن العدد المخبر عنه إنّما هو لمخالفته للمنطوق الصريح. أمّا مع الزيادة فلا يلزم الكذب ، إذ لا يصحّ سلب رؤية العشرة عمّن رأى المائة.

نعم ، لو لم يكن في ذكر العشرة خصوصيّة أصلا عدّ ذكرها لغوا ، وربّما عدّ كاذبا مجازا من حيث ظهور كلامه في استعمال العشرة لخصوصيّة ما مع مخالفته للواقع ، أو حقيقة حيث يقع الكلام في مقام بيان تمام الواقع ، فكأنّه أخبر بأنّ الواقع كذا ، كما لو أخبر عمّا يملكه بأنّه عشرة فتبيّن أنّه ألف.

الرابع : أنّ التعليق على العدد لو لم يفد الاختصاص لحسن الاستفهام عن حكم الزائد عليه ، أو الناقص عنه ، ومن البيّن خلافه ، ألا ترى أنّه لو علّق الحكم على إقامة العشرة ، أو التزويج بأربع نساء ، أو شهادة الشاهدين ، أو صلاة الركعتين إلى غير ذلك لم يحسن للمخاطب استفهامه عن الناقص والزائد؟! بل يستقبح ذلك في العادات ، وليس ذلك إلّا لثبوت المفهوم المذكور في العرف والعادة.

وفيه : أنّا لا ننكر استفادة المعنى المذكور في كثير من المقامات الّتي لا يظهر فيها خصوصيّة اخرى لذكر العدد المخصوص سوى التخصيص ، وإنّما يقبح الاستفهام في تلك الموارد حيث لا يكون الغرض منه الرجوع عن الظنّ إلى اليقين. وأمّا مع احتمال الخصوصيّة فلا شكّ في حسن الاستفهام عن الزائد ، فإنّ المسافر إذ قال : «أقمت عشرة» أمكن أن يكون غرضه حصول الإقامة القاطعة للسفر ، وإن أقام خمسة عشر فيحسن السؤال عنه : هل أقمت زيادة على ذلك؟ وكذا من اخبر بشيء من المذكورات أو غيرها بعد سبق نوع من الالتزام ، أو التعاهد والتواعد على العدد المخصوص ، أو أمكن لحوق بعض الفوائد والآثار لذلك العدد لم يكن في التقييد به دلالة على الحصر وحسن الاستفهام في ذلك المقام.

٥٨٦

الخامس : ما روي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا نزل عليه (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً) قالعليه‌السلام : «لأزيدنّ على السبعين» (١). فلو لم يسبق إلى فهمه الشريف أنّ ما زاد بخلافه لما قال ذلك.

وفيه بعد تسليم الخبر : أنّ التقييد بالعدد وإن لم يكن فيه دلالة على المفهوم إلّا أنّ اختصاص الوارد به ممّا لا شكّ فيه ، فيبقى غيره على الأصل فيه ، على أنّ العدد في ظاهر اللفظ إنّما وقع في حيّز الشرط ولذا استدلّ به على مفهوم الشرط ، كما مرّ في محلّه.

وممّا ذكر يظهر الحال في جميع الأعداد الّتي علّقت عليها الأحكام ، كمقادير الحدود، والديات ، والمنزوحات ، وأعداد الأذكار ، والدعوات ، والصيام ، والصلاة ، والأوقات المضروبة لجملة من الأحكام بتعيين الأيّام بالأصل أو الالتزام ، فإنّ الأمر فيما يزيد على ذلك راجع إلى ما كان عليه قبل الخطاب ، أو قبل الالتزام ، فليس انتفاء تلك الأحكام بعد تمامها في تلك المقامات شاهدا على مفهوم العدد على أنّها واردة في مقام البيان ، وتلك جهة اخرى في الدلالة على المفهوم خارجة عن محلّ الكلام ، فالاستناد إلى بعض ما ذكر في كلام بعضهم كالثمانين في حدّ القذف واضح الفساد.

فظهر ممّا ذكر : أنّ اختصاص الحكم والنسبة اللفظيّة في كلّ من الإنشاء والإخبار بالعدد المفروض وانتفاء واقعه عن غيره بالأصل في موارده ، أو ثبوته في الأقلّ أو الأكثر بمفهوم الموافقة ، أو لشمول العلّة ، أو من باب المقدّمة في مواردها ، أو بخطاب آخر مثبت لحكم مستقلّ على حدة ممّا لا ينبغي الكلام فيه والتنازع عليه ، وكذا شمول إطلاق العدد للمقترن بالزيادة وغيره ، حيث لا يكون في اللفظ ما يفيد تقييده بشرط عدمها ، لرجوعه إلى دلالة المنطوق ، فإن كان شاملا للوجهين اختصّ الحكم بالعدد وكان القدر الزائد خارجا عن مورد الحكم.

__________________

(١) المكارم ٢ : ١٣٤ نحوه.

٥٨٧

وكذا لا كلام في دلالة الإخبار بالعدد الزائد على نفي الناقص ، للزوم الكذب قطعا. وكذا الأمر بالزائد يقتضي عدم جواز الاقتصار على ما دونه ، لعدم حصول الامتثال بالضرورة. فالكلام إنّما هو في دلالة اللفظ على اختصاص الحكم الواقعي أو النسبة الخارجيّة بالعدد المنطوق به على الوجه الّذي اعتبر في محلّ النطق من إطلاق أو تقييد ليفيد انتفاء أحدهما عن القدر الزائد خاصّة في بعض المقامات ، وعن تمام العدد الزائد والناقص جميعا في غير الموارد المذكورة ، على ما هو الحال في الصلاة والطواف وغيرهما بحيث يصلح معارضا لما دلّ على ثبوت أحدهما في أحد المقامين.

ويظهر من بعضهم تخصيص محلّ المسألة بالزائد دون الناقص ، وذلك يتمّ في الأخبار دون الأحكام ، لتساوي نسبتهما إلى العدد المفروض ، واللفظ إنّما يدلّ على حكم الموضوع المذكور فيه ، وكلّ من العدد الزائد والناقص موضوع آخر فلا بدّ في إثبات حكمه من دليل آخر.

نعم ، إن ظهر من الكلام أو من قرائن المقام انتفاء سائر الخصوصيّات المتصوّرة لذكر العدد كان المفهوم من تعليق الحكم عليه إناطة الحكم الواقعي أو النسبة الخارجيّة بخصوصه ، فينتفي أحدهما في غيره ، فلو دلّ دليل آخر على ثبوته للزائد أو الناقص وقعت المعارضة بينهما ، إلّا إذا دلّ ذلك على حكم آخر مستقلّ في نفسه مثل الأوّل لعدد آخر أيضا ، للزوم مغايرته مع الأوّل ، وأمّا لو لم يظهر هناك من اللفظ ولا من خارجه خصوصيّة اخرى لذكر العدد ولا انتفاؤها عنه تعيّن الاقتصار في مدلول اللفظ على المنطوق ، لعدم ثبوت المفهوم مع قيام الاحتمال المذكور ، وأصالة انتفاء سائر الخصوصيّات لا يجدي شيئا في المقام. ودعوى أنّ المفهوم حيث كان فائدة معلومة في المقام كان هو المنساق من اللفظ في نظر السامع دون الأمر المحتمل ممنوعة ، إنّما يتمّ الانصراف عند ظهور الانتفاء ، كما عرفت.

٥٨٨

[مفهوم المقدار والمسافة]

ومنها : مفهوم المقدار والمسافة ، فإذا علّق الحكم على مقدار معيّن بحسب الكيل أو الوزن أو المساحة أو غيرها فهل يدلّ على انتفائه فيما دونها أو ما فوقها؟ الظاهر جريان الحكم السابق في العدد فيه أيضا فإنّه أيضا من الكمّ ، وإنّما الفرق بينهما : أنّ ذلك كمّ منفصل ، وهذا كمّ متّصل فلا فرق بينهما ، فإن ظهر من الكلام أو من قرائن المقام إناطة الحكم به دلّ على انتفائه بانتفائه ، لكنّ الإطلاق يقتضي شموله للزائد هنا أيضا ، كتعليق الاعتصام على الكرّ ، والسفر على المسافة المعيّنة ، وغير ذلك ، إلّا إذا قام هناك شاهد أو قرينة على تقييده بشرط لا فيدلّ على نفي الحكم عن المقدار الزائد مطلقا ، كالزيادة في الصلاة والطواف وغيرهما ، ويجري الحكم في مطلق المركّبات. فالغرض أنّ تعليق الحكم عليها وإن دلّ على انتفاء ذلك الحكم المخصوص بانتفاء شيء من أجزائها لكنّه لا يدلّ على انتفاء مطلق الحكم بذلك إلّا لشاهد آخر حسب ما مرّ بيانه.

[مفهوم الزمان والمكان]

ومنها : مفهوم الزمان والمكان ، فإذا قيّد الحكم أو النسبة في الإنشاءات والإخبار بأحدهما فهل يدلّ على انتفائه في غيرهما؟ يختلف الحال في ذلك أيضا باختلاف المقامات ، ففي مثل تقييد الصلاة والصيام بأوقاتها ، والحجّ بشهورها وأيّامها وأمكنتها ، والفطرة بوقتها إلى غير ذلك يدلّ على الانتفاء في غيرها ، وبه يقيّد مطلقاتها ، بخلاف ما لم يظهر فيه الإناطة وأمكن وروده لخصوصيّات خارجيّة ، وكذلك الحال في سائر القيود الواقعة في الكلام من تمييز أو حال أو غيرهما ، كما مرّت الإشارة إليه.

والحاصل : أنّ الدلالة في أمثال هذه المفاهيم ليست وضعيّة ، وإنّما تتبع ظهور الفائدة كما مرّ بيانه في مفهوم الوصف ، فلا يلزم التجوّز عند التصريح بخلافها ، بخلاف سائر المفاهيم المستندة إلى الوضع ، كالشرط والغاية والحصر.

٥٨٩

[مفهوم اللقب]

ومنها : مفهوم اللقب ، والمعروف بينهم التعبير به عن تعليق الحكم بالاسم ، سواء كان من الأعلام الشخصيّة أو من أسماء الأجناس من الأعمال ، كأسماء العبادات والمعاملات ، أو من سائر الأجناس أو الأنواع. وقيّده بعضهم بما إذا كان معرّفا باللام وأطلق الباقون. ومنهم من قيّد الاسم بغير الصفة ، وهو الظاهر من الباقين ، لإطلاقهم اللقب في مقابلة الوصف.

وزعم بعضهم أنّهم لم يفرّقوا بين كون الاسم المخصوص بالذكر جنسا أو نوعا أو وصفا ، كلا تصحب فاسقا ، فيكون الفرق بين اللقب والوصف بذكر الموصوف وعدمه. وقد عرفت أنّ مفهوم الوصف أعمّ منه ، فاللقب ما عداه ، وحكي عن بعضهم الفرق بين أسماء الأنواع فجعل لها مفهوما دون أسماء الأشخاص ، مع أنّ المعروف تمثيل المسألة بمثل : زيد في الدار ، وتصريحهم بالأعلام الشخصيّة في العنوان والاحتجاج. وكيف كان فالمعروف بينهم عدم دلالة التعليق المذكور على نفي الحكم عمّا لا يتناوله الاسم ، وأجمع عليه أصحابنا وأكثر العامّة ، بل حكى العضدي والآمدي تارة اتّفاق الكلّ على عدم اعتباره ، واخرى ذهاب الجمهور إليه.

وحكي القول بثبوته عن أبي بكر الدقّاق ، والصيرافي ، وبعض المالكيّة ، وبعض الحنابلة. ونسبه الآمدي إلى أصحاب أحمد بن حنبل ، وهو من غرائب المقالات ، فإنّ أكثر كلمات أهل العلم وأكثر عبارات الكتب والرسائل يشتمل على العنوان المذكور مع القطع بعدم إرادة المفهوم فيها ، وعدم انفهام ذلك المعنى فيها في شيء من المقامات والمحاورات ، وإنّما يفهم حيث يفهم من خصوصيّات خارجيّة حاصلة في بعض الألقاب من حيث وقوعه قيدا زائدا في الكلام إذا انحصرت فائدته في إفادة المعنى المذكور ، أو غير ذلك على ما عرفت تفصيل القول في أقسامه وموارده ، وإلّا فلم يزعم أحد أن يكون إثبات شيء لشيء مفيدا للحصر فيه ونافيا لما عداه ، وإلّا لكان قولك : «زيد موجود ، أو عالم ، أو حيّ ، أو مخلوق ،

٥٩٠

أو ممكن ، أو مدرك ، أو صادق ، أو يحشر في القيامة ، أو يموت ويفنى» إلى غير ذلك من أنواع الإيجاب دالّا على الحصر وانتفاء تلك المعاني عن غيره ، وقولك : «زيد ليس بواجب ولا دائم ولا خالق ولا رازق» إلى غير ذلك من السلوب مفيدا لإثبات تلك المفاهيم لغيره ، فتكون مداليل تلك الألفاظ مع قطع النظر عن القرائن الخارجة راجعة إلى الكفر.

كما احتجّوا على ذلك تارة بلزوم دلالة قولنا : «عيسى رسول الله» على نفي نبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما قيل : إنّ المتكلّم بذلك إنّما لا يكون كافرا إذا لم يكن متنبّها لدلالة لفظه ، أو كان متنبّها لها غير أنّه لم يرد بلفظه ما دلّ عليه مفهومه. وأمّا إذا كان متنبّها لدلالة لفظه وهو مريد لمدلولها فإنّه يكون كافرا كما ترى ، إذ لا يعتبر في التكفير استعلام تنبّه المتكلّم لدلالة لفظه وإرادته لمدلولها من أمر آخر غير الكلام الصادر منه ، وإلّا لما جاز الاكتفاء بعبارة المرتدّ في الحكم بكفره ، إنّما المدار في ذلك على مدلول كلامه على أنّ الغرض من الاستدلال دعوى الضرورة على عدم انفهام معنى الكفر من أمثال تلك العبارات ولو مع قطع النظر عن جميع الخصوصيّات الخارجية ، فلا يرد دعوى استناده إلى قرائن الأحوال وإن فرض عدم انفكاكه عنها أيضا.

وتارة بأنّه إذا قيل : «زيد يأكل» لم يفهم منه أنّ غيره لم يأكل ، ومثله إسناد سائر الأفعال إلى شخص معيّن فإنّه لا يدلّ على نفي أمثالها عن غيره.

وما قيل من أنّه : إن اريد عدم فهم المثبت لمفهوم اللقب فممنوع ، وإن اريد عدم فهم النافي فلا يفيد عدم دلالته في نفسه واضح الفساد ، إنّما الغرض عدم دلالته في نفسه على ذلك ، وعدم انفهامه في عرف أهل اللسان ، ومن توهّم دلالته فقد كابر وجدانه ، ولو تمّ ذلك إيرادا في المقام لجرى في كلّ تبادر يستدلّ به في المسائل اللغويّة ونحوها ، وهو كما ترى.

واخرى بأنّه لو كان مفهوم اللقب دليلا لما حسن من الإنسان أن يخبر بأنّ زيدا يأكل ـ مثلا ـ إلّا بعد علمه بأنّ غيره لم يأكل ، وإلّا كان مخبرا بما يعلم أنّه

٥٩١

كاذب فيه ، أو بما لا يؤمن فيه من الكذب ، وحيث يستحسن العقلاء ذلك مع عدم العلم بما ذكر فيدلّ على عدم دلالته على نفي الأكل عن الغير.

وما قيل : إنّ فرض علمه بأكل الغير أنّ جهله به يصلح قرينة على عدم إرادة المفهوم المذكور ، فإنّ الظاهر من العاقل أنّه لا يخبر عن نفي ما لم يعلمه فضلا عما علم وقوعه ، حتّى أنّه لو ظهر منه إرادته لنفي ما دلّ عليه لفظه عند القائلين به لكان مستقبحا فاسدا أيضا ، إذ القرينة لا بدّ من ظهورها في الكلام ، أو من خصوصيّات المقام ، ومجرّد علمه في الواقع أو جهله مع عدم إظهار أحدهما لو تمّ قرينة في المقام لكانت الدلالة على المفهوم المذكور كسائر المفاهيم متوقّفة على ظهور علمه بمقتضاها من الخارج ، وعدم الاكتفاء فيه بظاهر التعبير ، إذ معه يلزم ما ذكر من الكذب بعد انكشاف خلافه ، وكلّ ذلك خلاف الضرورة ، وحيث إنّ المسألة من الضروريّات فذكر وجوه الإيراد والجواب فيها تطويل للكلام من غير طائل.

وغاية ما توهّمه المثبت : أنّ ترجيح اللقب المذكور وتخصيصه بالذكر يفتقر إلى مرجّح ، وليس إلّا نفي الحكم عن غير المذكور ، ولو احتمل غيره فالأصل عدمه. وأنّه لو تخاصم شخصان فقال أحدهما للآخر : «لست زانيا وليست لي أمّ ولا اخت ولا امرأة زانية» فإنّه يتبادر إلى الفهم نسبة الزنا إلى خصمه أو زوجته وامّه واخته ، ولذا قال أصحاب أحمد ومالك بوجوب حدّ القذف عليه. وضعف الوجهين في غاية الظهور ، إذ اللقب ليس قيدا زائدا في الكلام حتّى يفتقر إلى فائدة زائدة على أصل الكلام ، فذكره في كلام الحكيم إنّما يفتقر إلى ترتّب فائدة عليه.

وأمّا ترك غيره وعدم التعرّض له فلا يلزم ترتّب الفائدة عليه ، بل ويكفي عدم ترتّبها على الذكر ، على أنّه لو فرض زيادته في الكلام أمكن أن يكون تخصيصه بالذكر لاختصاص الفائدة المقصودة به ، فلا تظهر إلّا بذكر خصوصيّته ، أو لغير ذلك من الوجوه المرجّحة له بالذكر ، والأصل لا يجدي في المقام شيئا ، إذ الدلالة المتوقّفة على انحصار الفائدة إنّما تظهر بظهور الانحصار ، لا بأصالة العدم. وأمّا ما

٥٩٢

ذكر من المثال فليس من المسألة ، إنّما هو من باب التعريض بالمخاطب ، وإلّا لكانت العبارة المذكورة على الوجه المذكور قذفا لكلّ أحد ، وهو ضروريّ الفساد ، على أنّ الغرض إنّما هو عدم دلالة اللقب من حيث هو على ما ذكر ، وإلّا فيمكن استفادة المعنى المذكور من بعض خصوصيّات المقام ، كما لو قال في جواب من سأله : أجاءك زيد أو عمرو؟ زيد جاءني ، أو أوصى بعين لزيد ثمّ أوصى بها لعمرو ، أو أوصى إلى جماعة ، أو وكّلهم ثمّ خصّص واحدا بالإذن على وجه يفهم منه الرجوع إلى غير ذلك.

مفهوم العلّة

ومنها : مفهوم العلّة ، فكلّ ما دلّ على العلّية من اسم أو حرف أو غيرهما كلفظ «العلّة» و «السبب» أو «لام التعليل» أو التعليق على الوصف في بعض المقامات أو غير ذلك يدلّ على ثبوت الحكم في غير الموضوع المذكور عند ثبوت العلّة فيه وانتفائه عنه عند انتفائه ، لدوران الحكم مدار علّته وجودا وعدما. وعن الغزّالي إنكار دلالته على انتفاء الحكم بانتفائه ، وقد يعلّل بوجهين :

أحدهما : أنّه قد تقرّر في محلّه أنّ علل الشرع معرّفات للأحكام ، علامات عليها ، وليست مؤثّرة في حصولها. أمّا عند الأشاعرة فلكون الخطاب عندهم قديما فلا معنى لاستناده إلى علّة حادثة ، ولامتناع كون أفعاله تعالى معلّلة بالأغراض ، ومنها الأحكام فلا تكون مستندة إلى العلّة ، فتعيّن حمل ما يدلّ على العلّية على تعريف الحكم الشرعي.

وأمّا عندنا فلأنّ الفعل الاختياري إنّما يستند إلى الإرادة ، فلا يكون غيرها علّة في صدوره عن الفاعل المختار ، ونقل الكلام في علّة الإرادة مدفوع بما تقرّر في محلّه.

وحينئذ فنقول : إنّ انتفاء المعرّف للحكم الشرعي لا يستلزم انتفاءه في الواقع ، إذ لا يلزم من عدم معرفة الحكم معرفة عدمه ، فلا يلزم من انتفاء العلّة الشرعيّة انتفاء معلولها.

٥٩٣

الثاني : أنّه لا يلزم من انتفاء العلّة انتفاء المعلول ، لإمكان استناده حينئذ إلى علّة اخرى ، سواء كانت من العلل الشرعيّة أو العقليّة ، فإنّ كون ارتكاب الفاحشة علّة لإباحة الدم لا ينافي كون الردّة علّة لها ، كما أنّ كون الشمس علّة لتسخين الماء لا ينافي كون النار علّة له أيضا.

ويمكن الجواب عن الأوّل تارة : بأنّ انتفاء علّة التعريف يقتضي انتفاء معلولها وهو المعرفة بالحكم ، فيصحّ نفيه بالأصل ، فيمكن تقييد العموم أو الإطلاق بمفهوم العلّة ، إذ بعد فرض انحصار المعرّف في العلّة المفروضة لا يمكن المعرفة بالحكم في غير موردها ، وبذلك يتمّ المقصود.

وتارة : أنّ مبنى كلام الأشعري واضح الفساد ، وأمّا عندنا فالعلّة المفروضة تقتضي اختصاص المصلحة الباعثة على تشريع الحكم المفروض بموردها فينتفي عن غيره.

واخرى : بأنّ تعليق الحكم على العلّة يقتضي إناطة الحكم بحصولها وجودا وعدما كائنة ما كانت على نحو العلل العقليّة ، فلا يتوقّف ذلك على كونها علّة ، فيكون كسائر القيود المأخوذة في الحكم.

وعن الثاني أوّلا : بأنّ المعلول بعد انتفاء علّته المذكورة إمّا أن يستند إلى علّة اخرى ، أو لا ، فإن كان الأوّل لم يكن ما فرضناه علّة ، إذ العلّة حينئذ أحد الأمرين. وإن كان الثاني لزم وجود المعلول بدون العلّة.

وثانيا : بأنّ نفس التعليل ظاهر في تعليق الحكم على وجود العلّة وإناطته بها كما ذكر ، فيدلّ على انتفائه بانتفائها ، فيكون مدلولا التزاميّا لظاهر اللفظ ، فإذا قيل : «الخمر حرام لإسكارها» دلّ على إناطة التحريم بالإسكار ، فكأنّه قال : المسكر حرام ، فلو فرض ثبوت التحريم لغير المسكر واقعا لكان ذلك حكما آخر غير الحكم المعلّل ، فمع الشكّ فيه يتعيّن الرجوع إلى الأصل.

وثالثا : بأنّ تعليل الحكم الكلّي بالعلّة المفروضة ظاهر في الانحصار ، إذ لا يمكن استناد الأمر الواحد بالاعتبار الواحد إلى علّتين مستقلّتين في التأثير ،

٥٩٤

وإلّا لكانت العلّة مجموع الأمرين ، أو كلّ واحد منهما على البدليّة ، وكلّ من الأمرين مخالف لمدلول اللفظ لظهوره في استقلال العلّة وتعيينها.

ورابعا : بأنّ الأصل انتفاء العلّة الاخرى ، وهو كاف في المقام ، غير أنّه لا يجدي فيما إذا كان هناك عموم أو إطلاق يقضي بثبوت الحكم في غير مورد العلّة ، وكذا لو كان الحكم المفروض موافقا لمقتضى بعض الأصول أو القواعد الشرعيّة ، كما لا يخفى.

ثمّ إنّ الدلالة المذكورة إنّما هي من باب المفهوم دون المنطوق صرّح بالعلّية أو لا ، كما لو قال الخمر حرام بسبب الإسكار ، أو لعلّة الإسكار ، أو لإسكارها ، أو النبيذ المسكر حرام ، حيث يقترن بما يفيد علّية الوصف المذكور ، خلافا لما مرّ نقله عن بعضهم من التفرقة بين التصريح بالعلّية وعدمه ، وقد عرفت ضعفه.

نعم ، لو قال : «الإسكار علّة لتحريم الخمر» كان ذلك من المنطوق لذكر الموضوع والمحمول في تلك القضيّة ، فيكون الحكم المذكور إذا مأخوذ في معنى المحمول المنطوق به ، كما مرّ في نظائره.

ومنها : غير ما ذكر من المفاهيم فإنّ المفهوم كما عرفت إثبات الحكم المذكور أو نفيه بالنسبة إلى غير الموضوع المذكور ، أو إثبات غيره ، أو نفيه بالنسبة إلى المذكور ، فكلّ لفظ دلّ على أحد الوجوه المذكورة بالالتزام بل وبالتضمّن في بعض الفروض كان من المفهوم.

وقد ذكر جدّي الفقيه قدس‌سره في كشف الغطاء (١) من هذا الباب مفاهيم عديدة غير ما ذكره القوم :

مفهوم التلازم

منها : مفهوم التلازم ، كما في قوله عليه‌السلام : «إن قصّرت أفطرت ، وإن أفطرت قصّرت» (٢).

واعترض : بأنّ دلالة العبارة المذكورة على التلازم في الوجود إنّما هي

__________________

(١) هذا تصريح بأنّ هذه المباحث صدر من قلم نجل المؤلّف قدس‌سرهما ، وقد تقدّم ما يشهد بذلك في الصفحة ٥٦٧.

(٢) كشف الغطاء : ص ٢٩ س ٢٩.

٥٩٥

بالمنطوق ، وعلى التلازم في جانب النفي إنّما هي بمفهوم الشرطين ، وهو مناقشة في المثال ، فكان الغرض منه بيان مصداق التلازم ، فالمقصود : أنّ ما دلّ على تلازم الوجودين يدلّ على انتفاء أحدهما بانتفاء الآخر فإنّه من لوازمه البيّنة ، وليس بمذكور في محلّ النطق. نعم ، لو كانت القضيّة الحكم بالملازمة بين الشيئين كان من المنطوق كنظائره.

[مفهوم الاقتضاء]

ومنها : مفهوم الاقتضاء ، كإيجاب المقدّمة ، والنهي عن الضدّ العام ، وهو غير ما تقدّم في أقسام المنطوق من دلالة الاقتضاء ، لما عرفت من تفسيره وتعيين موارده ، ولم يذكر هنا دلالته على النهي عن الأضداد الخاصّة مع رجوعه عند القائل به إلى إيجاب المقدّمة ، ولا على بطلان العبادات المضادّة للمأمور به ، والوجه في الأخير ظاهر ، لاستناد الفساد إلى دليل خارج عن مدلول الأمر ، وكان حكم الأضداد الخاصّة عنده من هذا القبيل ، لتوقّفه على مقدّمة خارجيّة بخلاف الضدّ العامّ ، لكون النهي عنه من اللوازم البيّنة للأمر ، حتّى ادّعى بعضهم فيه العينيّة ، كما مرّ في محلّه.

وأمّا إيجاب المقدّمة فالظاهر من كلام كثير منهم خروجه عن المفهوم ، حتّى أوردوه نقضا في بعض الحدود المذكورة في محلّه كما عرفت ، ويبنى ذلك على أنّ دلالة اللفظ على اللازم البيّن بالمعنى الأعمّ هل يكون من باب المفهوم ، أو لا كاللوازم الغير البيّنة؟ وربّما يستند في إيجاب المقدّمة إلى وجوه اخر خارجة عن مدلول اللفظ.

[مفهوم الزيادة والنقصان]

ومنها : مفهوم الزيادة والنقصان ، كما لو علّق المنع في النكاح على الزائد على الأربع، وفي الصلاة في التنجّس بالدم على ما يزيد على الدرهم ، والانفعال على

٥٩٦

الناقص عن حدّ الكرّ إلى غير ذلك ، فإنّ المفهوم منها انتفاء الحكم في الناقص على الأوّل ، وفي الزائد على الثاني ، ومرجعه إلى الوصف ، لما عرفت من أنّ تعليق الحكم عليه قد يدلّ على المفهوم بمعونة المقام ، والحال في الأمثلة المذكورة من هذا القبيل ، وقد لا يفيد تعليق الحكم على أحد الوصفين مفهوما ، كما لو وقع جوابا عن المقيّد ، أو ظهرت هناك حكمة اخرى للتعيين سوى التخصيص.

[مفهوم ترتيب الذكر]

ومنها : مفهوم ترتيب الذكر في القرآن أو مطلقا حيث يدلّ على ترتيب الحكم ، فإن استند في ذلك إلى النصّ الدالّ على وجوب الابتداء بما بدأ الله تعالى به كان من المنطوق ، وإلّا فلا دلالة عليه إلّا إذا دلّت القرينة على استعمال الواو فيه للترتيب ولو على سبيل المجاز، فيرجع إلى المنطوق أيضا.

[مفهوم ترك البيان]

ومنها : مفهوم ترك البيان في موضع البيان ، كالجمع بين الفاطميّتين ، ومثله الحكم في كلّ حكم يعمّ البلوى به فتشتدّ الحاجة إليه ، فترك البيان في مثله يدلّ على انتفاء الحكم فيه ، وهو الّذي يعبّر عنه بعدم الدليل دليل العدم ، ولا ربط لذلك بالمفهوم.

[مفهوم التعريض]

ومنها : مفهوم التعريض الحاصل بإيراد الكلام في معرض بيان حال المخاطب ، مثلا : كربّ راغب فيك ، أو إنّي راغب في امرأة تشابهك في الجمال ، أو قال لخصمه مشيرا إليه : لست زانيا ، ولا أمّي زانية ، أو قال لمن أصابه من ناحيته أذيّة : «المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه» مشيرا به إلى خصوص المؤذي ، إلى غير ذلك من الألفاظ الدالّة من جهة الإشارة والسياق على مقصود

٥٩٧

خاصّ بطريق الإمالة ، من غير أن يكون ذلك المعنى بخصوصه مأخوذا في المعنى المراد من نفس اللفظ على وجه الحقيقة أو المجاز أو الكناية ، فلا يكون اللفظ حينئذ مستقلّا في إفادة المعنى المذكور ، وإنّما يفهم من الإشارة به إلى خصوصية خارجة عن مدلول اللفظ مستندة إلى القرائن الحاليّة والمقاليّة ، وهي غير محصورة.

[مفهوم الإعراض]

ومنها : مفهوم الإعراض ، كما إذا عدّ قوما فأعرض عن ذكر أعظمهم قدرا ، وذلك حيث لا يكون هناك مانع من ذكره من خوف أو احترام أو نحوهما ، ولا يكون تركه لوضوحه وظهوره في الذهن والاستغناء به عن ذكره ، فالدلالة فيه إذا ناشئة من جهة السكوت عنه وعدم التعرّض له في مقام البيان ، لا من نفس اللفظ ، كما في محلّ المسألة.

[مفهوم الجمع]

ومنها : مفهوم الجمع ، كما قد يفهم الندب والكراهة ـ مثلا ـ عند تعارض الأدلّة.

وفيه : أنّ فهم المعنى المذكور إمّا من جهة كون أحد الدليلين قرينة على ما هو المراد من الآخر ، أو من باب ترجيح أحد المتعارضين لقوّة الدلالة فيه أو غيرها ، وليس ذلك من المفهوم في شيء.

[مفهوم تعارض الأدلّة]

ومنها : مفهوم تعارض الأدلّة حيث يبنى على التخيير أو الترجيح ، وليس شيء منهما من المفهوم فضلا عن حكم التساقط.

ثمّ ذكر المحقّق المذكور قدس‌سره زيادة على المفاهيم المذكورة امورا اخر ،

٥٩٨

وعدّ منها مفهوم تغيير الاسلوب في الدلالة على تبدّل الحكم وغيره من النكات البيانيّة أو البديعيّة.

قال : ويتبعها : التقييد ، والتلويح ، والإشارة ، والتلميح ، وتتبّع الموارد ، والسكوت ، والمكان ، والزمان ، والجهة ، والوضع ، والحال ، والتمييز ونحوها.

ثمّ قال : وتفصيل الحال : أنّ المعاني المستفادة قد تكون مفهومة مرادة مستعملا فيها. وقد تكون خالية من الفهم والاستعمال ، كالتأكيد من الزيادة وضمير الفصل ونحوهما. وقد تكون مفهومة مرادة ولا استعمال ، ككثير من المفاهيم والإشارات والتلويحات ونحوها. وقد يفهم بلا استعمال ولا إرادة ، كالمعاني الحقيقيّة مع قرينة المجاز. وقد يكون استعمال ولا إرادة، كالكناية على الأقوى.

وأنت إذا أحطت خبرا بما تقدّم في تعريف المفهوم والمنطوق وأقسامهما تبيّن لك الحال في الأقسام المذكورة. وأمّا مفهوم الموافقة بقسميه المذكورين سابقا من فحوى الخطاب ولحن الخطاب فقد مرّت الإشارة إليه ، وسيأتي ـ إن شاء الله ـ تتمّة الكلام في مباحث القياس(١).

* * *

__________________

(١) من ص ٤٥٨ الى هنا لا يوجد في نسخة «ق» ولا في المطبوع لمؤسّسة آل البيت عليهم‌السلام.

٥٩٩
٦٠٠