هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٨٣

بخلاف الواجب المخيّر لحصول المصلحة في فعل كلّ منهما مع قطع النظر عن الآخر. غاية الأمر أنّ تلك المصلحة كما تحصل بفعل أحدهما كذا تحصل بفعل الآخر أيضا ، فيكتفي في جلبها بفعل أحدهما ، ولا كذلك الحال في المقام ، إذ لا مفسدة في فعل أحدهما ، وإنّما المفسدة في الإتيان بهما.

وبالجملة : أنّ المفسدة الحاصلة في المقام إمّا أن تتفرّع على خصوص كلّ من الفعلين، أو خصوص أحدهما ، أو مفهوم أحدهما الجامع بينهما ، أو الجمع بينهما ، لا سبيل إلى شيء من الوجوه الثلاثة الأوّل ، وإلّا لكانا محرّمين معا ، أو اختصّ التحريم بأحدهما دون الآخر ، فتعيّن الرابع.

فقضيّة تحريم أحد الفعلين على الوجه المذكور تحريم الجمع بينهما ، كما أنّ قضيّة وجوب أحدهما وجوب كلّ منهما على سبيل التخيير بينهما ، فإن أراد الجماعة من جواز تعلّق التحريم بأحد الشيئين أو الأشياء ما ذكرناه فلا كلام معهم ، والظاهر أنّه لا مجال لتوهّم مانع فيه. وإن أرادوا كون الحرمة المتعلّقة بأحدها على نحو الوجوب المتعلّق به فهو غير متّجه، كما عرفت.

والحاصل : أنّه لا ينبغي التأمّل في جواز تعلّق النهي بأحد الشيئين كما يجوز تعلّق الأمر به ، إلّا أنّ المحصّل من تعلّق النهي به هو حرمة الجمع بين ذينك الأمرين ، من غير أن يتعلّق التحريم بكلّ واحد منهما ، بخلاف ما إذا تعلق الأمر به فإنّ المتحصّل منه هو وجوب كلّ منهما على سبيل التخيير حسب ما عرفت.

* * *

٣٢١
٣٢٢

معالم الدين :

أصل

الأمر بالفعل في وقت يفضل عنه جائز عقلا ، واقع على الأصح. ويعبّر عنه بالواجب الموسّع ، كصلاة الظهر مثلا. وبه قال أكثر الأصحاب ، كالمرتضى ، والشيخ ، والمحقّق ، والعلّامة ، وجمهور المحقّقين من العامّة.

وأنكر ذلك قوم ؛ لظنّهم أنّه يؤدّي إلى جواز ترك الواجب. ثمّ إنّهم افترقوا على ثلاثة مذاهب.

أحدها : أنّ الوجوب فيما ورد من الأوامر الّتي ظاهرها ذلك ، مختصّ بأوّل الوقت. وهو الظاهر من كلام المفيد رحمه‌الله على ما ذكره العلّامة.

وثانيها : أنّه مختصّ بآخر الوقت ، ولكن لو فعل في أوّله كان جاريا مجرى تقديم الزكاة؛ فيكون نفلا يسقط به الفرض.

وثالثها : أنّه مختصّ بالآخر ، وإذا فعل في الأوّل وقع مراعى ، فإن بقي المكلّف على صفات التكليف تبيّن أنّ ما أتى به كان واجبا ، وإن خرج عن صفات المكلّفين كان نفلا. وهذان القولان لم يذهب إليهما أحد من طائفتنا ، وإنّما هما لبعض العامّة.

٣٢٣

والحقّ تساوي جميع أجزاء الوقت في الوجوب ، بمعنى أنّ للمكلّف الإتيان به في أوّل الوقت ، ووسطه ، وآخره ، وفي أيّ جزء اتّفق إيقاعه كان واجبا بالأصالة ، من غير فرق بين بقائه على صفة التكليف ، وعدمه. ففي الحقيقة يكون راجعا إلى الواجب المخيّر.

وهل يجب البدل؟ وهو العزم على أداء الفعل في ثاني الحال ، إذا أخّره عن أوّل الوقت ووسطه. قال السيّد المرتضى : نعم. واختاره الشيخ رحمه‌الله على ما حكاه المحقّق عنه ، وتبعهما السيّد أبو المكارم ابن زهرة ، والقاضي سعد الدين بن البرّاج ، وجماعة من المعتزلة.

والأكثرون على عدم الوجوب ، ومنهم المحقّق والعلّامة رحمهما‌الله وهو الأقرب.

فيحصل ممّا اخترناه في المقام دعويان.

لنا على الاولى منهما : أنّ الوجوب مستفاد من الأمر ، وهو مقيّد بجميع الوقت. لأنّ الكلام فيما هو كذلك. وليس المراد تطبيق أجزاء الفعل على أجزاء الوقت ، بأن يكون الجزء الأوّل من الفعل منطبقا على الجزء الأوّل من الوقت ، والأخير على الأخير ؛ فإنّ ذلك باطل إجماعا. ولا تكراره في أجزائه ، بأن يأتي بالفعل في كلّ جزء يسعه من أجزاء الوقت. وليس في الأمر تعرّض لتخصيصه بأوّل الوقت أو آخره ولا بجزء من أجزائه المعيّنة قطعا ، بل ظاهره ينفي التخصيص ضرورة دلالته على تساوي نسبة الفعل إلى أجزاء الوقت. فيكون القول بالتخصيص بالأوّل أو الآخر تحكّما باطلا. وتعيّن القول بوجوبه على التخيير في أجزاء الوقت. ففي أيّ جزء أدّاه فقد أدّاه في وقته.

وأيضا : لو كان الوجوب مختصّا بجزء معيّن ، فإن كان آخر الوقت ، كان المصلّي للظهر مثلا في غيره مقدّما لصلاته على الوقت ؛ فلا تصحّ ،

٣٢٤

كما لو صلّاها قبل الزوال. وإن كان أوّله ، كان المصلّي في غيره قاضيا ، فيكون بتأخيره له عن وقته عاصيا ، كما لو أخّر إلى وقت العصر ، وهما خلاف الإجماع.

ولنا على الثانية : أنّ الأمر ورد بالفعل ، وليس فيه تعرّض للتخيير بينه وبين العزم ، بل ظاهره ينفي التخيير ، ضرورة كونه دالّا على وجوب الفعل بعينه. ولم يقم على وجوب العزم دليل غيره ؛ فيكون القول به أيضا تحكّما ، كتخصيص الوجوب بجزء معيّن.

احتجّوا لوجوب العزم : بأنّه لو جاز ترك الفعل في أوّل الوقت أو وسطه ، من غير بدل ، لم ينفصل عن المندوب ؛ فلا بدّ من إيجاب البدل ليحصل التمييز بينهما. وحيث يجب ، فليس هو غير العزم ، للإجماع على عدم بدليّة غيره. وبأنّه ثبت في الفعل والعزم حكم خصال الكفّارة ، وهو أنّه لو أتى بأحدهما أجزأ ، ولو أخلّ بهما عصى ، وذلك معنى وجوب أحدهما ؛ فيثبت.

والجواب عن الأوّل : أنّ الانفصال عن المندوب ظاهر ممّا مرّ ، فإنّ أجزاء الوقت في الواجب الموسّع باعتبار تعلّق الأمر بكلّ واحد منها على سبيل التخيير تجري مجرى الواجب المخيّر. ففي أيّ جزء اتّفق إيقاع الفعل فهو قائم مقام إيقاعه في الأجزاء البواقي. فكما أنّ حصول الامتثال في المخيّر بفعل واحدة من الخصال لا يخرج ما عداها عن وصف الوجوب التخييريّ ، كذلك إيقاع الفعل في الجزء الأوسط أو الأخير من الوقت في الموسّع لا يخرج إيقاعه في الأوّل منه مثلا عن وصف الوجوب الموسّع ، وذلك ظاهر. بخلاف المندوب ، فإنّه لا يقوم مقامه حيث يترك شيء. وهذا كاف في الانفصال.

وعن الثاني : أنّا نقطع بأنّ الفاعل للصلاة مثلا ممتثل باعتبار كونها

٣٢٥

صلاة بخصوصها ، لا لكونها أحد الأمرين الواجبين تخييرا ، أعني : الفعل والعزم ؛ فلو كان ثمّة تخيير بينهما ، لكان الامتثال بها من حيث إنّها أحدهما ، على ما هو مقرّر في الواجب التخييري. وأيضا ، فالإثم الحاصل على الإخلال بالعزم ـ على تقدير تسليمه ـ ليس لكون المكلّف مخيّرا بينه وبين الصلاة ، حتّى يكونا كخصال الكفّارة ، بل لأنّ العزم على فعل كلّ واجب ـ إجمالا ، حيث يكون الالتفات إليه بطريق الإجمال ، وتفصيلا عند كونه متذكّرا له بخصوصه ـ حكم من أحكام الإيمان يثبت مع ثبوت الإيمان ، سواء دخل وقت الواجب أو لم يدخل. فهو واجب مستمرّ عند الالتفات إلى الواجبات إجمالا أو تفصيلا. فليس وجوبه على سبيل التخيير بينه وبين الصلاة.

واعلم : أنّ بعض الأصحاب توقّف في وجوب العزم ، على الوجه الّذي ذكر. وله وجه ، وإن كان الحكم به متكرّرا في كلامهم ، وربّما استدلّ له بتحريم العزم على ترك الواجب ، لكونه عزما على الحرام ، فيجب العزم على الفعل ، لعدم انفكاك المكلّف من هذين العزمين ، حيث لا يكون غافلا ، ومع الغفلة لا يكون مكلّفا. وهو كما ترى.

حجّة من خصّ الوجوب بأوّل الوقت : أنّ الفضلة في الوقت ممتنعة ؛ لأدائها إلى جواز ترك الواجب ؛ فيخرج عن كونه واجبا. وحينئذ فاللازم صرف الأمر إلى جزء معيّن من الوقت ، فإمّا الأوّل أو الأخير ، لانتفاء القول بالواسطة. ولو كان هو الأخير ، لما خرج عن العهدة بأدائه في الأوّل. وهو باطل إجماعا ، فتعيّن أن يكون هو الأوّل.

والجواب : أمّا عن امتناع الفضلة في الوقت ، فقد اتّضح ممّا حقّقناه آنفا ، فلا نطيل بإعادته. وأمّا عن تخصّص الوجوب بالأوّل ، فبأنّه لو تمّ لما جاز تأخيره عنه ، وهو باطل أيضا ، كما تقدّمت الإشارة إليه.

٣٢٦

واحتجّ من علّق الوجوب بآخر الوقت : بأنّه لو كان واجبا في الأوّل لعصى بتأخيره ؛ لأنّه ترك للواجب ، وهو الفعل في الأوّل ، لكنّ التالي باطل بالإجماع ، فكذا المقدّم.

وجوابه : منع الملازمة ، والسند ظاهر ممّا تقدّم ؛ فإنّ اللزوم المدّعى إنّما يتمّ لو كان الفعل في الأوّل واجبا على التعيين. وليس كذلك ، بل وجوبه على سبيل التخيير. وذلك أنّ الله تعالى أوجب عليه إيقاع الفعل في ذلك الوقت ، ومنعه من إخلائه عنه ، وسوّغ له الإتيان به في أيّ جزء شاء منه. فإن اختار المكلّف إيقاعه في أوّله أو وسطه أو آخره ، فقد فعل الواجب.

وكما أنّ جميع الخصال في الواجب المخيّر بالوجوب ، على معنى أنّه لا يجوز الاخلال بالجميع ولا يجب الإتيان بالجميع ، بل للمكلّف اختيار ما شاء منها ، فكذا هنا لا يجب عليها إيقاع الفعل في الجميع ، ولا يجوز له إخلاء الجميع عنه. والتعيين مفوّض إليه ما دام الوقت متّسعا ؛ فإذا تضيّق تعيّن عليه الفعل.

وينبغي أن يعلم : أنّ بين التخيير في الموضعين فرقا ، من حيث إنّ متعلّقه في الخصال الجزئيّات المتخالفة الحقائق ، وفيما نحن فيه الجزئيات المتّفقة الحقيقة ؛ فإنّ الصلاة المؤدّاة مثلا في جزء من أجزاء الوقت مثل المؤدّاة في كلّ جزء من الأجزاء الباقية ، والمكلّف مخيّر بين هذه الأشخاص المتخالفة بتشخّصاتها ، المتماثلة بالحقيقة. وقيل : بل الفرق أنّ التخيير هناك بين جزئيّات الفعل وهاهنا في أجزاء الوقت. والأمر سهل.

٣٢٧

قوله : (الأمر بالفعل في وقت يفضل عنه ... الخ).

الواجب بالنسبة إلى الزمان الّذي يقع فيه على وجهين :

أحدهما : غير الموقّت ، وهو أن لا يلحظ له زمان مخصوص لأدائه لا يجوز تقديمه ولا تأخيره عنه ، بل إنّما يلحظ نفس الفعل ويراد إيقاعه من المكلّف ، وحينئذ : فإمّا أن يتعلّق التكليف به على وجه الفور والتعجيل كالحجّ ، أو من دون اعتباره ، كقضاء الفوائت على المشهور ، والنذر المطلق ، ولا إشكال في شيء منهما. أمّا الأوّل فظاهر ، وأمّا الثاني فلكون المكلّف به هو مطلق الطبيعة والمنع من الترك حاصل بالنسبة إليه وربما يقال بجريان الإشكال الآتي فيه أيضا.

ثانيهما : الموقّت ، وهو ما عيّن له وقت مخصوص ، ثمّ الفعل بالنسبة إلى وقته المضروب له لا يخلو عن وجوه ثلاثة ، فإنّه : إمّا أن يكون الفعل زائدا على وقته ، أو مساويا له ، أو ناقصا عنه.

لا إشكال على ما نصّ إليه جماعة منهم على امتناع الأوّل بناء على امتناع التكليف بما لا يطاق. وفي النهاية : أنّه لا نزاع فيه.

هذا إذا اريد إيقاع تمام الفعل في الوقت المفروض. وأمّا إذا اريد إيقاع بعضه فيه وإتمامه فيما بعد ذلك فلا مانع منه ، كما ورد «أنّ من أدرك ركعة من الوقت كان كمن أدرك الوقت» (١) فهو وقت مضروب لإيقاع بعض الفعل ، أو أنّ ما بعد ذلك الوقت ممّا يسع الفعل من وقت مضروب له ملحق بالوقت المضروب له ، أو لا. وكيف كان فهو يندرج في الموقّت ، لاعتبار الوقت فيه في الجملة.

ولا إشكال أيضا في جواز الثاني ووقوعه من غير خلاف فيه. وقد صرّح جماعة منهم الفاضلان بالإجماع على جوازه. ونصّ جماعة منهم الشيخ والعلّامة والسيّد العميدي بنفي الخلاف عنه أو الاتّفاق على جوازه. وفي النهاية وغيره : أنّه لا نزاع في وقوعه.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ٣ ب ٣٠ من أبواب المواقيت ص ١٥٨ ح ٤ ، وفيه : «ومن أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة».

٣٢٨

هذا إذا كان الواجب أمرا مستمرّا ، سواء كان وجوديّا أو عدميّا كالصوم. وأمّا إذا كان مركّبا ذا أجزاء كالصلاة واريد تطبيق الفعل على أجزاء الوقت حقيقة بحيث لا يتقدّم عليه شيء من أجزائه ولا يتأخّر عنه فهو مشكل ، بل الظاهر امتناعه بحسب العادة ، وعلى فرض إمكانه فالعلم به مستحيل بحسب العادة ، وما هذا شأنه لا يصحّ التكليف به. فما ذكر من الاتّفاق على الجواز والوقوع إنّما يراد به حصول ذلك في الجملة ، أو المراد (١) المساواة العرفيّة دون الحقيقة ، فلا ينافيه زيادة الوقت من أوّله وآخره بمقدار يسير يعتبر في تحصيل اليقين بإيقاع الفعل في الوقت.

وأمّا الثالث فقد اختلفوا فيه على قولين بعد اتّفاقهم على ورود ما ظاهره التوسعة في الشريعة :

أحدهما : الجواز والوقوع ، وهو مختار المحقّقين ، بل لا يعرف فيه مخالف من الأصحاب سوى ما يعزى إلى ظاهر المفيد ، وحسب ما حكاه العلّامة في المختلف وأشار إليه المصنّف رحمه‌الله. وذكر الفاضل الصالح : أنّه الحقّ عندنا وعند كثير ممّن خالفنا ، وهو يومئ بإطباق الخاصّة عليه. وقال الفاضل الجواد : إنّه المشهور ، وعليه الجمهور.

وثانيهما : المنع من جوازه ، وعزاه في المبادئ إلى من لا تحقيق له ، وفي النهاية إلى أبي الحسن الكرخي وجماعة من الأشاعرة وجماعة من الحنفية ، واستظهره المصنّف من كلام المفيد على ما حكاه العلّامة ، لكن ما عزاه الشيخ إليه إنّما هو بالنسبة إلى الصلاة ، فإنكاره لمطلق الموسّع مع ما فيه من البعد غير ظاهر. وكيف كان فمنشأ الخلاف في ذلك ما أشرنا إليه في الواجب المخيّر ، وقد نبّه عليه المصنّف بقوله : «لظنّهم أنّه يؤدّي إلى ترك الواجب» وستعرف دفعه إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) في (ف) ونسخة : إذ المراد.

٣٢٩

قوله : (مختصّ بأوّل الوقت).

فسّره بعضهم بالجزء الأوّل الّذي يساوي الفعل ، وقد عرفت ما فيه من الإشكال ، إلّا أن يكون المراد المساواة العرفيّة كما أشرنا إليه. أو يقال : إنّه لمّا لم يكن مانع من التأخير نظرا إلى انتفاء العقوبة فيه جاز التحديد على الوجه المذكور ، وفيه تأمّل.

وقد حكي القول المذكور أيضا عن جماعة من الأشاعرة وبعض الحنفيّة وقوم من الشافعيّة.

ثمّ إنّ قضيّة القول المذكور صيرورة الفعل قضاء بالتأخير. وقد حكاه في النهاية صريحا عن القائل بهذا القول ، والظاهر أنّهم لا يقولون إذن بثبوت العقاب ، وإلّا لم يكن فرق بين الوقت المفروض وغيره ، مع أنّ الظاهر قيام الإجماع من الكلّ على الفرق كما أنّه قضيّة النصّ.

قوله : (ليكون نفلا يسقط به الفرض).

حكاه في النهاية عن جماعة من الحنفيّة ، ونصّ في المختلف بأنّه لا يعرف به قائلا من أصحابنا كما سيصرّح به المصنّف ، وعلى هذا القول يكون إسقاطه الفرض مراعى ببقائه على صفات التكليف في الآخر ، فلو لم يبق على صفات التكليف لم يتعلّق الوجوب به أصلا حتّى يسقط الفرض بما فعله في الأوّل.

قوله : (واذا فعل في الأوّل وقع مراعى ... الخ).

اورد عليه : بأنّ ما حكم به أوّلا من اختصاص الوجوب بالآخر لا يلائم وقوع الفعل في الأوّل مراعى ، إذ قضيّة ذلك وجوب الفعل الواقع أوّلا إذا استجمع في الآخر شرائط التكليف فلا يختصّ الوجوب بالآخر.

وقد يجاب عنه بوجوه :

أحدها : أنّ مراده باختصاص الوجوب بالآخر أنّ استحقاقه العقاب بالترك إنّما هو بالنسبة إلى الآخر ، لوضوح عدم ترتّب العقاب على مجرّد الترك في الأوّل والوسط.

٣٣٠

ويوهنه : أنّ ذلك تعليل لاختصاص الوجوب بالآخر ، فهو إنّما يوافق المذهب السابق من كون الفعل الواقع أوّلا نفلا يسقط به الفرض دون هذا القول ، فلا يتمّ به الجمع بين الحكمين المذكورين في كلامه ليندفع به التدافع الملحوظ في الإيراد.

ويمكن أن يقال : إنّ المقصود في الجواب أنّ مطلق الوجوب لا يستلزم استحقاق العقاب بالترك مطلقا ، وإنّما يتفرّع استحقاق العقاب فعلا على ترك بعض أفراده ، فأراد باختصاص الوجوب بالآخر هو الوجوب الّذي يتفرّع عليه استحقاق العقاب بالترك مطلقا على ما هو الشائع في تفسيره ، ووجوبه في الأوّل مع استجماعه لشرائط التكليف في الآخر هو الوجوب على ما يقتضيه التحقيق في تفسيره.

ولا يخفى ما فيه من التعسّف ، مضافا إلى فساده في نفسه ، فإنّ نسبة استحقاق العقاب إلى الترك في الأوّل والآخر على نحو واحد ، فإنّ الترك في الآخر مع الفعل في الأوّل لا يقضي باستحقاق العقاب ، كما أنّ الترك في الأوّل مع الفعل في الآخر لا يقتضيه ، ولو حصل الترك فيهما كان نسبة الذمّ واستحقاق العقاب إليهما على نحو سواء.

ثانيها : أنّه إنّما يقول باختصاص الوجوب بالآخر مع عدم الإتيان به في الأوّل إذا بقي على صفة التكليف في الآخر.

وأنت خبير بوهنه أيضا ، إذ لا يستفاد ذلك من كلام القائل المذكور أصلا ، بل قضيّة كلامه كون إدراكه الوقت الآخر مجامعا لشرائط التكليف كاشفا عن وجوبه في الأوّل كيف ولو لا ذلك لما كان الفعل الصادر منه حينئذ واجبا ، وقد نصّ على انكشاف وجوبه بإدراك آخر الوقت كذلك. ومن البيّن أيضا أنّه لا دخل لإتيان المكلّف بالفعل وعدمه في وجوبه وعدم وجوبه.

ثالثها : أنّه لمّا كان البقاء إلى الآخر كاشفا عنده عن وجوبه في الأوّل عبّر عن ذلك بكون الوجوب مختصّا بالآخر تجوّزا حيث إنّه يحقّقه ، وهذا الوجه وإن كان بعيدا عن ظاهر اللفظ إلّا أنّه لا مناص عن الحمل عليه في مقام الجمع. هذا إذا

٣٣١

صرّح القائل المذكور باختصاص الوجوب بالآخر حسب ما حكاه المصنّف موافقا لما في الإحكام.

وأمّا ما ذكره العلّامة في النهاية فهو خال عن ذلك. قال عند ذكر قول الكرخي على ما هو المشهور عنه : إنّ الصلاة المفعولة في أوّل الوقت موقوفة ، فإن أدرك المصلّي آخر الوقت وهو على صفة المكلّفين كان ما فعله واجبا ، وإن لم يبق على صفات المكلّفين كان نفلا ، وهذا كما ترى لا إشارة فيه إلى اختصاص الوجوب بالآخر ، وقد حكاه عنه كذلك في التهذيب ومنية اللبيب وغيرهما من غير إشارة إلى حكمه باختصاص الوجوب بالآخر ، بل جعلوه مقابلا للقول بالاختصاص بالآخر.

وعزى الغزالي في المستصفى القول به كذلك إلى قوم ، وكان هناك اضطرابا في تعبيره قد قضى باضطراب النقل عنه ، كما يستفاد من العدّة عند نقل قوله ، حيث أسند إليه اختصاص الوجوب بالآخر وكون فعله في الأوّل نفلا ، قال : وربّما نمّاه موقوفا على أن يأتي عليه الوقت الآخر وهو على الصفة الّتي يجب عليه معها فعل الصلاة ويخرج الوقت ، فيحكم بالوجوب ، ومع تسميته نفلا يكون قد أجزأت عن الواجب.

وما حكاه عنه أخيرا هو القول الّذي ذكره المصنّف هنا ، ويمكن حمله على إرادة الأوّل ، فإنّه لمّا كان ممّا يسقط به الفرض سمّاه واجبا ، نظرا إلى قيامه مقامه ، فيحصل بذلك الجمع بين كلاميه ، ولا يساعده حكاية المصنّف ، إذ لا يصحّ حينئذ عدّه قولا آخر إلّا أن يكون القول المنقول هنا لغيره.

وكيف كان فمع البناء على وقوع الفعل مراعى في الأوّل لا يكون القول المذكور إنكارا للواجب الموسّع ، ضرورة كون الفعل حينئذ واجبا في تمام الوقت إذا أدرك آخر الوقت مستجمعا للشرائط ، وإلّا لم يكن واجبا بالنسبة إليه ، وكان الحامل له على ذلك شبهة اخرى غير الشبهة المذكورة في الواجب الموسّع ، وهي : أنّه لو خرج عن صفات المكلّفين فجأة بعد دخول الوقت لم يتحقّق عصيان

٣٣٢

في شأنه ، فجاز له الترك لا إلى بدل ، وهو لا يجامع الوجوب ، وهذا بخلاف ما لو كان على صفات المكلّفين في الآخر ، لعدم جواز تركه إذن في شيء من أجزاء الوقت مطلقا ، بل إنّما يجوز ذلك إلى بدل ، وهو لا ينافي الوجوب ، ومنه يعلم أنّ اعتباره البقاء على صفات المكلّفين في الآخر إنّما هو في غير من ظنّ الفوات قبل بلوغ الآخر. وأمّا بالنسبة إليه فلا ريب في وجوب الفعل عنده عند ذلك. هذا ، وقد حكى عنه قولان آخران :

أحدهما : ما حكاه عنه أبو الحسين البصري ، وقال : إنّه أشبه من الحكاية الاولى ، وهو : أنّه إن أدرك المصلّي آخر الوقت وهو على صفة المكلّفين كان ما فعله مسقطا للفرض، وهو بعينه القول المتقدّم ، ويوافق ما حكاه الشيخ أوّلا.

ثانيهما : ما حكاه عنه أبو بكر الرازي من أنّ الصلاة يتعيّن وجوبها بأحد الشيئين : إمّا بأن يفعل ، أو بأن يتضيّق وقتها ويشارك هذان الوجهان ما مرّ من الوجه المتقدّم في كون إدراك آخر الوقت معتبرا في الجملة في وجوب الفعل وإن اختلف الحال فيه على حسب اختلافها.

قوله : (ففي الحقيقة يكون راجعا إلى الواجب المخيّر).

كلامه هذا ـ كما سنشير إليه بعد ذلك ـ يومئ إلى كون الواجب الموسّع من قبيل الواجب المخيّر ، غاية الأمر أنّ التخيير هناك بين الأفعال المختلفة بالحقيقة وهنا بين الأفعال المتّفقة في الحقيقة المختلفة بحسب الزمان ، كما سيصرّح به ، فيكون المكلّف مخيّرا بين الإتيان بالفعل في أوّل الوقت ووسطه وآخره ، ويكون الأمر متعلّقا بكلّ من تلك الأفعال أصالة على الوجه المذكور ، ففي أيّ جزء أتى بالفعل فقد أتى بما يجب عليه بالأصالة ، كما أنّه إذا أتى بأحد الأفعال الواجبة تخييرا كان آتيا بواجب أصلي ، نظرا إلى تعلّق الأمر بخصوص كلّ منها على وجه التخيير ، فيكون ذلك هو المراد بقوله : «ففي أيّ جزء اتّفق إيقاعه فيه كان واجبا بالأصالة» يعني أنّه لمّا تعلّق الأمر به بحسب أجزاء الوقت على سبيل التخيير كان الإتيان به في أيّ جزء كان من أجزائه إتيانا لما يجب عليه أصالة ، نظرا إلى تعلّق الأمر به كذلك على نحو الواجب المخيّر.

٣٣٣

فيندفع حينئذ بهذا التقرير ما يتوهّم من المنافاة بين الوجوب وجواز الترك ، إذ ليس الواجب هناك شيئا واحدا حتّى يتخيّل جواز تركه في أوّل الوقت ووسطه ، بل الواجب أفعال عديدة على سبيل التخيير بينها ، وجواز تركه حينئذ في الأوّل والوسط إنّما هو من جهة التخيير المتعلّق به ، وهو لا ينافي الوجوب كما مرّ في الواجب المخيّر.

وأنت خبير بما فيه ، إذ لا وجه للقول بتعلّق الأمر أصالة بخصوص كلّ واحد من تلك الأفعال على سبيل التخيير ، ليكون الواجب الموسّع واجبا مخيّرا على الوجه المذكور ، ويكون الفرق بينه وبين غيره من الواجبات التخييريّة مجرّد ما ذكر ، بل الحقّ عدم تعلّق الأمر هنا أصالة بخصوص إيقاع الفعل في شيء من أجزاء الوقت ، وإنّما الواجب بالأصالة هنا فعل واحد ، وهو الطبيعة المتعلّقة للأمر المقيّدة بعدم خروجه عن الزمان المفروض.

وتوضيح المقام : أنّه إذا تعلّق الأمر بطبيعة على وجه الإطلاق كان الواجب هو أداء تلك الطبيعة في أيّ وقت كان من غير أن يتعلّق وجوبه بخصوص وقت من الأوقات ، فنفس الطبيعة متّصفة بالوجوب متعلّقة للمنع من الترك بملاحظة ذاتها ، مع قطع النظر عن خصوصيّات الأوقات ، من غير أن يكون خصوص إيقاعها في كلّ من تلك الأوقات الخاصّة واجبا بالأصالة ، لعدم تعلّق الأمر بشيء منها ، وإنّما هي واجب لتوقّف وجود (١) الفعل على الزمان ، أو لكونه من لوازم وجوده ، فالأمر المتعلّق بالطبيعة إنّما يقتضي وجوب تلك الطبيعة بالأصالة ، وإنّما يجب خصوصيّات الأفراد المندرجة تحتها تبعا على سبيل التخيير لما ذكر ، ولا يقضي ذلك بكون الفعل المتقيّد بتلك الخصوصيّة واجبا بالتبع ومن باب المقدّمة ، نظرا إلى تعلّق الأمر أصالة بنفس الفعل ، وكون الفعل متّحد مع الخصوصيّة بحسب الخارج ، ضرورة كون الماهيّة والتشخّص متّحدين بحسب الوجود ، وإنّما يتعدّدان في تحليل العقل.

__________________

(١) في (ف) : واجبة بالتبع لتوقّف وجود. وفي نسخة اخرى : واجب بالتوقّف ووجود.

٣٣٤

فالفعل الخاصّ الصادر من المكلّف من حيث انطباقه على الطبيعة المطلقة المتعلّقة للأمر أصالة يكون واجبا أصليّا ، ومن جهة خصوصيّته المنضمّة إلى تلك الطبيعة يكون واجبا بالتبع بملاحظة الغير ، فالتخيير الحاصل بين أفراد الواجب تخيير تبعيّ حاصل من الجهة المذكورة ، وهي غير جهة الأمر المتعلّق أصالة بالطبيعة المفروضة ، فكون كلّ من تلك الأفعال واجبا أصليّا من جهة اتّحادها مع الطبيعة المطلقة لا ينافي كونها واجبة بالتبع من جهة الخصوصيّة الملحوظة فيها ، وهي من الجهة الاولى لا تخيير فيها ، إذ المفروض اتّحاد الطبيعة وعدم حصول بدل عنها. ومن الجهة الثانية يتخيّر المكلّف بينها ، ولا أمر يتعلّق بها أصالة من الجهة المذكورة.

إذا تقرّر ذلك فنقول بجريان ذلك بعينه في الواجب الموسّع ، غير أنّ بينهما فرقا من جهة عدم ملاحظة الزمان في الأوّل أصلا. وهنا قد لوحظ عدم خروج الفعل عن حدّي الزمان المفروض. ومن البيّن أنّ ذلك لا يقضي بتعلّق الأمر أصالة بإيقاع الفعل في خصوصيّات أبعاض الزمان المفروض ولو على سبيل التخيير. كما أنّه لا يقضي تعلّق الأمر بالطبيعة المطلقة بتعلّقه أصالة بخصوصيّات الأفراد الخاصّة.

نعم ، هنا وجوب تبعيّ تخييريّ متعلّق بتلك الخصوصيّات حسب ما ذكرناه ، ولا دخل له بوجوب نفس الفعل الملحوظ في المقام.

فالتحقيق أن يقال : إنّه لا مانع من تعلّق الوجوب بالفعل في الزمان الّذي يزيد عليه من غير حاجة إلى إرجاعه إلى الوجوب التخييري وجعل كلّ من الآحاد بدلا عن الآخر ، إذ بعد تعلّق الأمر بالطبيعة في الزمان المتّسع يكون الواجب هو إيجاد تلك الطبيعة في الزمان المضروب له بحيث لا يجوز تركه في جميع ذلك الزمان وإن جاز الترك في خصوص أبعاضه ، من غير فرق بين أوّله ووسطه وآخره.

كيف؟ ومن الواضح جواز تعلّق الأمر بالطبيعة المطلقة من غير تقييد بزمان ، فيكون الواجب حينئذ نفس تلك الطبيعة ، ففي أيّ زمان أوجدها المكلّف يكون

٣٣٥

واجبا ، نظرا إلى حصول الطبيعة به فكذا الحال في الموسّع ، بل هو أوضح حالا منه لتقييد الوجوب فيه بالزمان المعيّن حيث لا يجوز تقديمه عليه ولا تأخّره عنه ، ففيه تضييق لدائرة اتّحاد الواجب لا توسّع فيه بالنسبة إلى الواجبات المطلقة. واتّصاف الفعل بجواز الترك في خصوص أبعاض ذلك الزمان لا ينافي وجوب نفس الطبيعة وعدم جواز تركها بملاحظة ذاتها ، لما تقرّر من عدم تعلّق الوجوب المتعلّق بالطبيعة بشيء من أفرادها بالنظر إلى الخصوصيّة المتّحدة بها.

غاية الأمر أن تكون الأفراد واجبة بملاحظة اتّحادها مع الطبيعة ، وذلك لا يقضي بتعلّق الوجوب أصالة بشيء من خصوصيّاتها. نعم ، تتّصف تلك الخصوصيّات بالوجوب اتّصافا عرضيّا ، نظرا إلى اتّحادها مع الواجب وعدم إمكان انفكاك الواجب عن أحدها ، بل ربّما يقال باتّصافها بالذات بوجوب غيريّ تبعيّ تخييريّ ، لكونها مقدّمة لحصول الواجب ، نظرا إلى توقّف إيجاد الطبيعة على حصولها ، وفيه نظر ستجيء الإشارة إليه في المحلّ اللائق به.

وكيف كان فلا ربط للوجوب الملحوظ على أيّ من الوجهين المذكورين بما نحن فيه ، فإنّ الكلام في الوجوب الأصلي التعييني المتعلّق بالطبيعة ، ولا يعتريه جواز ترك ولا تخيير ، كما عرفت.

وإذا تبيّن أنّ جواز ترك كلّ من الأفراد غير مانع من اتّصاف الطبيعة بالوجوب فكذا جواز ترك الطبيعة في خصوص كلّ زمان لا يمنع من تعلّق الوجوب بنفس الطبيعة. كيف! وليس الزمان إلّا خصوصيّة من الخصوصيّات الّتي يتقيّد بها الفعل.

كما أنّ المكان والآلة والمتعلّق ونحوها من جملة تلك الخصوصيّات ، فإنّ الفعل لا يخلو عن أحد تلك القيودات ، إذ لا يكون عدم وجوب خصوص واحد منها على التعيين مانعا من تعلّق الوجوب بالطبيعة ، فيتخيّر المكلّف بين الإتيان بواحد من تلك الخصوصيّات من غير تأمّل لأحد ، ولا إشكال ، فكذا الحال في المقام ، إذ ليس زيادة الزمان بأعظم من زيادة المكان ، ولا جواز ترك الفعل في

٣٣٦

زمان خاصّ بأعظم من جواز ترك الفعل المتعلّق بمتعلّق خاصّ أو بآلة مخصوصة مع عدم منافاة شيء من ذلك ، لوجوب أصل الفعل ، وعدم جواز تركه لا ينافي جواز ترك كلّ من الخصوصيات المتّحدة بالواجب المأخوذة في الفرد المتّحد بالطبيعة الحاصلة بحصوله.

وبتقرير آخر : وجوب أصل الفعل عينا وعدم جواز تركه من دون تخيير فيه لا ينافي التخيير في أدائه والإتيان به ، والتخيير الحاصل في هذه المقامات إنّما هو في تأدية الواجب ، لا في أصله ، فإنّ الواجب نفس الطبيعة المطلقة أو المقيّدة ، ولا يجوز تركه ولا بدل له ، إلّا أنّ أداء ذلك الواجب يحصل بوجوه متعدّدة يتخيّر المكلّف بينها ، وذلك هو ما ذكرناه من التخيير التبعي ، وتلك الوجوه هي المطلوبة تبعا على الوجه المذكور من حيث حصول الطبيعة الواجبة بكلّ منها ، والإشكال المذكور في المقام مبنيّ على الخلط بين الأمرين وعدم التمييز بين اللحاظين.

قوله : (وهل يجب البدل وهو العزم ... الخ).

لا إشكال عند القائلين بحصول التوسعة في الواجبات الشرعيّة في جواز تأخير الموسّع عن أوّل الوقت ووسطه. كما أنّه لا إشكال في تعيين الإتيان بنفس الفعل في آخر الوقت وعدم الاكتفاء عنه بغيره ، واختلفوا في جواز تركه لا إلى بدل فيما عدا الوقت الأخير ، فقيل بعدم جواز تركه في شيء من أجزاء الوقت إلّا إلى بدل ينوب منابه وهو العزم على الفعل فيما بعد ، فيتخيّر المكلّف بينه وبين الفعل إلى أن يتضيّق الوقت فيتعيّن الفعل ، وقيل بجواز تركه في خصوصيّات تلك الأوقات من غير بدل وهو كما مرّت الإشارة إلى وجهه وسيجيء تفصيل القول فيه.

قوله : (وتبعه السيّد أبو المكارم).

وقد اختار ذلك شيخنا البهائي ، وتبعه تلميذه الفاضل الجواد. وحكي القول به عن الجبائين ، وعزاه الفاضل الجواد إلى أكثر أصحابنا. واضطربت كلماتهم في بيان ما يقع العزم المذكور بدلا عنه. فظاهر السيّد المرتضى أنّ العزم المذكور إنّما يقع بدلا عن نفس الفعل ، ولذا أنكر كون الإتيان بالبدل قاضيا بسقوط المبدّل ، وذكر أنّ الأبدال في الشرع على وجهين :

٣٣٧

فمنها : ما يسقط المبدل بحصوله.

ومنها : ما لا يسقط به ، كما هو الحال في التيمّم بالنسبة إلى الوضوء والغسل فإنّه مع كونه بدلا لا يسقط به التكليف بمبدله ، بل يتعيّن الإتيان به أيضا عند التمكّن منه.

ويظهر من كلام بعضهم أنّه بدل عن خصوص الافعال الّتي يقع العزم المذكور موقعها ، فالعزم على الفعل في الزمان الثاني بدل عن الفعل في الزمان الأوّل ، والعزم عليه في الثالث بدل عن الفعل في الثاني ، وهكذا.

وقيل بكون العزم بدلا عن خصوص الإيقاعات دون نفس الفعل ، فيحتمل أن يراد به خصوص الأفعال الخاصّة ، فيرجع إلى الوجه المتقدّم ، أو الخصوصيّات المنضمّة إلى نفس الفعل عند إيجاده في خصوص الأزمنة المفروضة دون نفس الفعل ، كما هو الظاهر من العبارة.

وربّما يقال بكون العزم جزءا من البدل ، وأنّ بدل الفعل في أوّل الوقت هو العزم على الفعل في ثانيه مع أداء الفعل فيه ، ثمّ العزم على الفعل في ثالثه مع الفعل فيه بدل من الفعل في ثاني الوقت ، وهكذا ، فيكون الفعل في آخر الوقت مع ما تقدّم عليه من العزم على الفعل في ثاني الحال وثالثه إلى آخر الوقت بدلا عن الفعل في الأوّل. وهذه الوجوه كلّها ضعيفة غير جارية على القواعد.

أمّا ما ذكره السيّد فظاهر ، لوضوح قضاء البدليّة بوقوعه مقام المبدل وقيامه مقامه في معنى سقوطه بفعله ، وليس التيمّم بدلا عن الوضوء مطلقا حتّى يسقط بفعله ، وإنّما هو بدل منه في حال الاضطرار وقائم مقامه. ومن البيّن أنّه لا وجوب حينئذ للوضوء ولو سلّم جواز عدم سقوط المبدل مع الإتيان بالبدل ، فإنّما هو الأبدال الاضطراريّة. وأمّا إذا كان البدل اختياريّا كان المكلّف مخيّرا في الإتيان بأحد الأمرين ، فكيف يعقل عدم سقوط التكليف مع الإتيان بأحدهما؟

وأمّا الوجه الثاني فلوضوح قيامه مقام ذلك الفعل الخاصّ ـ كما عرفت ذلك ـ قاض أيضا بسقوط الواجب ، لظهور كون الإتيان بالمبدل مسقطا للتكليف ، كيف!

٣٣٨

ومن البيّن أنّه لا تكرار هناك في التكليف ، بل ليس المكلّف به إلّا أداء الفعل مرّة ، والمفروض قيام العزم مقامه فكيف! يصحّ القول ببقاء التكليف بعد الإتيان بما ينوب منابه.

وأمّا الوجه الثالث فلأنّه لا يكون العزم حينئذ بدلا عن الفعل الواجب ، إذ المفروض كونه بدلا من الخصوصيّات المغايرة له ، فيكون نفس الواجب خاليا عن البدل ، ومعه تبقى الشبهة القاضية ببدليّة العزم على حالها ، ولا يكون التزام بدليّة العزم على الوجه المذكور نافعا في المقام ، ومعه لا يقوم دليل على ثبوت بدليّته على الوجه المذكور.

وأمّا الوجه الرابع ففيه مع مخالفته لظواهر كلماتهم : أنّه إذا جعل الفعل في ثاني الحال وثالثه ـ مثلا ـ بعضا من البدل ، فأيّ مانع من كونه هو البدل من غير حاجة إلى ضمّ العزم مضافا إلى بعده جدّا من ظاهر الأمر ، فإنّ الظاهر منه كون الواجب نفس الطبيعة ، إلّا أنّ ذلك تمام المأمور به تارة ، وبعضا منه اخرى.

والّذي ينبغي أن يذهب إليه القائل ببدليّة العزم أن يقول بحصول تكليفين في المقام أحدهما يتعلّق بالفعل ، والآخر بالفوريّة والمبادرة في تحصيل تفريغ الذمّة. والتكليف الأوّل على سبيل التعيين من غير أن يثبت هناك بدل للواجب. والثاني على سبيل التخيير بينه وبين العزم على أدائه فيما بعد ذلك بمعنى أنّه يجب عليه البدار إلى الفعل ما لم يأت به أو العزم على الإتيان به فيما بعده ، وقضيّة ذلك وجوب المبادرة إلى الفعل على الوجه المذكور في أوّل أوقات الإمكان ثمّ في ثانيها ثمّ في ثالثها وهكذا ينحلّ التكليف الثاني إلى تكاليف عديدة. ويمكن أن يتحقّق مخالفات شتّى بالنسبة إليه فيتعدّد بحسب استحقاق العقوبة ، وحينئذ لا يرد عليه شيء من الإيرادات المذكورة ، ولا يلزم أيضا خروج الواجب عن الوجوب بالنسبة إلى شيء من التكليفين. أمّا الثاني فظاهر ، وأمّا الأوّل فلأنّه إنّما يتسبّب ذلك من جواز التأخير من غير ترتّب عصيان أصلا وليس الأمر هناك كذلك ، فإنّه لا يجوز تأخيره عن أوّل أزمنة الإمكان وكذا ثانيها وثالثها مطلقا ، بل إلى بدل

٣٣٩

هو العزم على الفعل في الثاني والثالث وهكذا ، وذلك كاف في انفصاله عن المندوب على ما هو مناط الشبهة عندهم في التزامهم بما ذكروه من بدليّة العزم.

قوله : (والأكثرون ... الخ).

عزى القول به إلى أبي الحسين البصري وفخر الدين ، وعزاه في المنية إلى أكثر المحقّقين، وقال أيضا : إنّه أطبق المحقّقون على عدم وجوبه بدلا عنه.

قوله : (فلأنّ الوجوب مستفاد من الأمر ، وهو مقيّد بجميع الوقت ... الخ).

قد أشار إلى هذه جماعة من الخاصّة والعامّة ، فمن الخاصّة : الشيخ في العدّة ، والمحقّق في المعارج ، والعلّامة في النهاية وغيره ، والسيّد العميدي في المنية ، وشيخنا البهائي ، وتلميذه الفاضل الجواد ، والفاضل الصالح وغيرهم. ومن العامّة : الآمدي في الإحكام ، والحاجبي والعضدي في المختصر وشرحه ، إلّا أنّ في كلامهم اختلافات في تقريره لا طائل في ذكره ، ومحصّل الاحتجاج الظاهر التوقيت الوارد في الأدلّة ، فإنّه لا شكّ في ورود التوقيت بما يزيد على مقدار أداء الفعل. وغاية ما يتخيّل فيه وجوه ثلاثة :

أحدها : إطالة الفعل بمقدار ما ضرب له من الوقت فينطبق عليه.

ثانيها : تكراره بمقدار الوقت.

ثالثها : الإتيان بالفعل في أيّ جزء شاء من ذلك الوقت من غير أن يقدّمه عليه أو يؤخّره عنه ، والوجهان الأوّلان باطلان بالإجماع ، فيتعيّن الثالث وهو المدّعى. واحتمال اختصاصه بأوّل الوقت أو آخره مع خروجه عن ظاهر العبارة على ما هو المناط في الاستدلال مدفوع ، بأنّه لا تعرّض في الكلام لاختصاصه (١) حسب ما قرّروه. وحينئذ فللخصم دفع ذلك بما يدّعيه من دلالة العقل على عدم جواز زيادة الوقت على الفعل ، لكن ستعرف وهنه. فالظاهر أنّه حجّة شرعيّة لا داعي

__________________

(١) في (ف) : لاختصاصه به.

٣٤٠