هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٨٣

ويدفعه : أنّ مجرّد ورود الاستعمال على الوجهين لا ينافي ظهوره في إرادة الانتفاء بالانتفاء ، كما هو الحال في سائر الألفاظ ، ألا ترى أنّ استعمال الأمر في الندب فوق حدّ الإحصاء ومع ذلك ينصرف عند التجرّد عن القرائن إلى الوجوب؟ ويحمل عليه كما هو ظاهر بعد ملاحظة فهم العرف فكذا الحال في المقام ، مع أنّ كون الشيوع هنا بتلك المثابة غير ظاهر ، فمجرّد ورود الاستعمال على الوجهين لا يقضي بتردّده بين الأمرين.

ومنها : أنّه لو دلّ لكان إمّا بالعقل أو بالنقل ، والأوّل لا ربط له بالأوضاع ، والثاني إمّا متواتر أو آحاد ، والأوّل غير ثابت ، وإلّا لقضى بارتفاع الخلاف ، وحصول الثاني لا يثمر في المقام ، إذ الآحاد لا يفيد العلم ، والمسألة أصوليّة لا بدّ فيها من العلم. وضعفه ظاهر ممّا عرفت مرارا ، مضافا إلى أنّ الوجه المذكور لو تمّ لقضى بالوقف في الحكم ، لا بنفي الدلالة كما هو المدّعى. وقد جرت طريقة المتوقّفين على الاحتجاج بمثل ذلك في أمثال هذه المقامات ، إلّا أن يقال : إنّ قضيّة الوقف هو نفي الحكم بالمفهوم في مقام الحمل.

ومنها : حسن الاستفهام عن حال انتفاء الشرط فإنّه يفيد إجمال اللفظ ، وعدم دلالته على حكم الانتفاء إذ مع الدلالة عليه لا يحسن الاستفهام ، كما لا يحسن الاستفهام عن مفهوم الموافقة بعد ملاحظة المنطوق ، ووهنه ظاهر أيضا كما عرفت في نظرائه ، والفرق بين ذلك ومفهوم الموافقة ظاهر ، لصراحة الأوّل دون الثاني.

ومنها : أنّه يصحّ التصريح بالمفهوم بعد ذكر المنطوق من غير أن يعدّ ذلك لغوا ، فيصحّ أن يقال : «إن جاءك زيد فأكرمه وإن لم يجئك لم يجب عليك إكرامه» ولو دلّ الأوّل على الثاني لكان ذكر الثاني بعد الأوّل لغوا مستهجنا ، وليس كذلك ، كما يشهد به العرف ، وضعفه أيضا واضح ، إذ فائدة ذكر المفهوم التصريح بما يقتضيه الظاهر ، وهو أمر واقع في الاستعمالات مطلوب في المخاطبات ، سيّما إذا كان للمتكلّم اهتمام في بيان الحكم.

ومنها : أنّه لو دلّ على ذلك لزم التناقض ، أو التأكيد عند التصريح بنفي المفهوم

٤٤١

أو ثبوته ، والأوّل باطل ، والثاني خلاف الأصل ، وكان ذلك بمنزلة قولك : «لا تقل لوالديك افّ واضربهما ، أو ولا تضربهما». وجوابه ظاهر ، إذ لا تناقض في المقام ، أقصى الأمر قيام ذلك قرينة على الخروج عن ظاهر التعليق ، وأنّه إذا دلّ الدليل على استفادة الحكم المذكور من التعليق كان التصريح به تأكيدا ، ولا مانع منه. والفرق بين ذلك وبين المثال المفروض ظاهر ، وذلك لنصوصيّة المثال في حرمة الضرب كما أشرنا إليه.

ومنها : أنّه لا فرق بين قولنا : «زكّ الغنم السائمة» من التقييد بالوصف و : «زكّ الغنم إن كانت سائمة» من التقييد بالشرط ، وكما يصحّ التعبير عمّا هو المراد بالتركيب الوصفي يصحّ التعبير عنه بالتقييد بالشرط ، من غير فرق بين التعبيرين في المفاد. وكما أنّ التقييد بالوصف لا يفيد انتفاء الحكم مع انتفاء الوصف فكذا التقييد بالشرط ، مضافا إلى أنّ كلّا من الشرط والوصف من المخصّصات الغير المستقلّة ، فإذا كان مفاد تخصيص الوصف قصر العامّ على الموصوف بالوصف المفروض مع السكوت عن حال فاقد الوصف فكذا الحال في التخصيص المستفاد من الشرط.

وجوابه : ظهور الفرق بين التعبيرين ولو عند القائل بحجيّة مفهوم الوصف ، فإنّ مفهوم الشرط أقوى دلالة عنده ، وأمّا عند المفصّل في الحجيّة ـ كما هو الأشهر ـ فالأمر واضح. وكون التخصيص الحاصل بالصفة بالسكوت في غير محلّ الوصف لا يقضي بجريانه في الشرط مع اختلافهما في المفاد ، كيف؟ وهو منقوض باشتراكه مع الاستثناء في كونه مخصّصا غير مستقلّ مع ظهور نفيه لحكم العامّ عن المخرج.

ومنها : أنّه لو دلّ على الحكمين لجاز أن يبطل حكم المنطوق ويبقى إرادة المفهوم ، كما يجوز عكسه ، مع أنّه لا يجوز ذلك.

وفيه مع عدم وضوح الملازمة المدّعاة : أنّه إنّما يتمّ لو قلنا بكون دلالته على الانتفاء بالانتفاء تضمّنية ، وهو ضعيف ، كما سيجيء بيانه إن شاء الله.

٤٤٢

وأمّا لو قلنا بكونها التزاميّة فهي إنّما تتبع إرادة المنطوق ، فمع عدم إرادة المنطوق من أين يجيء الدلالة على لازمه؟

هذا ، وحجّة القول بالتفصيل بين الخبر والإنشاء : أنّ الجملة الواقعة بعد أدوات الشرط إنّما تقع شرطا لحكم المتكلّم بالجزاء على ما يشهد به التبادر ، كما في قولك : «إذا نزل الثلج فالزمان شتاء». وقضية ذلك انتفاء الإخبار مع انتفاء الشرط المفروض لانتفاء الحكم المخبر به ، إذ عدم حصول الإخبار بشيء لا يستلزم عدمه ، بخلاف الإنشاء فإنّ انتفاء الإنشاء يستلزم انتفاء أصل الحكم الحاصل بذلك الإنشاء ، ضرورة أنّه ليس هناك واقع مع قطع النظر عن الإنشاء الحاصل ، فإنّ حصوله الواقعي تابع لمّا يدلّ عليه لفظ «الإنشاء».

واجيب عنه : بأنّ الحجّة المذكورة لا تفيد نفي الدلالة على الانتفاء في شيء من الصورتين ، بل تفيد خلافه ، فإنّ المقصود في المقام دلالة الاشتراط على انتفاء الحكم المعلّق على الشرط بانتفائه ، وقد قضى به الحجّة المذكورة في كلّ من الصورتين ، ويسلّمه القائل المذكور ، غير أنّه يجعل المعلّق على الشرط هو الحكم بمعناه المصدري دون النسبة التامّة ، وهو كلام آخر لا ربط له بدلالة المفهوم وإن كان فاسدا في نفسه ، إذ الظاهر كون الشرط شرطا لنفس النسبة لا للحكم بها ، كما هو ظاهر من ملاحظة الاستعمالات ومرّت الإشارة إليه.

وما يرى من كونه شرطا للحكم في بعض الأمثلة فهو خارج عن ظاهر اللفظ ، متوقّف على الإضمار أو التجوّز ، نظرا إلى القرينة القائمة عليه ، وليس الكلام فيه ، فمرجع التفصيل المذكور إلى التفصيل في دلالة انتفاء الشرط على انتفاء أصل الحكم ، أعني النسبة التامّة بين الوجهين المذكورين ، لا التفصيل في الدلالة على الانتفاء بالنسبة إلى الحكم الّذي علّق عليه الشرط المذكور ، كما هو محطّ الكلام في المقام ، فالقائل المذكور مفصّل بالنظر إلى ما يقول الأكثر بإطلاق الانتفاء بالانتفاء بالنسبة إليه ، وقائل بإطلاق الانتفاء بالنسبة إلى ما يعتقد (١) تعلّق الشرط به.

__________________

(١) في (ف ، ق) : ما يفيد.

٤٤٣

ويمكن تقرير الحجّة بوجه آخر يفيد التفصيل في أصل الحكم المعلّق عليه ، وذلك بأن يقال : إنّ تعليق الحكم على الشرط إنّما يفيد الحكم بوجوده على تقدير حصول ذلك الشرط من غير إشعار فيه بملاحظة نفسه بانتفاء ذلك الحكم عند انتفائه ، ولا منافاته له ، بل يجوز فيه الأمران ، ولذا جرت الاستعمالات المتداولة في كلام الفصحاء أو البلغاء على الوجهين ، إلى غير ذلك ممّا يتمسّك به القائل بنفي المفهوم ، لكن يلزم من ذلك أنّه إن كان المعلّق عليه حكما إنشائيّا انتفاء ذلك الإنشاء بانتفاء شرطه فإنّه لمّا كان الحكم الإنشائي حاصلا بإيجاد المتكلّم وإنشائه ، وكان إيجاد المتكلّم تابعا للفظه الدالّ عليه ، ومع تقييد المتكلّم الجملة الإنشائيّة بالشرط المفروض لا يكون الإنشاء الحاصل بذلك الكلام شاملا لغير تلك الصورة. وقضيّة ذلك انتفاء الإنشاء المذكور بانتفاء الشرط ، وهذا بخلاف الإخبار ، إذ ليست النسبة الحاصلة هناك تابعة لإيجاد المتكلّم ، وإنّما هي أمر واقعي حاصل في نفس الأمر مع قطع النظر عن إخبار المتكلّم به ، فإذا فرض بيان المتكلّم لحصول الحكم في بعض الفروض لم يكن فيه دلالة على انتفائه في غير تلك الصورة.

لكن قد عرفت وهن ذلك ، فإنّ القول بانتفاء ذلك الإنشاء المخصوص بانتفاء شرطه ممّا يقوله القائل بحجيّة المفهوم ، والقائل بنفيه ، ولذا يجري ذلك بالنسبة إلى الألقاب أيضا ، ولا يقول أحد من المحقّقين بحجّيّته ، فمرجع الكلام المذكور إلى القول بنفي حجّيّة المفهوم رأسا ، وقد عرفت ما فيه ، وعرفت تصحيح دلالته على انتفاء مطلق النسبة الإنشائيّة بالنسبة إلى الإنشاءات أيضا.

وأمّا حجّة المفصّل بين الشرع وغيره فلم نقف عليها ، وكان الوجه فيه ما استند إليه النافي لحجّيّة المفهوم مع ما دلّ من الأخبار على اعتبار المفهوم ، كما أشرنا إلى جملة منها ، واستناد العلماء خلفا عن سلف بعدّة من المفاهيم ، حتّى أنّه حكى الشهيد الثاني في التمهيد عن بعض الفقهاء اجماع الأصوليّين على حجّية

٤٤٤

مفهوم قوله : «إذا بلغ الماء قلّتين لم يحمل خبثا» (١). وحكى بعض الأصحاب عن بعضهم حكاية الإجماع على اعتبار المفهوم في قوله عليه‌السلام : «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء» (٢).

وفيه ما عرفت من وهن الوجوه المذكورة للنافين ، والروايات الواردة في ذلك ، واستدلال العلماء بالمفاهيم من الشواهد على المختار ، ولا إشعار فيها باختصاص ذلك بعرف الشريعة أصلا.

هذا ، ولنختم الكلام في المرام برسم امور :

أحدها : أنّ المدار في حصول المفهوم في المقام على دلالة الكلام على التعليق وربط إحدى الجملتين بالاخرى بأن يفيد إناطتها بها ، فلا فرق إذا بين الأدوات الدالّة عليه «ان» و «لو» الموضوعتين لخصوص التعليق وإفادة الاشتراط والأسماء المتضمّنة لمعنى الشرط : ك «مهما» و «كلّما» و «متى» و «من» ونحوها ، ولو كان ذلك في بعض الأحيان من جهة قيام شاهد عليه كما في «الّذي يأتيني فله درهم» وإن اختلف الحال فيها وضوحا وخفاء.

فإن قلت : إذا كان الموصول في المثال المفروض غير مفهم للشرطيّة في نفسه لزم أن يكون إرادة ذلك منه خروجا عن مقتضى وضعه ، فيلزم أن يكون مجازا ، وهو خلاف الظاهر ، وحينئذ فكيف يجمع بين الأمرين؟

قلت : ما ذكر من التجوّز إنّما يلزم إذا قلنا باستعمال الموصول حينئذ في خصوص الاشتراط بأن يكون المراد إفادته له بنفسه ، كما هو الشأن في المعاني المجازيّة وإن كانت إفادته بتوسّط القرينة ، وليس كذلك بل الظاهر إرادة التعليق من الخارج ، كزيادة الفاء في الجزاء ، فافادة الاشتراط هناك إنّما تجيء من القرينة ، وذلك كاف في المقام.

وقد يقال بنحو ذلك في الأسماء المفيدة للاشتراط ، إلّا أنّ هناك فرقا من جهة

__________________

(١) الفتح العزيز بهامش المجموع : ج ١ ص ١١٢.

(٢) الوسائل : ج ١ ب ٩ من أبواب الماء المطلق ص ١١٧ ح ١.

٤٤٥

غلبة تلك الإرادة فيها وقلّتها في غيرها. وقد ذهب بعض أئمّة العربيّة إلى القول بإضمار «أن» قبلها. ويؤيّد ما قلناه الفرق في إفادتها ذلك بين الوقوع في صدر الكلام وغيره ، كما في قولك : «من جاءك فأكرمه» و «أكرم من جاءك» وكذا «كلّما جاءك زيد فأكرمه» و «أكرم زيدا كلّما جاءك». وكيف كان فالمدار في المقام على فهم التعليق والاشتراط ، لا على وضع اللفظ له.

غاية الأمر أنّ ما وضع اللفظ بإزائه يحمل عليه إلى أن يجيء قرينة على خلافه ، وما يستفاد منه التعليق لأمر آخر يتبع حصول ذلك الأمر ، ويختلف الحال في تلك الإفادة ظهورا وخفاء من جهة اختلاف المقامات وظهور القرينة وخفائها ، كما هو معلوم من ملاحظة الاستعمالات ، ومن ذلك : الوقوع في جواب الأمر كما في قولك : «أكرم زيدا اكرمك». وقد مرّ استناد الإمام عليه‌السلام إلى المفهوم المستفاد من ذلك في الآية الشريفة.

هذا ، وقد يوهم بعض تعبيراتهم في المقام اختصاص الحكم بالتعليق بكلمة «إن» بخصوصها ، حيث قرّروا المسألة في خصوص التعليق بها ، كما في المحصول وفي التهذيب والزبدة وغيرها ، وليس كذلك ، بل إنّما عبّروا بذلك على سبيل التمثيل ، حيث إنّ كلمة «إن» هي الشائعة في التعليق ، كيف! وما ذكروه من الدليل يعمّ الجميع ، وقد نصّ جماعة من علماء الأصول أيضا على التعميم ، وفهم العرف حاصل في الجميع ، وهو ظاهر.

ثانيها : أنّ دلالة المفهوم في المقام هل هي من قبيل التضمّن أو الالتزام ، أو أنّها دلالة عقليّة غير مندرجة في الدلالة اللفظيّة؟ أقوال : أوسطها أوسطها ، والمختار عند بعض أفاضل المحقّقين هو الأوّل ، والمعزى إلى أكثر أصحابنا المتأخّرين هو الثالث. لنا : أنّ مفاد الاشتراط تعليق الحكم بالشرط وارتباطه وإناطته به بحيث يفيد توقّفه عليه كما مرّ بيانه ، ومن البيّن أنّ توقّف الشيء على الشيء لا يعقل إلّا مع انتفائه انتفاؤه (١) فمدلول المنطوق هو الحكم بالوجود عند الوجود على سبيل

__________________

(١) في (ق) : مع انتفائه بانتفائه.

٤٤٦

توقّف الثاني على الأوّل ، والانتفاء بالانتفاء من اللوازم البيّنة للتوقّف ، وليس جزء من مفهومه ، كما لا يخفى.

والحاصل : أنّ مفاد التعليق على الشرط كمفاد قولك : هذا شرط في هذا ، أو متوقّف على كذا ، فكما أنّ كلّا من اللفظين دالّ بالدلالة الالتزاميّة على انتفاء المشروط بانتفاء الشرط وانتفاء المتوقّف بانتفاء ما يتوقّف عليه فكذا في المقام ، وإن اختلفا في ظهور الدلالة فالدلالة هناك من قبيل المنطوق ـ كما مرّت الإشارة إليه ـ وهنا من قبيل المفهوم.

فإن قلت : إنّه ليس مفاد قولك : «هذا متوقّف على هذا» إلّا إناطة وجوده بوجود الآخر ، وعدمه بعدمه ، فيكون الانتفاء عند الانتفاء مدلولا تضمّنيا كذلك ، وكذا قولك : «هذا شرط في كذا» لاخذ الانتفاء عند الانتفاء في معنى الشرط ، فكيف يعدّ ذلك من دلالة الالتزام ويستند إليه في محلّ البحث؟

قلت : الظاهر أنّ الدلالة على الانتفاء بالانتفاء في المقامين التزاميّة ، فإنّ توقّف الشيء على الشيء هو افتقاره إليه بحيث لا يتحقّق إلّا بتحقّقه ، فالانتفاء بالانتفاء من لوازم المعنى وقيوده بحيث يكون التقييد داخلا والقيد خارجا ، كما لا يخفى عند التأمّل الصادق. وكذا الحال في لفظ «الشرط» إذ هو ارتباط خاصّ يلزمه الانتفاء عند الانتفاء ، فالمأخوذ فيه هو التقييد المذكور ، وأمّا نفس القيد فهي خارجة عن معناه ، وتعريفه بأنّه ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده الوجود تعريف باللازم ، كما هو ظاهر لفظ «اللزوم» المأخوذ في حدّه ، فإذا كانت الدلالة في صريح لفظ «الشرط» و «التوقف» التزاميّة فكيف تكون دلالة الجملة الشرطيّة الظاهرة في التوقّف والشرطيّة تضمّنية؟

فالتحقيق : أنّه ليس مفاد التعليق على الشرط إلّا الحكم بوجود الجملة الجزائيّة عند وجود مصداق الجملة الشرطيّة على سبيل توقّفه عليه وإناطته به ، والانتفاء عند الانتفاء من لوازم تلك الإناطة ، والارتباط المدلول عليها بالمنطوق.

حجّة القول بكون الدلالة تضمّنيّة وجوه :

٤٤٧

أحدها : أنّ الحكم بالانتفاء عند الانتفاء مندرج في الموضوع له داخل فيه ، كما هو مقتضى التبادر وفهم العرف ، إذ المفروض فهمهم من التعليق المفروض الوجود عند الوجود والانتفاء عند الانتفاء ، فكلّ من الأمرين جزء من المعنى الموضوع له ، فلا يكون التزاما إذ هو دلالة اللفظ على الخارج اللازم ، وهذا ليس بخارج.

ثانيها : أنّ الدلالة الالتزاميّة لا تستدعي كون المدلول بها مرادا للمتكلّم ، إذ المعتبر فيها هو اللزوم الذهني ليحصل الانتقال من أحدهما إلى الآخر ، وقد تكون بين الملزوم ولازمه الذهني معاندة في الخارج كالعمى والبصر ، فمقتضى الدلالة الالتزاميّة هو الفهم والانتقال إلى المعنى وإحضاره في البال ، وهو غير كونه مرادا من اللفظ مقصودا بالإفادة ، فبعد البناء على ثبوت الدلالة على الانتفاء في المقام هو مراد قطعا فلا تكون الدلالة عليه التزاميّة.

ثالثها : أنّ اللزوم الذهني منفيّ في المقام ، فلو لم نقل بكون الدلالة في المقام تضمّنية لزم إنكار الدلالة اللفظيّة في المقام بالمرّة ، وهو فاسد ، إذ من المعلوم أنّ هناك مدلولين :

أحدهما : منطوق العبارة ، وهو الحكم بالوجود عند الوجود.

والآخر : مفهومها ، وهو الحكم بالعدم عند العدم.

ومن الواضح أنّ الحكم بالوجود عند الوجود لا يستلزم الحكم بالعدم عند العدم بوجه من الوجوه ، فتبيّن من ذلك أنّ القول بالدلالة اللفظيّة في المقام يستلزم القول بكونها تضمّنية.

ويرد على الأوّل : ما عرفت من أنّ المفهوم عرفا من التعليق المذكور ليس إلّا الحكم بالوجود عند الوجود على سبيل توقّف الثاني على الأوّل وإناطته به ، واللازم من ذلك هو الحكم بالانتفاء عند الانتفاء حسب ما قرّرنا ، فليست دلالته على الانتفاء بالانتفاء على نحو الدلالة على الحكم بالوجود عند الوجود ليكون كلّ منهما تضمّنية ، يشهد بذلك التأمّل في مفاد الجملة المفروضة ، وملاحظة تقدّم

٤٤٨

فهم الأوّل على الثاني والاحتمال منه إليه ، ومجرّد فهم الأمرين منها لا يقضي بكون الدلالة تضمّنية بعد كون طريق الفهم منها على ما ذكرنا ، حسب ما مرّ بيانه.

ومنه يظهر الجواب عن الثالث ، إذ ليس مفاد المنطوق مجرّد الحكم بالوجود عند الوجود على إطلاقه ، بل مقيّدا بالنحو المذكور ، واستلزام ذلك للانتفاء عند الانتفاء واضح لا يخفى.

وعلى الثاني : أنّ مجرّد كون الدلالة التزامية وإن يقض بكون اللازم مرادا لكن لا يلزم من ذلك عدم دلالته عليه مطلقا ، بل الحقّ في ذلك التفصيل ، وذلك لأنّ اللازم إن كان من اللوازم الذهنيّة للشيء ولو بحسب العرف من غير أن تكون هناك ملازمة بينهما في الخارج ـ كما في العمى والبصر ـ فمن الظاهر أنّ إرادة الأوّل لا يقضي بإرادة الثاني ، وإنّما يتبعه الثاني في الفهم خاصّة ، وإن كان اللازم المذكور ممّا لا ينفك عنه الشيء في الخارج ، كما إذا كان ممّا لا يتحصّل ذلك المعنى في الخارج بدونه فلا شكّ حينئذ في كونه مرادا ، نظرا إلى عدم حصول المراد إلّا به ، غاية الأمر أن لا يكون مرادا من نفس اللفظ ابتداء ، إذ المفروض خروجه عن المعنى المراد ، ولا يستلزم ذلك أن لا يكون مرادا أصلا ويتّضح ذلك بملاحظة سائر المقامات.

ألا ترى أنّ قولك : «هذا فوق هذا» يدلّ على تحتيّة الآخر ، وقولك : «ذلك تحت هذا» يدلّ على فوقيّة ذلك ، وقولك : «هذا متوقّف على كذا» يدلّ على انتفائه بانتفائه ، وكذا قولك : «هذا شرط في هذا» إلى غير ذلك من الأمثلة؟ فاللوازم المذكورة وإن كانت خارجة عن مدلول اللفظ إلّا أنّها مرادة التزاما نظرا إلى عدم تحقّق المعاني الحقيقيّة إلّا بها.

نعم ، لو لم يكن هناك لزوم ذهني ولو عرفا بين المعنيين لم يعدّ ذلك من الدلالة اللفظية بمعناها المعروف ، وإن كان اللازم حاصلا قطعا والدلالة عليه حاصلة أيضا بملاحظة مدلول اللفظ بعد تصوّر الطرفين والنسبة ، أو مع ضمّ الواسطة الخارجية إليه أيضا ، كما هو الحال في وجوب المقدّمة بالنسبة إلى ما دلّ على وجوب ذيها.

٤٤٩

والحاصل : أنّ المدلول الالتزامي إن كان لازما خارجيّا للمعنى المطابقي كان مرادا في الجملة على وجه اللزوم والتبعيّة ، فإن كان مع ذلك لازما ذهنيّا كان مدلولا لفظيّا ، وإلّا خرجت الدلالة عليه من الدلالات اللفظيّة.

وعلى كلّ حال فليس إرادة ذلك اللازم في المقام باستعمال اللفظ فيه ، إذ ذاك إنّما يكون بإرادته من اللفظ ابتداء ، على ما مرّ تفصيل القول فيه في محلّه ، وليس ذلك من شأن المداليل الالتزاميّة عندنا. ولو اريد من اللفظ كذلك ليكون اللفظ مستعملا فيه فهو إذا مندرج في المطابقة من تلك الجهة لكونه مجازا فيه ، وقد عرفت سابقا أنّ الأظهر إدراج المجاز في المطابقة.

حجّة القول الثالث : أنّه لو كانت الدلالة لفظيّة لكانت بإحدى الأدوات الثلاث ، وكلّها منتفية ، نظرا إلى أنّ مفاد التعليق المفروض ومدلوله لغة وعرفا ليس إلّا ارتباط الوجود بالوجود والحكم بوجود أحدهما على تقدير وجود الآخر.

ومن البيّن أنّ الانتفاء عند الانتفاء ليس عين ذلك ، ولا جزءه ، ولا لازمه ، فلا يندرج في شيء من الثلاث.

وأيضا قد نصّوا على أنّ التعليق على الشرط إنّما يقتضي الانتفاء عند الانتفاء على القول به إن لم يظهر للشرط فائدة سواه ، وأمّا مع تحقّق فائدة اخرى سوى ذلك فلا دلالة فيه على الانتفاء ، وهذا لا يتمّ مع كون الدلالة عليه لفظيّة ، إذ مجرّد وجود فائدة اخرى للتعليق لا يقضي بالخروج عن مدلول اللفظ وصرفه عمّا وضع بإزائه ، إذ لا بدّ حينئذ من البناء عليه حتّى يثبت المخرج. والقول باشتراط وضعه لذلك المفهوم ـ لعدم ظهور فائدة اخرى ، حتّى أنّه لا يكون مع ظهور فائدة اخرى موضوعا لذلك ، فلا ينصرف الإطلاق عليه ـ مستنكر جدّا ، وكأنّه عديم النظير في الأوضاع اللفظيّة ، وذلك كاف في دفعه.

وأمّا الوجه في الدلالة العقليّة فهو على ما قرّره بعض الأفاضل : أنّ اللفظ لمّا كان وافيا بالمطلوب ولم يكن يتعلّق بذكر القيد غرض في الظاهر سوى انتفاء الحكم بانتفائه يحصل الظنّ بأنّه لانتفاء الحكم عن غير محلّ القيد ، فلو لا ملاحظة

٤٥٠

ذلك لكان اعتبار القيد عبثا لغوا لا حاجة إلى ذكره ، وإن لم يكن حاجة إلى تركه أيضا ، فإنّ الواجب عند الحكيم ترك ما لا حاجة إلى ذكره وتركه ، لأنّ العبث فعل ما لا فائدة في فعله ، لا ترك ما لا فائدة في تركه.

فحاصل الاستدلال : أنّ المظنون أو المعلوم انحصار فائدة القيد المذكور في انتفاء الحكم عن غير محلّ القيد ، فلولاه لزم العبث إمّا ظنّا أو يقينا ، إذ المظنون أو المعلوم خلوّ كلام المتكلّم عن العبث ، فينتج العلم أو الظنّ بانتفاء الحكم عن غير محلّ القيد عند المتكلّم، وهو المطلوب.

ثمّ قال : إنّ هذا الوجه يعمّ سائر المفاهيم ، سوى مفهوم اللقب ، ويختصّ بما إذا انتفى الفائدة في التقييد سوى الانتفاء المذكور.

وقد يورد عليه باختصاص الوجه المذكور بما إذا كان المتكلّم حكيما ، إذ لا يجري ذلك في غيره ، فلا تكون الدلالة حاصلة بالنسبة إلى الكلام الصادر من سائر المتكلّمين.

ويدفعه : أنّ الظاهر من قاعدة الوضع البناء على صون الكلام عن اللغو مع الإمكان ، حكيما كان المتكلّم أو غيره حتّى يتبيّن الخلاف.

نعم ، يرد عليه ما أفاده بعض أفاضل المحقّقين من : أنّ هذا التقرير إنّما يتمّ إذا علم انتفاء ما عدا التخصيص من الفوائد ، ومع هذا الفرض فالنزاع مرتفع ، إذ لا خلاف في إرادة ذلك مع انتفاء غيره من الفوائد في كلام الشرع ، وإلّا لزم اللغو والعبث تعالى الله سبحانه عنه. وإنّما الخلاف فيما إذا دار الأمر في الشرط بين أن يكون للتخصيص أو لغيره فهل الأصل الحكم بالأوّل حتّى يظهر خلافه ، أو لا بدّ من التوقّف حتّى يقوم دليل منفصل عليه؟

فالقائلون بالحجّية ذهبوا إلى الأوّل ، والباقون إلى الثاني ، فالشرط المذكور من القائل بحجّية المفهوم غفلة ورجوع إلى القول بعدم الحجّية.

قلت : كان مقصود القائل المذكور ترجيح هذه الفائدة على الفوائد المحتملة ، وحاصل كلامه : أنّه إن كان هناك فائدة ظاهرة غير ذلك فلا دلالة في التعليق على

٤٥١

الانتفاء ، وأمّا إذا لم يكن هناك فائدة اخرى في الظاهر وإن قام احتمال فوائد عديدة فالظاهر كون الفائدة هو التخصيص ، فالمظنون حينئذ انحصار الفائدة فيه فإنّه أظهر الفوائد، ويومئ إليه قوله : «إن المظنون أو المعلوم انحصار فائدة التقييد ... الخ» فليس ما ذكره مقصورا على صورة العلم بانتفاء سائر الفوائد كما ذكر في الإيراد ، فعلى هذا لو فرض انتفاء الظنّ في خصوص بعض المقامات فلا دلالة عند التمسّك بالوجه المذكور والإيراد عليه من هذه الجهة.

نعم ، يتوجّه عليه منع ما ادّعاه من الظهور حينئذ ، إذ لم يبيّن وجها لاستظهاره ، ومع ذلك (١) فقد ذكر في آخر كلامه : أنّ الوجه المذكور مخصوص بما إذا انتفى الفائدة في التقييد سوى الانتفاء المذكور. وذلك يدفع ما ذكرناه من التوجيه المذكور ، إلّا أن يؤوّل العبارة المذكورة بما لا يخالف ذلك ، ولا داعي إليه ، فتأمّل.

ولبعض الأفاضل في تقرير الدلالة العقليّة مسلك آخر ، محصّله : أنّ كلّ متكلّم عاقل إذا أمكن تأديته للمراد بلفظ مطلق فلم يكتف به وعبّر بالمقيّد يعلم أنّه أراد بذلك إفادة أمر لا يستفاد من اللفظ المطلق ، فإن لم تكن هناك فائدة سوى انتفاء الحكم بانتفاء القيد فلا نزاع في حصول القطع أو الظنّ بإرادته ، إنّما النزاع فيما إذا كان هناك فوائد عديدة ولا دليل على تخصيص إحداها بالإرادة فهل يتوقّف في ذلك ، أو يقدّم بعضها؟ فذكر حينئذ : أنّا إذا تتبّعنا التعليقات على الشروط وجدنا الأغلب فيها البناء على الفائدة المذكورة ، فليرجّح البناء عليها بالنسبة إلى غيرها من جهة ملاحظة تلك الغلبة والكثرة ، فإذا رأينا جملة شرطيّة لا قرينة فيها على ملاحظة فائدة معيّنة من تلك الفوائد يحصل لنا الظنّ بتوسّط استحالة خلوّها عن الفائدة ، أو بعدّه بأنّه من القسم الغالب. ثمّ استشكل في جواز الاعتماد على الظنّ المفروض ، لعدم دليل قاض بحجّيته ، فإنّ القدر المعلوم من حجّية الظنّ في الألفاظ ما كان من جهة الدلالة المطابقيّة أو الالتزاميّة البيّنة ولو كان اللزوم فيها عرفيّا.

__________________

(١) في (ق) : لاستظهار دفع ذلك.

٤٥٢

قلت : ما ذكره من التشكيك في حجّية الظنّ المفروض على فرض حصوله فلا ريب في وهنه ، إذ ليس الظنّ المفروض ظنّا عقليّا خارجيّا ، بل من قبيل القرينة المنضمّة إلى اللفظ المبيّنة للمراد ، ولا ريب في الاكتفاء بالقرائن الظنّية ، إذ لم يعتبر أحد في القرينة أن تكون مفيدة للعلم ، ومن الظاهر جريان المخاطبات العرفيّة في ذلك على الظواهر والامور المفيدة للظنّ ، كما لا يخفى.

ولو سلّم اعتبار العلم في القرائن العقليّة المنضمّة إلى الألفاظ الكاشفة عن المراد بها فلا يجري ذلك بالنسبة إلى الغلبة المدّعاة ، لوضوح جريان المخاطبات على الرجوع إلى الغالب في حمل الألفاظ ، حتّى أنّه قد يرجّح المجاز المشهور على الحقيقة ، لقوّة الشهرة حسب ما مرّ بيانه. ومن هنا يظهر المناقشة في عدّ الوجه المذكور من الأدلّة العقليّة ، لرجوعه إذا إلى القرينة العرفيّة.

ثمّ إنّه يبقى الكلام في كون الغلبة المدّعاة في المقام بالغة إلى حدّ يورث الظنّ لو قطع النظر عن سائر الوجوه المفيدة لذلك وهو في حيّز المنع ، وعلى فرض كونها كذلك فلا منافاة فيها لما بيّنّاه ، بل هي مؤيّدة لحملها على ما قلناه ، ولا يمنع ذلك من الرجوع إلى التبادر كما هو الشأن في غيره من الموارد ، لإمكان قطع النظر عن ملاحظة الغلبة.

والرجوع إلى التبادر والمنع من حصول الفهم في المقام مع قطع النظر عن ملاحظة ما ذكر مدفوع بما بيّنّاه من الدليل.

والوجهان المذكوران لعدم إفادة اللفظ ذلك مدفوعان.

أمّا الأوّل فبما بيّنّاه من التبادر وغيره.

وأمّا الثاني فبالمنع من كون مجرّد وجود فائدة اخرى باعثا على الصرف من ذلك. نعم، لو ظهر أنّ هناك فائدة اخرى ملحوظة للمتكلّم قضى ذلك بصرفه عنه ، وهو ظاهر بناء على ما استظهره من انصراف التعليق إلى ذلك لكونه أظهر فيه ، فإذا قامت القرينة على ملاحظة فائدة اخرى في التعليق تعيّن له ، ولم يقدح ما يزيد عليه من دون لزوم تجوّز ، كما سيجيء بيانه إن شاء الله.

٤٥٣

وأمّا على القول بكون المفهوم مدلولا تضمّنيا أو التزاميّا باللزوم البيّن لما وضع اللفظ له فلا بدّ من التزام التجوّز ، ويجعل ذلك حينئذ قرينة صارفة عن الحقيقة كما نصّ عليه بعض هؤلاء ، فتأمّل.

ثالثها (١) : قد عرفت أنّ المختار كون دلالة التعليق المذكور على انتفاء الجزاء بانتفاء الشرط من قبيل دلالة الالتزام ، فلو قام دليل على عدم إرادة المفهوم وأنّ التعليق إنّما حصل لفائدة اخرى فهل هناك تجوّز في اللفظ نظرا إلى دلالة انتفاء اللازم على انتفاء الملزوم فلا يكون اللفظ حينئذ مستعملا فيما وضع له ، أو لا تجوّز في اللفظ نظرا إلى أنّ ذلك أمر خارج عن موضوع اللفظ ، فعدم إرادته في المقام لا يقضي بالخروج عن مقتضي الوضع؟ وجهان.

وأنت خبير بأنّ الوجه الثاني إنّما يتمّ إذا كان اللزوم في المقام عرفيّا لا عقليّا ، إذ يصحّ القول حينئذ بتخلف اللازم لقيام دليل عليه. وأمّا إذا كان اللزوم عقليّا ـ حسب ما عرفت ـ فلا يصحّ ذلك ، لامتناع الانفكاك حينئذ ، فيكون عدم حصول اللازم إذا دليلا على عدم إرادة الملزوم ، فيلزم الخروج عن مقتضى المنطوق القاضي بالتجوّز في اللفظ حسب ما ذكر في الوجه الأوّل.

نعم ، يمكن أن يقال : إنّ مفاد التعليق على الشرط هو ربط الجزاء بالشرط ، وهو ظاهر في توقّفه عليه وإناطته به ، واللازم من ذلك عقلا هو الانتفاء بالانتفاء ، إلّا أنّ دلالة التعليق على التوقّف المذكور ليس بالوضع ، بل من جهة ظهور التعلّق فيه بحسب العرف ، كما مرّ نظيره من انصراف الطلب إلى الوجوب ، فإذا قام دليل على عدم ثبوت المفهوم ظهر عدم كون التعليق هناك لإفادة التوقّف ، بل لأمر آخر ، كما في قولك : إن ضربك أبوك فلا تؤذه ، و : أكرم زيدا إن أكرمك وإن أهانك ، وكذا الحال في فروض الفقهاء في كتب الفقه ، حيث يراد به مجرّد الفرض والتقدير إلى غير ذلك ، ولا تجوّز حينئذ في شيء منها ، لحصول التعليق وربط إحدى الجملتين

__________________

(١) أي ثالث الامور.

٤٥٤

بالاخرى في الجملة الّذي هو مفاد أدوات الشرط ، غاية الأمر عدم دلالتها على التوقّف والإناطة ، وليس ذلك ممّا وضع له بخصوصه ، بل إنّما يستظهر ذلك منه حين الإطلاق على الوجه الّذي قرّرناه ، فإذا قامت قرينة على خلافه لزم الخروج عن مقتضى الظهور المذكور. وهذا الوجه غير بعيد بعد إمعان النظر في ملاحظة الاستعمالات العرفيّة ، وظاهر المصنّف التزام التجوّز على ما يستفاد من ملاحظة دليله المذكور ، وهذا هو المتعيّن لو قيل بكون الدلالة على المفهوم تضمّنية ، لكونه استعمالا للّفظ الموضوع للكلّ في الجزء ، كما أنّه يتعيّن البناء على الحقيقة لو قلنا بكون الدلالة عقليّة ، حسب ما مرّ.

رابعها : المعروف بينهم عموم الحكم في المفهوم بمعنى انتفاء الحكم على جميع صور انتفاء الشرط ، ولا يظهر فيه خلاف بينهم سوى ما ذكره العلّامة رحمه‌الله في المختلف في دفع احتجاج الشيخ للمنع من سؤر ما لا يؤكل لحمه بقوله عليه‌السلام : «كلّ ما يؤكل لحمه يتوضّأ من سؤره ويشرب» (١) حيث قال : إنّه يكفي في صدق المفهوم مخالفة المسكوت عنه للمنطوق في الحكم الثابت فيه ، وحينئذ لا تدلّ الرواية على أنّ كلّ ما لا يؤكل لحمه لا يتوضّأ من سؤره ولا يشرب ، بل جاز اقتسامه إلى قسمين :

أحدهما يجوز الوضوء به والشرب منه ، والآخر لا يجوز ، فإنّ الانقسام إلى القسمين حكم مخالف للمنطوق.

ثمّ أورد على ذلك : بأنّه إذا تساوى أحد قسمي المسكوت عنه والمنطوق في الحكم انتفت دلالة المفهوم ، والمفروض البناء على دلالته.

وأجاب عنه بالمنع من انتفاء الدلالة لحصول التنافي بين المنطوق والمفهوم بما ذكر ، وهو كاف في المخالفة ، وهو كما ترى صريح في البناء على عدم العموم في المفهوم ، وكلامه المذكور وإن كان بالنسبة إلى مفهوم الوصف إلّا أنّه بعينه جار في مفهوم الشرط أيضا.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٨٠ ص ٧٣.

٤٥٥

واعترض عليه بعض محقّقي المتأخّرين : بأنّ فرض حجّية المفهوم يقتضي كون الحكم الثابت للمنطوق منتفيا عن غير محلّ النطق ، والمراد بالمنطوق في مفهوم الشرط والوصف : ما تحقّق فيه القيد المعتبر شرطا أو وصفا ممّا جعل متعلّقا له. وبغير محلّ النطق : ما ينفى عنه القيد من ذلك المتعلّق ، ولا يخفى أنّ متعلّق القيد هنا هو قوله : «كلّ ما» أي كلّ حيوان، إذ القيد المعتبر هو كونه مأكول اللحم ، فالمنطوق هو مأكول اللحم من كلّ حيوان ، والحكم الثابت له هو جواز الوضوء من سؤره والشرب منه ، وغير محلّ النطق هو ما انتفى عنه الوصف وهو غير المأكول لحمه من كلّ حيوان ، وانتفاء الحكم الثابت للمنطوق يقتضي ثبوت المنع ، لأنّه اللازم لرفع الجواز.

قال : وإن فرض عروض اشتباه فلنوضّح بالنظر إلى مثاله المشهور ـ أعني قوله : في سائمة الغنم زكاة ـ فإنّه على تقدير ثبوت المفهوم يفيد نفي الوجوب في مطلق المعلوفة بلا إشكال.

والتقريب فيه : أنّ التعريف في الغنم للعموم وهو متعلّق القيد ، أعني وصف السوم ، فالمنطوق هو السائمة من جميع الغنم ، والحكم الثابت له هو وجوب الزكاة ، فإذا فرضنا دلالة الوصف على النفي عن غير محلّه كان مقتضيا هنا لنفي الوجوب عمّا انتفى عنه الوصف من جميع الغنم فيدلّ على النفي من كلّ معلوفة من الغنم.

وأورد عليه بعض أفاضل المحقّقين : بأن النافي لعموم المفهوم إنّما يدّعي أنّ اللازم للقول بحجّيته هو اقتضاؤه نفي الحكم الثابت للمنطوق عن غير محلّ النطق على وجه يرفع الإيجاب الكلّي ، فلا ينافي الإيجاب الجزئي ، وهو صريح كلام العلامة رحمه‌الله حيث قال : وهو لا يدلّ على أنّ كلّ ما لا يؤكل لحمه لا يتوضّأ من سؤره ولا يشرب ، بل جاز اقتسامه إلى قسمين ، فما ذكر من أنّ فرض حجّية المفهوم يقتضي كون الحكم الثابت للمنطوق منتفيا عن غير محلّ النطق إن أراد به السلب الكلّي فهو ممنوع ، كيف وهو عين النزاع؟ وإلّا فمسلّم ، ولا يجدي نفعا. انتهى كلامه رفع في الخلد مقامه.

٤٥٦

قلت : لا يخفى أنّ الموضوع في المثال المفروض هو كلّ حيوان والقيد المأخوذ فيه المعلّق عليه الحكم المذكور هو كونه مأكول اللحم ، فيكون مفاد العبارة : الحكم على كلّ واحد من الحيوان بعدم المنع من سؤره مع وصف كونه مأكول اللحم ، فقضيّة ذلك بناء على القول بالمفهوم ثبوت المنع بالنسبة إلى سؤر آحاد الحيوان مع انتفاء القيد المأخوذ فيه ، فمرجع هذا التعليق إلى تعليق الحكم في كلّ فرد لوجود القيد المذكور ، فيرتفع الحكم عن كلّ منها مع انتفائه ، وحينئذ فكيف يتصوّر القول بالاكتفاء في صدق المفهوم برفع الإيجاب الكلّي؟

نعم ، لو كان عموم الحكم وشموله للأفراد معلّقا على الوصف المذكور صحّ ما ذكر ، لقضاء ذلك برفع ذلك العموم مع انتفائه ، فيكتفي في مفهومه برفع الإيجاب الكلّي حسب ما ذكر ، لكن ليس مفاد المنطوق ذلك أصلا ، كما لا يخفى.

ثمّ إنّ توضيح الكلام في المرام يستدعي بسطا في المقام. فنقول : إنّه قد يراد بعموم المفهوم شمول نفي الحكم الثابت للمنطوق لجميع صور انتفاء الشرط ووجوهه ، فيكون الحكم الثابت في صورة وجود الشرط منتفيا عن ذلك الموضوع على جميع صور انتفاء ذلك الشرط ، بمعنى عدم توقّف انتفائه على قيد آخر ، بل بمجرّد انتفاء الشرط المفروض ينتفي الحكم.

وقد يراد به شمول نفي الحكم لجميع صور الانتفاء بحيث يتكرّر انتفاء ذلك الحكم بحسب تكرّر انتفاء الشرط ، مثلا : إذا قال : «إن لم يجئك زيد فلا يجب عليك إكرامه» يكون مفاده على الأوّل أنّه مع حصول المجيء كيف كان يجب الإكرام ، ولا يدلّ على تعدّد الإكرام وتكرّره بحسب تكرّر المجيء ، وإن قيل بإفادته العموم على الوجه الثاني أفاد ذلك.

وأنت خبير بأنّ من الواضح المستبين عدم إشعار التعليق المذكور بالعموم على الوجه الثاني في المثال المفروض أصلا. نعم ، قد يستفاد منه ذلك أيضا في بعض الصور.

والتفصيل : أنّه قد لا يكون المنطوق مشتملا على العموم أصلا ، لا في الاشتراط ، ولا في الموضوع ، ولا في الجزاء ، كالمثال المتقدّم.

٤٥٧

وقد يكون هناك عموم إمّا في الاشتراط نحو «كلّما أهانك زيد لم يجب عليك إكرامه». وإمّا في الموضوع ، سواء كان استغراقا أفراديّا كما في قولك : «كلّ ماء إن كان قدر الكرّ لم يتنجّس بالملاقاة» أو بدليّا كقولك : «أيّ حيوان إذا كان مأكول اللحم جاز الوضوء من سؤره». وإمّا في متعلّق الشرط ، نحو «إن أتاك زيد في كلّ يوم من شهر رمضان فزره في العيد». وإمّا في الجزاء المترتّب على الشرط نحو «إن جاءك زيد فأعطه كلّ ما عندك» و «إن كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء».

وفي هاتين الصورتين قد يكون العموم استغراقا أفراديّا ، وقد يكون بدليّا موضوعا للعموم كذلك ، أو يكون عمومه البدلي من جهة الإطلاق ، ويختلف الحال فيها حسب ما سنشير إليه إن شاء الله تعالى.

فهذه وجوه خمسة :

أمّا الأوّل فلا يفيد إلّا رفع ذلك الحكم مع انتفاء الشرط من غير دلالة على التكرار أصلا ، ولا فرق بين كون الشرط والجزاء إيجابيّين أو سلبيّين أو مختلفين ، غير أنّ كلّا من الشرط والجزاء إن كان إيجابيّا اكتفى في صدقه بمجرّد حصول فرد منه ، وإن كان سلبيّا توقّف على رفع الجميع.

هذا في المنطوق ، وأمّا في المفهوم فالأمر بالعكس ، فإنّه في الإيجابي يتوقّف على رفع الجميع وفي السلبي يكتفي فيه بحصول فرد منه ، من غير فرق في ذلك بين الشرط والجزاء ، فلابدّ من نفي الجميع في الأوّل على الأوّل حتّى يحكم بنفي الجزاء ، وعلى الثاني لابدّ من عدم إدخال شيء من أفراد الجزاء في الوجود ، ويكتفي بوجود فرد منه في الحكم بترتّب الجزاء في الثاني على الأوّل ، وثبوت فرد من الجزاء على الثاني. والمراد بعموم المفهوم حينئذ ما قرّرناه من كون الانتفاء حاصلا على جميع صور انتفاء الشرط من غير توقّف على قيد آخر ، لكونه على نحو خاصّ أو في صورة مخصوصة ، لما عرفت من دلالة التعليق على توقّف المعلّق على وجود المعلّق عليه ، وقضاء التوقّف عقلا بانتفاء المتوقّف عند انتفاء المتوقّف عليه مطلقا ، ففي المثال المفروض لو تحقّق المجيء على أيّ نحو كان وجب الإكرام ، ولا يدلّ على وجوبه كلّما تكرّر المجيء أصلا.

٤٥٨

وأمّا الثانية فتفيد الحكم بتكرّر انتفاء الجزاء كلّما تكرّر انتفاء الشرط ، ففي المثال المفروض يجب عليه الإكرام في كلّ صورة انتفت الإهانة ، والوجه فيه ظاهر نظرا إلى إفادة العبارة اشتراط كلّ صورة من صور الجزاء بصورة من الشرط ، فينتفي الجزاء في كلّ من تلك الصور بانتفاء الشرط فيها ويثبت خلافه ، فينحلّ التعليق المفروض إلى تعليقات شتّى ، والمستفاد منه إذن انتفاء الحكم في كلّ منها بانتفاء شرطه.

وأمّا الثالثة فالحكم فيها كالثانية لاعتبار الاشتراط إذن في كلّ واحد من آحاد الموضوع فيلزمه الحكم بالانتفاء بحسب انتفاء الشرط في كلّ من تلك الآحاد ، ففي المثال الأوّل يحكم بالتنجّس بالملاقاة في كلّ ماء مع انتفاء كرّيته ، وفي الثاني يحكم بالمنع من الوضوء من سؤر أيّ حيوان لا يؤكل لحمه.

وأمّا الرابعة فقد يكون الحكم بالجزاء فيها معلّقا على حصول الجميع ، أو عدم حصوله ، أو على حصول أيّ منها ، أو عدم حصوله كذلك.

فعلى الأوّل يتوقّف ثبوت الجزاء على حصول الجميع ، وينتفي بانتفاء بعض منه أيّ بعض كان. وعلى الثاني يفيد عكس المذكور.

وعلى الثالث يفيد ترتّب الجزاء على أيّ واحد كان من تلك الآحاد ، ويترتّب نفيه على حصول بعض منها أيّ بعض كان وعلى كلّ حال فلا دلالة في العبارة على التكرار ، لا في المنطوق ولا في المفهوم.

وأمّا الخامسة فتفيد توقّف ثبوت العموم على تقدير حصول الشرط ، فإن كان الجزاء موجبة كلّية دلّ المنطوق على توقّف الإيجاب الكلّي على حصول ذلك الشرط ، فيكون مفاد مفهومه رفع الإيجاب الكلّي الحاصل بالسلب الجزئي على تقدير انتفاء الشرط ، من غير دلالة فيه على السلب الكلّي بوجه من الوجوه.

وإن كان الجزاء سالبة كلّية دلّ على توقّف السلب الكلّي على حصول الشرط المفروض ، فيكون مفهومه رفع السلب الكلّي الحاصل بالإيجاب الجزئي عند انتفاء الشرط ، من غير إشعار فيه بالإيجاب الكلّي.

٤٥٩

هذا إذا كان عمومه أفراديّا. وأمّا إن كان بدليّا : فإن كان إيجابيا أفاد في المنطوق ترتّب حصول فرد منه على الشرط المذكور ، والاكتفاء فيه بأيّ فرد كان وأفاد في المفهوم السلب الكلّي ، إذ ثبوت الحكم على وجه العموم البدلي إيجاب جزئي ، فيكون رفعه في المفهوم بالسلب الكلّي. ومنه يعلم عدم الفرق بين كونه موضوعا للعموم البدلي كما في المثال المتقدّم ، وما يستفاد منه ذلك من جهة الإطلاق ، كما إذا قال : «إن جاءك زيد فأعطه شيئا» فإنّ مفهومه عدم وجوب إعطائه شيئا على سبيل السلب الكلّي على تقدير عدم المجيء ، وإن كان سلبيّا أفاد استغراق الآحاد في المنطوق ، فيكون مفاده في المفهوم رفع السلب الكلّي ، فهو في الحقيقة يندرج في القسم المتقدّم.

إذا عرفت ذلك فقد ظهر لك أنّ ما ذكره المحقّق المذكور قدس‌سره ـ انتصار للعلّامة ـ إنّما يتمّ لو كان مفاد الحديث المذكور من قبيل الصورة الخامسة ، ليكون مفاده رفع الإيجاب الكلّي الصادق بالسلب الجزئي حسب ما قرّر ، وليس الحال كذلك ، بل هو من قبيل الصورة الثالثة ، حيث إنّ العموم فيه إنّما اعتبر في الموضوع ، وقد عرفت اقتضاء ذلك عموم المفهوم على الوجه الّذي قرّرناه ، فما ذكره العلّامة من جواز الاقتسام إلى القسمين في جهة المفهوم كما ترى.

ومن غريب الكلام ما رأيته في تعليقات بعض الأعلام على كتاب مدارك الأحكام ، حيث حاول الاحتجاج بمفهوم قوله عليه‌السلام : «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء» على تنجيس ما دون الكرّ بملاقاة كلّ واحد من النجاسات ، نظرا إلى عموم «شيء» المذكور في المنطوق ، فيسري العموم إلى المفهوم أيضا ، كما يفيد منطوقه عدم تنجّس الكرّ بشيء من النجاسات يفيد مفهومه تنجّسه بكلّ منها. ووجّه ذلك : بأنّه لما دلّ عدم تنجّسه بشيء من النجاسات على الكرّية كان ذلك بمنزلة تعليق عدم تنجّسه بكلّ واحدة واحدة منها على ذلك ، فينحلّ ذلك التعليق إلى تعليقات عديدة ، ويكون مفاد كلّ منها تنجّس الماء بها مع ارتفاع الشرط الّذي هو الكرّية.

وأنت خبير بالبون البيّن بين ما ذكره وما هو مفاد التعليق المذكور في الرواية ،

٤٦٠