هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٨٣

أكثر المحقّقين ، لكن أسنده في القواعد إلى ظنّ بعض الناس ، وهو يشعر بكون الظانّ من العامّة ، وعلّل ذلك بكون الإتيان به قاضيا بصون الخلق الكثير عن العصيان واستحقاق العذاب ، بخلاف العيني فإنّه لا يحصل به إلّا صون الفاعل.

وفيه أوّلا : أنّ الواجب في العيني أفعال عديدة على حسب تعدّد المكلّفين ، وفي الكفائي فعل واحد ، ومن الواضح أنّه لا أفضليّة للواجب الّذي يجب الإتيان به مرّة على ما يجب تكراره من جهة حصول صون المكلّف عن العقوبة بفعل واحد في الأوّل ، بخلاف الثاني ، وذلك لتعدّد التكاليف في الصورة الاولى دون الثانية ، فكذا الحال في المقام ، نظرا إلى تعدّد الواجبات في العيني ، فيجب تعدّد الإتيان بها على حسب تعدّد المكلّفين ، بخلاف الكفائي فإنّ الواجب على الجميع شيء واحد حسب ما مرّ القول فيه.

وثانيا : أنّ الأفضلية ليست من جهة إسقاط العقاب ، بل إنّما يلحظ من أجل زيادة الثواب ، ولا دليل على كون الثواب المترتّب على الكفائي أكثر من العيني ، وحينئذ فقد يتوهّم زيادة العيني لكون المثابين به أكثر من المثابين في الكفائي ، وهو فاسد ، إذ كثرة الثواب من جهة كثرة المثابين غير كثرة الثواب المترتّب على الفعل في نفسه ، والأفضليّة تتبع ذلك ، على أنّ تعدّد الثواب من الجهة المذكورة يمكن تصويره في الكفائي أيضا ، فالظاهر أنّ الجهة المذكورة لا تقتضي أفضليّة ولا مفضوليّة ، وإنّما يتبع ذلك غيرها من الجهات.

* * *

٤٠١
٤٠٢

معالم الدين :

أصل

الحقّ أنّ تعليق الأمر بل مطلق الحكم على شرط ، يدلّ على انتفائه عند انتفاء الشرط. وهو مختار أكثر المحقّقين ، ومنهم الفاضلان.

وذهب السيّد المرتضى إلى أنّه لا يدلّ إلّا بدليل منفصل. وتبعه ابن زهرة. وهو قول جماعة من العامّة.

لنا : أنّ قول القائل : «أعط زيدا درهما إن أكرمك» يجري في العرف مجرى قولنا : «الشرط في إعطائه إكرامك». والمتبادر من هذا انتفاء الإعطاء عند انتفاء الإكرام قطعا ، بحيث لا يكاد ينكر عند مراجعة الوجدان ؛ فيكون الأوّل أيضا هكذا. وإذا ثبت الدلالة على هذا المعنى عرفا ، ضممنا إلى ذلك مقدّمة اخرى ، سبق التنبيه عليها ، وهي أصالة عدم النقل ، فيكون كذلك لغة.

احتجّ السيّد رحمه‌الله بأنّ الشرط هو تعليق الحكم به ، وليس يمتنع أن يخلفه وينوب منابه شرط آخر يجري مجراه ، ولا يخرج عن أن يكون شرطا ألا ترى أنّ قوله تعالى : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ)(١) يمنع من قبول الشاهد الواحد حتّى ينضمّ إليه آخر؟ فانضمام الثاني

__________________

(١) سورة البقرة : آية ٢٨٢.

٤٠٣

إلى الأوّل شرط في القبول. ثمّ نعلم أنّ ضمّ امرأتين إلى الشاهد الأوّل يقوم مقام الثاني. ثمّ نعلم بدليل ، أنّ ضمّ اليمين إلى الواحد يقوم مقامه أيضا. فنيابة بعض الشروط عن بعض أكثر من أن تحصى.

واحتجّ موافقوه ـ مع ذلك ـ : بأنّه لو كان انتفاء الشرط مقتضيا لانتفاء ما علّق عليه ، لكان قوله تعالى : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً)(١) دالّا على عدم تحريم الإكراه ، حيث لا يردن التحصّن ، وليس كذلك ، بل هو حرام مطلقا.

والجواب عن الأوّل : أنّه ، إذا علم وجود ما يقوم مقامه ، كما في المثال الّذي ذكره ، لم يكن ذلك الشرط وحده شرطا. بل الشرط حينئذ أحدهما ؛ فيتوقّف انتفاء المشروط على انتفائهما معا ؛ لأنّ مفهوم أحدهما لا يعدم إلّا بعدمهما. وإن لم يعلم له بدل ، كما هو مفروض المبحث ، كان الحكم مختصّا به ، ولزم من عدمه عدم المشروط ، للدليل الّذي ذكرناه.

وعن الثاني بوجوه : أحدها ـ أنّ ظاهر الآية يقتضي عدم تحريم الإكراه إذا لم يردن التحصّن ، لكن لا يلزم من عدم الحرمة ثبوت الإباحة ؛ إذ انتفاء الحرمة قد يكون بطريان الحلّ ، وقد يكون لامتناع وجود متعلّقها عقلا ؛ لأنّ السالبة تصدق بانتفاء المحمول تارة وبعدم الموضوع اخرى. والموضوع هنا منتف ، لأنّهنّ إذا لم يردن التحصّن فقد أردن البغاء ومع إرادتهنّ البغاء يمتنع إكراههنّ عليه ؛ فإنّ الإكراه هو حمل الغير على ما يكرهه. فحيث لا يكون كارها يمتنع تحقّق الإكراه. فلا يتعلّق به الحرمة.

وثانيها ـ أنّ التعليق بالشرط إنّما يقتضي انتفاء الحكم عند انتفائه ،

__________________

(١) النور : ٣٣.

٤٠٤

إذا لم يظهر للشرط فائدة اخرى ، ويجوز أن يكون فائدته في الآية ، المبالغة في النهي عن الإكراه ، يعني أنّهنّ إذا أردن العفّة ، فالمولى أحقّ بإرادتها. أو أنّ الآية نزلت فيمن يردن التحصّن ويكرههنّ الموالي على الزنا.

وثالثها ـ أنّا سلّمنا أنّ الآية تدلّ على انتفاء حرمة الإكراه بحسب الظاهر نظرا إلى الشرط ، لكنّ الإجماع القاطع عارضه. ولا ريب أنّ الظاهر يدفع بالقاطع.

٤٠٥

قوله : (الحقّ أنّ تعليق الأمر ... الخ).

البحث عن المفاهيم أحد مقاصد علم الأصول ، كالبحث عن الأوامر والنواهي ، والعامّ والخاصّ ، ونحوها ، وقد أدرجه بعض الأصوليّين في مباحث الأمر من جهة تعليق الأمر على الشرط ، أو الصفة ، أو تقييده بالغاية ونحوها ، والأنسب في البيان هو الوجه الأوّل ، إلّا أنّ المصنّف رحمه‌الله اختار الثاني ، حيث اقتصر على عدّة من مباحثها فلم يستحسن جعلها مقصدا منفردا.

والمناسب أوّلا قبل الشروع في المقصود تفسير المنطوق والمفهوم وذكر أقسامهما وما يندرج فيهما ، وحيث كانا من أقسام الدلالة أو المدلول كان الحريّ في المقام أوّلا بيان الدلالة وذكر أقسامها. ولنورد ذلك في مباحث :

الأوّل في تعريف الدلالة ، وقد عرفت بأنّها كون الشيء بحيث يلزم من العلم به العلم بشيء آخر. والمراد بالعلم هنا مطلق الإدراك الشامل للتصوّر والتصديق ليندرج فيها الدلالات اللفظيّة مفرداتها ومركّباتها ، إذ ليس من شأنها من حيث كونها دلالات لفظيّة إلّا إفادة تصوّر مداليلها وإحضارها ببال السامع. هذا بالنسبة إلى دلالة اللفظ على نفس المعنى.

أمّا بالنسبة إلى دلالتها على إرادة اللافظ فمدلولها أمر تصديقي ، لانتقاله من اللفظ إلى التصديق بإرادة اللافظ ذلك تصديقا علميّا أو ظنّيا ، ولا فرق في ذلك أيضا بين المفردات والمركّبات ، لكون الدلالة إذا في المقامين تصديقيّة ، والدلالة بهذا المعنى تعمّ الدلالات اللفظيّة والوضعيّة وغيرها وغير اللفظيّة ، كالأقيسة الدالّة على نتائجها ، وعرفت خصوص الدلالة اللفظيّة الوضعيّة الّتي هي المقصود في المقام بأنّها فهم المعنى من اللفظ عند إطلاقه ، أو تخييله بالنسبة إلى من هو عالم بالوضع.

وأورد عليه بوجهين :

أحدهما : أنّ الفهم أمر حاصل من الدلالة فلا أخذه مصدرا بمعنى الفاعل فهو صفة للسامع ، أو بمعنى المفعول فهو صفة للمعنى ، فلا يصحّ أخذه جنسا للدلالة.

٤٠٦

وأنت خبير بأنّ الإيراد الثاني تفصيل للأوّل ، فإنّ الفهم أمر حاصل من الدلالة ، فهو بمعناه الفاعلي صفة للسامع ، وبمعناه المفعولي صفة للمعنى. وجوابه ظاهر ، وهو : أنّ الفهم بأيّ من الوجهين من لوازم الدلالة ، ولا مانع من تعريف الشيء بلازمه ، فيصحّ على كلّ من الوجهين.

ويرد عليه : أنّ التعريف باللازم إنّما يكون بأخذ اللازم على وجه يمكن حمله على الملزوم ، كتعريف الإنسان بالضاحك لا على وجه يباينه ، كتعريفه بالضحك ، فينبغي في المقام تعريفها بكون اللفظ بحيث يفهم منه المعنى العالم بالوضع ، والظاهر أنّ ذلك هو المقصود بالحدّ ، فيكون التحديد مبنيّا على التسامح.

وأجاب عنه بعض المحقّقين : بأنّ الفهم وحده صفة للسامع ، والانفهام وحده صفة للمعنى ، لكنّ فهم السامع من اللفظ المعنى ، أو انفهامه منه صفة للّفظ فيصحّ تعريف الدلالة به ، سواء اخذ الفهم بمعنى الفاعل أو المفعول ، وإنّما لا يصحّ الاشتقاق منه ، كما يصحّ اشتقاق الدلالة لكون المبدأ في المشتقّ هو مطلق الفهم ، وقد عرفت أنّه بأحد المعنيين صفة للسامع ، وبالآخر صفة للمعنى.

وأورد عليه : بأنّ فهم السامع صفة له قائمة به ، لكنّها متعلّقة بالمعنى بلا واسطة ، وباللفظ بواسطة حرف الجر ، فهناك ثلاثة أشياء : الفهم ، وتعلّقه بالمعنى ، وتعلّقه باللفظ ، والأوّل صفة للسامع والأخيران صفة للفهم. فإن أراد أنّ الفهم المقيّد بالمفعولين الموصوف بالتعلّقين صفة اللفظ فهو ظاهر البطلان ، وإن أراد أنّ المجموع المركّب من الامور الثلاثة صفة له فمع بعده من اللفظ واضح الفساد أيضا ، وإن أراد أنّ أحد التعلّقين صفة للّفظ فهو باطل أيضا.

نعم ، يفهم من تعلّق الفهم بالمعنى صفة للمعنى هي كونه مفهوما ، ومن تعلّقه باللّفظ صفة له هي كونه مفهوما منه المعنى.

قلت : مقصود المجيب : أنّ الوصف الملحوظ في المقام ليس وصفا للموصوف ابتداء، بل وصف متعلّق بحال الموصوف ، فإن اخذ الفهم بمعنى الفاعل كان فهم السامع من اللفظ معناه صفة للّفظ فإنّه يثبت له فهم السامع منه المعنى. وإن اخذ

٤٠٧

بمعنى المفعول كان من صفته أنّ المعنى مفهوم منه للسامع ، وهذا هو السرّ في ما ذكر في الجواب من أنّه لا يصحّ الاشتقاق من الفهم للّفظ ، إذ مفاد الاشتقاق كونه وصفا له ، لا وصفا له بحال متعلّقه ، فاندفع عنه الإيراد المذكور.

ثمّ إنّ تقييد الفهم بكونه من العالم بالوضع من جهة توقّف الدلالة على العلم بالوضع، فهو بعد الوضع دالّ بالنسبة إلى العالم غير دالّ بالنسبة إلى الجاهل ، فهو شرط في حصول الدلالة بالنسبة إلى الأشخاص.

ومن سخيف الاعتراض في المقام : أنّ ذلك يقضي بالدور ، لأنّ العلم بالوضع موقوف على فهم المعنى ، إذ الوضع نسبة بين اللفظ والمعنى فيتوقّف العلم بها على تصوّر المنتسبين ، والمفروض توقّف الفهم على العلم بالوضع ، إذ من الواضح أنّ المتوقّف عليه هو مجرّد العلم بالمعنى وتصوّره ، لا فهمه من اللفظ والانتقال منه إليه ، والمتوقّف على العلم بالوضع هو فهمه من اللفظ ، فغاية الأمر أن يكون فهم المعنى من اللفظ متوقّفا على تصوّر ذلك المعنى أوّلا قبل فهمه من اللفظ ، وهو كذلك قطعا ، ولا يتعقّل فيه محذور أصلا.

الثاني : أنّ الدلالة تنقسم إلى عقليّة ووضعيّة ، وكلّ منهما ينقسم إلى لفظيّة وغير لفظيّة ، والكلام في المقام في الدلالة اللفظيّة الوضعيّة بناء على إدراج التضمّن والالتزام في الدلالات الوضعيّة ، كما هو مختار علماء الميزان. وإن أدرجناهما في العقليّة كان المقصود بالوضعيّة في المقام : ما هو للوضع فيها مدخليّة ، سواء كانت مستندة إلى الوضع ابتداء أو بواسطة. وقد قسّموها إلى المطابقة والتضمّن والالتزام ، وقد مرّ الكلام في تعريف كلّ منها فلا حاجة إلى إعادته.

ثمّ إنّهم قد قسّموا الدلالة والمدلول إلى المنطوق والمفهوم ، وعرّفوا المنطوق : بأنّه ما دلّ عليه اللفظ في محلّ النطق ، والمفهوم : بأنّه ما دلّ عليه اللفظ لا في محلّ النطق. وعلى ظاهر العبارة كلمة «ما» موصولة ، وهي عبارة عن المدلول ، وفي محلّ النطق متعلّق بدلّ ، والمراد به اللفظ من حيث كونه منطقا به ، أي يكون الدلالة عليه في محلّ التلفّظ به بأن لا يكون الدلالة عليه متوقّفة على ملاحظة أمر آخر

٤٠٨

غير اللفظ الموضوع ، فيفتقر الانتقال إليه إلى واسطة ، فيكون الدلالة في المنطوق في محلّ التلفّظ بخلاف المفهوم.

وقد يورد عليه بإدراج الدلالة العقليّة المستندة إلى نفس اللفظ ، كدلالته على وجود اللافظ في المنطوق.

ويمكن دفعه : بأنّ الدلالة الملحوظة في المقام هي الدلالة الوضعيّة المستندة إلى الوضع في الجملة ، فهي خارجة عن المقسم.

لكن يرد عليه خروج الدلالات الالتزاميّة عن حدّ المنطوق فتندرج في المفهوم ، فلا يشمل المنطوق دلالة الاقتضاء والتنبيه والإشارة ، وينتقض بها الحدّان جمعا ومنعا ، بل ويندرج دلالته على لازم الحكم في المفهوم مع خروجها عنه ، بل وعن المنطوق أيضا.

وقد يورد عليه أيضا خروج المعاني المجازيّة عن المنطوق وإن كان اللفظ مستعملا فيها ، إذ ليست الدلالة عليها في محلّ النطق لكون الانتقال إليها بواسطة المعاني الحقيقيّة ، بل وبعد ملاحظة القرينة كما في كثير منها فليست الدلالة عليها في محلّ النطق.

ويمكن دفع الأخير بجعل الظرف متعلّقا بمقدّر يجعل حالا عن المدلول ، فإنّ المدلول هناك في محلّ النطق لاستعمال اللفظ فيه وإن لم تكن الدلالة عليه كذلك ، ولا يجري ذلك في المداليل الالتزاميّة ، لعدم كون شيء من الدلالة والمدلول هناك في محلّ النطق.

وربّما يجعل الموصول عبارة عن الدلالة ، ويجعل الضمير راجعا إلى المدلول المستفاد منه، فيكون المعنى : أنّ المنطوق دلالة اللفظ على مدلوله في محلّ النطق ، والمفهوم دلالته عليه لا في محلّه. أو يجعل «ما» مصدريّة فيؤوّل ما بعده إلى المصدر ويكون مفاده مفاد ما ذكر ، وعلى هذين الوجهين يكون المنطوق والمفهوم من أقسام الدلالة ، ويكون حينئذ قوله : «في محلّ النطق» متعلّقا بدلّ ، أو يكون متعلّقا بمقدّر يكون حالا عن المدلول على نحو ما ذكر في الوجه المتقدّم.

٤٠٩

وكيف كان فالحدّان المذكوران بظاهرهما لا ينطبقان على المحدودين على حسب ما عرفت ، وقد يجعل الموصول عبارة عن الحكم ، ويجعل المجرور حالا عنه باعتبار ما تعلّق ذلك الحكم به ، أعني موضوعه ، فالمراد أنّه حكم دلّ عليه اللفظ حال كون ما تعلّق به في محلّ النطق ، يعني يكون مذكورا ، والمفهوم حكم دلّ عليه اللفظ حال كون متعلّقه غير مذكور. وقد يفسّر الموصول بالموضوع ويكون الضمير راجعا إليه باعتبار الحكم المتعلّق به ، ويكون المجرور حينئذ حالا عن الموصول. فمناط الفرق بين المنطوق والمفهوم على هذين الوجهين هو اعتبار ذكر الموضوع في المنطوق ، واعتبار عدمه في المفهوم من دون ملاحظة حال الحكم المدلول عليه ، وهذا هو الّذي نصّ عليه جماعة في الفرق بينهما ، فلا يناط الفرق بينهما بذكر الحكم وعدمه ، كما هو قضيّة الوجوه المتقدّمة على اختلاف ما بينها حسب ما عرفت.

واورد عليه : بأنّ بعض ما عدّ من المنطوق كدلالة الآيتين على أقلّ الحمل ليس الموضوع فيه مذكورا ، وبعض ما عدّ من المفهوم كدلالة حرمة تأفيف الوالدين على حرمة ضربهما قد ذكر فيه الموضوع.

واجيب عنه : بأنّ الموضوع في الأوّل ليس أقلّ الحمل ، بل الحمل بنفسه وهو مذكور في إحدى الآيتين ، والموضوع في الثاني هو الضرب دون الوالدين وهو غير مذكور.

قلت : ويرد على ذلك مفهوما الشرط والغاية لاتّحاد الموضوع في المنطوق والمفهوم فيهما ، وكذا مفهوم الموافقة في مثل قولك : «إن ضربك أبوك فلا تؤذه» لدلالته على المنع من أذيّته مع انتفاء الضرب ، والموضوع متّحد في المقامين.

وقد يتكلّف لدفعه : بأنّ الشرط والغاية قيدان في الموضوع ، فالموضوع في «إن جاءك زيد فأكرمه» و «صم إلى الليل» هو زيد المقيّد بالمجيء ، والصوم المقيّد بكونه إلى الليل لتعلّق الحكم بذلك ، وكذا المنهيّ عن إيذائه هو الأب الضارب ، فالموضوع الخالي عن ذلك القيد موضوع آخر وهو غير مذكور وقد تعلّق به

٤١٠

الحكم في المفهوم ، ولا يخفى ما فيه من التعسّف ، مضافا إلى ما في التفسيرين المذكورين من التكلّف من جهات شتّى ، إذ ليس المنطوق والمفهوم عبارة عن الحكم وإن صدق عليه ، وإنّما هما من قبيل المدلول أو الدلالة. وكذا الحال في حمل الموضوع عليهما في التفسير الثاني ، وكذا جعل المجرور حالا عن الموضوع في الأوّل مع عدم ذكره وانتفاء القرينة عليه ، والتزام الاستخدام في الضمير في الثاني مع عدم قرينة ظاهرة عليه.

فالأولى أن يقال : إنّ دلالة المفهوم هو دلالة الكلام على ثبوت الحكم المذكور فيه لموضوع غير مذكور ، أو نفيه عنه أو ثبوته على تقدير غير مذكور ، أو نفيه كذلك ودلالة المنطوق ما كان بخلاف ذلك ، والمدلول في الوجهين هو المفهوم أو المنطوق إن جعلناهما من أقسام المدلول كما هو الظاهر ، وإن جعلناهما من أقسام الدلالة فالحدّان المذكوران ينطبقان عليهما ، فدلالة قولنا : «الطهارة شرط في صحّة الصلاة أو تشترط الصلاة بالطهارة على انتفاء الصلاة بانتفاء الطهارة» مندرجة في دلالة المنطوق ، بخلاف قولنا : «يصحّ الصلاة بشرط حصول الطهارة أو الصلاة واجبة بشرط البلوغ» فإنّ دلالتها على انتفاء الصحّة بانتفاء الطهارة وانتفاء الوجوب بانتفاء البلوغ من دلالة المفهوم ، والأمر فيه ظاهر ممّا قرّرنا ، فليس العبرة في الفرق بمجرّد كون الموضوع في محلّ النطق وعدمه ، ولا كون المدلول في محلّ النطق وعدمه ، ولا كون الدلالة كذلك لما عرفت ، وإنّما المناط هو ما ذكرناه.

ويرد عليه : أنّ ذلك أيضا منقوض بكثير من اللوازم مع عدم اندراجها في المفهوم ، كدلالة وجوب الشيء على وجوب مقدّمته إن عدّ ذلك من الدلالات اللفظيّة ، كما هو قضيّة جعلهم دلالة الآيتين من دلالة اللفظ ، وكذا دلالة وجود الملزوم على وجود لازمه كدلالة الحكم بطلوع الشمس على وجود النهار.

والحاصل : أنّ جميع الأحكام اللازمة للحكم المدلول عليه بالمنطوق ممّا يكون الموضوع فيها مغايرا للموضوع في المنطوق يندرج على ذلك في المفهوم ، حتّى دلالة الحكم على لازمه إن اندرج ذلك في دلالة الالتزام أو مطلقا ، وهم لا يقولون ، ويرد ذلك أيضا على الحدّ المتقدّم أيضا.

٤١١

الثالث : أنّهم قد قسّموا المنطوق إلى صريح وغير صريح ، قالوا : والأوّل هو دلالة المطابقة والتضمّن ، والثاني من دلالة الالتزام. وقد يناقش في إدراج دلالة التضمّن في الصريح، نظرا إلى أنّ الجزء قد لا يكون ملحوظا حال الدلالة على الكلّ ، ولا مفهوما من اللفظ ، فكيف يندرج في الصريح؟ نعم ، لو لوحظ كون شيء جزءا لشيء عند دلالة اللفظ على الكلّ فقد دلّ حينئذ على الجزء ، ونحو هذه الدلالة لا يندرج في الدلالات اللفظيّة فضلا عن أن يكون منطوقا صريحا.

قلت : لابدّ في المقام من بيان المدلول التضمّني ، وأنّ عدّهم التضمّن من أقسام الدلالة ما يراد به؟ فإنّ الإشكال المذكور قاض بخروج الدلالة التضمّنية عن حدّ الدلالة لاعتبار كلّية الاستفادة فيه ، حيث قالوا : إنّها كون الشيء بحيث متى اطلق واحسّ فهم الشيء الثاني ، ولذا اعتبروا في دلالة الالتزام كون اللزوم الحاصل بيّنا بالمعنى الأخصّ.

وحينئذ فنقول في بيان ذلك : إنّ اللفظ إمّا أن يكون موضوعا للمفهوم المركّب الملحوظ على وجه التفصيل ، كما إذا وضع لفظ «الإنسان» بإزاء الحيوان الناطق. وإمّا أن يكون موضوعا لمعنى وحدانيّ ينحلّ في الخارج أو في الذهن إلى أمرين أو امور ، وحينئذ فذلك الكلّ قد يكون ملحوظا بالكنه حال الوضع ، وقد يكون ملحوظا بوجه مّا بأن يجعل ذلك الوجه مرآة لملاحظة ذلك المعنى وآلة لإحضاره حتّى يضع اللفظ بإزائه.

وعلى التقديرين فإمّا أن يكون السامع عالما بحقيقة ذلك المعنى مستحضرا له حين سماع اللفظ ، أو لا بل يكون متصوّرا له بالوجه ، والدلالة التضمّنية في كلّ من الصور المذكورة تابعة للمطابقة ، فالحال في الصورة الاولى ظاهرة ، إذ من البيّن عدم انفكاك تصوّر الكلّ التفصيلي الّذي فرض معنى مطابقيا للّفظ عن تصوّر أجزائه كذلك.

وأمّا في باقي الصور فإن كان اللفظ دالّا على الكلّ على وجه التفصيل بأن كان السامع مستحضرا لحقيقة الموضوع له فالدالّ على ذلك المعنى بالوجه

٤١٢

المذكور دالّ على أجزائه كذلك ، من غير فرق بين ما إذا كان الواضع مستحضرا للتفصيل حين الوضع أو متصوّرا له بالوجه. وإن كان السامع متصوّرا لذلك الكلّ بالوجه كان التصوّر المفروض عين تصوّر أجزائه بالوجه ، حيث إنّ ذلك الوجه الّذي يتصوّر به الكلّ وجه من وجوه أجزائه فيكون ذلك تصوّرا لها بالوجه المذكور وإن لم يشعر بتصوّره بخصوص تلك الأجزاء.

والحاصل : أنّه إذا دلّ اللفظ على الكلّ وانتقل السامع إليه عند سماع اللفظ فقد انتقل إلى أجزائه على حسب انتقاله إلى الكلّ ، فإن كان قد تصوّر الكلّ على وجه التفصيل فقد تصوّر أجزاءه كذلك ، وإلّا كان متصوّرا لها على وجه الإجمال كتصوّره للكلّ ، فيكون دلالته على الأجزاء على نحو دلالته على الكلّ.

وممّا يوضّح حصول الدلالة التضمّنية كلّما كان معنى اللفظ مركّبا : أنّ دلالة اللفظ على المعنى عبارة عن حضور المعنى في الذهن عند حضور اللفظ ، ومن البيّن : أنّ ذلك هو وجود المعنى المفروض في الذهن ، وأنّ وجود المركّب في أيّ ظرف كان لا ينفكّ عن وجود أجزائه في ذلك الظرف ، فكيف يعقل الانفكاك بينهما في المدلوليّة؟

بل نقول : إنّ دلالته على الأجزاء عين دلالته على الكلّ ، فهي مدلول عليها بمدلوليّة الكلّ ، فالدلالة المطابقيّة عين التضمّنية بحسب الواقع ، إلّا أنّها تفارقها بحسب الاعتبار والنسبة ، فهناك دلالة واحدة إن نسبت إلى الكلّ كانت مطابقة ، وإن نسبت إلى الأجزاء كانت تضمّنا.

فإن قلت : إنّ وجود الكلّ يتوقّف على وجود أجزائه وقضيّة التوقّف المغايرة فيكون دلالة اللفظ على الكلّ متوقّفا على دلالته على الأجزاء ، فكيف يصحّ القول باتّحاد الدلالتين ذاتا وتغايرهما اعتبارا؟

قلت : إنّه لا منافاة بين الأمرين ، فإنّ حصول الكلّ في الذهن عند حضور اللفظ الدالّ عليه وإن كان حصولا واحدا متعلّقا بالكلّ إلّا أنّه لا شكّ في كون الأجزاء حاصلة بحصول الكلّ حسب ما قرّرنا. ومن البيّن أنّ حصولها في ضمن

٤١٣

الكلّ كاف في اعتبار وجودها في الذهن والحكم عليها بالمدلوليّة بملاحظة نفسها ، فهي بهذا الاعتبار مقدّمة على وجود الكلّ ، فمدلوليّة الكلّ متأخّرة رتبة عن مدلوليّة الجزء ، نظرا إلى الاعتبار المذكور وإن كان مدلوليّة الكلّ متأصّلة في المدلوليّة ومدلوليّة الجزء تابعة لها حاصلة بمدلوليّة الكلّ فإنّ الكلّ من الوجهين اعتبارا غير الاعتبار الملحوظ في الآخر ، فتأمّل. هذا.

وهل تندرج المجازات في المنطوق الصريح أو الغير الصريح؟ وجهان :

من أنّ الدلالة الحاصلة فيها إنّما هو بطريق الالتزام ، حسب ما نصّ عليه علماء البيان، فيندرج في غير الصريح.

ومن أنّ استعمال اللفظ في خصوص المعنى المجازي ، وإرادته منه على نحو الحقيقة ، وقد تحقّق الوضع النوعي بالنسبة إليه ، فيندرج لذلك في المطابقة والالتزام الّذي يجعل من المنطوق الغير الصريح هو ما يستفاد من اللفظ على سبيل الالتزام من غير أن يستعمل اللفظ فيه ، كما هو الحال في الأمثلة المتقدّمة.

وربّما يفصّل بين ما تكون القرينة في المجازات لفظيّة كما في «رأيت أسدا يرمي» ، وما تكون عقليّة ونحوها كما في (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) ونحوه ، فيندرج الأوّل في المنطوق الصريح ، والثاني في غير الصريح ، ولذا عدّ من دلالة الاقتضاء.

وهو غير متّجه ، لما ستعرف من أنّ دلالة القرينة في المقامين التزاميّة معدودة من الاقتضاء ، وهي إنّما تحصل من اللفظ بتوسّط العقل أو العادة فيهما ، فإنّ إسناد «يرمي» إلى «الأسد» يفيد إرادة الرجل الشجاع منه بضميمة العقل أو العادة ، كما أنّ إسناد السؤال إلى القرية يفيد إرادة الأهل منه كذلك ، وأنّ استعمال الأسد والقرية في المعنيين المذكورين على سبيل التوسّع والمجاز فيهما من غير فرق أيضا ، فإنّ الحقّ الدلالة الحاصلة فيه من جهة انضمام القرينة بالمنطوق الصريح ، نظرا إلى استعمال اللفظ فيه ، فليكن كذلك في المقامين ، وإلّا فلا فيهما.

والأظهر عدّ المجاز من المنطوق الصريح ، إذ لا بعد في اندراجه في المطابقة ، نظرا إلى ما ذكر من استعمال اللفظ فيه ، وحصول الوضع الترخيصي بالنسبة إليه ،

٤١٤

غير أنّ الوضع الحاصل فيه لا يفيد دلالته على معناه المجازي ، وإنّما ثمرته جواز استعمال اللفظ فيه ليخرج به عن حدّ الغلط ، وإنّما تحصل دلالته عليه بواسطة القرينة ، فتكون القرينة مفيدة لدلالته على المعنى المجازي. كما أنّ الوضع مفيد لدلالة اللفظ على المعنى الحقيقي ، ولمّا كان الملحوظ في أنظار أهل البيان حال الدلالة واختلافها في الوضوح والخفاء عدّوا دلالة المجاز من الالتزام ، إذ ليست دلالته بسبب الوضع ، والمناسب لأنظار أهل الاصول إدراجه في المطابقة ، لبعد إدراجه عندهم في المنطوق الغير الصريح مع استعمال اللفظ فيه وصراحته في الدلالة عليه ، بل قد يكون أصرح من دلالة الحقيقة ، فلا بعد إذا في إدراجه في المطابقة ، نظرا إلى حصول الوضع الترخيصي فيه ، لصدق كون اللفظ دالّا بعد تعلّق الوضع المذكور به على تمام ما وضع له ، فيعمّ الوضع المأخوذ في حدّ المطابقة لما يشمل ذلك ويندرج المجاز في المنطوق الصريح.

هذا بالنسبة إلى المجاز نفسه ، وأمّا القرينة الدالّة على كون المراد باللفظ هو معناه المجازي ففي الأغلب إنّما تكون بطريق الالتزام ، كما أشرنا إليه ، ويندرج في دلالة الاقتضاء ، وسيجيء الكلام فيه إن شاء الله.

ثمّ إنّ جماعة قسّموا الدلالة في المنطوق الغير الصريح إلى : دلالة الاقتضاء ، ودلالة التنبيه والإيماء ، ودلالة الإشارة ، وذلك لأنّه إمّا أن تكون الدلالة مقصودة للمتكلّم بحسب مفاهيم العرف ، أو لا.

وعلى الأوّل فإمّا أن يتوقّف عليه صدق الكلام أو صحّته عقلا أو شرعا ، وهو دلالة الاقتضاء ، كما في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «رفع عن أمّتي الخطأ» (١) فإنّ صدق الكلام يتوقّف على تقدير المؤاخذة ونحوها ، وقوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)(٢) فإنّ صحّة ذلك عقلا يتوقّف على تقدير الأهل ، وقولك : «أعتق عبدك عنّي على ألف» أي مملّكا على ألف لتوقّف صحّة العتق عليه شرعا. أو لا يتوقّف على ذلك ، بل يكون مقترنا بشيء لو لم يكن ذلك الشيء علّة له لبعد الاقتران ، كما في قوله عليه‌السلام : «كفر»

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٨٨ ص ٢٦٥.

(٢) يوسف : ٨٢.

٤١٥

بعد قول الأعرابي : «واقعت أهلي في نهار رمضان» فإنّه يفيد أنّ الوقاع في نهار رمضان موجب للكفّارة ، وهذا هو دلالة التنبيه والإيماء.

والثاني وهو ما لا تكون الدلالة مقصودة في ظاهر الحال دلالة الإشارة ، كدلالة الآيتين على أقلّ الحمل ، فلو كانت مقصودة بحسب المتفاهم كما لو فرض ورودهما في مقام بيان أقلّ الحمل لم تكن من دلالة الإشارة.

وأنت خبير بأنّ ما ذكروه غير حاصر لوجوه دلالة الالتزام ممّا لا يندرج في المفهوم.

والأولى في التقسيم أن يقال : إنّ الدلالة الالتزاميّة ممّا لا يعدّ من المفهوم إمّا أن تكون مقصودة للمتكلّم بحسب العرف ولو بملاحظة خصوص المقام ، أو لا. وعلى الأوّل فإمّا أن يتوقّف صدق الكلام أو صحّته عقلا أو شرعا أو عادة أو لغة عليه ، أو لا.

فالأوّل هو دلالة الاقتضاء ، كما في الأمثلة المتقدّمة.

وقوله : «نحن بما عندنا وأنت بما عندك راض» فإنّ صحّته لغة يتوقّف على تقدير راضون ، وقولك : «رأيت أسدا في الحمّام» فإنّه يتوقّف صدق كون الأسد في الحمّام بحسب العادة على إرادة الرجل الشجاع منه. ويمكن أن يجعل تعلّق السؤال بالقرية قرينة على استعمالها في أهلها من غير أن يكون هناك إضمار ، فلا فرق في ذلك بين إضمار اللفظ وحمله على خلاف ما وضع له.

والظاهر أنّ معظم القرائن العقليّة واللفظيّة القائمة على إرادة المعاني المجازيّة من قبيل دلالة الاقتضاء ، كما في قوله تعالى : (... يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)(١) وقولك : «رأيت أسدا يرمي» و «جرى النهر» وغيرها ، وإن كان دلالة نفس المجاز على معناه المجازي من قبيل المطابقة بحسب ما عرفت ، ويجري نحو ذلك في حمل المشترك على أحد معانيه.

__________________

(١) الفتح : ١٠.

٤١٦

والحاصل : أنّ المناط في كون الدلالة اقتضاء هو ما ذكرناه ، من غير فرق بين كون مدلوله لفظا مضمرا أو معنى مرادا ، حقيقيّا كان أو مجازيّا.

والثاني دلالة التنبيه والإيماء ، وذلك إنّما يكون بدلالة الكلام ولو بانضمام ما يقترن به من القرينة اللفظيّة أو الحاليّة ما يقطع معه بإرادة ذلك اللازم أو يستبعد خلافه من غير أن يتوقّف صدق أصل الكلام ولا صحّته على ذلك.

فمن ذلك : ما إذا اريد من بيان الملزوم إفادة وجود لازمه ، كما إذا قيل : «طلع الشمس» عند بيان وجود النهار.

ومن ذلك ما إذا كان مقصودة من الحكم بيان لازمه ، كما إذا قيل : «مات زيد» واريد بيان علمه بموته.

ومن ذلك : ما إذا اقترن الكلام بشيء يفيد كونه علّة للحكم ، كما مرّ من المثال ، وكقوله بعد السؤال عن جواز بيع الرطب بالتمر : «أينقص إذا جفّ» قال : نعم ، قال : لا يجوز ، لدلالته على أنّ العلّة في المنع هو النقصان بالجفاف.

ومنه إذا قيل : جاء زيد فقلت : ظهر الفساد في البلد ، لدلالته على أنّ مجيء زيد سبب للفساد. ومنه : ما إذا علّق الحكم على الوصف لدلالته ولو بضميمة المقام على كون الوصف سببا لترتّب الحكم ، ويجري ذلك في استفادة غير السببيّة من سائر الأحكام ، كالجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة ، كما يظهر ذلك بملاحظة الأمثلة ، إلى غير ذلك من الامور الّتي يراد إفادتها من الكلام ولو بضميمة المقام ، كإفادة العداوة بين الشخصين ، أو المودّة بينهما ، كما إذا قيل : إن مات زيد فرح عمرو أو حزن بكر ، أو قيل عند حضور موت زيد : اليوم يفرح عمرو أو يحزن خالد.

وقد يفيد الاقتران غير الحكم من تعيين بعض المتعلّقات ، كما إذا قلت : «رأيت زيدا» أو «أكرمت» فإنّ ظاهر المقارنة يفيد كون المكرم زيدا من غير أن يتوقّف صدق الكلام أو صحّته عليه ، والظاهر إدراج الكناية في القسم المذكور إن كان المعنى الحقيقي مقصودا بالإفادة أيضا ، لاندراجها إذا في الحقيقة الاصوليّة لاستعمال اللفظ حينئذ في معناه الموضوع له. وإن اريد بعد ذلك الانتقال منه إلى

٤١٧

لوازمه كسائر اللوازم المقصودة بالإفادة ـ حسب ما أشرنا إليه ـ فإنّ إرادتها لا تنافي استعمال اللفظ في معناه الحقيقي أصلا. وأمّا إن كان المقصود بالإفادة هو المعنى الالتزامي من غير أن يكون المعنى الحقيقي مرادا وإنّما يراد من أجل الإيصال إلى لازمه لا غير فالظاهر إدراجها حينئذ في المجاز الاصولي ، وحكمها حينئذ حكم سائر المجازات.

والثالث دلالة الإشارة ، ويندرج فيها سائر اللوازم المستفادة من الكلام ممّا لا يكون إفهامه مقصودا من العبارة بمقتضى المقام ، سواء استنبطت من كلام واحد أو أكثر ، كما في الآيتين المذكورتين ، وكذا الحال في الآيتين الدالّة إحداهما على ثبوت العصيان بمخالفة الأمر ، والاخرى على استحقاق النار بعصيانه تعالى وعصيان الرسول فيستفاد منهما كون أوامر الشرع للوجوب ، ومن ذلك دلالة وجوب الشيء على وجوب مقدّمته. ومنه أيضا دلالة الحكم على لازمه إن لم يقترن به ما يفيد كون ذلك مقصودا للمتكلّم ، وإلّا كان من دلالة التنبيه حسب ما أشرنا إليه.

فإن قلت : إذا كانت الدلالة على حصول اللازم مقصودا بالإفادة من الكلام في دلالة الاقتضاء والتنبيه والإيماء لزم أن يكون اللفظ مستعملا فيه ، إذ ليس المراد بالاستعمال إلّا إطلاق اللفظ وإرادة المعنى ، فيلزم حينئذ أن يكون ذلك من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه ، مع أنّه ليس الحال كذلك قطعا ، ومع الغضّ عن ذلك فاللازم إدراج ذلك في الكناية ، حيث إنّه يراد من اللفظ لازمه مع إمكان إرادة الملزوم مع عدم اندراجها في الكناية.

قلت : أمّا الجواب عن الأوّل فظاهر ممّا قرّرناه في أوائل الكتاب ، إذ قد بيّنّا أنّ استعمال اللفظ في غير ما وضع له إنّما يكون بكونه المقصودة بالإفادة من العبارة من غير أن يكون الموضوع له مقصودا بالإفادة أصلا ، وإن جعل فهم المعنى الحقيقي واسطة في الوصلة إليه. وأمّا إذا كان المعنى الحقيقي مقصودا بالإفادة فإن اللفظ مستعمل فيه. وإن اريد من ذلك الانتقال إلى لازمه أيضا فإنّ ذلك لا يقضي

٤١٨

بكون ذلك اللازم مستعملا فيه أصلا ، كما مرّ. والحال في المقام من هذا القبيل ، لوضوح إرادة المعاني الحقيقيّة في المقام وتعلّق الحكم بها وإن كان المقصود من الحكم بها وإثباتها إفادة لوازمها وما يتفرّع عليها.

وأمّا عن الثاني فبأنّ اللازم المفهوم عن الكلام قد يكون لازما لمدلول اللفظ ، وقد يكون لازما للحكم به ، وقد يكون من لوازم الاقتران بين الشيئين ، ونحو ذلك. وليس المعدود من الكناية إلّا الصورة الاولى خاصّة ، كما يدلّ عليه حدّها ، فأقصى ما يلزم من ذلك أن يكون إرادة اللازم على الوجه الأوّل كناية ، وهو كذلك ، وهو إنّما يكون من بعض صور دلالة الإيماء حسب ما أشرنا إليه.

هذا ملخّص الكلام في تقسيم المنطوق.

وأمّا المفهوم : فإمّا أن يكون موافقا للمنطوق في الإيجاب والسلب ، أو مخالفا له في ذلك. والأوّل مفهوم الموافقة ، ويسمّى «فحوى الخطاب» و «لحن الخطاب».

والمحكيّ عن البعض : أنّه إن كان ثبوت الحكم في المفهوم أولى من ثبوته في المنطوق سمّي بالأوّل ، وإن كان مساويا لثبوته له سمّي بالثاني. ولا فرق بين أن يكون هناك تعليق على الشرط أو الصفة ، أو لا ، كما في دلالة حرمة التأفيف على حرمة الضرب ، ودلالة قولك : «إن ضربك أبوك فلا تؤذه» على حرمة الأذيّة مع عدم الضرب ، وقولك : «لا تؤذ الفاسق» الدالّ على منع أذيّة العادل ، والثاني مفهوم المخالفة ويسمّى دليل الخطاب.

وينقسم إلى : مفهوم الشرط ، ومفهوم الوصف ، ومفهوم الغاية ، ومفهوم الحصر ، ومفهوم العدد ، ومفهوم اللقب ، إلى غير ذلك ممّا سنشير إلى جملة منها إن شاء الله. فحصر المفهوم في مفهوم الموافقة والمخالفة عقلي. وأمّا حصر مفهوم المخالفة في أقسامها فاستقرائي. هذا.

واعلم أنّه لا إشكال في حجّية ما يستفاد من الألفاظ بحيث تكون مفهومة منها بحسب العرف حين الإطلاق ، لبناء الأمر في المخاطبات العرفيّة على ذلك ، وورود المخاطبات الشرعيّة على طبق اللغة والعرف حسب ما دلّ عليه الآية

٤١٩

الشريفة وقضى به تتبّع خطابات الشرع ، وإطباق العلماء خلفا عن سلف عليه.

وقد وقع الخلاف في حجّية جملة من المفاهيم ، ومرجع البحث فيها إلى البحث في كونها مفهومة من اللفظ ، إذ لا مجال للتأمّل فيها بعد فرض مفهوميّتها ودلالة اللفظ عليها للاتّفاق على حجّية مداليل الألفاظ كما عرفت. فالخلاف في المقام إنّما هو في انفهام تلك المفاهيم من الألفاظ ودلالتها عليها ، وعدمه ، وقد ذكر المصنّف في المقام عدّة من أقسام مفهوم المخالفة ، ونحن نتبعها بذكر غيرها إن شاء الله.

وأمّا مفهوم الموافقة فسيجيء الإشارة إليه في كلام المصنّف رحمه‌الله في بحث القياس ، والظاهر أنّه لا خلاف في حجّيته والاعتماد عليه ، لكن المحكيّ عن البعض كونه قياسا ، وأنّ الوجه في حجّيته حجّية قياس الأولويّة ، وذلك يؤذن بمنع القائل المذكور انفهامه من اللفظ ، وعدم إدراجه في مداليل الألفاظ ، إذ لو قال بدلالة اللفظ عليه لما أدرجه في القياس واستند في التمسّك به إلى ذلك.

ومنه ينقدح الخلاف في كونه مفهوما من اللفظ على نحو ما وقع الخلاف في غيره من المفاهيم ، وقد ينزّل كلام القائل المذكور على تسليمه دلالة اللفظ عليه بحسب متفاهم العرف، لكنّه يجعل الوجه في انفهامه منه عرفا ملاحظة قياس الأولويّة ، وتلك الملاحظة هي الباعثة عنده على الفهم المذكور.

وكيف كان فالحقّ أنّه لا ربط لها بقياس الأولويّة وليست حجيتها من جهة حجّيته ، بل لا إشكال في حجّيتها ولو قلنا بعدم حجّية قياس الأولويّة لاندراجها في المفاهيم اللفظيّة، فإن سلّم القائل المذكور كونه مدلولا لفظيّا لكنّه جعل الوجه في مدلوليّته عرفا ملاحظة الأولويّة المذكورة حسب ما ذكر فلا ثمرة في البحث ، وإن قال بانتفاء الدلالة العرفيّة وجعله مدلولا عقليّا بملاحظة قياس الأولويّة فهو موهون جدّا ، لما سيجيء بيانه ـ إن شاء الله ـ من عدم حجّية قياس الأولويّة ممّا يكون خارجا عن المداليل اللفظيّة.

قوله : (يدلّ على انتفائه عند انتفاء الشرط).

٤٢٠