هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٨٣

ثمّ ذكر : أنّ القول بأنّ المقدّمة في المقام هو الفعل المشروع دون غيره إذ الإتيان بالمأمور به على وجه لا يقع المكلّف في الحرام متوقّف على الإتيان بالوجه المشروع إن تمّ ، فإنّما يدفع الإيراد من الأوّلين ، أعني عدم وجوب المقدّمة ووجوب غير المقدّمة. وأمّا سقوط الواجب بغير الواجب فهو باق على حاله ، قال : على أنّ هذا اصطلاح آخر في المقدّمة غير ما هو المشهور ، فإنّ الشرط الشرعي ما يشترط في صحّة الفعل واعتباره ، لا ما يكون تجنّب القبيح في الإتيان بالمأمور به متوقّفا عليه ، فإنّ ذلك مقدّمة ترك القبيح ، لا مقدّمة فعل المأمور به.

قلت : ولا يذهب عليك وهن جميع ما قرّره في المقام. وما ذكره من الوجه في كونها على حدّ غيرها من الواجبات عين الوجه الّذي احتملناه في تنزيل كلام المصنّف رحمه‌الله ، وهو وجه متين في نفسه وإن لم يكن مخصوصا بالمقدّمة عند التأمّل حسب ما قرّرناه ، إلّا أنّه لا يساعده عبارة المصنّف حسبما مرّ الكلام فيه ، وما أورد عليه من الوجوه الثلاثة بيّن الاندفاع.

وتوضيحه : أنّ المقدّمة في المقام هو القدر المشترك بين الجائز والحرام ، إذ هو الّذي يتوقّف عليه الفعل ، ولابدّ منه في حصوله ، لكنّ الشارع إذا أوجب ذلك الكلّي فإنّما يوجب الإتيان به على الوجه السائغ من دون غيره ، فيقيّد الأمر به بذلك. ألا ترى أنّ حفظ النفس المحترمة إذا توقّف على دفع القوت إليها حصل ذلك ببذل كلّ من المحرّم والمحلّل لها؟ لكنّ الشارع إذا أوجب ذلك لتوقّف الواجب عليه فإنّما يوجبه على الوجه السائغ دون الحرام. وكذا قطع المسافة للحجّ ، فإنّ القدر المتوقّف عليه هو الأعمّ من الوجهين ، ولكن إذا أوجب الشارع ما يتوقّف عليه الوصول إلى محالّ المناسك فلا يوجب إلّا إيجاده على النحو الجائز ، وليس ذلك حينئذ إلّا إيجابا للمقدّمة المفروضة ، لا إيجابا لغير المقدّمة كما زعمه ؛ لوضوح أنّ المطلوب في المقام هو تحصيل ما يوصل إلى المطلوب ، إلّا أنّ القابل للمطلوبيّة عند الآمر هو ذلك.

نعم ، لو أوجب نحوا خاصّا منه ، كما إذا أوجب الركوب أو المشي في المثال

٢٦١

المفروض لم يكن إيجاب تلك الخصوصيّة من إيجاب المقدّمة ، بخلاف الصورة الاولى ، إذ ليس المقصود هناك إلّا إيجاد ما يتوقّف الواجب عليه ، غير أنّ مطلوبيّة ذلك إنّما يكون على الوجه السائغ. فالفرق بين المقامين : أنّ المطلوب في الأوّل هو إيجاد ما يتوقّف الواجب عليه، أعني القدر المشترك ، لكن وقع الإيجاب على النحو الخاصّ حيث إنّه القابل لذلك ؛ نظرا إلى وجود المانع من وجوب غيره.

وأمّا في الثاني فليس المطلوب هناك إلّا خصوص ذلك النحو الخاصّ ، والمفروض عدم توقّف الواجب عليه ، فلا يكون ذلك من إيجاب المقدّمة ، ولذا لا يتأمّل أحد في إدراج القسم الأوّل في إيجاب المقدّمة ، بل ليس إيجاب المقدّمات في الشرع ـ بل العرف ـ إلّا على النحو المذكور ، أليس من يقول بوجوب مقدّمة الواجب قائلا بوجوب الإتيان بها على النحو الجائز عقلا وشرعا ، ولا يقول بوجوب جميع أفرادها المحلّلة والمحرّمة؟! وليس إيجابها على الوجه المذكور إيجابا لغير المقدّمة قطعا ؛ لوضوح أنّ الخصوصيّة غير ملحوظة بنفسها في وجوبها ، وإنّما اخذت في المقام من جهة حصول المانع في غيره ، فإيجاب الطبيعة الكلّية إنّما يقضي بوجوب كلّ من أفرادها ؛ نظرا إلى إيجاد الطبيعة بها إذا لم يكن في خصوصيّة الفرد مانع عن الوجوب ، وإلّا أفاد ذلك تقييد الوجوب بغيره مع صدق وجوب الطبيعة المطلقة أيضا ، وهذا بخلاف ما إذا تعلّق الوجوب أوّلا بالمقيّد ، فعدم فرقه في المقامين بين الصورتين المذكورتين هو الّذي أدخل عليه الشبهة المذكورة.

وأمّا ما ذكره من لزوم سقوط الواجب بفعل غيره ففيه : أنّ ذلك ممّا لا مانع منه ، وهو كثير في الشريعة ؛ كما عرفت من ملاحظة الأمثلة المتقدّمة.

نعم ، لو قيل بلزوم أداء الواجب بفعل غيره كان ذلك مفسدة ، وفرق ظاهر بين الأمرين حسب ما عرفت الحال فيه ممّا قرّرناه.

وأمّا ما ذكره في التوجيه من أنّ المقدّمة هنا خصوص الفعل المشروع فهو ضعيف أيضا ، إذ المقدّمة وما يتوقّف عليه الفعل هو الأعمّ قطعا ، غاية الأمر أن

٢٦٢

يكون السائغ منها هو ذلك ، ولا يعتبر ذلك في مفهوم المقدّمة قطعا ، فكون المقدّمة هو الأعمّ ممّا لا ريب فيه ، إلّا أنّ وجوبها إنّما يكون على الوجه الخاصّ من جهة الملاحظة الخارجيّة ، ولا ربط لذلك بتخصيص المقدّمة بالسائغ ، وبذلك يتّضح اندفاع الإيرادين الأوّلين.

وما ذكره من إدراج ذلك في المقدّمة الشرعيّة مبنيّ على أخذ القيد المذكور في نفس المقدّمة ، لا في وجوبها حسب ما قرّرناه ، وهو وجه ضعيف ، إذ لا توقّف لوجود الفعل ، ولا لصحّته شرعا عليه حسبما أشار إليه ، وتفسير المقدّمة الشرعيّة بذلك ممّا لم نجده في كلام أحد من القوم ، فلا وجه لتفسيرها به أصلا.

قوله : (فلا يجوز تعلّق الكراهة ... الخ).

وكذا الحال في تعلّق الإرادة بالواجب الموسّع ، فإنّه إذا كان ضدّه واجبا توقّف حصوله أيضا على إرادته وكراهة ضدّه.

وإن شئت قلت : عدم إرادة ضدّه فيكون إرادة الضدّ محرّمة أيضا ، فقد فرض أوّلا وجوبها ، فيلزم اجتماع الحكمين في الإرادة أيضا.

قوله : (لكن قد عرفت ... الخ).

بيان لدفع الشبهة المذكورة بالوجه الّذي ذكره في العلاوة.

ويرد عليه : أنّه لو سلّم جواز اجتماع الوجوب التوصّلي مع التحريم فهو إنّما يفيد في المقام مع عدم انحصار المقدّمة في الحرام ، أو عدم مقارنتها لفعل الواجب ، وأمّا مع انحصارها حينئذ في المحرّم ومقارنتها لأداء الواجب فلا وجه حينئذ لوجوب ذي المقدّمة ، لوضوح امتناع خروج المكلّف حينئذ عن عهدة التكليف ، فيكون تكليفه بالأمرين المذكورين من قبيل التكليف بالمحال.

ومن البيّن أنّه كما يستحيل التكليف بالمحال بالنسبة إلى تكليف واحد فكذا بالنظر إلى تكليفين أو أزيد ، كما مرّت الإشارة إليه ، وحينئذ فلا بدّ من القول بسقوط الواجب المفروض أو عدم تحريم كراهة ضدّه القاضي بعدم وجوب الإتيان بذلك الضدّ.

٢٦٣

لكنّ الثاني فاسد قطعا ، لظهور تعيّن الإتيان بالواجب المضيّق ، فلا يكون الموسّع مطلوبا ، وذلك كاف في الحكم بفساده ، إلّا أن يقال : إنّ توسعة الوجوب يدفع التكليف بالمحال ، فإنّ الالتزام بذلك إنّما يجيء عن سوء اختيار المكلّف ، إذ له أداء الموسّع في غير ما يزاحم المضيّق.

وقد عرفت ما فيه ، إذ الظاهر عدم الفرق في المنع من التكليف بالمحال بين ما لا يكون للمكلّف مندوحة عنه وما يكون له المندوحة ، حسب ما مرّت الإشارة إليه ، فلا يتمّ ما حاوله من القول بصحّته من جهة حصول التوصّل بالمقدّمة المفروضة وإن كانت محرّمة ، لوضوح عدم وجوب المقدّمة المفروضة ، ولا ما يتوقّف عليها حتّى يسقط وجوبها بحصول الغرض منها من فعل الحرام ، وحينئذ فالتحقيق في الجواب عن ذلك ما سيجيء الإشارة إليه ـ إن شاء الله تعالى ـ دون ما ذكره.

وأمّا ما يقال في الجواب عنه من منع كون ترك الضدّ مقدّمة لفعل ضدّه ومنع كون الصارف عن الضدّ مقدّمة فقد عرفت ما فيه.

وكذا ما قد يقال من اختلاف الجهتين في المقدّمة المفروضة ، فيجب من إحداهما ، ويحرم من الاخرى ، كما هو ظاهر في المثال المذكور ، فإنّ الوجوب إنّما يتعلّق بقطع المسافة على إطلاقه من حيث كونه موصلا إلى الواجب والحرمة متعلّقة بالخصوصيّة ، لما قد عرفت من ابتناء ذلك على جواز اجتماع الأمر والنهي من جهتين ، وفساده مقطوع به عند المصنّف وغيره من الأصحاب ، عدا ما تجدّد القول به من جماعة من المتأخّرين ، كما سيجيء الكلام فيه إن شاء الله.

قوله : (ومن هنا يتّجه أن يقال ... الخ).

أراد بذلك بيان التفكيك بين القول بوجوب المقدّمة والقول باقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه ، وقد يتخيّل لذلك وجوه :

أحدها : ما مرّت الإشارة إليه من منع كون ترك الضدّ من مقدّمات فعل ضدّه ، كما اختاره الفاضل المحشّي ، فلا يكون القول بوجوب المقدّمة مستلزما لدلالة الأمر بالشيء على النهي عن ضدّه ، وقد عرفت ضعفه ممّا بيّناه.

٢٦٤

ثانيها : ما أشار إليه المصنّف بما قرّره في المقام ، وتقريره على مقتضى ظاهر كلامه : أنّه لمّا كان وجوب المقدّمة لأجل التوصّل إلى ذيها ومن حيث إيصالها إليه من غير أن تكون واجبة لنفسها وفي حدّ ذاتها لم يصحّ القول بوجوبها إلّا في حال إمكان التوصّل بها إليه ، ليعقل معه اعتبار الجهة المذكورة.

وحينئذ فنقول : إنّه لا ريب أنّه مع وجود الصارف عن المأمور به وعدم الداعي إليه لا يمكن التوصّل بالمقدّمة المفروضة إلى أداء الواجب ، فلا وجه حينئذ للقول بوجوب مقدّمته ، فلا يكون حينئذ ترك الضدّ واجبا.

فإن اريد من الكبرى المذكورة في الاستدلال من : أنّ ما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب ، وجوب المقدّمة مطلقا ولو مع عدم إمكان التوصّل بها إلى الواجب فهي ممنوعة ، والسند ظاهر ممّا قرّر.

وإن اريد بها وجوبها مع إمكان إيصالها ومن حيث كونها موصلة إلى ذيها فمسلّم ، ولا ينتج إلّا وجوب ترك الضدّ مع إمكان التوصّل به إلى الواجب ، لا وجوبه مطلقا ، وقد عرفت أنّه مع وجود الصارف وعدم الداعي لا يمكن التوصّل بها إليه.

وأنت خبير بوهن ما ذكره ، إذ مجرّد وجود الصارف لا يقضي باستحالة التوصّل إليه ، لكون وجوده بقدرة المكلّف واختياره ، ألا ترى أنّ سائر الواجبات الغيريّة الثابت وجوبها بالنصّ إنّما تكون واجبة من أجل التوصّل بها إلى غيرها على ما هو مفاد الوجوب الغيري؟! ومع ذلك لا قائل بسقوط وجوبها مع وجود الصارف وعدم الداعي إلى إيجاد ذلك الشيء ، كيف! ولو صحّ ما ذكره من الخروج عن قدرة المكلّف لم يكن عاصيا بترك نفس الواجب أيضا ، لسقوط وجوبه حينئذ بانتفاء القدرة عليه ، وهو واضح الفساد ، بل لزم (١) أن لا يعصي أحد بترك شيء من الواجبات ، ضرورة أنّها إنّما تترك مع وجود الصارف عنها وعدم الداعي إليها ، والمفروض حينئذ امتناع حصولها ؛ فلا يتعلّق التكليف بها.

__________________

(١) في (ف) : بل يلزم.

٢٦٥

وبالجملة : أنّ هناك فرقا بين التوصّل إلى الواجب بشرط وجود الصارف وعدم الداعي إليه وفي حال وجوده ، والممتنع إنّما هو الأوّل دون الثاني ، والمفروض في المقام إنّما هو الثاني دون الأوّل ؛ وذلك ظاهر.

ثالثها : ما أشار إليه المصنّف ب قوله : (وأيضا فحجّة القول بوجوب المقدّمة ... الخ).

تقريره أنّ ما دلّ على وجوب المقدّمة إنّما يفيد وجوبها من حيث كونها موصلة إلى الواجب ، لا وجوبها في حدّ ذاتها ، كما عرفت ، وذلك قاض بتوقّف وجوبها على إرادة الواجب ، لعدم كون المقدّمة موصلة مع عدمها ، فيكون إيجادها حينئذ لغوا ، والمفروض عدم إرادة الواجب حينئذ ، فلا يكون ترك الضدّ واجبا من جهة كونه مقدّمة للواجب على نحو ما ذكرناه في الوجه الأوّل ، وضعفه أيضا ظاهر ، لوضوح انتفاء المانع من وجوب المقدّمة من حيث إيصالها إلى الواجب ولو لم يكن مريدا لفعل الواجب ، إذ عدم إرادة الواجب لا يقضي بسقوطه ؛ فلا يسقط وجوب مقدّمته ، فيجب عليه في حال عدم إرادة الواجب أن يأتي به ، ويأتي بمقدّمته من حيث إيصالها إليه.

نعم ، لو لم يتمكّن من إرادة الفعل ومن إيجاده في الخارج صحّ ما ذكر من عدم وجوب مقدّمته ، إلّا أنّه لا يجب عليه الإتيان بذي المقدّمة أيضا ، وهو خارج عن محلّ الكلام.

وما دلّ على وجوب المقدّمة يعمّ ما إذا كان المكلّف مريدا للإتيان بذي المقدّمة أو غير مريد له ، فدعوى اختصاصه بالصورة الاولى فاسدة جدّا ، كما لا يخفى على من لاحظها.

رابعها : ما مرّت الإشارة إليه في المسألة المتقدّمة من : أنّ ما دلّ على وجوب المقدّمة إنّما يفيد وجوب المقدّمة الموصلة إلى ذيها دون غيرها ، بل مفاد المقدّمة عند التأمّل هو خصوص الموصلة إليه دون غيرها ، حسبما مرّ بيانه ، وحينئذ فالمقدّمة المجامعة للصارف وعدم الداعي ليست موصلة فليست بواجبة.

٢٦٦

وحينئذ فقوله : «إنّ ترك الضدّ مقدّمة لفعل الواجب» إن اريد به خصوص ترك الضدّ الموصل إلى فعل المأمور به فمسلّم. وقوله : «إنّ ما يتوقّف عليه الواجب فهو واجب» إنّما يقتضي وجوب ذلك ، ولا ربط له بما هو محلّ النزاع ، إذ قد عرفت أنّه ليس موصلا إلى فعل الواجب.

وإن اريد به أنّ ترك الضدّ مطلقا مقدّمة لفعل الواجب فإن سلّم ذلك فلا نسلّم وجوب المقدّمة مطلقا ، بل ليس الواجب إلّا خصوص المقدّمة الموصلة. ويمكن أن يجعل ذلك المناط فيما ذكره المصنّف من الوجهين ، فكأنّه لاحظ ذلك في تقييده وجوب المقدّمة بكلّ من الأمرين المذكورين وإن لم يصرّح به ، فيكون مرجع الوجهين المذكورين إلى أمر واحد.

وحينئذ فيقال في تقرير الوجه الأوّل : إنّه مع وجود الصارف عن المأمور به وعدم الداعي إليه ـ كما هو المفروض في المقام ـ لا يمكن التوصّل بالمقدّمة المفروضة إلى الواجب ، فلا يكون تلك المقدّمة على الفرض المذكور موصلة إلى الواجب ، فلا تكون واجبة حسب ما عرفت ، ولا يدفعه حينئذ إمكان ترك الصارف وإيجاد الداعي ، فيمكن أن تكون المقدّمة حينئذ موصلة إلى الواجب ، إذ قضيّة ما ذكره وجوب المقدّمة المجامعة لترك الصارف وإيجاد الداعي ، دون ما إذا كان غير مجامع لذلك ، لما عرفت من امتناع إيصالها حينئذ فلا تكون واجبة ، وإن أمكن ترك الصارف وإيجاد الداعي فتكون موصلة ، فإنّ ذلك مجرّد فرض لا وجود له في الخارج ، أقصى الأمر إمكان أن تكون واجبة ، فهو فرض غير واقع فلا يتّصف بالوجوب فعلا ليترتّب عليه ما ذكر.

والحاصل : أنّ وجوب كلّ من المقدّمات حينئذ إنّما يكون مع حصول البواقي ، وإذا فرض ترك واحد منها لم يكن شيء من المقدّمات الحاصلة متّصفا بالوجوب ، فكما يكون المكلّف حينئذ تاركا لنفس الواجب يكون تاركا لما هو الواجب من مقدّماته أيضا.

ومن ذلك يظهر الوجه في تقريره الثاني أيضا ، فإنّ المقدّمة المجامعة لعدم

٢٦٧

إرادة الفعل ليست موصلة إلى الواجب فلا تكون واجبة ، لما عرفت من كون الواجب خصوص المقدّمة الموصلة دون غيرها ، فليس إتيانه حينئذ بالمقدّمة المفروضة مع عدم إرادة الواجب إتيانا بالمقدّمة الواجبة ، بل هو تارك للمقدّمة الواجبة ولذي المقدّمة معا.

وحينئذ فما اورد عليه من إمكان حصول الإرادة حينئذ فتكون موصلة ، وما دلّ على وجوب المقدّمة إنّما ينهض دليلا على الوجوب في حال إمكان إرادة المكلّف وإمكان صدور الفعل عنه ، فلا يشترط فعليّة الإرادة في وجوبها مدفوع بنحو ما ذكر ، إذ لا يقول المصنّف باشتراط فعليّة الإرادة في وجوب المقدّمة حتّى يرد عليه ذلك ، بل إنّما يقول بكون الواجب هو المقدّمة الموصلة ، فإذا ترك الواجب فقد ترك المقدّمة الموصلة إليها ، وإتيانه بغير الموصلة ليس إتيانا بالمقدّمة الواجبة ، ولا تركه لغير الموصلة تركا للمقدّمة الواجبة ، فترك الضدّ الصارف لعدم إرادة المأمور به لا يكون موصلا إلى المأمور به فلا يكون واجبا.

هذا غاية ما يوجّه به كلامه. لكن قد عرفت أنّ ما دلّ على وجوب المقدّمة يفيد وجوبها مطلقا من حيث إيصالها إلى الواجب من غير أن تنقسم المقدّمة بملاحظة ذلك إلى نوعين ؛ يجب أحدهما دون الآخر حسب ما مرّ تفصيل القول فيه في بحث مقدّمة الواجب.

فالحقّ أنّ ترك الضدّ في المقام واجب من حيث إيصاله إلى الواجب وإن لم تكن موصلة بالفعل ، لتسامح المكلّف في أداء التكليف ، فإنّ ذلك لا يرفع الوجوب عنه ، فلا وجه للقول بجواز ترك الضدّ حينئذ ، نظرا إلى مصادفته لحصول الصارف ، بل الترك المفروض واجب عليه ، ويجب عليه ترك الصارف وإيجاد الداعي وسائر المقدّمات حتّى يحصل بها الإيصال إلى الواجب.

وحينئذ فالتحقيق أن يقال بالملازمة بين القول بوجوب المقدّمة واقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه حسب ما اخترناه. كما أنّ القائل بعدم وجوب المقدّمة يلزمه القول بعدم الاقتضاء عند التحقيق.

٢٦٨

بقي الكلام في المقام في بيان الثمرة المتفرّعة على الخلاف المذكور ، وعمدة ما فرّع على ذلك هو الحكم بفساد الضدّ وعدمه إذا كان عبادة ، سواء كانت واجبة أو مندوبة.

فعلى القول بدلالته على النهي عن ضدّه تكون فاسدة من جهة النهي المتعلّق بها ، بخلاف ما إذا قيل بعدم الاقتضاء ، إذ لا قاضي حينئذ بفسادها. وقد يقع التأمّل في تفرّع الثمرة المذكورة على كلّ من الوجهين.

أمّا الأوّل فبما مرّت الإشارة إليه من : أنّا لو قلنا بدلالة الأمر على النهي عن ضدّه لا يلزمنا القول بفساد الضدّ ، إذ المطلوب هو ترك الضدّ الموصل إلى الواجب دون غيره ، والإتيان بالضدّ إنّما يكون مع حصول الصارف عن المأمور به ، فلا يكون تركه موصلا حتّى يحرم فعله ويتفرّع عليه فساده.

لكنّك قد عرفت ضعف الكلام المذكور ، وأنّ المطلوب في المقام هو ترك الضدّ من حيث كونه موصلا إلى الواجب ، لا خصوص ترك الضدّ الموصل ، وفرق ظاهر بين الوجهين. وقضية الوجه الأوّل هو تحريم فعل الضدّ وإن لم يوصل حسب ما فرض في المقام ، وقد مرّ تفصيل القول فيه.

وأمّا الثاني فبما ذكره بعض الأفاضل من لزوم الحكم بفساد الضدّ على القول بعدم اقتضائه النهي عن الضدّ أيضا ، نظرا إلى انتفاء مقتضى الصحّة على ما سيجيء تفصيل القول فيه وفي بيان فساده.

والتحقيق في المقام : عدم تفرّع الثمرة المذكورة على المسألة حسب ما فرّعوها عليها ، لا لما ذكر ، بل لعدم إفادة النهي المذكور فساد الضدّ ، نظرا إلى عدم اقتضاء النهي الغيري المتعلّق بالعبادات الفساد مطلقا ، بل فيه تفصيل.

وتوضيح المقام : أنّ دلالة النهي على الفساد ليست من جهة وضعه له ، إذ ليس ما وضع النهي له إلّا التحريم أو طلب الترك ، وإنما يدلّ على الفساد بالالتزام ، كما سيجيء الكلام فيه إن شاء الله.

فاستفادة الفساد في المقام : إمّا من جهة إفادته المرجوحيّة المنافية للرجحان

٢٦٩

المعتبر في حقيقة العبادة ، أو من جهة امتناع تعلّق الطلب بالفعل بعد تعلّقه بتركه ، لكونه من التكليف بالمحال ، فتعلّق النهي به مانع من تعلّق الأمر لكون الترك حينئذ مطلوبا للآمر مرادا له ، فلا يكون الفعل مرادا ومطلوبا له أيضا.

وإذا انتفى الأمر لم يعقل الصحّة ، لكون الصحّة في العبادة عبارة عن موافقة الأمر ، ولا يجري شيء من الوجهين المذكورين في المقام.

أمّا الأوّل فلأنّ الرجحان المعتبر في حقيقة العبادة هو رجحان الفعل على الترك ، لا رجحانه على سائر الأفعال ، وإلّا لم تكن العبادة إلّا أفضل العبادات ، وكان غيرها من العبادات المرجوحة بالنسبة إليها فاسدة ، وهو واضح الفساد. ورجحان الفعل على الوجه المذكور حاصل في المقام ، لكون الفعل المفروض عبادة راجحة بملاحظة ذاته ، والنهي المتعلّق به غيري يفيد مطلوبيّة الترك لأجل الاشتغال بما هو الأهمّ منه ، فيدلّ على مرجوحيّة ذلك الفعل بالنسبة إلى فعل آخر ، لا مرجوحيّته بالنظر إلى تركه حتّى ينافي رجحانه عليه. ومن البيّن أيضا أنّه لا منافاة بين رجحان الفعل على تركه ومرجوحيّته بالنسبة إلى فعل غيره.

فإن قلت : إنّ المنافاة حاصلة في المقام ، نظرا إلى كون رجحان الفعل على الترك رجحانا مانعا من النقيض ، ومرجوحيّته بالنسبة إلى فعل آخر كذلك أيضا. ومن البيّن امتناع حصول الأمرين في فعل واحد ، للزوم اجتماع المنع من الفعل والمنع من الترك في آن واحد.

قلت : لا مانع من اجتماع الأمرين بوجه من الوجوه ، إذ قد يكون الفعل بملاحظة ذاته جائزا لكن يجب تركه ، لمعارضته بواجب آخر أهمّ منه ، فهو راجح في ذاته رجحانا مانعا من النقيض مرجوح كذلك بالنسبة إلى غيره ، فمن أراد الإتيان بالراجح من غير أن يصدر منه عصيان تعيّن عليه ترك ذلك والإتيان بالأهمّ ، ولا مانع من ترك ما يتحتّم فعله في ذاته إذا عارضه ما كان كذلك وكان أهمّ منه في نظر الآمر ، فهو محتوم الفعل بملاحظة ذاته، غير محتوم بملاحظة غيره ، بل محتوم الترك بتلك الملاحظة ، ولا تدافع بينهما أصلا. وإن أتى بغير الأهمّ فقد أتى بالراجح أيضا ، إلّا أنّه لابدّ حينئذ من عصيان الأمر الآخر.

٢٧٠

وأمّا الثاني فلأنّه لمّا كان النهي المفروض غيريّا لم يكن هناك مانع من اجتماعه مع الواجب ، فإنّ حرمة الشيء لتوقّف الواجب الأهمّ على تركه لا ينافي وجوبه وحرمة تركه على فرض ترك ذلك الأهمّ بأن يكون ترك ذلك الأهمّ شرطا في وجوبه وتعلّق الطلب به ، فيجتمع الوجوب والتحريم المفروضان في آن واحد من غير تمانع بينهما ، فإذا لم يكن هناك مانع من اجتماع الأمر والنهي على الوجه المذكور فلا مجال لتوهّم دلالة النهي المفروض على الفساد.

فظهر مما قرّرنا : أنّه لا مانع من تعلّق التكليف بالفعلين المتضادّين على الوجه المذكور، ولا مجال لتوهّم كونه من قبيل التكليف بالمحال ، إذ تعلّق الطلب بالمتضادّين إنّما يكون من قبيل التكليف بالمحال إذا كانا في مرتبة واحدة بأن يكون الآمر مريدا لإيقاعهما معا ، نظرا إلى استحالة اجتماعهما في الوجود بالنسبة إلى الزمان المفروض. وأمّا إذا كانا مطلوبين على سبيل الترتيب ؛ بأن يكون مطلوب الآمر أوّلا هو الإتيان بالأهمّ ويكون الثاني مطلوبا له على فرض عصيانه للأوّل وعدم إتيانه بالفعل فلا مانع منه أصلا ، إذ يكون تكليفه بالثاني حينئذ منوطا بعصيانه للأوّل والبناء على تركه. ولا يعقل هناك مانع من إناطة التكليف بالعصيان ، فلا منافاة بين التكليفين ، نظرا إلى اختلافهما في الترتيب ، وعدم اجتماعهما في مرتبة واحدة ليكون من التكليف بالمحال ، لوضوح عدم تحقّق الثاني في مرتبة الأوّل ، وتحقّق الأوّل في مرتبة الثاني لا مانع منه بعد كون حصوله مرتّبا على عصيان الأوّل ، ولا بين الفعلين ، إذ وقوع كلّ منهما على فرض إخلاء الزمان عن الآخر. ومن البيّن أنّه على فرض خلوّ الزمان عن الآخر لا مانع من وقوع ضدّه فيه.

فإن قلت : لو وقع التكليف مرتّبا على النحو المفروض لم يكن هناك مانع منه على حسب ما ذكر ، وليس الحال كذلك في المقام ، إذ المفروض إطلاق الأمرين المتعلّقين بالأمرين المفروضين ، وليس هناك دلالة فيهما على إرادة الترتيب المذكور. فمن أين يستفاد ذلك حتّى يقال بوقوع التكليفين على الوجه المذكور.

٢٧١

قلت : ما ذكرناه هو مقتضى إطلاق الأمرين بعد ملاحظة التقييد الثابت بحكم العقل، فإنّ إطلاق كلّ من الأمرين يقضي بمطلوبيّة الفعل على سبيل الإطلاق ، ولمّا لم يكن مطلوبيّة غير الأهمّ في مرتبة الأهمّ ـ لوضوح تعيّن الإتيان بالأهمّ وعدم اجتماعه معه في الوجود ـ لزم تقييد الأمر المتعلّق بغير الأهمّ بذلك ، فلا يكون غير الأهمّ مطلوبا مع الإتيان بالأهمّ. وأمّا عدم مطلوبيّته على فرض ترك الأهمّ وعصيان الأمر المتعلّق به فممّا لا دليل عليه ، فلا قاضي بتقييد الإطلاق بالنسبة إليه أيضا.

والحاصل : أنّه لابدّ من الاقتصار في التقييد على القدر الثابت ، وليس ذلك إلّا بالتزام ارتفاع الطلب المتعلّق بغير الأهمّ على تقدير إتيانه بالأهمّ. وأمّا القول بتقييد الطلب المتعلّق به بمجرّد معارضته بطلب الأهمّ مطلقا ولو كان بانيا على عصيانه وإخلاء الزمان عن الإتيان به فممّا لا داعي إليه ، وليس في اللفظ ولا في العقل ما يقتضي ذلك ، فلابدّ فيه من البناء على الإطلاق ، والاقتصار في الخروج عن مقتضى الأمر المتعلّق به على القدر اللازم.

فإن قلت : إنّ ترك الأهمّ لمّا كان مقدّمة للإتيان بغير الأهمّ وكان وجوب الشيء مستلزما في حكم العقل لوجوب مقدّمته بحيث يستحيل الانفكاك بينهما ـ كما مرّ الكلام فيه ـ كيف يعقل وجوب غير الأهمّ مع انحصار مقدّمته إذن في الحرام؟! فيلزم حينئذ أحد أمرين : من اجتماع الوجوب والحرمة في المقدّمة المفروضة ، أو القول بانفكاك وجوب المقدّمة عن وجوب ذي المقدّمة ولا ريب في فساد الأمرين.

قلت : ما ذكرناه من كون تعلّق الطلب بغير الأهمّ على فرض عصيان الأهمّ إنّما يفيد كون الطلب المتعلّق به مشروطا بذلك ، فيكون وجوب غير الأهمّ مشروطا بترك الأهمّ ، وإخلاء ذلك الزمان عن اشتغاله به. ومن البيّن عدم وجوب مقدّمة الواجب المشروط ، فلا مانع من توقّف وجود الواجب على المقدّمة المحرّمة إذا توقّف وجوبه عليها أيضا.

٢٧٢

فإن قلت : لو كانت المقدّمة المفروضة متقدّمة على الفعل المفروض تمّ ما ذكر ، لتعلّق الوجوب به بعد تحقّق شرطه ، فيصحّ تلبّسه به. وأمّا إذا كان حصول المقدّمة مقارنة لحصول الفعل ـ كما هو المفروض في المقام ـ فلا يتمّ ذلك ، إذ لا وجوب للفعل المفروض قبل حصول مقدّمة وجوبه ، فلا يصحّ صدوره عن المكلّف ، وقد مرّت الإشارة إلى ذلك.

قلت : إنّما يتمّ ذلك إذا قيل بلزوم تقدّم حصول الشرط على المشروط بحسب الوجود، وعدم جواز توقّف الشيء على الشرط المتأخّر بأن يكون وجوده في الجملة كافيا في حصول المشروط. وأمّا إذا قيل بجواز ذلك ـ كما هو الحال في الإجازة المتأخّرة الكاشفة عن صحّة عقد الفضوليّ وتوقّف صحّة الأجزاء المتقدّمة من الصلاة على الاجزاء المتأخّرة منها ـ فلا مانع من ذلك أصلا ، فإذا تيقّن المكلّف على حسب العادة بحصول الشرط المذكور تعلّق به الوجوب وصحّ منه الإتيان بالفعل.

فإن قلت : من أين يستفاد كون الشرط الحاصل في المقام من هذا القبيل حتى يصحّ الحكم بصحّة الفعل المفروض ، مع أنّ مقتضى الأصل الأوّلي انتفاء الصحّة؟

قلت : إنّ ذلك أيضا قضيّة إطلاق الأمر المتعلّق بالفعل ، إذ أقصى ما يلزم في حكم العقل تقييده بصورة الإتيان بالأهمّ. وأمّا مع خلوّ زمان الفعل عن الاشتغال به ـ بحسب الواقع ـ فلا مانع من تعلّق التكليف بغير الأهمّ ، فإذا علم المكلّف ذلك بحسب حاله لم يكن هناك مانع من اشتغاله بغير الأهمّ ، ولا من تكليفه بالإتيان به ، ولا قاضي إذن بالالتزام بتقييد الإطلاق بالنسبة إليه.

فإن قلت : إنّ جميع ما ذكرت إنّما يتمّ فيما لو كان الصارف عن الإتيان بالأهمّ أمرا خارجيّا سوى الاشتغال بغير الأهمّ ، إذ لا مانع حينئذ من تعلّق التكليف به كذلك ، وصحّة الإتيان به على حسب ما ذكر. لكن إذا كان الصارف عنه هو الاشتغال بغير الأهمّ بحيث لو لا إتيانه به لكان آتيا بالأهمّ فيشكل الحال فيه ، إذ المفروض توقّف صحّة غير الأهمّ على خلوّ الزمان عن الاشتغال بالأهمّ ، وتوقّف خلوّه عنه على الاشتغال بغير الأهمّ ، فإنّ تركه إنّما يتفرّع على الاشتغال به.

٢٧٣

قلت : إنّ خلوّ الوقت عن الأهمّ لا يتفرّع على فعل غير الأهمّ ، بل على إرادته ، فإنّ إرادته حينئذ قاضية بعدم إرادة الآخر ، وهو قاض بعدم حصوله ، فلا يتوقّف وجوب الفعل على وجوده. ويشكل حينئذ لزوم اجتماع الوجوب والتحريم في الإرادة المتعلّقة بغير الأهمّ ، فإنّها محرّمة من جهة صرفه عن الأهمّ ، واجبة من جهة توقّف الواجب عليها. ولا يمكن القول بتوقّف وجوب الفعل على إرادته ليكون وجوب ذلك الفعل مشروطا بالنسبة إليها على حسب ما اجيب سابقا ، لكون الإرادة سببا قاضيا بحصول الفعل ، أو جزءا أخيرا من العلّة التامّة ولا وجه لاشتراط الوجوب بالنسبة إلى شيء منهما حسب ما مرّت الإشارة إليه.

ومن هنا يتّجه التفصيل بين الوجهين ، والحكم بالصحّة في الصورة الاولى دون الثانية.

وقد يدفع ذلك بمنع كون الصارف عن الأهمّ هو الإرادة الملزمة للفعل ، أعني الإجماع عليه ، بل الشوق والعزم السابقان عليه كافيان في ذلك ، ولا مانع من تقييد الوجوب بالنسبة إلى شيء منهما ، إذ ليسا سببين لحصول الفعل ، ولا جزءا أخيرا من العلّة.

وتحقيق ذلك أن يقال : إنّ الصارف عن الأهمّ إنّما هو عدم إرادته ، وهو ليس مسبّبا عن إرادة غير الأهمّ ، بل هو ممّا يتوقّف عليه الإرادة المفروضة ؛ نظرا إلى حصول المضادّة بينهما ، فيتوقّف وجود كلّ منهما على انتفاء الآخر حسب ما مرّ.

فنقول : إنّ الشوق والعزم المتقدّمين على الإرادة اللذين هما شرط في تحقّقها قد أوجبا انتفاء الإرادة المفروضة ، فغاية الأمر حصول الاشتراط بالنسبة إلى أحد الأمرين المذكورين ، أو ما يتفرّع عنهما من الصارف المذكور ، فتأمّل.

هذا ، وقد يتخيّل في المقام تفصيل آخر ، وهو الفرق بين ما إذا كان الاشتغال بالضدّ رافعا للتمكّن من أداء الواجب حينئذ ، وما إذا بقى معه التمكّن منه ، فيصحّ له ترك الضدّ والاشتغال بالواجب مهما أراد.

فقال في الصورة الاولى بفساد الإتيان بالضدّ إذا كان عبادة موسّعة أو مضيّقة ،

٢٧٤

بخلاف الصورة الثانية. والفرق بينهما : أنّ رفع التمكّن من أداء الواجب بعد اشتغال الذمّة به محظور في الشريعة ، فلا يجوز حينئذ للمكلّف أن يرفع مكنته من أداء ما كلّف به ، كما هو معلوم من ملاحظة العقل والنقل ، فلا يصحّ الإتيان بالفعل الرافع لها من جهة النهي المذكور ، بخلاف غيره.

وفيه : أنّ رفع التمكّن من الواجب إنّما يكون محظورا من حيث أدائه إلى ترك المطلوب ، فإذا كان الصارف عن أداء الواجب موجودا قطعا بحيث لا يستريب المكلّف في تركه له فأيّ ثمرة في بقاء المكنة منه؟ فيكون منعه من الإتيان بالفعل الرافع للمكنة إنّما هو من جهة أدائه إلى ترك الواجب ، فالنهي المتعلّق به غيري أيضا ، وهو غير قاض بالفساد في المقام حسب ما قرّرنا ، لوضوح أنّ مقصود الشارع من ترك الفعل المفروض هو التمكّن من فعل الواجب فيأتي به.

وأمّا إذا قطع بعصيانه وإخلاء ذلك الوقت عن الفعل المفروض فلا مانع من تعلّق أمر الشارع به ، فيكون مأمورا بإيجاده ذلك على فرض عصيانه للأمر الأوّل ، فيكون ترك ذلك شرطا في وجوبه على حسب ما بيّنّا ، والنهي المتعلّق به من جهة كونه سببا لارتفاع التمكّن من الآخر ليس بأقوى من النهي المتعلّق به ، لكون تركه مقدّمة لأداء الواجب ، فكما أنّ ذلك النهي لا يقضي بفساده ـ حسب ما بيّنّا ـ فكذا النهي المتعلّق به من جهة أدائه إلى ارتفاع التمكّن من أداء الواجب ، لكونه نهيا غيريّا على نحو النهي الآخر ، فاجتماع النهيين المذكورين في الصورة المفروضة على فرض تحقّقه لا ينافي وجوب ذلك الفعل على الوجه الّذي قرّرناه. ولنتمّم الكلام في المرام برسم امور :

أحدها : أنّه ذكر شيخنا البهائي قدس‌سره : أنّه لو ابدل عنوان المسألة بأنّ «الأمر بالشيء يقتضي عدم الأمر بضدّه فيبطل» لكان أقرب ، والوجه فيه سهولة الأمر حينئذ في مأخذ المسألة ، لظهور عدم جواز الأمر بالضدّين في آن واحد وترتّب الثمرة المطلوبة من تلك المسألة عليه ، إذ المتفرّع على القول بدلالة الأمر بالشيء على النهي عن ضدّه فساد العبادة الموسّعة الواقعة في زمان الواجب المضيّق ، وهو

٢٧٥

حاصل على القول باقتضائه عدم الأمر بضدّه ، لوضوح كون الصحّة في العبادة تابعة للأمر.

وأنت بعد ما أحطت خبرا بما قرّرناه تعرف ضعف ما ذكره رحمه‌الله ، فإنّ المسلّم من اقتضاء الأمر بالشيء عدم الأمر بضدّه هو ما إذا كان الأمران في مرتبة واحدة ، فيريد من المكلّف الإتيان بهما معا.

وأمّا لو كان التكليفان مترتّبين بأن يريد منه الإتيان بأحدهما على سبيل التعيين : فإن أتى به المكلّف فلا تكليف عليه سواه ، وإن بنى على العصيان وعلم بإخلائه ذلك الزمان عن ذلك الفعل تعلّق به الأمر الآخر ، فيكون تكليفه بالثاني على فرض عصيان الأوّل ، حسبما مرّ بيانه ، فلا مانع منه أصلا. وكما يصحّ ورود تكليفين على هذا الوجه يصحّ ورود تكاليف شتّى على الوجه المفروض بالنسبة إلى زمان واحد ، فإن أتى بالأوّل فلا عصيان ، وإن ترك الأوّل وأتى بالثاني استحقّ عقوبة لترك الأوّل ، وصحّ منه الثاني واثيب عليه ، ولا عصيان بالنسبة إلى البواقي. وإن عصى الأوّلين وأتى بالثالث استحقّ عقوبتين وصحّ منه الثالث ، وهكذا. وإن ترك الجميع استحقّ العقوبة على ترك الجميع ، مع عدم اتّساع الزمان إلّا لواحد منها.

ثمّ لا يذهب عليك أنّه وإن صحّ حصول التكليف على النحو المذكور إلّا أنّا لم نجد في أصل الشريعة ورود التكليف على الوجه المذكور ، لكنّ ورود ذلك على المكلّف من جهة العوارض والطواري ممّا لا بعد فيه ، ويجري ذلك في المضيّق والموسّع ، والمضيّقين ، وفي الواجب والمندوب. وقد عرفت أنّ قضية الأصل عند حصول التعارض بينهما هو الحمل على ذلك ، إلّا أن يقوم دليل من الشرع على تعيّن ذلك الأهمّ وسقوط التكليف بغيره رأسا ، كما في شهر رمضان حيث يتعيّن لصومه ، ولا يقع فيه صيام غيره ، حتّى أنّه لو بنى على ترك صومه لم يصحّ فيه صوم آخر ، وكالوقف المقرّر للصلاة اليومية عند تضيّقه وتفطّن المكلّف به فإنّ الظاهر من الشرع تعيّنه حينئذ لليومية ، وعدم وقوع صلاة اخرى فيه.

٢٧٦

هذا ، وقد أورد على ما ذكره رحمه‌الله بوجوه :

أحدها : ما ذكره بعض الأفاضل من منع انحصار الوجه في صحّة العبادة في موافقة الأمر ، إذ هو من أحكام الوضع في العبادات والمعاملات ، فقد يكون الصحّة فيها من غير أمر ، كما هو الحال في المعاملات.

ووهنه واضح ، للفرق البيّن ووضوح قوام صحّة العبادة بالأمر ، فكيف يعقل صحّتها من دون كونها مطلوبة للشارع؟

ثانيها : ما ذكره الفاضل المذكور أيضا من : أنّ ذلك إنّما يتمّ في العبادات دون المعاملات.

وضعفه أيضا ظاهر ، إذ المقصود ممّا ذكره تفرّع الثمرة المترتّبة على القول بدلالة الأمر بالشيء على النهي عن ضدّه من فساد الضدّ على العنوان الّذي ذكره. ومن الواضح أنّ الترتّب على العنوان الأوّل إن تمّ فإنّما هو فساد الضدّ لو كان عبادة مزاحمة له دون المعاملة المزاحمة له ، لوضوح كون النهي المفروض على فرض حصوله في المقام غير دالّ على الفساد بالنسبة إلى المعاملة ، فكما أنّ العنوان الثاني لا يفيد الفساد بالنسبة إلى المعاملة فكذا العنوان الأوّل ، فلا وجه للإيراد.

نعم ، لو توهّم إفادة النهي المفروض فساد المعاملة ـ كما قد يستفاد من كلام المورد المذكور ـ لربّما صحّ الإيراد المذكور ، وكأنّه الوجه في إيراده ذلك ، إلّا أنّ ذلك فاسد جدّا ـ كما ستجيء الإشارة إليه في محلّه إن شاء الله ـ فلا يتّجه الإيراد أصلا.

ثالثها : أنّ الأمر بالشيء إنّما يقتضي عدم الأمر بضدّه إذا كان الضدّ مضيّقا أيضا ، وامّا إذا كان موسّعا ـ كما هو المفروض ـ فلا ، إذ لا استحالة في اجتماع الأمر المضيّق والأمر الموسّع ، لعدم المزاحمة بينهما ، إذ ليس مفاد وجوب الشيء على وجه التوسعة إلّا وجوبه في مجموع الوقت ؛ بأن لا يخلو عنه تمام الوقت ، ولو أتى به في أيّ جزء امتثل الأمر فلا يتعيّن عليه الإتيان به في وقت المضيّق حتّى

٢٧٧

يزاحمه في التكليف ، وإنّما تكون المزاحمة بينهما في الوجود من سوء اختيار المكلّف ، كذا ذكره جماعة من الأعلام ، منهم الفاضل المتقدّم.

وفيه : أنّه لا كلام في جواز صدور التكليفين في الجملة على الوجه المذكور ، إذ لا مزاحمة بينهما ، وإنّما مقصوده في المقام أنّ التكليف بالمضيّق يقتضي تقييد الأمر بالموسّع ، فيفيد عدم تعلّق الأمر بالموسّع في حال التكليف بالمضيّق ، فإنّه لمّا تعيّن على المكلّف الإتيان بالمضيّق في ذلك الوقت في حكم الأمر قضى ذلك بأن لا يريد منه الآمر في ذلك الوقت سواه ، سواء أراد منه الغير على سبيل التعيين أيضا ـ كما إذا أراد منه حينئذ مضيّقا آخر ـ أو على سبيل التوسعة والتخيير بين إيقاعه في ذلك الزمان وغيره ، لوضوح أنّ تعيّن الإتيان بالفعل ينافي القسمين معا قطعا ، وحصول المندوحة للمكلّف لا يقضي بجواز ورود التكليف كذلك ، إذ المفروض عدم تجويز الآمر على حسب تعيينه الإتيان بالأوّل لإيقاع غيره فيه ، فكيف يوجب حصول الغير فيه ولو على سبيل التخيير بينه وبين الغير؟

وقد عرفت أنّ التكليف بما لا يطاق كما يستحيل بالنسبة إلى الواجبات التعيينيّة كذا يستحيل بالنسبة إلى المخيّر والموسّع ، فسوء اختيار المكلّف حينئذ لا يقضي بحصول الواجب وما هو مطلوب الآمر ، إذ لا مطلوب له حينئذ إلّا الإتيان بالمضيّق حسب تعيينه ذلك على المكلّف فكون الموسّع مأمورا به في الزمان المعيّن للمضيّق مطلوبا من الأمر إيقاعه فيه بمكان من الوهن ، فلا وجه إذن للحكم بصحّته. نعم ، يصحّ ذلك على الوجه المتقدّم من الاكتفاء في الحكم بالصحّة بمجرّد تعلّق الأمر به في نفسه ؛ مع قطع النظر عن ارتفاع ذلك الأمر بالنسبة إلى المزاحم للمضيّق.

فالقائل المذكور يقول بحصول تقييد الأمر وعدم كون الموسّع المزاحم للمضيّق مطلوبا للآمر ، ومع ذلك يقول ببقاء الصحّة ، وهو من الوهن بمكان لا يحتاج إلى البيان ، وذلك هو محصّل كلام بعض القائلين بجواز اجتماع الأمر والنهي حسب ما يجيء بيانه إن شاء الله.

٢٧٨

فيكون الإيراد المذكور مبنيّا على القول بجواز الاجتماع ، فلا وجه لإيراده ممّن لا يقول بالجواز ، وحينئذ فالوجه في صحّة التكليف بالموسّع منحصر فيما ذكرناه من اعتبار الترتيب، وعليه فلا فرق بين الموسّع وغيره كما بيّنّا.

رابعها : ما ذكره الفاضل الجواد من : أنّ الظاهر أنّ القائل بأنّ الأمر بالشيء لا يستلزم النهي عن الضدّ الخاصّ يجوّز صحّة ذلك الضدّ لو أوقعه المكلّف ، فهو لا يسلّم عدم الأمر بالضدّ ، بل يذهب إلى تعلّق الأمر به ليتمّ حكمه بالصحّة ، وعلى هذا فلا وجه لأقربية ما ذكره.

وفيه : أنّ مقصوده رحمه‌الله سهولة الخطب في الاستدلال على العنوان الّذي ذكره ، لا عدم ذهاب القائل بنفي الدلالة على عدم ثبوت الأمر ، فمجرّد قوله به لا يفيد قوّة ما ذهب إليه ، والمراد : أنّ إثبات نفيه الأمر بالضدّ أسهل من إثبات دلالته على النهي عن الضدّ ، وهو أمر ظاهر لا مجال لإنكاره ، فالتعبير بالعنوان المذكور أولى ممّا عبّروا به بعد الاشتراك في الثمرة المطلوبة.

خامسها : ما أورده عليه صاحب الوافية ، وله كلام طويل في ذلك ، ملخّصه : أنّ الواجب إمّا موسّع أو مضيّق ، وعلى كلّ حال فإمّا موقّت أو غير موقّت. فما ذكره من اقتضاء الأمر بالشيء عدم الأمر بضدّه لا يتمّ في الموسّع مطلقا ، إذ لا يتوهّم فيهما تكليف بالمحال. وكذا في الموسّع والمضيّق مطلقا ، إذ لا قاضي بخروج وقت المضيّق عن كونه وقتا للموسّع أيضا ، غاية الأمر عصيان المكلّف بترك المضيّق حينئذ ، ولا يستلزم ذلك بطلان الموسّع الواقع فيه.

وأمّا المضيّقان الموقّتان فما ذكره حقّ فيهما ، إلّا أنّه لم يرد في الشريعة شيء من ذلك القبيل إلّا ما تضيّق بسبب تأخير المكلّف ، وحينئذ لا يمكن الاستدلال ببطلان أحدهما من جهة الأمر بالآخر ، ولا يتفاوت الحال من جهة كون أحدهما أهمّ ، بل الحقّ التخيير وتحقّق الإثم بسبب ترك ما يختار حينئذ تركه إن كان التأخير للتقصير.

بل لا يبعد القول بوجوب كلّ منهما في هذا الوقت على سبيل التخيير ، وبين

٢٧٩

الأجزاء السابقة من الوقت كما كان كذلك من أوّل الأمر ؛ وتحتم الفعل حينئذ ؛ بمعنى عدم جواز التأخير عنه لا يرفع التخيير فيه بالنسبة إلى ما تقدّمه.

وأمّا في المضيّقين الغير الموقّتين فإن كان ذلك في أوّل وقت وجوبهما فالتخيير إن لم يكن بينهما ترتيب ، وأمّا إذا مضى من أوّل وقت وجوبهما بقدر فعل أحدهما ففيه الاحتمالان المذكوران من كون وجوبهما في كلّ جزء من الزمان تخييريّا ، لكن مع تحقّق الإثم على ترك ما تركه منهما بسبب تقصيره في التأخير إن كان تقصير ، وكون وجوبهما في كلّ جزء منه حتميّا ؛ بمعنى عدم جواز تأخيرهما.

وعلى أيّ تقدير فلا يمكن الاستدلال على النهي من أحدهما بالأمر بالآخر.

وأنت خبير بضعف ما ذكره من وجوه :

الأوّل : أنّ ما ذكره من صحّة الموسّع المأتيّ به في وقت المضيّق وإن عصى بترك المضيّق فيه محلّ نظر ، إذ مع كونه مأمورا بأداء المضيّق في ذلك الزمان تعيينا كيف يكون مأمورا بفعل الموسّع فيه أيضا؟ وليس الأمر به مع تعيين الآخر عليه وعدم رضاه بإتيان غيره فيه كما هو مقتضى التعيين إلّا تدافعا ، فإذا انتفى الأمر به فكيف يعقل حينئذ صحّة الموسّع الواقع فيه؟ وهذا هو ما أراده الشيخ رحمه‌الله.

فقوله : «إذ لا قاضي ... الى آخره» كلام ظاهريّ غير مبنيّ على وجه صحيح.

نعم ، نحن نقول هنا بالصحّة ، ولكن من الوجه الّذي قرّرناه من حصول التقييد في الجملة وبناء التكليفين على الترتيب حسبما مرّ ، وهو أمر آخر ولو أراد ذلك كان عليه بيانه، وكان ما ذكره عين ما ادّعى سابقا من عدم المنافاة بين الوجوب المضيّق والموسّع وقد عرفت وهنه.

الثاني : أنّ ما ذكره من عدم تفاوت الحال في المقام من جهة كون أحدهما أهمّ غير متّجه ، كيف! واهتمام الشرع ببعض الواجبات قاض بتعيين الأخذ به ، ألا ترى أنّه لو دار الأمر بين إزالة النجاسة عن المسجد وأداء الشهادة وحفظ نفس المؤمن قدّم عليهما؟ وكذا لو دار بين أداء الدين أو الإتيان بالصلاة أو الصيام وبين حفظ

٢٨٠