هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٨٣

وربما يستفاد القول به من السيّد قدس‌سره في الذريعة حيث قال : إنّ الّذي يقتضيه الأمر كون فاعله مريدا للمأمور به وإنّه ليس من الواجب أن يكره الترك ثمّ ذكر الأمر المتعلّق بالنوافل مع أنّه سبحانه ما نهى عن تركها ولا كره أضدادها ؛ فالظاهر على هذا وقوع الخلاف بالنسبة إلى الضدّ العامّ أيضا إلّا أنّه ضعيف جدّا.

ويمكن تصوير القول بعدم الاقتضاء فيه بوجهين :

أحدهما : أن يكون مبنيّا على القول بجواز التكليف بالمحال فيجوز عنده الأمر بالفعل وبالترك معا فلا يدلّ مجرّد الأمر بالشيء على المنع من تركه.

وفيه : أنّ قضيّة القول المذكور جواز حصول المنع من الترك والأمر به معا فلا يلزم من حصول الأمر بالفعل والترك معا إلّا حصول المنع من الترك والأمر بالترك ، فيكون المنع من الترك حاصلا في المقام أيضا كما يقول به من لا يجوّز التكليف بالمحال من غير فرق ، كيف والقائل بجواز التكليف بالمحال لا يقول ببطلان دلالة التضمّن أو الالتزام ، غاية الأمر أن يقول : بجواز اجتماع الأمرين.

ثانيهما : أن يكون ملحوظ القائل المذكور أنّه ليس الحاصل في المقام إلّا تكليف إيجابي فقط من غير أن يتحقّق هناك تحريم ، بل إنّما يكون المنع من الترك حاصلا بالتزام العقل من غير أن يكون هناك أمر آخر غير الإلزام المذكور فليس هناك إذن نهي عن الضدّ.

وأنت خبير بأنّه إن تمّ التقرير المذكور ـ حسب ما يجيء بيانه إن شاء الله ـ أفاد كون الأمر بالشيء عين النهي عن ضدّه بحسب الخارج فيعود النزاع لفظيّا حيث إنّ القائل بعدم الدلالة يقول : إنّه ليس هناك شيء وراء إيجاب الفعل ، والآخر يقول : إنّ المنع من الترك حاصل بحصول الإيجاب المذكور ، ثمّ إنّه قد وقع الخلاف أيضا بينهم في كيفيّة الاقتضاء في المقامين بعد اقتضاء أصل الدلالة ، حسب ما قرّره المصنّف وسنشير إليه إن شاء الله في الضدّ العامّ.

ثالثها : أنّ جماعة من المتأخّرين قرّروا النزاع في المسألة في الواجب المضيّق إذا كان ما يضادّه واجبا موسّعا وقالوا : إنّ الواجبين إمّا أن يكونا موسّعين

٢٠١

أو مضيقيّن أو المأمور به مضيّقا والضدّ موسّعا أو بالعكس ، وذكروا أنّه لا خلاف في شيء من الأقسام إلّا الثالث ، أمّا الحال في الموسّعين فظاهر ، وأمّا المضيّقان فإن كان اهتمام الشارع بهما على نحو واحد تخيّر المكلّف بينهما ، وإن كان أحدهما أهمّ من الآخر اختصّ الأهمّ بالوجوب دون الآخر.

وبعضهم قسّم الواجب حينئذ إلى ما يكون من حقّ الله أو من حقّ الناس أو أحدهما من حقّ الله والآخر من حقّ الناس ، ففي الأوّل والثاني يتخيّر المكلّف بينهما إلّا أن يثبت أهميّة أحدهما ، وفي الثالث يقدّم الثاني إلّا أن يعلم كون الأوّل أهمّ منه ومرجع ذلك إلى الوجه المتقدّم ، إذ ليس تقديم حقّ الناس على حقّه تعالى إلّا من جهة الأهميّة في الجملة ، ففيه بيان لما هو الأهمّ على وجه كلّي ، أمّا الوجه الرابع فالحال فيه ظاهر لوضوح عدم قضاء الأمر بالموسّع بالنهي عن المضيّق ، لعدم مزاحمته له.

وقد ناقشهم بعض الأفاضل في أمرين :

أحدهما : في عدّ الموسّع مأمورا به والمضيّق ضدّا مع أنّه ينبغي أن يكون الأمر بالعكس لكون المضيّق مطلوبا للشارع في ذلك الزمان البتة فيكون الموسّع ضدّا له ، ولذا بنى الفاضل المذكور على إسقاط القسم الرابع وجعل الوجوه ثلاثة.

ويدفعه : أنّ صحّة إطلاق كلّ من اللفظين مبنيّ على حصول مدلوله في المقام والمفروض حصوله فأيّ مناقشة في إطلاق لفظه عليه وتضيّق الطلب في جانب الضدّ ، وتوسعته (١) في جانب المأمور به لا يمنع من إطلاق المأمور به على الموسّع والضدّ على الآخر، لوضوح تعلّق الأمر بالموسّع وكون الآخر ضدّا له ، وإنّما يطلق

__________________

(١) المراد بالتوسعة في المقام ما يعم المؤقّت وغيره وكذا المراد بالمضيّق ، وتفصيل الأقسام أن يقال : إنّ الواجبين إمّا أن يكون مؤقّتين أو غير مؤقّتين أو المأمور به مؤقّتا والضدّ غير مؤقّت أو بالعكس وعلى كلّ حال فإمّا أن يكونا من حقّ الله تعالى أو من حقوق الناس أو المأمور به من حقّه تعالى والضدّ من حقوق الناس أو بالعكس ، فيكون الأقسام أربعة ، وسيبيّن ما يظهر الحال في الجميع ممّا قرّرناه منه رحمه‌الله.

٢٠٢

المأمور به حينئذ على الموسّع ، حيث إنّ المقصود معرفة اقتضائه النهي عن ضدّه وعدمه ، فيقال : إنّ تعلّق الأمر بالموسّع لا يقتضي تعلّق النهي بضدّه المفروض فلابدّ في هذا اللحاظ من اعتبار الموسّع مأمورا به والآخر ضدّا له وإن كان مضيّقا وهو ظاهر ، وكون بقاء الأمر بالموسّع حينئذ محلّا للكلام لا يمنع من إطلاق اللفظ عليه مع تعلّق الأمر به في الجملة كما هو الحال في غيره.

وثانيهما : أنّ أهمّيّة أحد الواجبين في نظر الشارع إنّما يقضي بأولويّة اختيار المكلّف له وأين ذلك من اختصاص التكليف به بحسب الشرع؟ إلّا أن يقوم هناك دليل شرعي على وجوب تقديم الأهمّ ، كما في الصلاة اليوميّة بالنسبة إلى صلاة الكسوف ، وهو أمر آخر.

وفيه : أنّ المقصود من الأهمّيّة في المقام هو ما يكون وجوبه أشدّ في نظر الشرع واهتمامه به أكثر ، ولا ريب أنّه إذا كان الحال على ذلك كان الأخذ بالأهمّ كذلك متعيّنا عند الدوران بينه وبين غيره ، وثبوت الأهمّيّة على الوجه المذكور أمر ظاهر من ملاحظة الشرع وممارسة الأدلّة الشرعيّة من غير حاجة إلى قيام دليل خاصّ عليه ، فإذا ثبت ذلك من الشرع قضى بتقديم الأهمّ كما هو ظاهر من ملاحظة موارده. هذا.

ولا يذهب عليك أنّ ما ذكره الجماعة من تخصيص محلّ النزاع بالصورة المذكورة غير مذكور في كلام المعظم ، بل كلماتهم مطلقة وإنّما تعرّض للتفصيل المذكور جماعة من المتأخّرين وكان الحامل لهم على تخصيص الخلاف بالواجبين ظهور الثمرة بالنسبة إلى ذلك ، إذ لو لم يكن الضدّ مأمورا به لم يتفرّع عليه الثمرة المفروضة من الحكم بفساده على القول باقتضائه النهي عنه وإخراج صورة توسعة الأمر من جهة ظهور عدم حرمة الترك حينئذ قبل تضييق الأمر فلا يعقل تحريم أضداده الخاصّة حتّى يتبعه الفساد ، وأمّا إخراج الواجبين المضيّقين فلعدم إمكان تعلّق الأمر بهما على الوجه المذكور فإمّا أن يبنى على التخيير أو يحكم بتعيين الأهمّ فعلى الأوّل لا وجه للنهي عن الضدّ وعلى الثاني لا مسرح لاحتمال الصحّة في الآخر.

٢٠٣

قلت : وأنت خبير بما فيه أمّا أوّلا : فبأنّه لا داعي إلى تخصيص النزاع بالصورة المفروضة مع إطلاق كلام الأصوليّين واختصاص الثمرة بالصورة المفروضة على فرض تسليمه لا يقضي بتخصيص النزاع ، لإمكان وقوعه على سبيل الإطلاق وإن أثمر الخلاف في صورة مخصوصة ، إذ لا يعتبر في ثمرة الخلاف جريانها في جميع جزئيّات المسألة.

وأمّا ثانيا : فلأنّ اختصاص الثمرة بالصورة المفروضة محلّ نظر ، لإمكان جريانها في غير الواجبات ، فإنّه إذا كان الضدّ من العقود أو الإيقاعات أمكن القول بفساده من جهة النهي المتعلّق به بناءا على القول باقتضائه الفساد في المعاملات مطلقا وأيضا فلو كان الضدّ في نفسه من الأفعال المباحة فإن قلنا : بتعلّق النهي به لم يصح الاستيجار عليه ولم يستحق العامل أخذ الاجرة عليه ، لاندراجه إذا في اجور المحرّمات.

ثمّ إنّ جريان الثمرة بالنسبة إلى المندوبات كالصلاة المندوبة والتلاوة والزيارة ونحوها ظاهر ، ولا وجه لتخصيص الحكم بالواجب.

وأمّا ثالثا : فلأنّ الحكم بخروج المضيّقين عن محلّ الخلاف غير ظاهر ، وما ذكر من الوجه إنّما يقضي بعدم جواز تعلّق التكليف بهما معا وأمّا إذا كان التكليف بهما على الترتيب فمما لا مانع منه حسب ما يأتي تفصيل القول فيه إن شاء الله.

وما ذكروه من خروج الأمر بالموسّع عن محلّ الكلام فإنّما يصحّ إذا لوحظ بالنسبة إلى الفعل الواقع في أجزاء الوقت قبل تضيّق الواجب ، إذ من البيّن حينئذ عدم اقتضائه النهي عن ضدّه مطلقا ولو عن ضدّه العامّ بمعنى الترك ، إذ لا منع حينئذ عن تركه ولا يقضي ذلك بتخلّف اقتضاء الأمر بالشيء عن المنع عن تركه ، بل ولا النهي عن أضداده ، بناءا على القول به بل قضاؤه بذلك حينئذ على نحو دلالته على الوجوب ، فكما أنّه يفيد وجوب الفعل في تمام الوقت بمعنى إلزامه بأدائه في المدّة المضروبة في الجملة فيفيد المنع عن إخلاء تمام الوقت عن الفعل المفروض وتركه فيه ، بل والمنع عن أضداده الوجوديّة المانعة عن الإتيان به كذلك.

٢٠٤

فتلخّص بما قرّرنا : أنّ القول باقتضاء الأمر النهي عن ضدّه لا ينافي عدم حصول النهي عن ترك الواجب في أجزاء الوقت قبل حصول الضيق ، فإنّ قضاءه بالنهي عن الضدّ إنّما هو على طبق الأمر المتعلّق به ـ حسب ما ذكرنا ـ ولا يستلزم ذلك حصول المنع من الترك ولا النهي عن أضداده بالنسبة إلى ما يحصل به أداء الواجب ويتّصف بالوجوب من جهة تحقّق الواجب به ، كما هو الحال في جزئيّات الواجب العيني ، فإنّها متّصفة بالوجوب من حيث تحقّق الواجب بها مع أنّه لا منع من ترك شيء من خصوص تلك الآحاد مع عدم انحصار الأمر في أداء الواجب به.

ويجري ما ذكرناه في الموسّع بالنسبة إلى الواجب التخييري أيضا إذا كان ما أتى به من الضدّ ضدّا لبعض ما خيّر فيه دون غيره ، بل وبالنسبة إلى الكفائي أيضا إذا علم قيام الغير به على فرض تركه ، والداعي إلى إخراج الموسّع على حسب ما ذكروه قاض بإخراج ما ذكره أيضا ، لحصول جواز الترك في المقامين في الجملة إلّا أن يقال : باندراجهما في الموسّع وهو بعيد جدّا خارج عن مقتضى الاصطلاح من غير باعث عليه وإن اطلق الموسّع في المقام على ما يعمّ ذلك في كلام بعض الأعلام إلّا أنّه تعسّف ركيك.

قوله : (فلا خلاف فيه إذ لو لم يدلّ الأمر ... الخ).

قد عرفت أنّ قضيّة ما ذكره جماعة منهم وقوع الخلاف في الضدّ العامّ أيضا وذهاب جماعة منهم إلى نفي الدلالة عليه ، بل يعزى القول به إلى جماعة من الأساطين ، فدعوى نفي الخلاف فيه معلّلا بالوجه المذكور غير متّجه ، وكذا الحال في تنزيل المصنّف الخلاف فيه على الخلاف في كيفيّة الاقتضاء من كونه على وجه العينيّة أو الاستلزام فإنّه لا يوافق كلامهم ولا ما حكوه عن الجماعة فإنّ المحكي عنهم نفي الاقتضاء بالمرّة ، ومع ذلك فلا يكاد يظهر ثمرة في الخلاف في كيفيّة الاقتضاء بعد تسليم أصله ، ولا يليق إذا بالتدوين في الكتب العلميّة وما يرى من الخلاف فيه فإنّما هو بتبعيّة الخلاف في أصل الدلالة ، حيث يقول : بعض القائلين بالدلالة بثبوتها على وجه العينيّة وبعض آخر بثبوتها على وجه الاستلزام

٢٠٥

فبيّنوا ذلك عند بيان الأقوال في تلك المسألة من غير أن يعقدوا لذلك بحثا ، بل إنّما ذكروه في عداد الأقوال الحاصلة في الخلاف في الاقتضاء وعدمه. هذا.

والظاهر أنّ مراد من قال بنفي الدلالة في المقام هو ما قدّمنا الاشارة إليه من أنّه ليس في المقام سوى إيجاب الفعل من غير حصول تكليف وحكم آخر وراء ذلك ، لا أنّ القائل المذكور يقول : بجواز ترك الواجب حتّى يقال : بخروج الواجب إذا عن كونه واجبا ، وسيأتي تفصيل القول فيه إن شاء الله.

قوله : (عين النهي عن ضدّه في المعنى).

كأنّه أراد بذلك أنّه عينه بملاحظة ما يتحصّل منه في الخارج فإنّ الأمر الحاصل من إنشاء الأمر بحسب الخارج هو الحاصل من إنشاء النهي عن ضدّه وإن اختلفا في الصيغة ، بل وفي المفهوم الحاصل منهما ، في الذهن ، ضرورة أنّ المفهوم الحاصل في الذهن من «افعل» غير ما يحصل من النهي عن تركه غير أنّ المتحصّل منهما في الخارج أمر واحد ألا ترى أنّك لو قلت : «افعل هذا الشيء» مثلا أو «لا تتركه» كان مؤدّاهما أمرا واحدا وإن اختلفا بحسب المفهوم المنساق من اللفظ فإنّ هذا القدر من الاختلاف ضروريّ لا يكاد ينكره عاقل.

قوله : (لو دلّ لكانت واحدة من الثلاث).

ملخّصه حصر الدلالات اللفظيّة بحسب الاستقراء في الثلاث وقيام الضرورة بانتفاء الجميع في المقام بعد ملاحظة مفاد الأمر بالشيء والنهي عن ضدّه وما ذكره واضح ، فدعوى الدلالة اللفظيّة في المقام لو ثبت القول به ـ حسب ما يدّعيه المصنّف ـ فاسدة جدّا.

قوله : (أمّا المطابقة فلأنّ مفاد الأمر ... الخ).

يفيد ذلك كون الوجوب معنى مطابقيّا للأمر وليس كذلك ، إذ لا ينحصر مدلوله في إفادة مجرّد الوجوب ، والظاهر أنّ مقصوده كونه معنى مطابقيّا للهيئة إن قيل بتعلّق وضع لها بخصوصها أو نزّل الوضع المتعلّق بتلك الكلمة منزلة وضعين حسب ما مرّ بيانه.

٢٠٦

وفيه أيضا تأمّل وقد مرّ الكلام في نظيره ويمكن أن يقال : إنّ البحث في المقام لا يدور مدار لفظ الأمر وإنّما المقصود دلالة إيجاب الفعل على تحريم ضدّه فالمطابقة إنّما تلحظ بالنسبة إلى ذلك.

قوله : (ما سنبيّنه من ضعف متمسّك مثبتيه ... الخ).

يمكن أن يقال : إنّ ضعف متمسّك القوم وعدم وجدان دليل آخر عليه لا يدلّ على انتفائه ، أقصى الأمر أن يقضي ذلك بالوقف فكيف يجعل ذلك دليلا على عدم الاستلزام؟

ويدفعه : أنّ عدم وجدان دليل صالح عليه بعد بذل الوسع فيه ووقوع البحث عنه بين العلماء في مدّة مديدة يفيد الظنّ بعدمه فيكون ذلك دليلا ظنّيا على انتفائه.

وفيه : أنّه لا حجّية في الظنّ المذكور في المقام ، إذ المفروض خروجه عن المداليل اللفظيّة ممّا يكتفى فيها بمطلق المظنّة ، فالأولى أن يقال : إنّ المستند بعد انتفاء الدليل على الاقتضاء المذكور هو أصالة عدم النهي عن الضدّ وعدم استلزام الأمر له ، فإنّ الحكم بالاستلزام يتوقّف على قيام الدليل عليه ، وأمّا نفيه فعدم قيام الدليل على الاستلزام كاف فيه ، نظرا إلى قيام الأصل المذكور.

قوله : (ما علم من أنّ ماهيّة الوجوب ... الخ).

أورد عليه : تارة : بأنّ الوجوب حكم من أحكام المأمور به ولازم من لوازم مدلول الصيغة على بعض الوجوه وليس مدلولا مطابقيّا للّفظ حتّى يعدّ دلالة اللفظ على جزئه من التضمّن ، بل دلالة اللفظ عليه من قبيل الدلالة على جزء معناه الالتزامي فكيف يعدّ من التضمّن؟

وتارة بأنّ الوجوب معنى بسيط لا جزء له والمنع من الترك ليس جزءا من مدلوله ، وإنّما هو لازم من لوازمه فهو طلب خاصّ يتفرّع عليه المنع من الترك ، فلا وجه لعدّه معنى تضمّنيّا ، وإن سلّمنا كون دلالة الصيغة على الوجوب على سبيل المطابقة.

ويمكن دفع الأوّل بأنّه لو كان المقصود بالوجوب في المقام هو معناه

٢٠٧

المصطلح ـ أعني ما يذمّ تاركه أو يستحقّ تاركه العقاب ـ صحّ ما ذكر ، إذ لا وجه لأن يكون ذلك مدلولا وضعيّا للصيغة لوضوح وضع الأمر لإنشاء الطلب أو الوجوب ، وهذا المعنى أمر آخر يتبع الإنشاء المذكور ويلزمه في بعض المواضع ، فالقول بوضع الصيغة له واضح الفساد حسب ما مرّ تفصيل القول فيه ، وأمّا إذا اريد بالوجوب في المقام هو الطلب الحتميّ الحاصل من الأمر بالشيء سواء تفرّع عليه استحقاق ذمّ أو عقوبة فيما إذا كان الأمر ممّن يجب طاعته عقلا أو شرعا ولم يكن كسائر الآمرين فلا مانع من كونه مدلولا وضعيّا للصيغة ، بل هو الّذي وضعت الصيغة لإنشائه ـ حسب ما مرّ بيانه في محلّه ـ وهو عين الوجوب بالمعنى المذكور ومغاير له بالاعتبار.

ودفع الثاني بما عرفت من أنّ الوجوب وإن كان معنى بسيطا في الخارج لكنّه منحلّ في العقل إلى شيئين فإنّ البساطة الخارجيّة لا ينافي التركيب العقلي فلا مانع من كون الدلالة تضمّنية ، نظرا إلى ذلك.

وتحقيق المقام : أنّ مفاد الأمر طلب إيجاد المبدأ على سبيل الحتم وأنّ مفاد الخصوصيّة المذكورة المأخوذة مع الطلب ممّا ينتزع عنه المنع من الترك ، فإنّ مفاد تحتّم الإيجاد على المكلّف أن لا يتحقّق منه ترك الإيجاد ، فمفاد المنع من الترك حاصل في حقيقة الإيجاب لا يتأخّر حصوله عن حصول تلك الحقيقة ، وكون حقيقة الإيجاب أمرا بسيطا في الخارج لكونه اقتضاء طلب خاصّ (١) لا ينافي حصول أمرين به ، لوضوح إمكان حصول مفاهيم متعدّدة بوجود واحد بسيط في الخارج ، سيّما إذا كان ذلك الأمر البسيط منحلّا في العقل إلى امور ، كما هو الحال فيما نحن فيه ، لوضوح انحلال الوجوب في العقل إلى الطلب المشترك بينه وبين الندب ، والخصوصيّة المفروضة المعبّر عنه بكون ذلك الطلب على سبيل الحتم والإلزام ، أو عدم الرضا بالترك أو المنع من الترك ونحوهما ممّا يؤدّي مفاد ذلك.

فالحاصل في الخارج طلب بسيط خاصّ وهو مرتبة من الطلب بالغة إلى حدّ

__________________

(١) في نسخة (ف) لكونه اقتضاء وطلبا خاصّا.

٢٠٨

الإلزام والتحتّم لكنّه منحلّ عند العقل إلى الأمرين المذكورين ، ولذا يكون الأمر الثاني حاصلا في مرتبة حصول الطلب المذكور من غير أن يتأخّر عنه في المرتبة ، فلو كان ذلك من لوازمه والامور الخارجة عن حقيقته ـ كما توهّم ـ لم يثبت له في مرتبة ذاته ، لوضوح أنّ الماهيّة من حيث هي ليست إلّا هي ، ومن الواضح عند التأمّل الصحيح خلافه.

والحاصل : أنّ ما ينتزع منه المفهوم المذكور حاصل في حقيقة الوجوب ، فالمنع من الترك حاصل بحصول الوجوب لا بعد حصوله ليكون له حصول آخر متأخّر عن الوجوب ، كما هو الحال في اللوازم التابعة لملزوماتها ، وعدم التفات الذهن إلى التفصيل المذكور عند تصوّر الإيجاب لا يفيد عدم كونه مأخوذا في حقيقته ، لوضوح أنّ تصوّر الكلّ لا يستلزم تصوّر الأجزاء تفصيلا إلّا إذا كان التصوّر بالكنه ، ومن هنا يتبيّن أنّه لا وجه لجعل الدلالة على الجزء حاصلة بالدلالة على الكلّ مطلقا بل لابدّ فيه من تفصيل يذكر في محلّه.

فظهر بما قرّرنا : أنّ ما ذكر في الإيراد من كون حقيقة الوجوب معنى بسيط لا جزء له، إن اريد به أنّه أمر بسيط في الخارج لا جزء له أصلا حتّى لا يكون المنع من الترك جزء له وإنّما هو لازم له باللزوم البيّن بالمعنى الأعمّ ، فهو فاسد ، لما عرفت من أنّ البساطة الخارجيّة لا ينافي التركيب في العقل والانحلال إلى امور وهو كاف في كون الدلالة تضمّنيّة كما هو الحال في المقام ، وإن اريد به أنّه بسيط في العقل لا ينحلّ إلى امور عديدة وإنّما يكون المنع من الترك من لوازمه وتوابعه المتأخّرة عنه في الوجود كغيره من اللوازم ، فهو بيّن الفساد بعد ملاحظة ما قرّرنا.

فإن قلت : إذا كان النهي عن الترك جزءا من مدلول الوجوب لزم أن يكون مدلول النهي جزء من مدلول الأمر فيكون الأمر إذا مشتملا على طلبين ، وهو ظاهر الفساد ، لوضوح أنّ مفاد الأمر ليس إلّا طلبا واحدا متعلّقا بالفعل.

قلت : الّذي يتراءى من كلام المصنّف رحمه‌الله وغيره هو ذلك لكن ذلك غير لازم ممّا قرّرناه ، والتحقيق : أنّ النهي عن الترك ليس مدلولا تضمّنيّا للأمر بشيء ، إذ

٢٠٩

ليس هناك طلب آخر في ضمن الأمر متعلّق بالترك ، وليس المنع من الترك المأخوذ جزء من الوجوب عبارة عن النهي عن الترك ، بل هو عنوان من الخصوصيّة المأخوذة مع الطلب المايزة بينه وبين الندب ، فإنّ تحتّم الطلب كونه بحيث يمنع من ترك المطلوب ، وحيثيّة تحتيم أحد النقيضين هي بعينها حيثية إلزام رفع الآخر ، فإنّ كلّا من النقيضين رفع للآخر ، فليس هناك طلب آخر متعلّق بالترك ولا تحتيم آخر متوجه إليه بل هناك طلب وتحتيم واحد متعلّق بالفعل وهو بعينه طلب لترك الترك وتحتيم له ، لكون الفعل بعينه تركا للترك ورفعا له ، فطلب ترك الترك هو عين طلب الفعل وحتميته عين حتمية ذلك الطلب.

فظهر أنّ دلالة الأمر بالشيء على النهي عن ضدّه العامّ ليس على سبيل التضمّن ولا الالتزام ، بل ليس مفاد النهي المفروض إلّا عين ما يستفاد من الأمر وإنّما يتغايران بحسب الاعتبار من غير أن يكون هناك طلبان وتكليفان أصلا فليس معنى الطلب ثانيا مأخوذا في المنع ، بل المقصود بالمنع من الترك المأخوذ قيدا لطلب الفعل هو حيثيّة تحتم الطلب المتعلّق بالفعل ، ولمّا لم يمكن انفكاك تصوّره عن تصوّر الطلب اعتبر معنى الطلب ثانيا عند التعبير عن تلك الخصوصيّة فعبّر عنه بالمنع عن الترك ، ألا ترى أنّه يعبّر عن مدلول النهي بطلب الترك مع المنع من الفعل ، ومن الواضح أنّه ليس هناك طلبان حاصلان في التحريم يؤخذ أحدهما جنسا والآخر جزءا من الفصل ، بل لمّا كان تصوّر مفهوم الفصل حاصلا بضمّه إلى الجنس اعتبر فيه ذلك المعنى الجنسيّ على وجه الإجمال ليتصوّر معه الخصوصيّة المفروضة ، والفصل بحسب الحقيقة إنّما هو تلك الخصوصيّة لا غير.

وقد لوحظ نظير ذلك في سائر الفصول أيضا ألا ترى أنّه قد لوحظ مفهوم الذات الّتي ينضمّ إليها النطق في الناطق وكذا في غيره من الفصول مع أنّه من المبرهن عندهم عدم أخذ مفهوم الذات في الفصول فليس ذلك ملحوظا إلّا من جهة التبعيّة ، والفصل إنّما هو الأمر المنضمّ إليه ، فدلالة الأمر على الخصوصيّة المذكورة تضمّنيّة ولا يستلزم ذلك أن يكون دلالته على النهي عن الترك كذلك.

٢١٠

وإنّما وقع الشبهة في المقام من جهة ملاحظة مفهوم المنع من الترك ، حيث يرى أنّ مفاده طلب ترك الترك على سبيل الجزم الّذي هو عين مدلول النهي ، وقد عرفت أنّ أخذ الطلب فيه ثانيا إنّما هو من جهة تصوّر الخصوصيّة المفروضة وليس هناك طلب آخر ملحوظ في جانب الترك أصلا ، فليس هناك إلّا طلب واحد يتعلّق بالفعل وإن انحلّ ذلك إلى مفهومين ، إذ لا يجعله ذلك تكليفين وطلبين ، وليس ترك الفعل المفروض إلّا حراما أصليّا نفسيّا باعثا على استحقاق العقوبة لكونه عصيانا ومخالفة للأمر المتعلّق بالفعل ، فحرمة الترك مفاد وجوب الفعل ، كما أنّ وجوب الفعل مفاد حرمة الترك ، وكذا الحال بالنسبة إلى حرمة الفعل ووجوب الترك ولذا كان ترك كلّ حرام واجبا وترك كلّ واجب حراما من غير أن يكون هناك تكليفان ، فحيثيّة الأمر بالفعل هي حيثيّة النهي عن الترك ، إذ ترك الترك هو عين الفعل بحسب الخارج لكون الفعل والترك نقيضين وكلّ منهما رفع للآخر فيكون طلب كلّ منهما لترك الآخر ، وخصوصيّة ذلك الطلب الحاصل في الأمر بأحدهما حاصل في النهي عن الآخر ، فإذا كان الأمر بالفعل على وجه الإلزام كان النهي عن تركه كذلك أيضا.

قوله : (إنّ كلّ متغايرين).

يعني بحسب الوجود لا بمجرّد المفهوم فلا يرد عليه أنّ مفهومي الجنس والفصل لا يندرجان في شيء من الأقسام المذكورة.

قوله : (ما لا يفتقر اتّصاف الذات بها).

يعني به الصفات المنتزعة عن نفس الذات مع قطع النظر عن الامور الخارجة عنها المنضمّة إليها ومحصّله التساوي في الذاتيّات.

قوله : (ضرورة أنّه يتحقّق في الحركة ... الخ).

قد يورد عليه : تارة : بأنّ الأمر من حيث الصدور يعني : إذا اعتبر مصدرا بمعنى الفاعل قائم بالأمر ومن حيث الوقوع يعني : إذا اعتبر مصدرا بمعنى المفعول قائم بالمأمور به وكذا الحال في النهي ، فلا قيام لهما بالفعل المأمور به ليلحظ

٢١١

امتناع اجتماعهما بالنسبة إليه وعدمه واخرى : بأنّ المفروض تعلّق الأمر بالشيء وتعلّق النهي بضدّه فيكون أحد الأمرين وصفا للشيء والآخر وصفا لمتعلّقه ، ولا مانع من اجتماع الضدّين على الوجه المذكور كما في «زيد قبيح حسن غلامه».

واجيب عن الأوّل : تارة : بأنّ تضادّ الأمر والنهي وإن قضى بامتناع قيامهما بموصوف واحد وهو الآمر أو المأمور دون الفعل المأمور به ، إذ لا قيام لشيء منهما به إلّا أن المتضادّين كما يمتنع اتّصاف شيء واحد بهما على سبيل الحقيقة كذا يمتنع أن يكونا وصفين بحال المتعلّق لشيء واحد بالنسبة إلى متعلّق واحد ، كما في «زيدا أسود الغلام وأبيضه» مع اتّحاد الغلام ، فكذا الحال في المقام فلو كانا متضادّين لم يمكن اتّصاف الفعل الواحد بهما على الوجه المذكور.

وتارة : بأنّه ليس مراد المستدل بيان اتّحاد محلّ الأمرين المفروضين بدعوى كون الحركة موصوفا بالأمرين المذكورين ، بل المقصود بيان اتّحاد متعلّق الأمرين المذكورين ليتحقّق شرط التضادّ بينهما على فرض كونهما ضدّين ، لوضوح أنّه لا تضادّ بين الأمر والنهي مع تغاير المتعلّق ، ضرورة إمكان صدورهما حينئذ عن آمر واحد وجواز وقوعهما على مأمور واحد ، فالمقصود بيان حصول الشرط المذكور في المقام بكون الحركة متعلّقا للأمرين لا بيان اجتماع الأمرين المذكورين فيها وقيامهما بها ، بل بيان ذلك متروك في كلامه ، لوضوح الحال في كون محلّ اجتماعهما أحد الشخصين المذكورين على الوجه المذكور.

ولا يخفى عليك وهن الوجهين وعدم انطباق شيء منهما على كلام المستدل ، لصراحة كلامه في اجتماع ما يفرض كونهما ضدّين في الحركة ، كيف ولو كان مقصوده ما ذكر في الجواب الأوّل ـ من تقرير الاجتماع بالنسبة إلى الآمر أو المأمور ـ فلا داعي لإضرابه عن بيان اجتماعهما في الموصوف الواحد إلى بيان كونهما وصفين بحال المتعلّق بغيره ، ولو جعل السرّ فيه ما ذكر في الجواب الثاني من بيان حصول شرط التضادّ من اتّحاد المتعلّق ففيه : أنّ ذلك أمر واضح غنيّ عن البيان ، إذ المفروض في المقام حصول المضادّة بين الأمر بالشيء والنهي عمّا

٢١٢

يضادّ ذلك الشيء ، فاتّحاد المتعلّق على الوجه المذكور مأخوذ في أصل المسألة لا حاجة إلى بيانه وإنّما المقصود بيان اجتماع الأمرين في محلّ واحد ليدلّ على انتفاء التضادّ بينهما ، كما هو قضيّة المقام وصريح الكلام ؛ وقد ظهر بذلك ضعف الجواب الثاني أيضا.

فالصواب في الجواب أن يقال : إنّه لمّا كان مرجع الخلاف في كون الأمر بالشيء نهيا عن ضدّه إلى أنّ وجوب الشيء هل يفيد تحريم ضدّه؟ فيكون المفيد لوجوب الشيء هو المفيد لتحريم ضدّه وكان مقصود القائل بكون الأمر بالشيء عين النهي عن ضدّه أنّ الأمر الحاصل من أحدهما عين الحاصل من الآخر ، وإلّا فتغاير المفهومين والصيغتين والمفهوم من الصيغتين أمر واضح لا مجال لإنكاره كما مرّ كان مقصوده أنّ وجوب الفعل المأمور به عين حرمة ضدّه ، والحاصل من كلّ من الأمر والنهي المفروضين عين الحاصل من الآخر في الخارج ، فمقصوده من هذه الفقرة من الحجّة إبطال المضادّة على تقدير عدم العينيّة ، نظرا إلى وضوح اجتماع الأمرين في الحركة حسب ما ذكره.

ومن البيّن أنّ الوجوب والتحريم وإن كانا صادرين عن الآمر إلّا أنّهما قائمان بالفعل المأمور به والمنهيّ عنه ، ولذا يتّصف الفعل بالوجوب والتحريم من غير إشكال.

والجواب عن الثاني واضح ، إذ ليس المقصود في المقام دفع المضادّة بين الأمر بالشيء والنهي عنه ببيان اجتماعهما في محلّ واحد ليكون ذلك دليلا على انتفاء المضادّة بينهما ، بل المدّعى عدم المضادّة بين الأمر بالشيء والنهي عن ضدّه ومجرّد كون أحدهما وصفا للشيء والآخر وصفا له بحال متعلّقه لا يمنع من حصول التضادّ ، لوضوح المضادّة بين قولك «زيد شابّ شائب الابن» كيف ولو كان مجرّد ذلك رافعا للتضادّ لكان مؤيّدا لكلام المستدلّ لا إيرادا عليه ، إذ هو بصدد إبطال التضادّ لا تصويره وبيانه.

قوله : (كاجتماع السواد مع الحلاوة ... الخ).

٢١٣

كأنّه أراد بذلك بيان الحكم المذكور بملاحظة المثال ، نظرا إلى أنّه إذا حصل الاجتماع مع ضدّه في ذلك كان ذلك من مقتضيات الخلافين فيثبت في جميع موارده بحصول المناط ، ووهنه واضح وما ذكره مجرّد دعوى لا شاهد عليه.

قوله : (وهو الأمر بضدّه).

لا يخفى : أنّ ضدّ النهي عن ضدّه لا ينحصر في الأمر بضدّه ، إذ عدم النهي عن ضدّه أيضا مضادّ له متقابل معه تقابل الإيجاب والسلب إن قلنا بتعميم الضدّ في المقام لما يشمل ذلك ، ولو قلنا باختصاصه بالوجوديّ الغير المجامع معه فإباحة الضدّ أيضا أمر وجوديّ غير مجامع للنهي عن الضدّ ومن البيّن : أنّ القائل بعدم اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه لا ينكر شيئا من ذلك وهو كاف في صدق الأمر بالشيء مع ضدّ النهي عن ضدّه.

نعم لو اريد من جواز اجتماع كلّ منهما مع ضدّ الآخر جواز اجتماعه مع كلّ أضداده صحّ ما ذكره من البيان إلّا أنّ الحكم بأنّ ذلك من لوازم الخلافين بعيد جدّا ، ولا شاهد عليه أصلا ؛ مضافا إلى فساد دعواه من أصلها ، كما سيجيء الإشارة إليه إن شاء الله في كلام المصنّف.

قوله : (وإنّه محال).

لا يخفى : أنّ المستحيل هو الأمر بالشيء والأمر بضدّه معا وأمّا الأمر به على فرض عصيان الأمر الأوّل بأن يكون الطلبان مترتّبين ولا يكونا في درجة واحدة فلا مانع منه ـ حسب ما مرّت الإشارة إليه في مقدّمة الواجب وسيجيء الكلام فيه إن شاء الله ـ ولا يرد عليه لزوم شيء من المفسدتين المذكورتين وذلك كاف في حصول ما ادّعاه من لزوم جواز اجتماع الأمر بالشيء مع الأمر بضدّه فيبطل به ما أراده من إبطال اللازم.

قوله : (إمّا لأنّهما نقيضان).

أراد بالتناقض في المقام عدم جواز الجمع بين الأمرين ، نظرا إلى تدافع مدلوليهما ، فيعدّ أحد الأمرين المذكورين مناقضا للآخر بحسب العرف مدافعا له

٢١٤

ولا يجوز حصول التدافع والتنافي في كلام الحكيم ، كما هو الحال فيما ينظر له من الخبرين المتناقضين فليس غرضه من ذلك كون أحد الخطابين متناقضا للآخر في حكم العقل حتّى يكون الجمع بينهما من قبيل الجمع بين المتناقضين ، كيف وتنظيره ذلك بمناقضة أحد الخبرين المفروضين للآخر ينادي بخلاف ذلك ، لوضوح إمكان صدور الخبرين عن الكاذب ، وحينئذ فالإيراد عليه ـ بأنّه لا تناقض بين الخطابين المذكورين ولا بين الخبرين المفروضين وإنّما التناقض في الخبرين بين ما اخبر بهما ولذا لا يجتمعان في الصدق دون نفس الخبرين ـ ليس على ما ينبغي.

نعم يمكن الإيراد عليه : بأنّ قضيّة ما ذكره من جواز اجتماع كلّ من الخلافين مع ضدّ الآخر هو أن لا يكون في أحدهما ما يمنع من الاجتماع مع ضدّ الآخر ، بل يجوز الاجتماع بينهما بملاحظة أنفسهما ولا ينافي ذلك حصول مانع خارجي من جواز الاجتماع كما في المقام ، حيث إنّ المانع منه حكمة الأمر ووقوع أحكامه على مقتضى حكم العقل ؛ ومع الغضّ عنه فاللازم على فرض تسليم ما ذكره جواز اجتماع الأمر بالشيء مع الأمر بضدّه في الجملة لا بالنسبة إلى كلّ مكلّف ، ولا ريب في جواز ذلك بالنسبة إلى أوامر السفهاء من غير أن يقضي بامتناعه منه شيء من الأمرين المذكورين ، وهو كاف فيما هو بصدده من جواز الاجتماع بينهما.

قوله : (وإمّا لأنّه تكليف بغير الممكن).

قد يقال : إنّ ما ذكره أوّلا من لزوم التناقض إنّما هو من جهة إيجاب الإتيان بالضدّين في زمان واحد ولا مفسدة فيه إلّا من جهة التكليف بالمحال ـ حسب ما مرّت الإشارة إليه ـ فلا وجه لعدّ ذلك وجها آخر.

وقد يجاب عنه : بأنّ امتناع التكليف بالمحال يقرّر من وجهين :

أحدهما : من جهة استحالة توجّه الإرادة نحو المحال مع العلم باستحالته.

وثانيهما : من جهة لزوم السفه بل الظلم أيضا لو ترتّب عليه العقوبة من جهة المخالفة ، فأشار بالوجه الأوّل إلى الأوّل وأراد بالثاني الاستناد إلى الجهة الثانية.

٢١٥

ودفع ذلك : بأنّ المحال تحقّق قصد المحال من العاقل وأمّا طلب المحال الّذي هو حقيقة التكليف دون إرادة الفعل فلا استحالة فيه إلّا من الجهة الثانية.

وفيه : أنّ ما ذكر من حقيقة التكليف وإن كان هو ما يقتضيه التحقيق ـ حسبما مرّ ويأتي الكلام فيه ـ إلّا أنّ ظاهر المشهور بين أصحابنا والمعتزلة هو اتّحاد الطلب والإرادة لا تغايرهما ، كما اختاره الأشاعرة ، فالجواب مبنيّ على ذلك دون ما ذكر.

نعم حمل العبارة على ما ذكر بعيد جدّا ، فإنّ الوجهين المذكورين كما ذكرنا قاضيان بامتناع التكليف بالمحال ، ومقتضى العبارة كون المفسدة الاولى مغايرة لذلك لا ربط لها بامتناع التكليف بالمحال ، فما ذكر في التوجيه تمحّل ظاهر لا وجه لحمل العبارة عليه ، فالمتّجه في دفع الإيراد حمل الوجه الأوّل على ما قرّرناه ، وذلك الوجه كاستحالة التكليف بالمحال مبنيّ على ثبوت التحسين والتقبيح العقليّين والمفسدة المترتّبة على كلّ من الوجهين من قبيل واحد ، وكأنّه لذا ردّد المستدلّ بينهما مشيرا بذلك إلى صحّة تقريره بكلّ من الوجهين.

قوله : (إن كان المراد بقولهم).

لا يخفى : أنّ الاحتمالين المذكورين في الجواب إنّما هما بالنسبة إلى الضدّ الخاصّ ولو كانت دعواهم العينيّة بالنسبة إلى الضدّ العامّ ـ حسب ما مرّ من أنّه الأنسب بالقول المذكور ـ يكون المراد بالضدّ الترك ويكون مفاد القول بأنّ الأمر بالشيء عين النهي عن ضدّه أنّ مفاد طلب إيجاد الشيء عين مفاد طلب ترك تركه ، إذ مفاد عدم العدم هو الوجود ، فإنّ كلّا من الوجود والعدم رفع للآخر ، فطلب الوجود وطلب عدم العدم شيء واحد وإن اختلف المفهوم منهما فهما عنوانان عن أمر واحد حسبما مرّ تفصيل القول فيه ، وحينئذ فلا حاجة في بيانه إلى ذلك الوجه الطويل مع وضوح فساده.

قوله : (منعنا ما زعموا أنّه لازم للخلافين).

قد عرفت : أنّ الدعوى المذكورة ليست بيّنة ولا مبيّنة بالدليل ، فهي في محلّ المنع بل من الواضح فسادها لما قرّر من الدليل على خلافها.

٢١٦

قوله : (وقد يكونان ضدّين لأمر واحد.)

لا يخفى : أنّ كونهما ضدّين لأمر واحد لا يقضي بعدم اجتماع كلّ منهما مع ضدّ الآخر في الجملة حسب ما يقتضيه المقدّمة المذكورة في الاحتجاج إلّا مع انحصار ضدّهما في ذلك.

نعم لو ادّعى كون حكم الخلافين جواز اجتماع كلّ منهما مع كلّ من أضداد الآخر صحّ ما ذكر ، إلّا أنّه لا دلالة في العبارة المتقدّمة على الدعوى المذكورة وإن توقّف عليها صحّة الاحتجاج في المقام ، كما مرّت الإشارة إليه.

قوله : (واعتذر بعضهم ... الخ).

يمكن أن يوجّه ما ذكره أيضا : بأنّ القائل المذكور قد يقول : بكون دلالة الأمر على الوجوب على سبيل الالتزام فيكون دلالته على المنع من النقيض التزاميّة أيضا ، لكونه جزءا من معناه الالتزامي ، فليس المراد بالتضمّن في كلامه هو التضمّن بمعناه المصطلح ليكون جزءا من معناه المطابقي ، بل أراد به الجزئيّة بالنسبة إلى معناه الالتزامي.

ويمكن أن يوجّه أيضا : بأنّه وإن كانت دلالته على المنع من النقيض تضمّنيّة إلّا أنّه لم يرد بالاستلزام في المقام كون دلالته على المنع من النقيض التزاميّة بل أراد به الاستلزام بين الدلالتين فيكون الدلالة على الكلّ مستلزما للدلالة على الجزء وهو كذلك ، إذ من البيّن كون الدلالة التضمّنيّة تابعة للدلالة المطابقيّة لازمة لها وإن اتّحدتا ذاتا ، فإنّ المغايرة الاعتباريّة القاضية بتعدّد الدلالتين كافية في الحكم بتبعيّة الثانية للاولى ولزومها لها ، فاللزوم في المقام بين الدلالتين دون المدلولين ، فأراد في الاحتجاج كون الدلالة تضمّنيّة والمأخوذ في الدعوى حصول اللزوم بين الدلالتين فلا منافاة.

قوله : (بأنّ الكلّ يستلزم الجزء).

كأنّه أراد بذلك إطلاق الاستلزام على مجرّد عدم الانفكاك ، كما عبّروا عن عدم انفكاك الكلّ عن جزئه باستلزامه له وإن لم يكن الجزء من لوازم الكلّ بحسب

٢١٧

الاصطلاح فكما يصحّ القول بأنّ الكلّ يستلزم الجزء يصحّ أن يقال : إنّ الأمر بالشيء يستلزم المنع عن نقيضه مع كون المنع من النقيض جزء من مدلوله ـ حسبما ذكره ـ وحينئذ فلا غبار عليه وكأنّ المصنّف رحمه‌الله فهم ممّا ذكره حمل الاستلزام على معناه الظاهر وأراد تصحيح كون الدلالة على الجزء من قبيل الاستلزام بما ذكره من استلزام الكلّ لجزئه ، ولذا قال : إنّه كما ترى مشيرا إلى ضعفه ، وأنت خبير بوهن ذلك ووضوح فساده فيبعد حمل كلام المعتذر عليه.

قوله : (لجواز كون الاحتجاج لإثبات كون الاقتضاء ... الخ).

قد عرفت : أنّ عقد النزاع في كيفيّة الاقتضاء بعد تسليم نفس الاقتضاء ممّا لا يترتّب عليه ثمرة أصلا فلا وجه لكون النزاع المعقود عليه بينهم في ذلك.

ثمّ إنّه قد نوقش في المقام بأنّه لو كان مراد المستدلّ هذا الاحتمال لم يخل تعبيره عن نوع استدراك لثبوت مطلوبه الّذي هو المغايرة بينهما بكون المنع من النقيض جزء من مفهوم الواجب فلا حاجة إلى ضمّ قوله : (فالدالّ على الوجوب ... الخ).

قلت : وكذا الحال لو حمل كلامه على بيان أصل الاقتضاء ، لوضوح أنّه بعد إثبات كون المنع من النقيض جزء من مفهوم الوجوب يثبت دلالته عليه ، فلا حاجة أيضا إلى ضمّ ما ذكر ، فلا يعقل فرق ولو في بادئ الرأي بين الوجهين حتّى يمكن تقرير الإيراد المذكور على أحد الوجهين دون الآخر.

وقد أجاب المورد من المناقشة المذكورة : بأنّه لمّا كان الكلام في مدلول الصيغة لوحظ كون الوجوب مدلولا للصيغة حتّى يكون الدالّ على الوجوب دالّا على المنع من النقيض وهو أيضا مشترك بين الوجهين كما نبّه عليه المورد المذكور ، فالمناقشة المذكورة ليست في محلّها.

نعم لو ناقش من جهة استدراك المقدّمة المذكورة ثمّ أجاب بما ذكر لربما كان له وجه.

قوله : (أن يردّد في الجواب بين الاحتمالين).

٢١٨

كأنّه أراد بذلك الترديد في الشقّ الأوّل من الجواب بين الاحتمالين المذكورين من كون الاحتجاج لكيفيّة الاقتضاء أو لأصل اقتضائه فيتلقّى بالقبول بناءا على الأوّل ويرد بما ذكر في الجواب من خروجه عن محلّ النزاع على الثاني ، ويدلّ على إرادة ذلك : أنّ ما تنظر فيه المصنّف من الجواب المذكور إنّما هو بالنسبة إلى ذلك الشقّ دون الشقّ الثاني ، فلا كلام له فيه أصلا وإنّما إيراده على إطلاق المجيب في إيراده على الشقّ الأوّل ، بل كان ينبغي له التفصيل الّذي ذكره في التحقيق.

فظهر بذلك أنّ ما فسّره بعضهم من كون المراد بالأوّل هو إرادة الترك وبالثاني هو إرادة الأضداد الخاصّة ليس على ما ينبغي ، كيف ولو أراد الأوّل وكان كلامه في إثبات أصل الاقتضاء ورد عليه ما أورده على المجيب ، وقد اعترف به المصنّف أيضا حيث قال : إنّ ما ذكر في الجواب إنّما يتمّ على التقدير الثاني فلا وجه لأن يتلقّاه بالقبول مطلقا ، كيف وما ذكره حينئذ عين كلام المجيب ، فكيف يجعل ذلك مقتضى التحقيق بعد ذكره الإيراد المذكور على الجواب ، مضافا إلى ما فيه من التعسّف لبعد إرادة الاحتمالين المذكورين في كلام المجيب عن ظاهر كلامه ، نظرا إلى بعدها عن العبارة وإنّما المنساق منه هو ما ذكره المصنّف من الاحتمالين فإنّ ظاهر قوله : (والتحقيق : أن يردّد بين الاحتمالين) عدم حصول ذلك من المجيب وإنّه الّذي ينبغي أن يذكر في الجواب ، فلا وجه لأن يحمل الاحتمالان المذكوران على ما ذكره في التفسير المذكوره وكذا ما فسّره به بعض آخر : من أنّ المراد بالأوّل أن يكون الاحتجاج لإثبات كيفيّة الاقتضاء فيتلقّى بالقبول ، لأنّ له محلّا صحيحا وهو حمل الضدّ على العامّ بمعنى الترك وبالثاني هو إثبات أصل الاقتضاء فيردّد النقيض حينئذ بين الترك والضدّ الخاصّ.

ويجاب عنه على حسب ما ذكر في كلام المجيب ، إذ لا يخفى ما فيه من التعسّف ، فإنّ مجرّد صحّة الحكم على بعض الفروض لا يقتضي قبوله مطلقا بل لا بدّ من التفصيل فيتلقّى بالقبول على أحد الوجهين ويردّ على الآخر.

٢١٩

ودعوى ظهور العبارة حينئذ في إرادة الضدّ العامّ لبعد إطلاق النقيض على الأضداد الخاصّة الوجوديّة غير مسموعة ، ولو كان كذلك لجرى ذلك في الصورتين ، فلا وجه للترديد على الثاني دون الأوّل بل ينبغي ذكره في الوجهين أو تركه فيهما.

قوله : (إنّ الأمر الإيجابي طلب فعل ... الخ).

يمكن أن يقال : إنّ الدليل المذكور هو الدليل الأوّل بعينه ؛ غاية الأمر أنّه اخذ هنا زيادات لم تؤخذ في الأوّل ، ومناط الاستدلال في المقامين واحد ، فقد اعتبر هناك كون مدلول الأمر طلب الفعل مع المنع من النقيض الّذي هو بمعنى حرمة النقيض وهنا قد جعل مفاد الأمر طلب الفعل على وجه يذمّ على تركه ومفاد ذلك هو حرمة الترك أيضا ، وما ذكره من الوجه في إرجاع الترك إلى الفعل جار في الأوّل أيضا إلّا أنّه لم يلتفت إليه هناك.

نعم قد صرّح في الأوّل بكون المنع من النقيض جزءا للوجوب ومدلولا تضمّنيّا له ، وهنا لم يصرّح بذلك بل ظاهر عبارته حامل لكون ذلك مدلولا التزاميا له لاحتمال أن يؤخذ الوجوب طلبا خاصّا من لوازمه استحقاق الذمّ على تركه ، وحينئذ يمكن الجمع بينه وبين الدليل الأوّل ليتوافق مؤدّاهما بأنّ المأخوذ في الأوّل كون حرمة النقيض جزءا من مدلول الأمر والمأخوذ في الثاني على التقدير المذكور كون استحقاق الذمّ لازما له فلا منافاة لوضوح أنّ استحقاق الذمّ من لوازم التحريم ، فاستند هناك إلى كون تحريم النقيض جزءا من مفهوم الوجوب الّذي هو مدلول الأمر وهنا إلى ما يلزمه من استحقاق الذمّ على الترك وأكمل ذلك بإرجاع الترك إلى الفعل حسب ما قرّرناه.

قوله : (ولا نزاع لنا في النهي عنه).

قد يورد عليه : بأنّه يرد عليه عين ما أورده على المجيب عن الدليل الأوّل فإنّه ذكر أيضا خروج ذلك عن موضع النزاع فأورد عليه بعدم صحّة الإطلاق المذكور وأنّ التحقيق الترديد بين الاحتمالين ، ويدفعه أنّه لمّا كان تقرير هذا

٢٢٠