هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٨٣

ومنها : ظهور انتفاء الدلالات الثلاث ، إذ كما انّ مدلول الصيغة قسم خاصّ من الطلب بسيط لا يبقى مطلقه بعد زوال خصوصيّته على ما تقدّم بيانه في المسألة السابقة كذلك متعلّقها المقيّد بالوقت المخصوص أمر واحد ينتفي بانتفاء قيده.

ويشهد به أنّه لو صرّح الآمر بعد ذلك بنفي القضاء لم يكن ناسخا أو مناقضا لكلامه الأوّل ، بل ولا منافيا لظاهره ، كما هو معلوم من اللغة والعرف ، وأنّ من أخبر بوجوب الجمعة والعيدين في أوقاتها مع انتفاء القضاء فيها لم يكن كاذبا بالضرورة.

فإن قلت : إنّ الخصم قد لا يدّعي دلالة الأمر بنفسه على إيجاب القضاء بل يقول باستصحاب وجوب المقيّد بعد زوال قيده ، فالدالّ على القضاء حينئذ هو الاستصحاب دون الأمر.

قلت : إنّ الاستصحاب في ذلك يتوقّف على إثبات دلالة الأمر على الإيجاب المطلق، لأنّ وجوب المقيّد لا يقبل البقاء بعد زوال قيده ، ونحن نمنع دلالة الأمر عليه بعين ما ذكر في عدم دلالته على إيجاب القضاء.

ومنها : أنّ التقييد بالوقت كسائر القيود الواقعة في الخطابات التكليفيّة والوضعيّة ، من مكان أو حال أو تميز أو إضافة أو فصل أو خاصّة أو غيرها ، ولم يعهد من أحد من العقلاء توهّم بقاء مطلقاتها بعد زوال قيودها وخصوصيّاتها بنفس تلك الخطابات أو بضمّ قاعدة الاستصحاب إليها ، وليس للوقت المضروب للعبادة خصوصيّة يمتاز بها عن غيرها في ذلك ، فيكون الحال فيه أيضا كذلك ، بل الحال فيما بعد الوقت وقبله في ذلك سيّان ، لتساويهما في وقوع الفعل خارج الوقت. وليس الغرض من القبل الزمان السابق على الخطاب ، بل ما بين الخطاب ودخول الوقت ، فلو دلّ على حكم المطلق كان شموله لما بعد الوقت كشموله لما قبله ، إلّا أن يفرّق بين الحالين في جريان الاستصحاب أو في صحّة الفعل وفساده إذا كان عبادة نظرا إلى اقتضاء الأمر بإيقاعه في الوقت للنهي عن تقديمه بخلاف التأخير ، لسقوط التكليف به بفوات الوقت وذلك أمر آخر. وقد يرتفع الاثم بضرب من الأعذار الشرعيّة فيلزم القول بصحّة تقديمه حينئذ فضلا عن غير العبادة ولم

٦٦١

يقل به أحد ، للقطع بتوقّف شرعيّة التقديم على قيام دليل آخر عليه كما في صلاة الليل وغسل الجمعة والزكاة وغيرها.

ومنها : أنّ الواجبات الشرعيّة منها ما يثبت فيه القضاء كالصلاة والصيام ، ومنها ما لا قضاء له كالجمعة والعيدين والجهاد ونحوها ، فيكون مدلول الأمر قدرا مشتركا بين القسمين ، ومن البيّن أنّ الأعمّ لا دلالة له على الأخصّ.

ودعوى استناد نفي القضاء في القسم الثاني إلى دليل من خارج ليس بأولى من العكس فتأمّل.

ومنها : أنّه لو دلّ على طلب الفعل في خارج الوقت أيضا لكان مندرجا في ماهيّة المأمور به كاندراج فعله في الوقت ، فيكون الأمر الواحد شاملا لهما معا فيلزم أن يكون الإتيان به في خارج الوقت أداء أيضا ، وهو مع مخالفته للضرورة خروج عن محلّ المسألة ، إذ الكلام إنّما هو في تبعيّة القضاء للأداء.

فإن قلت : لا كلام في وجوب مراعاة الوقت فيكون عاصيا بمخالفته على كلا القولين.

قلت : مجرّد ذلك لا يكفي في صدق القضاء على وقوعه في خارج الوقت ، إذ غاية الأمر أن يكون الحال في الواجبات الموقّتة على ما يدّعيه الخصم على نحو الحال في الحجّ إذا عصي بتأخيره عن السنة الاولى ، والدين إذا أخّره عن وقت الحلول ، وإزالة النجاسة عن المحترمات إذا أخّرها ، والقضاء على القول بالمضايقة عند تأخيره عن وقت الإمكان إلى غير ذلك. ولا شكّ أنّ شيئا من ذلك لا يسمّى قضاء ، وذلك أنّ وجوب المبادرة إليها ثابت بطلب آخر من غير أن يكون مأخوذا في أصل وجوبها ، فإذا كان الحال في المقام كذلك كان حكمها أيضا على ما ذكر ومن البيّن خلافه.

فإن قلت : قد لا يدّعي الخصم شمول الخطاب بنفسه للقضاء ليلزم رجوعه إلى الأداء بل يستصحب حكم المطلق الثابت في ضمن المقيّد فيما بعد الوقت.

قلت : إن كان القيد المفروض مأخوذا في وجوب المطلق لم يجز استصحابه لزوال موضوعه ، وإلّا كان الحال فيه على نحو الأمثلة المذكورة. ولذا استدلّ

٦٦٢

الخصم ببعض تلك الأمثلة مدّعيا مساواة المقام معها فلا يخرج عن موضوع الأداء ، كيف والاستصحاب إنّما يقتضي الحكم ببقاء ما كان ، على ما كان فكيف يقضي بانتقال الحكم من الأداء إلى القضاء.

ومنها : أنّه لو تمّ ذلك لزم تساوي الفعلين لاندراجهما في مدلول الأمر وتساوي نسبة الأمر إليهما ، فيلزم القول بتخيّر المكلّف بينهما وهو بيّن البطلان.

وأورد عليه : بأنّ للخصم أن يقول بأنّي أدّعي أنّه أمر بالصلاة وبإيقاعها في يوم الخميس فلمّا فات إيقاعها فيه ـ الّذي به كمال المأمور به ـ بقي الوجوب مع نقص فيه.

وفيه : انّه على ذلك يكون المطلوب بالأمر شيئين أحدهما : مطلق الصلاة سواء وقعت في الوقت أو في خارجه أو الصلاة في الجملة لكي يستصحب حكمها فيما بعد الوقت ، والآخر : إيقاعها في يوم الخميس ، فهو بالاعتبار الأوّل لا ترتيب فيه ، فيكون بهذا الاعتبار مفيدا لتخيير المكلّف بينهما ، وإنّما وجب الترتيب بالاعتبار الثاني وليس الكلام فيه، وذلك أنّ الحكم الثاني إذا اعتبر قيدا في الأوّل امتنع شمول الأوّل لما بعد الوقت ، بل واستصحابه أيضا كما عرفت.

ومنها : أنّه إذا علّق الفعل بوقت معيّن فلا بدّ أن يكون ذلك لحكمة ترجع إلى المكلّف ، إذ هي الأصل في شرع الأحكام ظهرت أو لم تظهر. وتلك الحكمة إمّا أن تكون حاصلة من الفعل في غير ذلك الوقت أو غير حاصلة ، والأوّل غير جائز ، لأنّها حينئذ إمّا أن تكون مثلا لها أو أزيد ، والثاني باطل ، وإلّا كان الحثّ على إيجاد الفعل بعد فوات وقته أولى من إيجاده في الوقت وهو محال ، وإن كانت مثلا لم يكن تخصيص أحد الوقتين بالذكر أولى من الآخر. ولأنّ الفعل في الوقت أداء وقد ورد «أنّه لم يتقرّب المتقرّبون إليّ بمثل أداء ما افترضت عليهم» (١). ولأنّ الأصل عدمه. فإذا لم تكن حاصلة في الوقت الثاني حسب حصولها في الأوّل ،

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١ ب ٢٣ من أبواب مقدّمات العبادة ص ٧٨ ح ١٧ ، وفيه هكذا «ما يتقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه».

٦٦٣

فلا يلزم من اقتضاء الأمر للفعل في الوقت أن يكون مقتضيا له فيما بعده ، وكان هذا كما لو أمر الطبيب بشرب الدواء في وقت فإنّه لا يكون متناولا لغير ذلك الوقت.

وكذلك إذا علّق الفعل بشرط معيّن كاستقبال جهة معيّنة أو بمكان معيّن كالأمر بالوقوف بعرفة فإنّه لا يكون متناولا لغيره.

كذا ذكره الآمدي ، وهو تطويل من غير طائل ، إذ لا شكّ في اختصاص بعض المصالح بمراعاة الوقت ، إنّما الكلام في كون تلك المصلحة قاضية بالأمر بها مستقلّا أو مقتضية للتقييد المطلوب بها مطلقا ، وليس فيما ذكر دلالة على أحد الأمرين ، على أنّ هناك قسما ثالثا وهو أن يكون الحكمة حاصلة في الوقت الثاني على وجه يكون أنقص من الأوّل ، فيكون الزيادة قاضية باختصاص الوقت الأوّل بالطلب المخصوص ، والقدر المشترك قاضيا بإطلاق الطلب.

ومنها : أنّ ما دلّ على وجوب القضاء في أكثر العبادات الفائتة يدور بين التأكيد والتأسيس ، فإن كان مأمورا به بالأمر الأوّل كانت فائدة تلك الأدلّة مجرّد التأكيد ، وإلّا كانت فائدتها التأسيس ، وهو أولى ، لعظم فائدته. وهو وجه ضعيف.

حجّة القول الآخر وجوه :

الأوّل : أنّ الفعل قبل خروج الوقت كان واجبا ، فالأصل بقاؤه على الوجوب فيما بعده حتّى يقوم دليل على سقوطه.

وفيه : أنّ الوجوب إنّما تعلّق هناك بالفعل المقيّد بالوقت فيمتنع بقاؤه فيما بعده ، لامتناع متعلّقه حينئذ فيكون من التكليف بالمحال ، والفعل الواقع فيما بعد الوقت لم يكن واجبا من قبل حتّى يتصوّر استصحابه.

ويمكن الجواب عنه : بأنّه إنّما يتمّ إذا كان الوقت المفروض قيدا للواجب دون الوجوب بأن يكون الطلب متعلّقا بالفعل المقيّد بالوقت. أمّا إذا كان الوقت ظرفا للوجوب فلا وجه لتقييد الفعل به ، فيكون المطلوب هو الماهيّة المطلقة ، والطلب في الوقت مستندا إلى النصّ وفي خارجه إلى الاستصحاب ، وهذا هو

٦٦٤

الظاهر من جملة من الأوامر الواردة كقوله تعالى (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) لتعلّق الظرف فيه بالأمر دون الصلاة.

ويدفعه : أنّ التقييد في المقام راجع إلى تقييد المأمور به لا محالة ، للقطع بوجوب مراعاة الوقت ، وأداء الفعل فيه ، وحصول العصيان بتأخيره عنه ، فالواجب هو الإتيان بالفعل في الوقت خاصّة. ولو كان الواجب مطلق الفعل والوجوب حاصلا في الوقت بالنصّ وفي خارجه بالاستصحاب لجاز تأخيره عن الوقت ، فيرجع حينئذ إلى غير الموقّت ، بل لا يمكن إطلاق المأمور به وتقييد الأمر ، وإلّا لزم خروج الواجب عن الوجوب ، أو بقاء المقيّد بدون القيد. ثمّ إنّ المفروض ثبوت التقييد بالوقت ومعه فلا وجه للاستصحاب سواء كان القيد مأخوذا في الطلب أو المطلوب ، إلّا أنّه على الأوّل يمتنع بقاؤه ، وعلى الثاني يمتنع بقاء متعلّقه ، بل الأوّل أولى بالمنع ، لأنّه من المحال والثاني من التكليف بالمحال ، وإنّما يعقل الاستصحاب في المقام عند الشكّ في الإطلاق والتقييد ، بأن يكون القدر المعلوم ثبوت الوجوب في الوقت من غير أن يكون هناك شاهد على اشتراطه به أو إطلاقه ، فيستصحب فيما بعده ويكون أداء ، وهو أمر خارج عن محلّ المسألة ، على أنّ في صحّة الاستصحاب في مثله أيضا كلاما ، لكونه من الشكّ في المقتضي ، والمختار في مثله عدم جريان الاستصحاب ، واختصاصه بالشكّ في المزيل عند العلم بحصول ما يقتضي البقاء.

الثاني : أنّ الأمر إنّما يدلّ على طلب الفعل وهو مقتضاه لا غير ، وأمّا الزمان فلا يكون مطلوبا بالأمر ، إذ ليس هو من فعل المكلّف وإنّما وقع ذلك ضرورة كونه ظرفا للفعل. وهذا الكلام وإن تكرّر ذكره في كتبهم لكنّه مغالطة واضحة ، إذ ليس الغرض تعلّق الطلب بنفس الوقت ، بل المفروض وجوب مراعاته وأداء الفعل فيه والمنع من تأخيره عنه ، فالمطلوب هو الفعل المقيّد به ، فلا يعقل بقاؤه بعده ، والّذي هو من ضروريّات فعل المأمور به ولوازمه هو مطلق الزمان لا خصوص الوقت المفروض.

٦٦٥

وبالجملة ففساد التعليل المذكور ظاهر.

ومثله ما قيل : من أنّه لو سقط وجوب الفعل بفوات الوقت لسقط الإثم ، لأنّه من أحكام وجوب الفعل ، فيلزم خروج الواجب عن كونه واجبا ، وذلك أنّ الإثم يترتّب على تفويت المأمور به ، ومن المعلوم أنّه لا بقاء له بعد فواته ، كما في سائر موارد العصيان ، إذ لا يعقل بقاء التكليف بعد فوات محلّه بالموت أو غيره ، وإنّما تبقى الإثم فيه ، فإنّه من لوازم التكليف السابق ، ولو فرض بقاء محلّه لم يكن هناك إثم ، وإنّما يلزم خروج الواجب عن الوجوب إذا سقط من غير إثم كما مرّت الإشارة إليه.

الثالث : أنّ العبادة حقّ الله والوقت المفروض كالأجل له ، فيكون الحال فيه على نحو الآجال المقدّرة في الديون وسائر الحقوق والمعاملات بالأصل أو الشرط ، كالأجل المقرّر في الشرع لأداء الدية في العمد وغيره ، والمشروط في السلم والنسيئة والقرض وغيرها. ومن البيّن أنّ شيئا من ذلك لا يسقط بتأخير الأداء وإن حصل الإثم به فكذا في المقام ، وهو قياس مع وضوح الفارق ، لثبوت اشتغال الذمّة هناك بمطلق الحقّ ، وإنّما اعتبر الوقت المخصوص ليكون عليه المدار في المطالبة وعدمها ، وجواز التأخير وعدمه وليس بمأخوذ في موضوعه ، ولذا لا يصدق عليه القضاء عند أدائه بعد انقضاء أجله ، بخلاف العبادات الموقّتة لما عرفت من تقييدها بأوقاتها المقدّرة ، وكذا ما أشبهها من غيرها كحقّ الخيار والشفعة وغيرهما ، لامتناع بقائهما مع تقييدهما ببعض الأزمنة بالأصل أو الشرط كسائر القيود المأخوذة في موضوع الحكم لانتفائه بانتفاء شيء من قيوده فلا يعقل بقاء حكمه ، إنّما يتمّ ما ذكر في مثل القضاء الثابت في الذمّة ـ وإن قلنا بوجوب المبادرة إليه في أوّل زمان الإمكان والأداء في الوقت على القول بوجوب المسارعة إليه في أوّله ـ والحجّ الواجب على المستطيع وإن وجب تعجيله في السنة الاولى ولذا لا يكون شيء منها في الزمان المتأخر قضاء لعدم كون الوقت فيها مأخوذا في ماهيّة المطلوب وإنّما هناك تكليف آخر تعلّق بأدائه فيه.

٦٦٦

الرابع : أنّه لو كان القضاء ثابتا بأمر جديد مستقلّ فيه لكان واجبا آخر غير الأوّل ، وكان كالأوّل أداء للفعل الواجب في وقته المضروب له ، وهو : ما بعد الوقت المقرّر للواجب الأوّل ، فهما إذن واجبان لكلّ منهما وقت معيّن إلّا أنّ الثاني مشروط بترك الأوّل فلا معنى لكون أحدهما أداء والآخر قضاء ، وهو باطل بالاتّفاق.

وفيه : أنّ الثاني وإن وقع في وقته ومحلّه لكنّ الأمر به إنّما وقع لتفويت الأوّل ليكون بدلا عمّا فات واستدراكا له ، ولا نعني بالقضاء إلّا ذلك ، وإنّما يخرج عن حقيقته على ما زعمه الخصم كما عرفت ، لعدم فوات حقيقة المطلوب الأوّل عنده وبقاء وجوبه بنفس ذلك الأمر على ما زعمه.

الخامس : أنّ الغالب في الواجبات الموقّتة وجوب قضائها عند فوات أوقاتها المعيّنة ولابدّ لذلك من مقتض ، والأصل عدم ما سوى الأمر السابق فكان هو المقتضي وهو ظاهر الفساد ، لوجود الأدلّة في تلك الموارد على ثبوت القضاء. فكيف! يقال بأصالة عدمها ، على أنّ الأصل المذكور معارض بأصالة عدم دلالة الأمر الأوّل عليه أيضا ، فكان المقتضي غيره. ثمّ الأصل في المقام لا يجدي شيئا ، لكونه من الأصل المثبت وقد تقرّر عدم اعتباره.

ومنهم من قرّر الوجه المذكور بأنّ التتبّع يورث الظنّ بثبوت القضاء في كلّ موقّت فات في وقته إذا كان واجبا ، إذ لا يوجد في الواجبات خلاف ذلك إلّا في العيدين والجمعة ونحوهما ، فيحصل الظنّ بأنّ منشأ الحكم بوجوب القضاء إنّما هو الأمر الأوّل.

وهو أيضا كما ترى ، لأنّ تفريع الأمر الأخير على الأوّل فاسد. غاية الأمر جواز إثبات القضاء في محلّ الشكّ بالظنّ الحاصل من الغلبة. وهو بعد تسليمه وتسليم حجّيّته في مقابلة الاصول القطعيّة القاضية بالبراءة خارج عن محلّ الكلام ، لاستناد القضاء إذن إلى الدليل وهو الغلبة دون الأمر الأوّل ، فإن اريد أنّ الباعث على إيجاب القضاء هو الأمر الأوّل فهو أمر بيّن ، بل لا نعني بالقضاء إلّا ذلك ، ولا ربط له بالمقصود من كون الأوّل دليلا على ثبوت القضاء ، بل المفروض خلافه.

٦٦٧

السادس : أنّه قد ورد في الشرع إطلاقات تقضي بثبوت القضاء في كلّ فائتة فيثبت بها قاعدة شرعيّة وافية بما هو المقصود ، كقوله عزّ من قائل : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً)(١) لتحقّق الذكر والشكر بالإتيان بالمطلوب في خارج الوقت.

ويعضده بعض الأخبار الواردة في تفسيره وقوله عليه‌السلام : «من فاتته فريضة فليقضها كما فاتته» (٢) لشمولها لمطلق لمطلق الفرائض. وقوله عليه‌السلام : «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» (٣). فإنّ من فاته الوقت الأوّل مستطيع للفعل في الوقت الثاني. وقوله عليه‌السلام: «الميسور لا يسقط بالمعسور» لصدق الميسور على القضاء فيجب.

وفيه أوّلا : أنّه لا ربط له بالمدّعى ، إذ المقصود ثبوت القضاء بنفس الأمر الأوّل وكونه تابعا للأداء ، وأين ذلك من إثباته بدليل آخر.

وثانيا : أنّ القاعدة المذكورة في محلّ المنع ، وليس في الآية الشريفة دلالة عليها ، إذ بعد تسليم صدق الشكر على فعل المأمور به فدلالتها على ثبوت القضاء موقوفة على اثبات كونه مأمورا به ، فلو توقّف ذلك على دلالتها عليه لزم الدور. وأما تجويز مطلق الذكر والشكر فذلك أمر آخر غير ما نحن فيه. والخبر الأوّل ظاهر في الصلاة المفروضة فلا يعمّ غيرها. والأخيران مع ضعفهما لا يدلّان على اندراج القضاء في المطلوب إلّا بعد إثبات وجوبه بدليل آخر وهو أوّل الكلام ، إذ المأمور به والثابت هو المقيّد بالوقت وقد علم سقوطه من أصله وغيره ليس من أجزائه ولا من أفراده ، فلا يصدق أنّه منه ولا أنّه ممّا ثبت أوّلا حتّى يدلّ نفي سقوطه على إثباته ، فإنّ السقوط فرع الثبوت ولو في الجملة.

ودعوى تركّب المقيّد من المطلق والقيد فيصدق على المطلق بعد تعذّر القيد : أنّه القدر الميسور المستطاع من المأمور به.

مدفوعة بأنّ غاية ما يمكن استفادته من الخبرين أنّه لو وجب على المكلّف

__________________

(١) الفرقان : ٦٢.

(٢) عوالي اللئالي : ج ٢ ص ٥٤ ح ١٤٣.

(٣) عوالي اللئالي : ج ٤ ص ٥٨ ح ٢٠٦.

٦٦٨

أمور متعدّدة في الخارج لم يسقط بعضها بتعذّر بعض ، سواء كان المطلوب مركّبا منهما أو كان المتعذّر عند إمكانه شرطا شرعيّا للمأمور به ، فكلّ ما كان من القيود من هذا القبيل أمكن إدراجه في تلك القاعدة على تقدير ثبوتها كما سيجيء.

وأمّا التركيب العقلي أو الاعتباري من الجنس والفصل وغيرهما فلا يجدي في ذلك شيئا ، وإلّا لزم عدم سقوط شيء من الواجبات عند تعذّرها بجميع أجزائها وشرائطها مع التمكّن من بعض الأفعال الاختياريّة لاشتراكهما في جنس الفعل ، وعدم سقوط التكليف المتعلّق بشيء من الأجسام عند التمكّن من بعضها نظرا إلى اشتراكها في الجنس البعيد أو القريب أو النوع أو الصنف. فيجب الأكل وغيره من الأفعال عند تعذّر العبادات ، ويجب على المكلّف بإكرام العالم العادل ـ مثلا ـ إكرام الفاسق عند تعذّره ، وعلى المكلّف بالإتيان بزيد عند تعذّره أن يأتي ببكر أو بحيوان أو بجماد ، لكونه القدر الميسور من الجنس أو النوع أو الصنف أو المطلق ، بل الممكنات كلّها مشتركة في جنسها ، فيكون التمكّن من شيء منها موجبا لاندراجه في القدر الميسور من كلّ فائت ومتعذّر وإن كان بينهما بعد المشرقين ، وكلّ ذلك خلاف الضرورة ، إنّما المدار على الصدق العرفي المتوقّف على تعدّد الفعل في الخارج ـ كالطهارة والصلاة ـ أو تركّب متعلّقه في الخارج ـ كالغسل بماء السدر والكافور والتكفين والتحنيط بالقدر الواجب ـ فإذا تعذّر بعضه لم يسقط الباقي بناء على القاعدة المذكورة. وأمّا خصوصيّات الأنواع والأصناف والأفراد المأمور بها فتعذّرها قاض بتعذّر الإتيان بالمطلوب من أصله ، ومنها خصوصيّة الزمان والمكان ، فإذا دار الأمر بين مراعاة بعض القيود الّتي يكون من القسم الأوّل والثاني تعيّن تقديم الثاني.

ومن هذا الباب ما يظهر من استقراء أحكام الشرع وتتبّع النصّ والفتوى من تقديم مراعاة الأوقات ونحوها على مراعاة كثير من شرائط العبادات وأجزائها ، ولذلك لا يضرّ نقصان الطهارة بجبيرة أو تقيّة أو غيرهما ونقص القيام والاستقرار والساتر والطهارة المائيّة وغيرها من الشرائط وما عدا الأركان من الأجزاء مع

٦٦٩

إمكان مراعاتها في خارج الوقت ، وذلك أنّ الفعل الواقع في خارج الوقت لا يعدّ من القدر الميسور المستطاع من المأمور به ، بخلاف الفاقد للأجزاء والشرائط المذكورة فلا يسقط بتعذّرها على القاعدة المذكورة ، على أنّ فيها كلاما يأتي إن شاء الله تعالى.

وكيف كان فلا ربط لذلك بمحلّ المسألة.

والحقّ أنّ المسألة من الواضحات المستغنية عن تجشّم إقامة الأدلّة عليها ، ومثلها الحال في كلّ مشروط تعذّر الإتيان ببعض شرائطه أو فات بعض قيوده ، فالأصل عدم مطلوبيّة المطلق منه في العبادات وعدم ترتّب الأثر عليه في غيرها إلّا بدليل آخر ، فظهر ممّا مرّ حكم المسألة الاولى وما يلحق بها ممّا يندرج في القاعدة الّتي اشير إليها.

المسألة الثانية : أنّه إذا تعلّق الطلب بالمجموع المركّب من أجزاء خارجيّة فهل الأصل سقوط التكليف بالكلّ عند تعذّر الإتيان ببعض أجزائه أو سقوطه بسائر الأعذار العقليّة أو الأدلّة النقليّة إلى أن يقوم دليل آخر على ثبوت الباقي ، أو الأصل وجوبه إلى أن يقوم دليل على سقوطه أيضا ، وظاهر العنوان تعلّق التكليف أوّلا بالكلّ وعروض المسقط بعد ذلك.

ويمكن فرض المسألة فيما حصل العذر المذكور للمكلّف قبل تعلّق التكليف به وتوجّه الخطاب إليه ، أو قام الدليل أوّلا على سقوط الجزء المفروض ثمّ دخل الوقت فهل الأصل تعلّق التكليف بسائر الأجزاء أولا؟ ومنه النسخ فيما لو قام دليل إجمالي على نسخ وجوب الجزء المفروض مع السكوت عن الباقي ، فهل يدلّ على نسخ المجموع أم لا؟ وعلى التقادير فقد يكون الساقط جزءا معيّنا من أجزاء المأمور به ، وقد يكون أحد الأجزاء على سبيل الترديد ، كما لو ضاق الوقت عن الإتيان بالكلّ دون البعض فهل يجب الإتيان بالبعض أو لا؟ ومع وجوب الجميع فهل يجب مراعاة الوقت بالقدر الممكن أو لا؟ فيتخيّر بينه وبين الإتيان بالجميع في خارجه أو يبنى ذلك على الخلاف في كونه بتمامه قضاء أو مركّبا من الأداء والقضاء.

٦٧٠

هذا إذا لم يقم هناك دليل على إلحاقه بإدراك الوقت. ولا فرق في محلّ المسألة بين اتّصال الأجزاء بعضها بالبعض وانفصالها ، كالطلب المتعلّق بالعدد المعيّن حيث لا يكون هناك شاهد على مطلوبيّة الآحاد. ولا يجري المسألة في العامّ الاصولي ، إذ العموم فيه إن كان بدليّا حصل الامتثال بكلّ فرد ممكن وإن تعذر الباقي وإلّا وجب الإتيان بالقدر الممكن، كما لو قال : أكرم العلماء فلم يتمكّن من إكرام جماعة منهم فإنّه يجب إكرام الباقين ، بخلاف ما لو تعلّق الحكم بمجموع الأفراد من حيث المجموع حيث لا يكون هناك دليل على حكم الفرد ، كصيام الشهرين وإطعام الستّين في الكفّارة ونحو ذلك.

وتحقيق المسألة : أنّ الطلب قد يتعلّق بمجموع الأجزاء أو الأفراد المفروضة على وجه يكون للهيئة المجموعيّة مدخليّة في مطلوبيّة الفعل حال التمكّن من جميع أجزائه وثبوت التكليف به بحيث ينتفي مطلوبيّة الفعل في تلك الحال بانتفاء شيء من أجزائه إلّا بالطلب التبعي الغيري الثابت للمقدّمات.

وقد يتعلّق بها على وجه يحصل الامتثال بالقدر المأتيّ به منها في حال التمكن من غير أن يتوقّف تحقّقه على ضمّ غيره إليه إلّا أنّه يبقى الباقي في عهدته حتّى يأتي به.

وقد يشكّ في ذلك فلا يكون هناك شاهد على شيء من الوجهين.

وعلى الأوّل : فإمّا أن يكون اجتماع الأجزاء في تلك الحال شرطا في صحّة العمل فيبطل بالإخلال بشيء منها ويجب إعادتها كما في الصلاة والصيام ، أو لا يكون كذلك إلّا أنّه لا يحصل الامتثال إلّا بالمجموع كإطعام الستّين وأداء الصاع في الفطرة والإتيان بالعدد المنذور ونزح المنزوحات المعيّنة من البئر عند وقوع النجاسة فيها على القول بوجوبه من باب التعبّد إلى غير ذلك ، إذ لا يبطل البعض المأتيّ به من تلك الأفراد بترك الباقي ولا يجب إعادته لكن لا يحصل الامتثال إلّا بالإتيان بالكلّ ، إذ ليس هناك إلّا أمر واحد تعلّق بالمجموع.

وعلى الثاني : فقد يكون المأمور به امورا متعدّدة لا تندرج تحت عنوان

٦٧١

واحد ، وقد يكون أفرادا متعدّدة مندرجة في ماهيّة واحدة بحيث يكون كلّ واحد منها مأمورا به ـ كأفراد الصيام أو الصلاة أو غيرهما ـ وقد يكون أمرا واحدا مركّبا من أجزاء خارجيّة يطلق على كلّ جزء منها اسم الكلّ ، كستر العورة وقراءة القرآن وأداء الدين وغيرها ، وقد لا يطلق على الجزء اسم الكلّ ويكون الهيئة المجموعيّة مطلوبة من حيث الخصوصيّة ، والأبعاض أيضا مطلوبة للآمر. فينحلّ الأمر في ذلك إلى طلبين ومطلوبين : أحدهما : المجموع من حيث المجموع ، والآخر : الأبعاض فيحصل امتثال الثاني في كلّ بعض على قدره ، ويتوقّف امتثال الأوّل على الإتيان بالباقي كما في الطلب المتعلّق بالأعداد المعيّنة من الأذكار والدعوات في بعض المقامات. وقد لا يكون الهيئة مطلوبة من حيث الخصوصيّة وإنّما وجبت على سبيل الاتّفاق ، كما في النفقات والأخماس والزكوات وغيرها ممّا لا يكون للقدر المخصوص منها خصوصيّة مطلوبة.

وعلى الثالث : فقد يحصل العلم بمطلوبيّة الهيئة المجموعيّة من حيث هي ويشكّ في مطلوبيّة الأبعاض بالأمر الوارد فيها كالطلب الاستحبابي المتعلّق بالأدعية المأثورة ، وقد يشكّ فيهما معا فلا يعلم أنّ المطلوب هو الهيئة التركيبيّة فلا يكون البعض مطلوبا ، أو الأبعاض فلا يكون الهيئة مطلوبة من حيث هي ، أو كلّ من الأمرين.

هذا كلّه فيما إذا كان الفعل المفروض مطلوبا لنفسه.

وقد يكون المركّب المأمور به مطلوبا لأجل التوصّل به إلى أمر آخر ، فإمّا أن يكون علّة لحصوله كما في الأسباب الشرعيّة ، أو مقدّمة لحصول العلم به كالصلاة إلى جميع الجهات لتحصيل العلم بالاستقبال وتكرار الطهارة بالماء المشتبه بالمضاف وغير ذلك من موارد الاحتياط عند اشتباه المكلّف به ، أو يكون من قبيل الشرائط الشرعيّة ورفع الموانع الحاصلة.

وعلى الأوّل : فإمّا أن يتوقّف تأثيره على اجتماع أجزائه كما في التذكية

٦٧٢

وغيرها ، أو يؤثّر فيه شيئا فشيئا حتّى يبلغ حدّه ، كأعداد الغسلات فيما يعتبر التعدّد فيه ومنزوحات البئر على القول بالنجاسة إن قلنا بقبول النجاسة للتخفيف.

وعلى الأخير : فإمّا أن يكون الحكم ثابتا لكلّ جزء من أجزائه فينحلّ بحسب أجزائه إلى شرائط أو موانع عديدة كستر العورة وإزالة النجاسة وغيرها من موانع الصلاة ، أو يكون ثابتا للمجموع دون بعضه وإن كان مقدّمة لحصوله كما في الطهارات الثلاث ، وعلى التقديرين فإمّا أن يثبت التكليف بالمشروط بعد تعذّر شرطه أيضا أو لا.

فهذه وجوه عديدة :

منها : أن يثبت اعتبار الهيئة المجموعيّة في مطلوبيّة الفعل حال التمكّن منها ، فهل الأصل اعتبارها فيها مطلقا فيسقط التكليف من أصله عند تعذّر البعض ، أو سقوطه ، أو اختصاصه بتلك الحال ، فيكون الباقي في الصورة المذكورة مطلوبا ، فيرجع المسألة إلى الشكّ في جزئيّة القدر المتعذّر أو ما بمنزلته واعتباره في الماهيّة المطلوبة وعدمها ، إذ مع ثبوت جزئيّته في تلك الحال لا يعقل تعلّق التكليف بباقي الأجزاء حينئذ لوضوح انتفاء الكلّ بانتفاء جزئه، ومع عدمها يكون الباقي تمام المأمور به في تلك الحال. وحينئذ فقد يتوهّم بناء المسألة على المسألة المعروفة في الشكّ المتعلّق بماهيّات العبادات في جزئيّة شيء لها.

فإن قلنا بكون الأصل فيه الجزئيّة بعين القول بها في المقام أيضا فيحكم بسقوط التكليف حينئذ. وإن قلنا بأصالة عدم جزئيّة المشكوك لزم القول بوجوب الإتيان بالأجزاء الممكنة ، إذ القدر المعلوم جزئيّة الباقي في حال التمكّن منه ، ففي الحالة الاخرى لا يعلم بكونه جزءا فيصحّ نفيه حينئذ بالأصل.

وفيه : أنّ القائل بجزئيّة المشكوك فيه لا يدّعي ثبوت الجزئيّة ـ الّتي هي من الأحكام الوضعيّة ـ ليترتّب عليها آثارها الّتي منها سقوط التكليف بالباقي عند تعذّره ، إذ هي أيضا أمر حادث مشكوك فيه فلا يمكن إثباته بالأصل ، إنّما يقول بكونه في حكم الجزء في توقّف الحكم بصحّة العمل وحصول الامتثال عليه ، نظرا

٦٧٣

إلى اقتضاء الاشتغال بالماهيّة المجملة لتحصيل البراءة اليقينيّة المتوقّفة على الإتيان بالمشكوك فيه. والغرض من إثبات الجزئيّة في المقام هو الحكم بسقوط التكليف بالفعل في تلك الحال فلا يثبت بأصل الاشتغال ، بل لو تمّ جريانه في المقام لاقتضى هنا نفي الجزئيّة.

نعم قد يقال : إنّ مقتضى كلام القائل بأصالة جزئيّة المشكوك فيه توقّف الحكم بصحّة العمل على الإتيان به والبناء على بطلانه بدونه ، نظرا إلى أصالة عدم مشروعيّة الفاقد للجزء المفروض فضلا عن مطلوبيّته ، فينبغي الحكم بمثله في حال التعذّر أيضا ، وذلك أنّ العبادات توقيفيّة موقوفة على ثبوتها من الشرع فحيث لا دليل على مطلوبيّة قسم مخصوص من العبادة يتعيّن نفيها بالأصل ، وهو مأخذ آخر غير ما هو المعروف في تلك المسألة.

وأمّا القائل بنفي جزئيّة المشكوك فيه فهو أيضا إنّما يقول بعدم وجوبه بالأصل ، نظرا إلى أدلّة البراءة فلا يترتّب عليه ما هو المقصود في المقام من الحكم ببقاء التكليف بسائر الأجزاء بعد تعذّر الجزء المفروض ، أمّا بعد ثبوت الجزئيّة في حال التمكّن وسقوط التكليف به عند التعذّر فليس في أدلّة أصل البراءة ما يقضي بتعلّق التكليف المستقلّ بالأجزاء الباقية ، بل الأصل يقضي بعدم وجوبها للقطع بسقوط التكليف السابق بالكلّ لتعذّر جزئه والشكّ في حدوث التكليف بالباقي ، وهو محلّ أصل البراءة.

فظهر أنّ مقتضى أدلّة القولين المذكورين في حال التعذّر إن لم يكن على عكس مقتضاها في حال التمكّن فليس بمطابق له.

وغاية ما يمكن الاحتجاج به على وجوب باقي الأجزاء حينئذ وجوه :

الأوّل : أنّ التكليف بالمجموع في معنى التكليف بكلّ جزء من أجزائه فإنّ المجموع عين الأجزاء.

غاية الأمر وجوب مراعاة الهيئة المجموعيّة حال التمكّن منها وقد ثبت سقوط التكليف بها وبما تعذّر من أجزائها ولم يثبت سقوط التكليف بالأجزاء الباقية فالأصل بقاؤه استصحابا للحالة السابقة.

٦٧٤

ويرد عليه أوّلا : أنّ الاستصحاب في المقام لو تمّ فإنّما يصحّ لو ثبت اتّصافها بالوجوب في الزمان السابق ، وقد عرفت أنّ محلّ المسألة أعمّ منه ، لإمكان فرضها في صورة تحقّق المسقط من أوّل الأمر قبل استجماع شرائط التكليف بالفعل المفروض ، لأنّه لم يتّصف بعد بالوجوب ليعقل استصحابه. وإرجاعه إلى الاستصحاب التعليقي ـ نظرا إلى العلم بوجوب ذلك الفعل على تقدير التمكّن من جميع أجزائه ـ لا يجدي شيئا.

وثانيا : أنّ الاستصحاب المذكور على فرض جريانه في المقام معارض باستصحاب عدم وجوب الأجزاء الباقية على الاستقلال ، للقطع بعدم وجوبها على هذا الوجه فيما سبق فيستصحب.

ودعوى ورود الاستصحاب الأوّل على الثاني فيرجع إلى تعارض الاستصحابين في المزيل والمزال ممنوعة ، إنّما ذلك حيث يكون أحد المستصحبين سببا مزيلا للآخر من غير عكس كما تقرّر في محلّه ، وليس الحال في المقام كذلك.

وثالثا : أنّ محلّ المسألة يدور بين اختلاف الموضوع فيه والمحمول ، وقد ثبت لزوم اتّحادهما في الاستصحاب ، وذلك أنّ الموضوع المتّصف بالوجوب النفسي سابقا إنّما هو مجموع الأجزاء مقيّدا بانضمام بعضها إلى البعض. ومن البيّن انتفاء المجموع بانتفاء جزئه المفروض ، وانتفاء المطلوب بزوال الهيئة المأخوذة فيه. فالأجزاء الباقية موضوع آخر غير الموضوع الأوّل ، ولم يتّصف قبل ذلك بالمطلوبيّة إلّا بالطلب الغيري التبعي نظرا إلى اندراجه في المأمور به اندراج الجزء في الكلّ. ومعلوم أنّ الجزء لا يتّصف بالمطلوبيّة النفسيّة إنّما هو مقدّمة لحصول المطلوب ، فوجوبه غيري تبعي والمفروض زوال ذلك الطلب ، إذ على تقدير كونه واجبا يكون واجبا نفسيّا مستقلّا بالمطلوبيّة ، وهو غير حاصل في السابق ، فيختلف المحمول فكيف! يعقل جريان الاستصحاب فيه.

ويمكن توجيهه بوجوه :

٦٧٥

الأوّل : أنّ المستصحب في المقام ليس خصوص الوجوب الغيري التبعي الحاصل في السابق للعلم بزواله ، ولا خصوص الوجوب النفسي المقصود إثباته في الزمان اللاحق للعلم بانتفائه في السابق ، بل المستصحب هو القدر المشترك بين الوجوبين ، وهو تحتّم الفعل على الإجمال ، فإنّه قد كان حاصلا في الأوّل ثمّ شككنا في زواله في ثاني الحال فالأصل بقاؤه وإن كان مستلزما لاتّصافه بالوجوب النفسي المسبوق بالعدم ، إذ لا يشترط في الاستصحاب أن لا يكون لبقاء المستصحب لوازم وجوديّة مسبوقة بالعدم. بل ولا يمنع من استصحابه أصالة عدم تلك اللوازم الحادثة ، إذ لا مانع من التفكيك بين الامور المتلازمة بحسب الاصول العمليّة كما تقرّر في محلّه ، وإلّا لامتنع استصحاب حياة الغائب مع استلزامها لامور كثيرة مسبوقة بالعدم ، من الأكل والشرب والنوم والحركة والسكون وغير ذلك مع القطع بصحّة استصحابها فيترتّب عليه بعض تلك اللوازم ، حيث يكون حكما شرعيّا متفرّعا على المستصحب ، كانتقال الميراث عن مورّثه إليه وإن كان مخالفا للأصل أيضا نظرا إلى تقديم الاستصحاب الوارد عليه. فكذا في المقام فإنّ استصحاب تحتّم الإتيان بالأجزاء المفروضة يستلزم كونها مطلوبة على الاستقلال فلا يقدح فيه مخالفة ذلك اللازم للأصل ، لكونه واردا عليه فلا اختلاف هنا في شيء من الموضوع والمحمول.

الثاني : إنّا لا نستصحب وجوب مجموع الأجزاء الباقية حتّى يلزم الحكم بوجوبه على الاستقلال على خلاف ما كان عليه ، بل نستصحب الوجوب التبعي الغيري الثابت لكلّ جزء من تلك الأجزاء. ومن المعلوم أنّ هذا الوجوب بعد استصحابه لا يكون إلّا غيريّا كما كان عليه وإن كان الحاصل من مطلوبيّة تلك الأجزاء من حيث اجتماعها الوجوب النفسي، إلّا أنّ ذلك من لوازم المستصحب المذكور.

وقد عرفت أنّ مخالفة اللازم للأصل غير قادح.

الثالث : أنّ ما ذكر من اختلاف المحمول بالنفسيّة والغيريّة لا يقدح في

٦٧٦

الاستصحاب ، لبنائه على فهم العرف دون التدقيق العقلي ، كما يحكم على القدر المعيّن من الماء المسبوق بالكرّية أو القلّة بعد نقصانه بما يوجب الشكّ في بقائه على الكرّية أو زيادته بما يوجب الشكّ في بلوغه حدّ الكرّ بمقتضى الاستصحاب مع وضوح اختلاف الموضوعين بحسب الدقّة ، إذ المتّصف بالكرّية أو القلّة في السابق هو القدر المعيّن من الماء الموجود ، والمحكوم عليه بأحدهما في اللاحق مقدار آخر أنقص أو أزيد منه ، وأحدهما غير الآخر عند التدقيق إلّا أنّهما بحسب فهم العرف شيء واحد. فكما لا يمنع ذلك من جريان الاستصحاب فيه فكذا في المقام فيستصحب الوجوب السابق في الزمان اللاحق وإن اختلف الوجوبان بنظر الدقّة ، إذ المدار في الجميع على فهم العرف.

وأنت خبير بضعف الوجوه المذكورة ، أمّا الأوّل : فلأنّ استصحاب القدر المشترك بعد زوال الخصوصيّة كاستصحاب الجنس بعد زوال الفصل ، وقد تقدّم فساد القول به بما لا مزيد عليه ويأتي أيضا في مبحث الاستصحاب إن شاء الله ، إذ من المعلوم أنّ الحاصل في السابق إنّما هو الوجوب التبعي الغيري الّذي قد زال بسقوط التكليف المتعلّق بالمجموع من حيث المجموع. وانتزاع مفهوم التحتّم المطلق منه ثمّ استصحابه واضح الفساد.

وأمّا الثاني : فلأنّ الوجوب الغيري الثابت للأجزاء المفروضة إنّما كان للتوصل بها إلى أداء المأمور به ـ وهو الكلّ الّذي تعلّق الطلب به ـ فبعد العلم بسقوط التكليف به لا معنى لاستصحاب وجوب مقدّماته ليثبت به تعلّق طلب آخر ينافي الأجزاء ، لوضوح زوال الفرع بزوال أصله وسقوط التابع بانتفاء متبوعه ، فلا معنى للتمسّك بالاستصحاب في إبقائه.

وأمّا الثالث : فلأنّ العرف وإن كان هو المرجع في مداليل الألفاظ والخاطابات إلّا أنّه لا يجدي في المقام شيئا ، إذ الحاصل هنا طلب واحد بسيط متعلّق بإيجاد الهيئة المطلوبة وقد تحقّق سقوطه ، وأين ذلك ممّا ذكر من المثال لثبوت وصف الاعتصام أو الانفعال لكلّ جزء من أجزاء الماء الموجود في السابق فيستصحب

٦٧٧

ذلك عند الشكّ في زواله بانفصاله عن الجزء المأخوذ أو اتّصاله بالجزء الوارد عليه ، فليس الموضوع هناك المقدار المعيّن الموجود سابقا حتّى يزول بزيادته ونقصه. كيف ولو كان الأمر فيه مبنيّا على المسامحات العرفيّة لزم التفرقة في ذلك بين قلّة الجزء المأخوذ أو الناقص وكثرته. ومن البيّن عدم الفرق في جريان الاستصحاب بينهما مع بقاء الشكّ فيهما. وعلى ما ذكر فينبغي التفصيل في محلّ المسألة أيضا بين قلّة الجزء المتعذّر وكثرته وليس كذلك ، إذ لو تعذّر أقلّ جزء يتصوّر ممّا فرض ارتباط العبادة به سابقا امتنع الرجوع إلى الاستصحاب فيه ، كالصيام الّذي ينتفي موضوعه بتعذّر إكماله ولو بأقلّ جزء منه.

والحاصل : أنّه بعد فرض إناطة المطلوبيّة بانضمام كلّ جزء من أجزاء الفعل بالباقي يمتنع بقاؤه بعد زوال شيء منها.

الثاني : استقراء الأحكام الثابتة في الشرع عند تعذّر بعض أجزاء العبادات أو شرائطها ، فإنّ الغالب عدم سقوط الباقي.

ألا ترى أنّ الصلاة لا يسقط على حال حتّى ينتهي الأمر فيها إلى التسبيحة بدل الركعة.

نعم ربما تسقط في حقّ فاقد الطهورين لقيام الدليل عليه على خلاف الأصل ، والحجّ لا يسقط بتعذّر ما عدا الأركان منه وهكذا ، بل وكذا الحال في الأسباب الشرعيّة كالتذكية وغيرها على بعض الوجوه والأحوال. والظنّ يلحق المشكوك فيه بالأعمّ الأغلب.

وفيه : بعد المنع من حجّية الظنّ المذكور إمكان المنع من تحقّق الاستقراء التامّ في المقام ، فإنّ كثيرا من العبادات ـ كالطهارات الثلاث من غير الأقطع وصاحب الجبيرة ونحوهما والصوم وغيره ـ تسقط بتعذّر أقلّ جزء منها ، والصلاة لا تتبعّض في ركعاتها ، وكذا مطلق العبادة في أركانها ، والأسباب الشرعيّة تسقط في الأغلب بتعذّر جزئها أو شرطها. ولا نسلّم أنّ السقوط في موارده مستند إلى الدليل المخصوص ، فلعلّ الثبوت في موارده مستند إلى ذلك.

٦٧٨

الثالث : الأخبار الثلاثة الّتي تداول نقلها في كتب الفريقين ، وحكي توافقهم على قبولها والاحتجاج بها ، واشتهارها بينهم في موارد كثيرة ، والاستشهاد بها في المحاورات والامور العادية ، ونقل روايتها عن غوالي اللئالي وغيره. قيل والفقهاء يذكرونها في كتبهم الاستدلاليّة على وجه القبول وعدم الطعن في السند. وهي : حديث الميسور لا يسقط بالمعسور (١). وما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه (٢). وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم (٣). اسند الأوّلان إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام ، والثالث إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّ ظاهرها أنّ تعذّر بعض أجزاء المأمور به أو تعسّره لا يقضي بسقوط الباقي بل يجب الإتيان به بقدر الاستطاعة ، بل وكذا الحال في صورة تعذّر بعض شرائطه الشرعيّة وإن كان الخبر الثاني ظاهرا في الأوّل خاصّة. بل ظاهر الأوّل يعمّ الأسباب والشرائط الشرعيّة أيضا وإن لم يتعلّق الطلب بها في الشريعة ، إلّا أنّه لا يثبت بذلك ترتّب الأثر على القدر الممكن منها إنّما يدلّ على اعتبار تمام الشرائط المقدورة فيه بعد ثبوته في الجملة.

وأمّا الأخيران فظاهرهما الوجوب وإن أمكن إلحاق المستحبّات به أيضا لعدم الفصل وثبوت التسامح في دليلها بما لا يتسامح به في غيرها.

وفيه : أنّ تلك الأخبار مرسلة لا يوجد منها في كتب الأخبار المعتبرة عين ولا أثر ، ومجرّد اشتهارها في كتب الفريقين لا يكفي في الحكم بانجبارها ، لإمكان رجوع الكلّ إلى نقل الواحد ، بل ربما كان الأصل فيه من بعض العامّة ولم يظهر اعتماد الأصحاب عليها بمجرّدها في موارد العمل بمضمونها ، لإمكان استنادهم في تلك الموارد إلى ما مرّ من الاستصحاب أو غيره ، فيكون غرضهم من ذكرها التأييد دون الاستدلال بها على الاستقلال ، إلّا حيث يتحقّق انجبارها بالاشتهار. ولو وجد ذلك في كلام بعضهم فليس بشيء يكتفي به في الحكم بانجبارها مطلقا ،

__________________

(١) عوالي اللئالي : ج ٤ ص ٥٨ ح ٢٠٥.

(٢) عوالي اللئالي : ج ٤ ص ٥٨ ح ٢٠٧.

(٣) عوالي اللئالي : ج ٤ ص ٥٨ ح ٢٠٦.

٦٧٩

ففي كلّ مورد تحقّق فيه انجبارها بما يمكن الاكتفاء به في العمل بمضمونها يصحّ التمسّك بها في ذلك المقام ويلزم الاقتصار عليه.

على أنّه يمكن المناقشة في دلالة الأوّل بظهوره في الميسور الثابت بنفسه ولو في ضمن غيره ، إذ السقوط فرع الثبوت. فمفاده عدم سقوط الحكم السابق فيه وبقاؤه على الوجه الّذي ثبت عليه ، فيكون الميسور هو الواجب الميسور أو الفرد الميسور من أفراد الواجب ، فلا يعمّ الجزء المفروض ، لعدم ثبوته على الاستقلال حتّى يمكن إبقاؤه كذلك ، ولا التكليف المتعلّق بالهيئة التركيبيّة من حيث هي ، للقطع بسقوطه ، فكيف يعقل بقاء التكليف بمقدّماتها. فالثابت في السابق قد تحقّق سقوطه والمقصود بإثباته لم يثبت في السابق حتّى يقال بعدم سقوطه.

فمحصّله : أنّه لو ثبت حكم لمعسور وميسور فسقوط المعسور لا يضرّ بحكم الميسور، فلا ربط له بما نحن فيه.

وفي الثاني : بشموله لما لا يدرك كلّه باختيار المكلّف فيختصّ بما لا يرتبط بعض أجزائه بالبعض في المطلوبيّة وللعبادات المندوبة ، فيحمل على مطلق الطلب الّذي هو القدر المشترك بين الحكمين ، فلا يدلّ على خصوص الوجوب ، على أنّه إخبار بما جرت العادة عليه ، غايته التقرير عليه فيدلّ على جوازه. ولو حمل على الإنشاء لدلّ على مطلق الطلب أيضا فلا يدلّ على الوجوب.

وفي الثالث : باحتمال أن يكون «من» فيه للتبيين أو بمعنى الباء كما ذكر الوجهان في قوله تعالى : (مِنْ أَساوِرَ)(١) وأن يكون للتبعيض بحسب أجزاء المأمور به أو أفراده واحتمال أن يكون «ما» فيه زمانيّة كما في قوله سبحانه (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)(٢) وموصوفة أي شيئا استطعتم ، وموصولة أي الّذي استطعتم على أن يكون مفعولا أو بدلا عن الشيء ، فهذه وجوه عديدة. والاستدلال به موقوف على أن يكون «من» بمعنى التبعيض بحسب الأجزاء ، وهو

__________________

(١) الحجّ : ٢٣.

(٢) التغابن : ١٦.

٦٨٠