هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٨٣

معالم الدين :

أصل

قال أكثر مخالفينا : إنّ الأمر بالفعل المشروط جائز وإن علم الآمر انتفاء شرطه. وربّما تعدّى بعض متأخّريهم ، فأجازه ، وإن علم المأمور أيضا ، مع نقل كثير منهم الاتّفاق على منعه.

وشرط أصحابنا في جوازه مع انتفاء الشرط ، كون الآمر جاهلا بالانتفاء ، كأن يأمر السيّد عبده بالفعل في غد ، مثلا ، ويتّفق موته قبله. فانّ الأمر هنا جائز ؛ باعتبار عدم العلم بانتفاء الشرط ، ويكون مشروطا ببقاء العبد إلى الوقت المعيّن. وأمّا مع علم الآمر ، كأمر الله تعالى زيدا بصوم غد ، وهو يعلم موته فيه ، فليس بجائز.

وهو الحقّ. لكن لا يعجبني الترجمة عن البحث بما ترى ، وإن تكثّر إيرادها في كتب القوم ، وسيظهر لك سرّ ما قلته وإنّما لم أعدل عنها ابتداء قصدا إلى مطابقة دليل الخصم لما عنون به الدعوى ، حيث جعله على الوجه الذي حكيناه.

ولقد أجاد علم الهدى ، حيث تنحّى عن هذا المسلك ، وأحسن التأدية عن أصل المطلب!. فقال : «وفي الفقهاء والمتكلّمين من يجوّز أن يأمر الله تعالى بشرط أن لا يمكن المكلّف من الفعل ، أو بشرط أن يقدره. ويزعمون : أنّه يكون مأمورا بذلك مع المنع. وهذا غلط ؛

٦٠١

لأنّ الشرط إنّما يحسن فيمن لا يعلم العواقب ولا طريق له إلى علمها ، فأمّا العالم بالعواقب وبأحوال المكلّف ؛ فلا يجوز أن يأمره بشرط».

قال : «والذي يبيّن ذلك أنّ الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لو أعلمنا أنّ زيدا لا يتمكّن من الفعل في وقت مخصوص ، قبح منّا أن نأمره بذلك لا محالة. وإنّما حسن دخول الشرط فيمن نأمره فقد علمنا بصفته في المستقبل ، ألا ترى أنّه لا يجوز الشرط فيما يصحّ فيه العلم ولنا إليه طريق نحو حسن الفعل ، لأنّه ممّا يصحّ أن نعلمه ، وكون المأمور متمكنا لا يصحّ أن نعلمه عقلا ؛ فاذا فقد الخبر ، فلا بدّ من الشرط ، ولا بدّ من أن يكون أحدنا في أمره يحصل في حكم الظانّ لتمكّن من يأمره بالفعل مستقبلا ، ويكون الظنّ في ذلك قائما مقام العلم. وقد ثبت أنّ الظنّ يقوم مقام العلم إذا تعذّر العلم. فأمّا مع حصوله ، فلا يقوم مقامه. وإذا كان القديم تعالى عالما بتمكّن من يتمكّن ، وجب أن يوجّه الأمر نحوه ، دون من يعلم أنّه لا يتمكّن. فالرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله حاله كحالنا إذا أعلمنا الله تعالى حال من نأمره ، فعند ذلك نأمر بلا شرط».

قلت : هذه الجملة التي أفادها السيّد ـ قدس الله نفسه ـ كافية في تحرير المقام ، وافية باثبات المذهب المختار ، فلا غرو إن نقلناها بطولها ، واكتفينا بها عن إعادة الاحتجاج على ما صرنا إليه.

احتجّ المجوّزون بوجوه : الأوّل لو لم يصحّ التكليف بما علم عدم شرطه ، لم يعص أحد، واللازم باطل بالضرورة من الدين. وبيان الملازمة : أنّ كلّ ما لم يقع ، فقد انتفى شرط من شروطه ، وأقلّها إرادة المكلّف له ؛ فلا تكليف به ؛ فلا معصية.

الثاني لو لم يصحّ ، لم يعلم أحد انّه مكلّف. والّلازم باطل. أمّا الملازمة ، فلأنّه مع الفعل ، وبعده ينقطع التكليف ، وقبله لا يعلم ، لجواز أن لا يوجد شرط من شروطه فلا يكون مكلّفا.

٦٠٢

لا يقال : قد يحصل له العلم قبل الفعل إذا كان الوقت متّسعا ، واجتمعت الشرائط عند دخول الوقت. وذلك كاف في تحقّق التكليف.

لأنّا نقول : نحن نفرض الوقت المتّسع زمنا زمنا ، ونردّد في كلّ جزء جزء ، فانّه مع الفعل فيه ، وبعده ينقطع ، وقبل الفعل يجوز أن لا يبقى بصفة التكليف في الجزء الآخر ؛ فلا يعلم حصول الشرط الذي هو بقاؤه بالصفة فيه ، فلا يعلم التكليف. وأمّا بطلان اللازم فبالضرورة.

الثالث لو لم يصحّ ، لم يعلم إبراهيم عليه‌السلام وجوب ذبح ولده ؛ لانتفاء شرطه عند وقته ـ وهو عدم النسخ ـ وقد علمه وإلّا لم يقدم على ذبح ولده ولم يحتج إلى فداء.

الرابع كما أنّ الأمر يحسن لمصالح تنشأ من المأمور به ، كذلك يحسن لمصالح تنشأ من نفس الأمر. وموضع النزاع من هذا القبيل ، فانّ المكلّف من حيث عدم علمه بامتناع فعل المأمور به ، ربّما يوطّن نفسه على الامتثال ، فيحصل له بذلك لطف في الآخرة وفي الدنيا ، لانزجاره عن القبيح. ألا ترى : أنّ السيّد قد يستصلح بعض عبيده بأوامر ينجّزها عليه ، مع عزمه على نسخها ، امتحانا له. والانسان قد يقول لغيره : «وكّلتك في بيع عبدي» مثلا ، مع علمه بأنّه سيعزله ، إذا كان غرضه استمالة الوكيل أو امتحانه في أمر العبد.

والجواب عن الأوّل : ظاهر ممّا حققه السيّد رحمه‌الله ، إذ ليس نزاعنا في مطلق شرط الوقوع ، وإنّما هو في الشرط الذي يتوقّف عليه تمكّن المكلّف شرعا وقدرته على امتثال الأمر. وليست الارادة منه قطعا ، والملازمة إنّما تتمّ بتقدير كونها منه. وحينئذ فتوجّه المنع عليها جليّ.

وعن الثاني : المنع من بطلان اللازم. وادّعاء الضرورة فيه مكابرة وبهتان. وقد ذكر السيّد رضى الله عنه في تتمّة تنقيح المقام ما يتّضح به سند هذا المنع ؛ فقال : «ولهذا نذهب إلى أنّه لا يعلم بأنّه مأمور بالفعل إلّا بعد

٦٠٣

تقضّي الوقت وخروجه ، فيعلم أنّه كان مأمورا به. وليس يجب ، إذا لم يعلم قطعا أنّه مأمور ، أن يسقط عنه وجوب التحرّز. لأنّه إذا جاء وقت الفعل ، وهو صحيح سليم ، وهذه أمارة يغلب معها الظنّ ببقائه ، فوجب أن يتحرّز من ترك الفعل والتقصير فيه. ولا يتحرّز من ذلك إلّا بالشروع في الفعل والابتداء به. ولذلك مثال في العقل ، وهو أنّ المشاهد للسبع من بعد ، مع تجويزه أن يخترم السّبع قبل أن يصل إليه ، يلزمه التحرّز منه ، لما ذكرناه ، ولا يجب إذا لزمه التحرّز أن يكون عالما ببقاء السّبع وتمكّنه من الاضرار به».

وهذا الكلام جيّد ، ما عليه في توجيه المنع من مزيد. وبه يظهر الجواب عن استدلال بعضهم على حصول العلم بالتكليف قبل الفعل ، بانعقاد الاجماع على وجوب الشروع فيه بنيّة الفرض ، إذ يكفي في وجوب نيّة الفرض غلبة الظنّ بالبقاء والتمكّن ، حيث لا سبيل إلى القطع ، فلا دلالة له على حصول العلم.

وعن الثالث : بالمنع من تكليف إبراهيم عليه‌السلام بالذبح الذي هو فري الأوداج ، بل كلّف بمقدّماته كالإضجاع ، وتناول المدية ، وما يجري مجرى ذلك. والدليل على هذا قوله تعالى : (وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا). فأمّا جزعه عليه‌السلام فلإشفاقه من أن يؤمر ـ بعد مقدّمات الذبح ـ به نفسه ، لجريان العادة بذلك. وأمّا الفداء ، فيجوز أن يكون عمّا ظنّ أنّه سيأمر به من الذبح ، أو عن مقدّمات الذبح زيادة على ما فعله ، لم يكن قد أمر بها ، إذ لا يجب في الفدية أن يكون من جنس المفديّ.

وعن الرابع : أنّه لو سلّم ، لم يكن الطلب هناك للفعل ؛ لما قد علم من امتناعه ، بل للعزم على الفعل والانقياد إليه والامتثال. وليس النزاع فيه ، بل في نفس الفعل. وأمّا ما ذكره من المثال ، فانّما يحسن لمكان التوصّل إلى تحصيل العلم بحال العبد والوكيل ، وذلك ممتنع في حقّه تعالى.

٦٠٤

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على سيّد المرسلين محمّد وعترته وذرّيّته الأكرمين إلى يوم الدين.

قوله : (قال أكثر مخالفينا : إنّ الأمر بالفعل المشروط جائز وإن علم الآمر انتفاء شرطه ... إلخ).

الشرائط المعتبرة في الفعل قد تكون شرطا في وجوده ، وقد تكون شرطا في وجوبه ، وقد تكون شرطا فيهما. ومحلّ الكلام في المقام فيما إذا علم الآمر انتفاء شرط الوجوب ، سواء كان شرطا في الوجود أيضا ، أو لا. وأمّا الشرط في وجود الفعل من غير أن يكون شرطا في وجوبه فلا خلاف لأحد في جواز الأمر به مع علم الآمر بانتفائه ، فإطلاق الشرط في المقام ليس على ما ينبغي ، كما سيشير إليه المصنّف إن شاء الله.

وبعضهم قرّر النزاع في المقام في خصوص شرائط الوجود دون الوجوب ، وهو فاسد ، إذ لا مجال لأحد أن يتوهّم امتناع التكليف بذلك ، وليس في كلام المانعين ما يوهم ذلك ، كيف؟ وتمثيلاتهم في المقام بانتفاء الشروط الغير المقدورة صريح في وقوع النزاع في شرائط الوجوب فكيف يعقل القول بخروجها عن محلّ البحث؟ وقد يتراءى حينئذ تدافع في عنوان المسألة ، فإنّه إذا كان المطلوب بالشرط في المقام هو شرط الوجوب وقد فرض انتفاؤه فلا محالة يكون التكليف منتفيا بانتفاء شرطه ، كما هو قضيّة الشرطيّة ، فكيف يعقل احتمال وقوع التكليف على ذلك الفرض حتّى يعقل النزاع فيه؟

٦٠٥

ومن هنا توهّم القائل المذكور ، فزعم أنّ مرادهم بالشرط هو شرط الوجود دون شرط الوجوب، إذ مع انتفاء شرط الوجوب وعلم الآمر به لا يتعقّل تحقّق التكليف في المقام بدون الوجوب. قال : وذلك ظاهر (١).

ويمكن دفعه : بأنّه ليس الكلام في جواز الأمر والتكليف حين انتفاء شرطه ، بل المراد أنّه هل يجوز التكليف بأداء الفعل في الوقت الّذي ينتفي فيه شرط التكليف بحسب الواقع مع علم الآمر به بأن يكون حصول التكليف به قبل مجيء وقت الإيقاع الّذي فرض انتفاء الشرط فيه؟ فإنّ النزاع في المقام في تحقّق التكليف قبل زمان انتفاء الشرط ، كما يظهر من تمثيلاتهم. وعزي إلى طائفة من المحقّقين التصريح به. وتوضيحه : أنّه لا يشكّ في كون انتفاء شرط التكليف مانعا من تعلّق التكليف بالفعل حين انتفاء شرطه ، إنّما الكلام في جواز تعلّق التكليف به قبل الزمان الّذي ينتفي الشرط فيه إذا كان الآمر عالما بانتفائه فيه دون المأمور ، سواء كان التكليف قبل مجيء زمان الفعل ، أو قبل مجيء الزمان الّذي يقارن بعض أجزاء الفعل ممّا ينتفي الشرط فيه بالنسبة إليه.

فعلى القول بالمنع يكون انتفاء شرط التكليف على الوجه المذكور مانعا من تعلّق التكليف به مطلقا.

وعلى القول بالجواز لا يمنع ذلك من تعلّق التكليف به قبل ذلك ، فيسقط عند انتفاء الشرط ، أو علم المأمور بالحال ولو قبله بناء على المنع من التكليف مع علم المأمور بالحال حسب ما ادّعوا الاتّفاق عليه ، كما أشار المصنّف إليه.

والحاصل : أنّه لا منافاة بين انتفاء التكليف في الزمان المقارن لانتفاء الشرط وحصول التكليف قبله ثمّ سقوطه بانتفاء الشرط ، والقدر اللازم من انتفاء شرط الوجوب هو الأوّل ولا كلام فيه ، ومحلّ البحث في المقام هو الثاني.

وما قد يتخيّل : من أنّه لا يتعقّل تعلّق التكليف بالفعل قبل مجيء زمانه ، غاية

__________________

(١) في المطبوع : لا يتعقّل التكليف ، إذ لا يتصوّر التكليف في المقام بدون الوجوب ، فإنّ ذلك ظاهر.

٦٠٦

الأمر حصول التكليف التعليقي حينئذ بالفعل ، وليس ذلك بحسب الحقيقة تكليفا به ، فإنّه إنّما يكون المخاطب به مكلّفا بالفعل حين حصول ما علّق التكليف عليه لا قبله مدفوع : بأنّ الوقت المعتبر في الواجب على وجهين ، فإنّه قد يكون شرطا للوجوب ، والحال فيه على ما ذكرنا فلا يمكن أن يتقدّمه الوجوب. وقد يكون شرطا للوجود ، ولا مانع حينئذ من تعلّق التكليف بالفعل قبله فيكون المكلّف مخاطبا به مشغول الذمّة بأدائه في وقته ، غير أنّه لا يمكن أداؤه قبل الزمان المفروض ، لكونه شرطا في وجوده ، كما هو الحال بالنسبة إلى مكان الفعل لمن كان نائيا عنه حسب ما مرّ بيانه في مقدّمة الواجب ، ويكشف الحال في ذلك ملاحظة حقوق الناس ، فإنّه قد يعلّق اشتغال الذمّة بها على حصول شيء ، كما إذا ثبت الخيار في البيع مع قبض البائع للثمن.

وبالجملة : فإنّ اشتغال ذمّته بالثمن بمال (١) مؤجّل فإنّ ذمّته مشتغلة بالفعل وإن تأخّر وقت أدائه.

ويمكن أن يجاب أيضا عن أصل الإيراد : بأنّ ما يتوقّف عليه الشرط المفروض إنّما هو التكليف الواقعي ، والمبحوث عنه في المقام هو التكليف الظاهري ، ومرجع البحث في ذلك إلى كون التكليف الظاهري تكليفا حقيقيّا أو صوريّا مجازيّا ، فالقائل بجوازه في المقام يقول بالأوّل ، والمانع منه يقول بالثاني ، وعلى هذا يمكن تصوّر البحث بالنسبة إلى الزمان الواحد أيضا ، إلّا أنّ الوجه المذكور غير سديد كما يتّضح الوجه فيه إن شاء الله.

ويمكن أن يقال أيضا : إنّ المراد بالشرط في المقام ما يتوقّف عليه كلّ من وجوب الفعل ووجوده في الواقع ، والمراد بانتفاء الشرط انتفاؤه بغير اختيار المكلّف وقدرته.

__________________

(١) في الحاشية هكذا : «لا يخفى قصور العبارة وسقوط شيء منها ، وكأنّ الساقط بعد قوله : بالثمن معلّق على حصول الفسخ ، وقد يثبت اشتغال الذمّة بها فعلا ويتأخّر زمانها ، كما في المديون بمال ... إلخ. وبالجملة فالساقط ما يفيد هذا المعنى».

٦٠٧

ومحصّله : أن يتعلّق الأمر بفعل لا يتمكّن المكلّف من إيقاعه ، لانتفاء أحد شرائطه لا عن سوء اختيار المكلّف. فالمقصود بالبحث : أنّ تلك الشروط المفروضة كما أنّها شرط لوجود الفعل ولوجوبه أيضا مع علم المأمور به والآمر فهل هي شرط لوجوبه مع جهل المأمور أيضا إذا كان الآمر عالما بالحال وباستحالة وقوع الفعل من دونه فلا يمكن تعلّق التكليف به، أو أنّه لا مانع من تعلّق التكليف به قبل علم المكلّف بالحال؟ فتلك الشرائط شرائط في الحقيقة لوجوب الفعل على القول المذكور أيضا لكن لا مطلقا ، بل مع علم المأمور أيضا على القول بامتناع الأمر حينئذ ، كما هو الحال ، كما حكي (١) الاتّفاق عليه ، وإلّا فليست شرائط للوجوب مطلقا ، فليس المأخوذ في المسألة شروط الوجوب مطلقا حتّى يتوهّم التدافع في العنوان ، بل المعتبر فيها شروط الوجود على الوجه الّذي قرّرناه.

ويتفرّع عليه كونها شروطا في الوجوب أيضا مع علم المأمور حسب ما ذكر ، فالخلاف حينئذ في كونها شروطا للوجوب مع علم الآمر أيضا أولا حسب ما قرّرناه ، وحينئذ يمكن فرض انتفاء الشرط وتعلّق الأمر في زمان واحد ، كما إذا كانت المرأة حائضا بحسب الواقع وكانت جاهلة بحيضها ، فعلى القول المذكور يصحّ توجيه الأمر ، ولم يكن ما تأتي به مطلوبا للشرع ، فهي غير قادرة واقعا بأداء الصوم المطلوب ، لكنّها قادرة في اعتقادها ومكلّفة حينئذ بالصوم واقعا وإن لم تتمكّن من أدائها ، وتظهر الثمرة حينئذ في عصيانها لأمر الصوم لو أفطرت حينئذ متعمّدة ، لمخالفة إفطارها التكليف المفروض وصدق العصيان به ، وإن كانت مفطرة بحسب الواقع بخروج الحيض فإنّ المفروض أنّ خروجه لا يقتضي سقوط تكليفها بالصوم ، وبقاء التكليف كاف في صدق العصيان والمخالفة بتعمّد ذلك ، لكن لا تثبت الكفّارة لو تعلّقت بمن أفطر متعمّدا كما توهّم ، حسب ما يأتي الإشارة إليه إن شاء الله.

وقد يجري ما قلناه بالنسبة إلى بعض الشروط الاختياريّة إذا كانت شرطا

__________________

(١) في الحاشية هكذا : «الظاهر كما هو الحقّ ، وحكي».

٦٠٨

للوجوب في الجملة على تفصيل تأتي الإشارة إليه. هذا ، وتفصيل الكلام في المقام : أنّ الأمر بالشيء مع انتفاء شرطه المذكور بحسب الواقع إمّا أن يكون مع علم الآمر بذلك ، أو مع جهله. وعلى كلا التقديرين : فإمّا أن يكون مع علم المأمور بالحال ، أو مع جهله. وعلى التقادير : فإمّا أن يكون التكليف به مطلقا ، أو معلّقا على استجماع الشرائط. أمّا مع جهل الآمر بالحال فلا إشكال في جواز الأمر معلّقا على وجود شرطه ، سواء كان المأمور عالما بالحال أو جاهلا. كما أنّه لا إشكال في المنع مع علمهما بالحال ، من غير فرق بين إطلاق الأمر وتعليقه على حصول الشرط حسب ما أشار إليه المصنّف من حكايتهم الاتّفاق على منعه ، وظاهرهم يعمّ الصورتين ، بل ربّما كان المنع في الصورة الثانية من وجهين نظرا إلى قبح توجيه الأمر نحو الفاقد وقبح الاشتراط من العالم حسب ما يأتي الإشارة إليه في كلام السيّد.

بقي الكلام فيما إذا كان الآمر عالما بالحال والمأمور جاهلا وأراد توجيه الأمر مطلقا أو معلّقا على الشرط المفروض ، وما إذا كان جاهلا بالحال وأراد توجيه الأمر مطلقا غير معلّق على الشرط ، سواء كان المأمور عالما بالحال أو جاهلا أيضا. فهذه مسائل ثلاث ، وظاهر العنوان المذكور منطبق على الفرض الأوّل ، ونحن نفصّل القول في كلّ منها إن شاء الله. ثمّ نرجع إلى الكلام في ما قرّره المصنّف وحكاه عن السيّد رحمه‌الله.

فنقول : أمّا المسألة الاولى فقد وقع الكلام فيها بين علمائنا والأشاعرة ، وقد احتمل بعض الأفاضل في محلّ النزاع وجهين :

أحدهما : أن يكون النزاع في التكليف الواقعي الحقيقي ، فيراد أنّه إذا علم الآمر انتفاء الشرط بحسب الواقع فهل يجوز أن يطلبه منه ويكلّفه به على وجه الحقيقة ، أو لا؟

وثانيهما : أن يكون البحث في صدور الخطاب والتكليف الظاهري ، فيكون المراد : أنّه هل يجوز في الفرض المذكور أن يصدر عن الآمر التكليف بالفعل من

٦٠٩

غير أن يكون غرضه في الحقيقة طلب صدور الفعل عن المكلّف ، بل غرضه صدور نفس التكليف ، فيكون الصادر عنه حقيقة هو صورة التكليف لا حقيقته؟ قال : وكلمات القوم مشوّشة هنا جدّا ، بعضها يوافق الأوّل وبعضها الثاني.

أقول : ستعرف ـ إن شاء الله ـ بعد تقرير مناط البحث في المسألة أنّه لا تشويش في كلمات القوم ، وأنّ محلّ الخلاف في المقام إنّما هو الوجه الأوّل ، وأنّ الوجه الثاني خارج عن محلّ النزاع في المقام ، وأنّه لا خلاف فيه ظاهرا إلّا من نادر ، كما سنشير إليه.

ثمّ أقول : إنّه لا خلاف لأحد في جواز تعلّق التكليف الظاهري الحاصل بملاحظة الأدلّة الشرعيّة والقواعد المقرّرة في الشريعة مع علمه تعالى بانتفاء شرط التكليف بحسب الواقع ، سواء كان ذلك بنصّ الشارع وبيانه ، أو بحكم العقل من جهة وجوب دفع الضرر المظنون أو المحتمل ، ولا نزاع في وقوع التكليف على الوجه المذكور وارتفاعه عن المكلّف عند ظهور انتفاء الشرط ، كيف؟ وبناء الشريعة على ذلك ، فإنّ المرأة مكلّفة بالصوم في أوّل النهار وإن حاضت وقت الظهر مثلا ، وذلك تكليف ظاهري لها بالصوم يرتفع عند ظهور المانع ، ولذا تكون عاصية قطعا بالإفطار قبل ظهور المانع ، وهكذا الحال في غيرها من المكلّفين إذا ظهر منهم انتفاء الشرط في الأثناء ، فيكشف ذلك من عدم تعلّق التكليف بحسب الواقع عند القائلين بالامتناع في المقام ، بخلاف القائل بالجواز إذ يمكنه القول بحصول التكليف أوّلا بحسب الواقع أيضا وارتفاعه عند انتفاء الشرط ، فيكون التكليف المفروض واقعيا عنده أيضا.

ولا يتوهّم في ذلك لزوم الإغراء بالجهل ، إذ ليس بناء التكليف فيه إلّا على كونه ظاهريّا محتملا لمطابقته للواقع ، وعدمه ، بخلاف الوجه الثاني من الوجهين المتقدّمين ، لظهور التكليف في إرادة الواقع فيتوهّم لزوم الإغراء بالجهل ، كما سنشير إليه. وليس وقوع التكليف على الوجه المذكور بسبب حصول التكليف مع علم الآمر بانتفاء شرطه ، فإنّ التكليف الظاهري ليس مشروطا بنفس الشرط

٦١٠

المفروض ، والتكليف الواقعي المشروط به غير حاصل بمجرّد الأمر المفروض عند القائل بامتناعه.

هذا ، وتحقيق الكلام في بيان محلّ النزاع في المقام يتمّ برسم أمور :

أحدها : أنّ المراد بجواز التكليف بما لا يطاق عند القائل به هو جواز التكليف بما لا يطاق على أنّه ما لا يطاق ، وهو الّذي وقع البحث فيه بين العدليّة وغيرهم ، وهو إنّما يكون إذا كان كلّ من الآمر والمأمور عالما باستحالته ، أو يكون أمر الآمر به على فرض إمكان الفعل ، واستحالته مع جهل أحدهما به ، أو جهلهما. وأمّا إذا كان الآمر جاهلا باستحالته فلا إشكال في جواز الأمر به مطلقا ، أي من غير أن يكون على نحو التعميم للحالين ، سواء كان المتعلّق به تنجيزيّا أو تعليقيّا ، أو يكون الآمر معتقدا إمكانه أو شاكّا فيه. وبعض الوجوه المذكورة ممّا لا خلاف ، فيه وبعضها ممّا وقع فيه الخلاف كما سيجيء ـ إن شاء الله ـ في الجملة ، سواء كان المأمور عالما بالحال أو جاهلا. وإذا كان الآمر عالما والمأمور جاهلا فقد عرفت جواز (١) الأمر به على سبيل الإطلاق ، وأمّا الأمر به مطلقا على ما هو مفروض البحث في المقام فليس منع المانع منه من حيث استحالته ليكون تجويز المجوّز من قبيل تجويز التكليف بالمحال ، وإلّا تمسّك به القائلون بجوازه ، بل من حيث إمكانه في نظر المأمور فيكتفي به القائل به في جواز التكليف ، فكما أنّه لا يقبح التكليف بالمحال مع جهل الآمر باستحالته فقد يتخيّل عدم قبحه مع جهل المأمور أيضا ، نظرا إلى كون إمكان الفعل في نظر المأمور مصحّحا لأمر الآمر به وإن كان ممتنعا في نظر الآمر. وسيتّضح لك الوجه فيه بعد ما سنبيّنه من حقيقة التكليف.

ويشهد له أيضا : أنّ القائل بالجواز يقول بسقوط التكليف وارتفاعه من المكلّف إذا جاء وقت انتفاء الشرط وعلم المكلّف بانتفائه ، بل ولو علم بانتفائه قبل ذلك ، ولو كان ذلك من جهة جواز التكليف بالمحال لم يختلف فيه الحال.

__________________

(١) في (ق) : عرفت عدم جواز.

٦١١

فظهر أنّه لا ربط للمسألة بمسألة التكليف بالمحال. فدعوى كون التكليف بالفعل حينئذ على سبيل الحقيقة من قبيل التكليف بالمحال وجزئيّا من جزئيّاته ، فلو كان البحث فيه لما احتاج إلى عنوان جديد كما صدر عن بعض الأعلام ليس على ما ينبغي.

نعم ، يمكن دعوى كون ذلك في الحقيقة مندرجا في التكليف بالمحال ، فيستدلّ عليه بامتناع التكليف بالمحال ، كما رامه جماعة في المقام منهم العلّامة رحمه‌الله ، لكن ليس ذلك من جهة كون مناط البحث في المقام هو التكليف بالمحال ، وفرق بيّن بين المقامين.

ثانيها : أنّ انتفاء شرائط الوجوب قد يكون لا عن اختيار المكلّف ، وقد يكون عن اختياره ، كما إذا تعمّد ترك المقدّمة المفروضة ، سواء كانت عقليّة أو شرعيّة. وقد يقال في الصورة الثانية : إنّه لا مانع من تعلّق التكليف به ، نظرا إلى كون المكلّف هو السبب في استحالته ، لما تقرّر من أنّ المحال بالاختيار لا ينافي الاختيار ، ولو قلنا باستحالة التكليف به بعد استحالة الفعل ولو من جهة اختيار المكلّف فأيّ مانع من تعلّق التكليف به قبل ذلك إذا علم الآمر انتفاء شرط الوجوب زمان أداء الفعل من جهة إقدام المكلّف على تركه؟

وفيه : أنّه إن كان تمكّن المكلّف من الشرط كافيا في إيجاب الأمر وإن زال عنه ذلك باختياره لم يكن شرط الوجوب منتفيا. غاية الأمر انتفاء شرط الوجود ، وهو خارج عن محلّ النزاع ، وإن كان بقاء التمكّن شرطا في الإيجاب لم يعقل حصول الإيجاب مع انتفائه.

ويدفعه : وضوح الفرق بين إيجاب الفعل مع انتفاء التمكّن من الشرط وإيجابه مع التمكّن منه ، والمفروض في المقام ارتفاع التمكّن بعد الإيجاب باختيار المكلّف ، فاللازم منه بعد استحالة التكليف مطلقا سقوط التكليف به ، لا عدم تعلّق التكليف به من أوّل الأمر.

والحاصل : أنّا لو قلنا بكون ارتفاع التمكّن عن اختيار المكلّف غير مانع من

٦١٢

بقاء التكليف بالفعل لم يكن شرط الوجوب حينئذ منتفيا في المقام فيخرج بذلك عن مورد الكلام ، وإن قلنا بكونه مانعا من بقائه فلا وجه لجعله مانعا من تعلّق التكليف به من أصله مع التمكّن من الشرط المفروض.

أقصى الأمر عدم بقاء التكليف مع إقدام المكلّف على ترك المقدّمة واختياره ذلك ، فتكون الصورة المذكورة خارجة عن مورد بحثهم غير مندرجة فيما قرّروه من محلّ النزاع.

هذا ، وقد ذكر جماعة منهم الكرماني على ما حكي عنه ، والفاضل المحشّي ، والمحقّق الخوانساري اختصاص النزاع بالشروط الغير المقدورة للمكلّف ، ويظهر ذلك من السيّد حسب ما يستفاد ممّا حكاه المصنّف من كلامه ، ويظهر أيضا من العلّامة في النهاية ، وقد قرّر النزاع في الإحكام في خصوص ذلك ، ونصّ المدقّق المحشّي وتبعه بعض الأفاضل بتعميم النزاع في القسمين ، فقال : إنّ تخصيص الشرط بالشرط الغير المقدور غير جيّد ، لأنّ الشروط المقدورة الّتي يكون الواجب مشروطا بالنسبة إليها في حكم الشروط الغير المقدورة وداخل في محلّ النزاع ، حتّى انّ المسألة المبنيّة على هذه القاعدة قد تناولت الشرط الاختياري، وهي : أنّ الصائم لو أفطر ثمّ سقط فرض صومه لحيض أو سفر ، والسفر يتناول الاختياري كما صرّح به الأصحاب في هذه المسألة انتهى.

وأنت خبير بأنّه إذا كان انتفاء الشرط باختيار المكلّف لم يكن هناك مانع من تعلّق التكليف بالفعل ، فيكون ذلك إيجابا للفعل وللشرط معا ، كما هو الحال في إيجاب الطهارة المائيّة ، فإنّه إذا تعلّق وجوبها بالمكلّف كان ذلك مشروطا بالتمكّن من الماء ، فإذا كان التمكّن منه حاصلا للمكلّف وكان إبقاء التمكّن مقدورا له أيضا وجب عليه ذلك ليتأتّى منه أداء الواجب ، ولا يكون إتلافه للماء في أوّل زمان الفعل كاشفا عن انتفاء التكليف ، بل قد يكون عاصيا قطعا ، وهو شاهد بتعلّق التكليف به مع علم الآمر بانتفاء شرطه على الوجه المذكور ، وهذا جار في سائر التكاليف أيضا بالنسبة إلى إبقاء القدرة عليها وعلى شروطها ، فاندراج الشروط

٦١٣

المقدورة في محلّ النزاع يقضي بالتزام القائل بالمنع بامتناعه أيضا ، والظاهر أنّهم لا يلتزمون به، وما ذكروه من الدليل عليه لا يفي بذلك قطعا.

نعم ، لو فرض عدم وجوب الشرط المفروض في نظر الآمر صحّ ما ذكره من الإلحاق، كما هو الحال في ما فرضه من المثال ، فإن أريد إدراج الشرائط المقدورة في محلّ النزاع فليدرج فيه خصوص هذه الصورة دون غيرها ، فإنّ انتفاء الشرط المفروض حينئذ في وقته عن اختيار المكلّف بمنزلة انتفاء سائر الشروط الغير المقدورة ، لجريان ما ذكروه من الدليل في ذلك أيضا ، بخلاف الصورة الاولى.

ولا يذهب عليك أنّه إن كان مأمورا بصوم ذلك اليوم مطلقا كان الواجب عليه ترك السفر حتّى يتحقّق منه الصوم الواجب ، وكان الحال فيه كسائر شروط الوجود حسب ما ذكرنا. وإن كان وجوبه عليه مشروطا بعدم السفر لم يكن مأمورا بالصوم مطلقا ، بل على تقدير انتفاء الشرط ، فيخرج عن موضوع هذه المسألة ويندرج في المسألة الثانية حسب ما قرّره السيّد رحمه‌الله ، فإدراج الشرائط المقدورة في المقام ليس على ما ينبغي ، كما لا يخفى.

ثالثها : أنّه لا إشكال ظاهرا في جواز الأمر بالفعل على سبيل الامتحان والاختبار مع علم الآمر بانتفاء شرطه في زمان أدائه واستحالة صدوره من المكلّف في وقته مع جهل المأمور بحاله ، فيتحقّق التكليف بالفعل بحسب الظاهر قطعا ، ويرتفع ذلك بعد وضوح الحال ، ولا نعرف في ذلك مخالفا من الأصحاب وغيرهم كما اعترف به بعض الأفاضل ، سوى ما حكي عن السيّد العميدي رحمه‌الله من منعه لذلك حسب ما يستظهر من كلامه ، وهو ضعيف جدّا ، لوضوح أنّه كما يحسن الأمر للمصلحة الحاصلة في المأمور به فكذا يحسن للمصلحة المترتّبة على نفس الأمر من جهة امتحان المأمور واختبار حاله في الانقياد وعدمه ، وغير ذلك ، وإن لم يكن المطلوب حسنا بحسب الواقع في نفسه ، أو لم يكن المكلّف متمكّنا من أدائه ، غاية الأمر عدم وجوب التكليف بالمحال في الصورة الاولى.

وحجّة السيّد رحمه‌الله على المنع ما فيه من الإغراء بالجهل ، نظرا إلى دلالة ظاهر

٦١٤

الأمر على كون المأمور به مرادا للآمر بحسب الواقع محبوبا عنده ، والمفروض خلافه ، ولأنّه لو حسن الأمر لنفسه لا لمتعلّقه لم يبق في الأمر دلالة على الأمر بما لا يتمّ به ، ولا على النهي (١) عن ضدّه ، ولا على كون المأمور به حسنا. وأنت خبير بما فيه.

أما الأوّل فأوّلا : أنّه لا إغراء بالجهل بالنسبة إلى التكاليف بمجرّد ذلك لبناء الأمر فيها على طروّ الطوارئ المذكورة ونحوها ، ولذا ذهب معظم الاصوليّين إلى جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب ولو في ما له ظاهر ، وهذا لا يزيد على ذلك.

وثانيا : بالمنع من قبح الإغراء بالجهل مطلقا ، حتّى في ما يترتّب عليه فائدة مقصودة للعقلاء ، ويكون المقصود حصول تلك الفائدة ، بل قد لا يعدّ ذلك إغراء بالجهل ، إذ ليس المقصود به تدليس الواقع على المخاطب ، بل المراد منه ما يترتّب عليه من المصلحة البيّنة المطلوبة عند العقلاء ، كيف! وقد جرت عليه طريقة العقلاء قديما وجديدا في اختبار عبيدهم ووكلائهم وأصدقائهم وغيرهم من غير أن يتناكروه بينهم ، ولا تأمّل لأحد منهم في حسنه ، ولا احتمالهم لقبحه مع وضوح قبح الإغراء بالجهل في الجملة ، فلو فرض كونه إغراء به فهو خارج عمّا يستقبح منه قطعا. وقد يقال بالمنع من ذلك بالنسبة إلى أوامر الشرع ، لعلمه تعالى بحقائق الأحوال ، ولا يتصوّر في حقّه تعالى قصد الامتحان والاختبار بذلك ، ويظهر ذلك من كلامه وكلام المصنّف في آخر المسألة.

ويوهنه : أنّه لا تنحصر المصلحة فيه في استعلام حال العبد ، بل قد يكون لإقامة الحجّة عليه ، أو لترتّب الثواب عليه من جهة توطين نفسه للامتثال ، أو لظهور حاله عند الغير. وفي قوله تعالى في حكاية إبراهيم عليه‌السلام : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ)(٢) دلالة ظاهرة على ذلك ، وهذا كلّه واضح لا خفاء فيه.

وأمّا الثاني فبظهور منع الملازمة ، فإنّه إنّما يلزم ذلك لو لم يكن الأمر ظاهرا

__________________

(١) في (ق) : ولا دلالة على النهي.

(٢) الصافّات : ١٠٦.

٦١٥

في إرادة المأمور به ، ويكون الأمر الواقع على سبيل الامتحان مساويا لغيره في الظهور ، وليس كذلك عند جماعة ، إذ الأوامر الامتحانيّة من جملة المجازات عندهم ، ولا دلالة فيها على شيء ممّا ذكر بعد ظهور الحال ، ولا ينافي ذلك الدلالة عليه قبل قيام القرينة.

وممّا يستغرب من الكلام ما صدر عن بعض الأعلام من تقرير النزاع في خصوص ذلك في المقام ، نظرا إلى أنّ وقوع النزاع هنا في المقام الأوّل بعيد جدّا ، إذ هو من متفرّعات النزاع في مسألة التكليف بما لا يطاق ، وليس نزاعا على حدة ، وليس تجويز التكليف بما لا يطاق ملحوظا في وضع هذه المسألة ، فتعيّن أن يكون النزاع في المقام الثاني ، واستشهد له بكلام العلّامة في النهاية ، فإنّه بعد ما حكى عن المجوّزين جواز وقوع الأوامر الاختباريّة لما يتفرّع عليها من المصالح الكثيرة وجريان الطريقة عليه بحسب العادة قال : والأصل في ذلك أنّ الأمر قد يحسن لمصالح تنشأ من نفس الأمر ، لا من نفس المأمور به ، وقد يحسن لمصالح تنشأ من المأمور به ، فجوّزه من جوّزه لذلك ، والمانعون قالوا : الأمر لا يحسن إلّا لمصلحة تنشأ من المأمور به. انتهى. قال : ولا يخفى صراحته في ما ذكرنا.

أقول : أمّا جواز ورود الأوامر الامتحانيّة ونحوها ممّا لا يكون المقصود حقيقة حصول الفعل في الخارج فأمر ظاهر غنيّ عن البيان يشهد بحسنه ضرورة الوجدان حسب ما مرّ ، وذلك وإن لم يمنع من وقوع شبهة في جوازه لبعض الأجلّة إلّا أنّ البناء على منع كثير من العلماء منه ، بل ظهور اتّفاق أصحابنا عليه حسب ما ذكره المصنّف رحمه‌الله ممّا يستبعد جدّا ، بل لا يبعد دعوى القطع بخلافه سيّما مع عدم تصريحهم بذلك. وقد عرفت أنّ كون النزاع في المسألة في المقام الأوّل لا يدرجها في مسألة التكليف بما لا يطاق ، وما حكي عن عبارة النهاية لا دلالة فيه على المنع من الأوامر الاختباريّة ، إذ لا يمكن ابتناؤها على نفي كون الأوامر الاختباريّة أوامر حقيقيّة ، ويشير إليه أنّه دفع ذلك بأنّ الطلب هناك ليس للفعل لعلم الطالب بامتناعه للعزم على الفعل ، فإنّه يفيد أنّ ما ذكره من المبنى إنّما هو في الأوامر

٦١٦

الحقيقيّة دون غيرها ، وكان الأولى استناده في ذلك إلى كلام السيّد العميدي في المنية ، حيث إنّ ظاهر كلامه تقرير النزاع في الأوامر الامتحانيّة ، وإنّه بنى على المنع منه مستدلّا بما مرّت الإشارة إليه. وما تقدّم من إسناد المنع من صدور الأوامر الامتحانيّة إليه إنّما كان لما ذكره في تقرير هذه المسألة ، وقد بنى فيها على المنع مستدلّا بما مرّ ، فيكون محلّ النزاع عنده في المسألة خصوص الأوامر الامتحانيّة دون ما يراد منه الإتيان بنفس المأمور به ، فيصحّ الاستشهاد به في المقام.

لكن يمكن أن يقال : إنّه لا يريد بذلك المنع من صدور الأوامر الامتحانيّة المجازيّة المستعملة في خلاف مدلول الأمر بالنظر إلى صيغته أو مادّته ، فإنّ باب المجاز واسع لا مجال للمنع منه ، وإنّما أراد بذلك دفع ما ذكره المجوّز من أنّ حسن الأمر بالشيء على وجه الحقيقة لا يتوقّف على مصالح تنشأ من حسن الفعل المأمور به ، بل قد يكون لمصالح تنشأ من نفس الأمر أيضا ، فيمكن صدور الأمر على الوجهين ، وظاهر أنّ الوجه الثاني منهما لا يترتّب عليه ما ذكره من المفاسد حسب ما فصّل القول فيه ، فجعل ذلك مناط الحكم بجواز صدور الأمر حينئذ مع علم الآمر بانتفاء شرطه ، فأراد بها دفع ذلك بأنّه لو جاز صدور الأمر على الوجهين لزم الإغراء بالجهل ، نظرا إلى ظهور الأمر عرفا في إرادة نفس المأمور به ، فلو لم يكن ذلك مرادا مع عدم قيام القرينة عليه لزم الإغراء بالجهل ، ويلزم أيضا على جواز صدور الأمر على الوجهين عدم دلالة مطلق الأمر على وجوب مقدمته ، ولا النهي عن ضدّه ، إلى آخر ما ذكره.

وهذا الكلام وإن كان فاسدا حسب ما يظهر ممّا نقرّره في المقام إلّا أنّه لا ربط له بالمنع من صدور الأوامر الامتحانية المجازيّة حسب ما توهّم من كلامه ، والحال في ما ذكره نظير ما مرّ من كلام العلامة في النهاية.

ثمّ إنّ توضيح الحال أنّه لا إشكال في جواز ورود الأوامر الامتحانيّة وعدم حصول جهة مقبّحة في صدورها حسب ما ذكرنا ، إنّما الإشكال في كون الأمر

٦١٧

المتعلّق بالفعل على الوجه المفروض أمرا حقيقيّا أو صوريّا متجوّزا به بالنسبة إلى الصيغة باستعمالها في صورة الطلب ، أو المادّة باستعمالها في مقدّمات ذلك الفعل المطلوب دون نفسه ، فإن قلنا بكون ذلك أمرا حقيقيّا وتكليفيّا بذلك الفعل تمّ القول بجواز الأمر بالشيء مع علم الآمر بانتفاء شرطه من غير مجال للتأمّل فيه. وإن لم نقل بكون ذلك أمرا حقيقيّا ولا تكليفا بالفعل على وجه الحقيقة لم يكن الأمر بالشيء مع علم الآمر بانتفاء شرطه جائزا ، وجواز ورود الأوامر الامتحانيّة لا يفيد جواز ذلك ، إذ المفروض خروجها عن حقيقة الأمر ، والكلام إنّما هو في الأمر بالفعل على وجه الحقيقة والتكليف الحقيقي به دون المجازي. وبيان الحقّ في ذلك يتوقّف على تحقيق حقيقة التكليف ، فمبنى النزاع في المسألة : أنّ الأمر الّذي لا يراد به إيجاد الفعل هل هو أمر حقيقي أو لا؟ ولا نزاع لأحد في عدم جواز تعلّق الصيغة الّتي يراد بها حصول الفعل بحسب الواقع بالمستحيل ، فإنّ إمكان المراد في نظر المريد شرط عقليّ في تحقيق الإرادة لا مجال لإنكاره ، ولم ينكره أحد من العقلاء. وكذا لا إشكال ولا نزاع في المقام في جواز استعمال صيغ الأمر لمجرّد الامتحان والاختبار من غير إرادة لحصول الفعل بحسب الواقع ، وإنّما وقع النزاع في جواز إيجاب الشيء والأمر به مع علم الآمر بانتفاء شرطه من جهة الاختلاف في حقيقة الأمر ومفاد الإيجاب والتكليف ، فمن أخذ في حقيقته الإرادة منع منه ، ومن لم يأخذ تلك في حقيقته ـ حسب ما مرّ بيانه ـ جوّزه ، فالنزاع إذا قرّر بالنسبة إلى جواز الأمر والتكليف ـ كما هو ظاهر عنوان المسألة ـ كان نزاعا معنويّا مبنيّا على الوجهين ، كما يظهر من ملاحظة أدلّة الطرفين من غير حصول خلط في كلام أحد من الفريقين ، كما لا يخفى بعد التأمّل في ما قرّرنا. وإن قرّر النزاع في تعلّق صيغة الأمر بالمكلّف على الوجه المذكور كان نزاعا لفظيّا ، فإنّ المانع إنّما يمنع من توجيه الصيغة الّتي يراد بها إيجاد الفعل واقعا ، والمجيز إنّما يجيز توجيه الصيغة الّتي لا يراد بها ذلك ، ولا خلاف لأحد من الجانبين في المقام في استحالة الأوّل ، ولا في جواز الثاني ، فتأمّل.

٦١٨

وحيث إنّ بيان الحقّ في المسألة مبنيّ على المسألة المذكورة فلا ضير لو أشرنا إلى ما هو التحقيق فيها وإن مرّت الإشارة اليها غير مرّة في المباحث المتقدّمة.

فنقول : إنّ الّذي يظهر بعد التأمّل : أنّ حقيقة التكليف والإيجاب ـ وهي الّتي تقتضيه صيغة الأمر ـ هو اقتضاء الشيء من المكلّف واستدعاؤه منه على وجه المنع من الترك ، وإرادة ذلك من المكلّف إرادة فعليّة جازمة حاصلة بقصد الإنشاء من صيغة الأمر وغيرها ممّا يراد به حصول ذلك ، سواء تعلّقت به الإرادة النفسيّة الحاصلة لذات الأمر بأن يكون مريدا لذلك الفعل في ذاته مع قطع النظر عن الإنشاء المذكور ، كما هو الحال في معظم التكاليف الصادرة من الناس ممّا لا يقصد به الاختبار ونحوه ، أو لم تتعلّق به ، كما هو الحال في التكاليف الشرعيّة ، لظهور أنّه لو تعلّقت إرادته تعالى بالفعل ابتداء على الوجه المذكور حسب ما يقتضيه الأمر لو قلنا باتّحاد الطلب والإرادة بالمعنى المذكور لم يمكن تخلّف المراد عنه ، وكان صدور الفعل عن المكلّف على سبيل الإلجاء والاضطرار من غير أن يمكن منه تحقّق العصيان ، كما يومئ إليه قوله تعالى : (فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ)(١) وهو مع كونه خلاف الضرورة مخالف للحكم الباعثة على التكليف.

ومن البيّن أنّ التكليف إنّما يحصل بالأمر ، ومدلول الأمر إنّما يحصل باستعمال الصيغة فيه من غير أن يكون له واقع تطابقه أو لا تطابقه ، بل استعمال اللفظ فيه هو الآلة في إيجاده فيكون معناه حاصلا بذلك.

ومن البيّن أنّ الإرادة النفسيّة غير حاصلة بتوسّط الصيغة ، بل هي أمر واقعيّ نفسيّ حاصل للآمر مع قطع النظر عن الصيغة المفروضة ، فلا مدخل للإنشاء في حصولها والدلالة عليها ، فالطلب والتكليف الحاصل بصيغة الأمر غير الإرادة المفروضة.

__________________

(١) سورة الانعام : ١٤٩ (فلو ...) ، سورة النحل : ٩ (ولو ...).

٦١٩

نعم ، هو متّحد مع الإرادة الفعليّة ، إذ هو عين الاقتضاء الحاصل بصيغة الإنشاء ، كما مرّت الإشارة إليه.

نعم ، قد يقال بحصول إرادة الطاعة من خصوص المطيع ، نظرا إلى إرادة اتّحاده فإنّها إرادة الطاعة بالعرض ، حيث إنّ إرادة السبب إرادة لمسبّبه كذلك مع العلم بالسببيّة ، ويجري خلافه بالنسبة إلى الآخر ، وذلك كلام آخر لا ربط له بالمقام.

ويشير إلى ذلك ـ أي تعدّد الإرادتين المذكورتين ـ ما ورد (١) من أنّ الله تعالى أمر إبليس بالسجود لآدم عليه‌السلام ولم يشأ منه ذلك ، ونهى آدم عليه‌السلام عن أكل الشجرة وشاء منه ذلك. فظهر بذلك أنّ الأوامر الامتحانيّة أوامر حقيقيّة مشتملة على حقيقة الطلب المدلول لصيغة الأمر الحاصلة بإنشاء الصيغة وإيجادها على نحو غيرها ، وإن خلت عن إرادة الفعل على الوجه الآخر فإنّ تلك خارجة عن مفاد الأمر ، كما بيّنّاه ، ولم أر من نبّه من الأصحاب على ما قرّرناه من مغايرة حقيقة الطلب الحاصل بالصيغة لإرادة الفعل على الوجه المفروض سوى المدقّق المحشّي رحمه‌الله فإنّه أشار إلى ذلك في بحث مقدّمة الواجب ، قال : إنّ العلم بعدم الصدور أو امتناعه لا يستلزم القبح إلّا لإرادة وجود الفعل وطلبه وقصد تحصيله ، إذ بعد العلم بعدم الوقوع قطعا لا يجوز من العاقل أن يكون بصدد حصول ذلك الشيء ، ويقضي العقل بأنّ الغرض من الفعل الاختباري يجب أن يكون محتمل الوقوع وإن لم يجب أن يكون مظنونه ومعلومه.

وقد تقرّر أنّ الغرض من التكليف ليس ذلك بل الابتلاء ، لا بمعنى تحصيل العلم بما لم يكن معلوما ، بل بمعنى إظهار ما لم يكن ظاهرا. انتهى.

وهو كما ترى صريح في ما قرّرناه ، إلّا أنّه مخالف لظاهر ما اختاره الأصحاب من اتّحاد الطلب والإرادة.

__________________

(١) البقرة : ٣٤ ـ ٣٦.

٦٢٠