هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٨٣

فما ذكر من أنّ أحدا لا يمنع من تعلّق تكليف آخر فيما بعد الغاية بمثل الأوّل وأنّه خارج عن المسألة محلّ منع ، إذ لا يعقل القول بثبوت الحكم فيما بعد الغاية بنفس الخطاب الأوّل ، وإنّما يثبت لو ثبت بخطاب آخر ، وحينئذ فمن البيّن أنّ ما تعلّق به أحد الخطابين مخالف لمتعلّق الخطاب الآخر ، فإذا كان مثل ذلك خارجا عن محلّ النزاع فينبغي انتفاء النزاع في البين ، إذ القائل بالمفهوم على ما ذكر إنّما يقول بانتفاء الحكم عمّا بعد الغاية بحسب الخطاب الأوّل ، والمنكر إنّما يقول بجواز ثبوته بخطاب آخر ، فلا يكون شيء منهما حينئذ محلّا للنزاع ، وهو كما ترى ، إذ الحال في جميع القيود الواقعة في الكلام على ما ذكر ، فلا اختصاص لبعض القيود من بينها بإفادة المفهوم ، فلا يكون مدلول الخطاب الآخر معه خارجا عن محلّ المسألة ، وإنّما يحصل المعارضة إذا بين الخطابين ، ولذا نصّوا على دلالة الغاية على مخالفة ما بعدها لما قبلها. هذا ، وقد تقدّم الكلام في تحرير محلّ النزاع في المسألة ، فلا حاجة إلى إعادته.

الخامس : أنّ التقييد بالغاية راجع إلى التعليق على الوصف ، كما يأتي في كلام السيّد والشيخ وغيرهما. ونصّ عليه الشهيد وغيره لرجوعه إلى قيد الموضوع ، فالمثال المذكور يجري مجرى قولك : «صم صياما آخره الليل» ومعناه مطلوبيّة الصيام الموصوف بكونه منتهيا إلى الليل ، فما عداه موضوع آخر خارج عن مدلول الخطاب ، ولم يتعرّض فيه بنفي ولا إثبات ، كما هو قضيّة القول بنفي مفهوم الوصف ، فمجرّد كون أداة الغاية موضوعة لما يفيد معنى الآخر لا يكفي في الدلالة على انتفاء الحكم فيما بعدها ، إنّما تدلّ على كون الغاية آخرا للمتعلّق المذكور في الخطاب ، وهو أمر بيّن لا يقبل الارتياب ، ولا ربط له بمقصود المستدلّ.

نعم ، لو كان المتكلّم في مقام بيان الحكم دلّ على المقصود بمفهوم البيان ، كما مرّ في مفهوم الوصف.

وفيه أوّلا : أنّ الكلام في مفهوم الوصف إنّما هو في مجرد التقييد بالوصف مع قطع النظر عن خصوصيات الأوصاف ، فلا مانع من وقوع نزاع آخر في بعض

٥٤١

الخصوصيّات الحاصلة في عدّة من القيود الواقعة في الكلام ، كما وقع في العدد والشرط والزمان والمكان وغيرها ، ومن جملتها الغاية فإنّها وإن رجعت إلى الوصف إلّا أنّ الكلام في أنّ لخصوصيّة الغاية مدخليّة في إفادة المفهوم أو لا؟ ولذا يقول به من لا يقول بمفهوم الوصف.

وثانيا : أنّ إرجاع الغاية إلى قيود الموضوع بعيد جدّا ، للزوم الإضمار في الكلام ، لتعلّق الجارّ والمجرور حينئذ بالمقدّر وكون الظرف مستقرّا ، وذلك خروج عن ظاهر اللفظ ، وإنّما الظاهر رجوع القيد إلى الحكم ، وتعلّق الظرف بنفس الفعل المذكور لسلامته عن التقدير، وهو وإن رجع إلى مفهوم القيد إلّا أنّ لخصوصيّة الغاية مدخليّة في الدلالة عند القائل بمفهومها ، فيكون مدلولها انتهاء الحكم إلى الغاية ، وكونها آخرا له ، فإذا فرض ثبوته بعدها لم يكن آخرا كما قرّره المستدلّ.

السادس : أنّ ما ذكره المستدلّ إنّما يناسب الإخبار بأنّ آخر وجوب الصوم الليل دون الإنشاء الّذي ليس له خارج سواه ، وإنّما يوجد مدلوله بايجاده. ومن المعلوم أنّ الإنشاء إنّما يتعلّق بمورده المنطوق به وينتفي عن غيره كائنا ما كان ، ألا ترى أنّ مورده إذا كان من الأسماء والألقاب اختصّ الإنشاء بها ولم يعقل تعلّقه بغيرها ، كما في العقود والإيقاعات مع توافق الفريقين على عدم اعتبار المفهوم فيها ، بل وكذلك الحال في الإخبار من حيث تعلّقه بمورده لوضوح انتفائه عن غيره ، فلو فرض شموله واقعا لغيره لم يكن ذلك منافيا لاختصاص جهة الإخبار به إلّا إذا كان واردا في مقام بيان ذلك الواقع ، فيدلّ على انتهاء الواقع إلى الغاية وانقطاعها في نفس الأمر ، وهو أمر آخر.

وأمّا الإنشاء فليس له واقع آخر ، فاختصاصه بمورده لا ربط له بما هو الغرض من إثبات المفهوم فيه ، لرجوعه إلى القول بدلالة التقييد بالغاية فيه على انتفاء خطاب آخر فيما بعدها بحيث لو وجد خطاب آخر وقع التعارض بينهما ، كما عرفت ، ولم يثبت ذلك من الدليل المذكور ، إنّما يفيد انتهاء الوجوب الحاصل بالإنشاء المفروض ـ مثلا ـ بتلك الغاية فينتفي بانتفائها ، إذ ليس له خارج سوى

٥٤٢

مدلوله المنقطع إليها ، وذلك لا ينافي تحقّق وجوب آخر بإنشاء على حدة حاصل بعد الخطاب الأوّل ، فينتفي الحكم فيما بين الخطابين أو قبله أو مقارنا له ، ولا منافاة بينهما على شيء من الوجوه الثلاثة.

وفيه : أنّ النزاع في المسألة ـ على ما عرفت غير مرّة ـ إنّما هو في أنّ التقييد بالغاية هل يفيد حكما واحدا وجوديّا وهو إثبات الحكم في محلّ النطق ، أو يفيد مع ذلك حكما عدميّا وهو نفيه عن غيره ، أو بالعكس حيث يكون النسبة المذكورة سلبيّة من غير فرق بين الإخبار والإنشاء في ذلك ، فالغرض من إثبات المفهوم أنّ الخطاب المفروض ينحلّ إلى خطابين : إيجابي وسلبي ، ففي الإخبار يدلّ على الإخبار بالأمرين جميعا ، وفي الإنشاء يفيد إنشاء الحكمين معا ، والنافي يقول بعدم دلالة اللفظ إلّا على الأوّل ، وعدم التعرّض فيه للثاني بنفي ولا إثبات.

والمقصود من الدليل : أنّ التقييد بالغاية في الإخبار يدلّ على الإخبار بكونها آخرا للأمر المخبر عنه ، فيدلّ على انتهائه عندها وعدم استمراره بعدها ، وإلّا لم يكن آخرا ، إذ من البيّن أنّ الغاية في الكلام لم تجعل غاية للإخبار حتّى ينتهي الإخبار عندها ، وإنّما جعلت غاية للأمر الواقعي ، وفي الأوامر يدلّ على انتهاء نوع الطلب عندها ، وكونها آخرا للطلب أو المطلوب مطلقا ، فلو فرض بقاؤه بعدها ولو بإنشاء آخر قبله أو معه لم يكن آخرا ، فكأنّه أنشأ حكما آخر سلبيّا وهو نفي الطلب والمطلوبيّة فيما بعد الغاية. والقول بأنّ الأمر العدمي لا يتعلّق به الإيجاد مدفوع : بأنّ الغرض من إيجاده إثباته وتقريره.

نعم ، لو تجدّد الطلب بعد الغاية لم يكن ذلك منافيا للأوّل ، وكذا الحال في سائر الإنشاءات ، فليست الغاية لخصوصيّاتها ، بل لنوعها على ما تقدّم في محلّه من كون الموضوع له في تلك الهيآت عامّا ، ويشهد بذلك أنّه لو نصّ الآمر بعد التقييد بالغاية على استمرارالحكم فيما بعدها عدّ ذلك نسخا للتقييد بها ، أو قرينة على إرادة خلاف المعنى الظاهر منه ، ولو لا دلالة الكلام على انتهاء نوع الطلب عند الغاية لم يكن إثباته بعدها من النسخ والبداء. ويؤيّده : أنّ القول بالتفصيل في

٥٤٣

مفهومي الشرط والغاية وغيرهما بين الخبر والإنشاء شاذّ لا يعرف من أرباب التحقيق ، فيكون مدلول الإنشاء فيها كالإخبار ، ويعرف الحال في ذلك بالمقايسة إلى الاستثناء من الطلب أو المطلوب ، كما لو قال : «صم إلّا الليل» فإنّه يدلّ على انتفاء نوعه في المستثنى، لا انتفاء ذلك الطلب المقصود بيانه.

فهناك فرق بيّن بين التقييد بالشرط والغاية والاستثناء ونحوها وبين التقييد باللقب والوصف ونحوهما ، فإنّ الأوّل يدلّ على انتفاء نوع الطلب على حسب ما مرّ في تحرير محلّ النزاع ، والثاني إنّما يستلزم انتفاء الطلب المخصوص في غير مورده مع السكوت عن بيان حكمه ، إلّا لخصوصيّة في ذلك تقضي بالدلالة عليه ، فإذا كان مدلول الأمر هو الطلب الخاصّ الحاصل به لم يكن مفاد الاستثناء منه إلّا انتفاء في المستثنى بخصوصه ، فلا يدلّ حينئذ على أكثر ممّا يفيده اللقب وغيره ، ومن البيّن خلافه ، لوضوح دلالة الاستثناء على نفي مطلق الطلب عن المستثنى وانتفاء مطلوبيّته على الإطلاق وإن صحّ تعلّق الطلب به فيما بعد ذلك ، فكذا الحال في التقييد بالشرط والغاية ، بل الثاني أوضح من الأوّل كما عرفت ، وهذا ممّا يؤيّد ما تقدّم في محلّه من كون الموضوع له للهيآت المذكورة عامّا.

وعلى كلّ حال فالدلالة على ما ذكرنا ظاهرة من الرجوع إلى العرف والنظر إلى متفاهم أهل اللسان ، وقد يقرّر الدلالة في المقام ونظائره بوجه آخر ، وهو : أنّ التقييد بالغاية في الأحكام الطلبيّة يدلّ على انقطاع الإرادة الواقعيّة عندها فينتفي فيما بعدها ، فيدلّ على انتهاء مطلق الطلب حينئذ ، سواء كان مدلول الصيغة خاصّا أو عامّا.

وأنت خبير بما فيه ، إذ الإرادة إن قلنا بكونها عين الطلب ـ كما هو المعروف من المذهب ـ كان الحال فيها هو الحال في الطلب في العموم والخصوص ، بل مفاد أحدهما عين الآخر فلا يجدي اختلاف التعبير شيئا ، فإنّ انتفاء الإرادة المخصوصة لا ينافي ثبوت نوعها وجنسها فيما بعد الغاية كالطلب. وإن قلنا بمغايرة الطلب والإرادة لم تكن الإرادة مناطا للتكليف ولم يكن في تقييد الطلب دلالة على تقييد الإرادة ، فلا تغفل.

٥٤٤

واعلم : أنّ الدليل المذكور كما يدلّ على مخالفة ما بعد الغاية لما قبلها كذا يدلّ على مخالفتها بنفسها لما قبلها على القول بخروجها عن المغيّا بها ، لدلالتها إذن على انقطاع الحكم عندها ، فيكون الحال فيها كما هو الحال فيما بعدها ، فيقال : إنّ أداة الغاية موضوعة لانقطاع الحكم عند مدخولها فلو استمرّ إليها لم ينقطع عندها ، ويؤيّده بعد التعرّض لحكم الطرفين والسكوت عن حكم ما بينهما ، وكذا الحال في البداية.

وهناك وجوه اخر قد يستدلّ بها في المقام :

الأوّل : أنّ التقييد بالغاية لو لم يدلّ على مخالفة ما بعدها لما قبلها كان ما بعدها مسكوتا عنه ، للقطع بعدم الدلالة على مساواتهما في الحكم ، فيلزم حسن استفهام المخاطب عن حكمه والسؤال عن استمرار الحكم الأوّل فيه وانقطاعه عنه ، لوضوح حسن الاستفهام عمّا لا شاهد عليه في الكلام والسؤال عن حكم المجهول في كلّ مقام. ومن المعلوم في العرف والعادة أنّ من أخبر بجلوس زيد إلى الظهر مثلا ، أو حكم بشيء من الأحكام التكليفيّة أو الوضعيّة إلى الوقت المعيّن والغاية المعيّنة لم يحسن استفهام المخاطب عنه ، وسؤاله أنّه هل جلس إلى العصر أم لا؟ وهل يستمرّ ذلك الحكم فيما بعد الغاية أو ينتفي عندها؟ بل يستقبح بعد سماع التقييد المذكور المسألة عن نحو ذلك فإنّه يعدّ في المحاورات جهلا بمدلول الكلام ، أو لغوا في ذلك المقام ، أو طلبا للتصريح بالمرام ، وإلّا كان مستهجنا في العرف دليلا على غباوة السامع ، ولو لا ثبوت المفهوم المذكور لم يكن الأمر كذلك.

وقد يورد عليه : بأنّ قبح الاستفهام لا يتوقّف على دلالة الكلام ، إذ قد يحصل مع سكوت المتكلّم عن بيان الحكم أيضا ، كما هو الحال فيما قبل البداية ، ودعوى استناده حينئذ إلى مفهوم البداية مدفوعة بفرض المسألة قبل صدور الخطاب ، فإنّ المفهوم المذكور إنّما يتصوّر بعد صدوره وقبل حصول مبدأ الحكم ، أمّا قبل الخطاب فلا يتصوّر هناك مفهوم حتّى يعقل استناده إليه ، إنّما يحسن السؤال في مظانّ ثبوت الحكم.

٥٤٥

وأنت خبير بما فيه ، للقطع بحسن الاستفهام مع حصول التردّد في الحكم ، إنّما لا يحسن مع سكوت المتكلّم حيث يكون دليلا على النفي ولو بضميمة الأصل ، بل قد يحسن مع ذلك أيضا عند قيام الاحتمال لتحصيل المعرفة بالحكم الواقعي. وعلى ما ذكر ينبغي القول بقبح الاستفهام مطلقا ، إذ الكلام إن دلّ على الحكم لم يحسن الاستفهام كما ذكر ، وإن لم يكن فيه دلالة فالمفروض عدم حسنه أيضا مع سكوت المتكلّم في تلك الحال ، فيختصّ حسن الاستفهام بالسؤال عن تعيين الحكم بعد ثبوته على الإجمال ، مع قيام الضرورة على حسن الاحتياط في تعلّم الأحكام في كلّ مقام ، فالكلام المذكور في غاية السقوط.

الثاني : أنّ التقييد بالغاية لو لم يكن لفائدة إفادة المفهوم كان لغوا في الكلام ، وهو مع امتناعه في كلام الحكيم خارج عن وضع المخاطبات ، مخالف لطريقة العقلاء في المحاورات، كما مرّ نظيره في مفهومي الشرط والوصف ، ألا ترى أنّه لو اخبر عن الجالس إلى الليل بجلوسه إلى الظهر أو عن شيء من الأحكام والوقائع المستمرّة بثبوته إلى وقت كذا وحال كذا مع بقائه فيما بعده عدّه مستهجنا في العرف قبيحا في المحاورات؟

وفيه : أنّ ذلك إنّما يسلّم حيث تنحصر الفائدة فيما ذكر ، أمّا لو فرض حصول غيره من الفوائد المقصودة في ذكر الغاية لم يكن فيه حزازة. نعم ، لو كان ما ذكر أظهر الفوائد وأرجحها في النظر بحيث يكون هو المنساق من اللفظ عند الإطلاق تمّ ما ذكر ، وهو أمر آخر ، وقد مرّ الكلام في نظائره ، إذ ليس للغاية خصوصيّة في ذلك ، بل يجري في مطلق القيود الواقعة في الكلام كما سلف.

الثالث : أنّ المغيّا بالغاية المفروضة لو فرض استمراره فيما بعدها كانت الغاية وسطا للأمر المفروض حكما كان أو غيره. ومن البيّن أنّه لا يعقل من الغاية إلّا طرف الشيء وحدّه الّذي ينتهى إليه.

وأورد عليه : بأنّ المفهوم منها كونها غاية للمذكور ، ولا يلزم من وجود المغيّا فيما بعد الغاية بخطاب آخر أن يكون وسطا ، إنّما يلزم لو كان مستندا إلى ذلك الخطاب الحاصل قبل الغاية.

٥٤٦

وأنت خبير بأنّ الوجه المذكور راجع إلى الأوّل ، لمنافاة كون الغاية آخرا لكونها وسطا ، ويأتي فيه ما مرّ من التفصيل سؤالا وجوابا ، فلا وجه لإعادته.

الرابع : أنّ المفهوم المذكور هو المتبادر من اللفظ عند الإطلاق ، إذ ليس المفهوم عرفا من التقييد بالغاية إلّا ما ذكر ، وقد يعارض بدعوى عدم صحّة سلب المحمول عن الموضوع على الوجه المذكور في الكلام عند فرض استمرار الحكم المفروض فيما بعد الغاية ، فلا يصحّ أن يقال للجالس إلى العصر : إنّه لم يجلس إلى الظهر ، ولا مع وجوب الصوم إلى الليل : إنّه لا يجب إلى الظهر ، وذلك دليل الحقيقة.

وفيه أوّلا : أنّ المدّعى أعمّ من الدلالة الوضعيّة ، فغاية ما يدلّ عليه ذلك عدم خروج اللفظ بذلك عن حقيقته ، وهو لا ينافي المقصود.

وثانيا : أنّ السلب المذكور حيث يوهم تعلّقه بنفس المغيّا فلا يصحّ ، أمّا مع تعلّقه بنفس القيد فلا ريب في صحّته ، فيقال : إنّ جلوسه لم يكن إلى الظهر بل إلى العصر ، فلا تغفل.

قوله : (احتجّ السيّد ... الخ).

يمكن الاحتجاج على ذلك أيضا بوجوه :

منها : الأصل ، فإنّ الدلالة على المفهوم في ذلك إمّا أن تستند إلى وضع اللفظ ، أو إلى القرائن الخارجة عن الوضع ، ومع الشكّ فيهما معا لا يمكن الحكم بها ، إذ الأصل عدم تعلّق غرض الواضع بإفادته ، وعدم قيام القرينة عليه ، فإنّ ذلك زيادة في مدلول الكلام ، والمتيقن منه هو الدلالة على ثبوت الحكم إلى تلك الغاية ، وأمّا انتفاؤه عمّا بعدها فأمر آخر يتوقّف على قيام الدليل عليه إذ بدونه يتعيّن الاقتصار في تشخيص المدلول على المتيقّن.

وقد يورد عليه : بأنّ الأصل العملي قد يوافق مقتضى المفهوم في الحكم المقصود منه ، وذلك حيث يكون المغيّا مخالفا لمقتضى الأصول العمليّة المقرّرة في مواردها كما هو الغالب ، فمقتضى الأصل حينئذ عدم استمرار الحكم المفروض فيما بعد الغاية ، بناء على ما تقرّر في محلّه من عدم حجّية الاستصحاب مع الشكّ في المقتضي.

٥٤٧

ويدفعه : أنّ ذلك لا ينافي القول بنفي المفهوم ، فإنّ غرض القائل به خروجه عن مدلول الكلام ، ولزوم الرجوع في مقام العمل إلى مقتضى الأصل ، سواء أفاد البناء على الحكم السابق على الغاية المفروضة أو على خلافه.

ومنها : أنّ الدلالات منحصرة في الثلاث ، ومن البيّن انتفاء دلالة المطابقة والتضمّن في المقام ، كيف ولا يدّعيه الخصم أيضا؟ إذ ليس انتفاء الحكم فيما بعد الغاية نفس الموضوع له ولا جزءه ، للقطع بخروج ما بعد الغاية عن مدلول اللفظ ، ولذا استبعد جماعة وقوع الخلاف واستظهروا اختصاصه بنفس الغاية كما مرّ ، فكيف يندرج فيه حكمه؟ وأمّا الالتزام فهو أيضا غير ظاهر في المقام ، لانتفاء الملازمة في المثال المفروض بين وجوب صوم النهار وعدم وجوب صيام الليل ، فيمكن أن يكون السكوت عن الثاني لعدم تعلّق الغرض ببيانه ، أو لحصول مانع من ذكره فإنّ إثبات الشيء لا يقضي بنفي ما عداه.

وفيه ما عرفت من ثبوت الملازمة بين كون الغاية آخرا للحكم المغيّا وانتفائه فيما بعدها ، وإلّا كانت وسطا للحكم ، ولم يكن غاية على ما مرّ بيانه ، فتكون الدلالة على ذلك التزاميّة ، بل هو من الالتزام البيّن ، لعدم انفكاك تصوّر أحد المتلازمين المذكورين عن تصوّر الآخر ، بل ربّما يقال بكونها تضمّنيّة فإنّ مفهوم الآخريّة يتضمّن الانتفاء عمّا بعده ، وفيه اشتباه اللازم البيّن بالجزء ، لوضوح أنّ ما بعد الغاية غير مذكور في الكلام حتّى يشتمل على حكمه ، كما في مفهوم الشرط والاختصاص والتوقيت ونحوها.

ومنها : أنّ التقييد بالغاية كما يقع مع انتفاء الحكم عمّا بعدها كذا يقع مع ثبوته ، لوروده في الاستعمالات على كلا الوجهين ، فيكون للقدر المشترك بين الأمرين ، فإنّ كلّا من المجاز والاشتراك مخالف للأصل ، وقد شاع الاحتجاج بمثل ذلك في كثير من المقامات.

وفيه : أنّ ورود التقييد بالغاية مع استمرار الحكم فيما بعدها أمر نادر قليل الوقوع ، لا سيّما في كلام أرباب الحكمة والبلاغة ، ولا عبرة بالاستعمالات

٥٤٨

النادرة ، فالتمسّك بالاستعمال الشائع أولى ، ولو فرض شيوع الاستعمال فيه لم يكن فيه دلالة على الاشتراك المذكور أيضا ، لما تقرّر في محلّه من كون الاستعمال أعمّ من الحقيقة ، سيّما مع ملاحظة غلبة الاستعمالات المجازيّة في كلمات العرب ، ومخالفة المجاز للأصل لا يجدي في ذلك شيئا ، إذ المجاز لازم على التقديرين ، لخروج اللفظ إذا عن مقتضى الوضع عند استعماله في كلّ من الخصوصيّتين بل الوجه المذكور لو تمّ لكان بالدلالة على خلاف المقصود أولى ، إذ مع دوران احتمال التجوّز بين وقوعه في الاستعمالات الشائعة والنادرة يتعيّن القول بالثاني على الأصل المذكور. ومن البيّن أنّ التقييد بالغاية إنّما يقع غالبا عند إرادة الانتفاء فيما بعدها ، والقول بكون الدلالة في تلك الموارد مستندة إلى القرائن المنضمّة من غير أن يكون تلك الخصوصيّة مأخوذة في نفس المستعمل فيه حتّى يلزم التجوّز على الوجه المذكور لا يخلو عن بعد ، بل الظاهر خلاف ذلك في الإطلاقات الدائرة ، إذ لا يستعمل أداة الغاية غالبا إلّا في خصوص معنى الانتهاء المفيد لانقطاع الحكم السابق عليها ، فإذا دلّ الاستعمال على الحقيقة خصوصا مع الشيوع والغلبة أفاد ذلك كونها حقيقة في تلك الخصوصيّة ، فيكون مجازا في القدر المشترك فضلا عن الخصوصيّة الاخرى لندرة الاستعمال في أحدهما ، بل يمكن القطع بعدم وقوع استعمالها في الثانية.

غاية الأمر مقارنتها لثبوت الحكم فيما بعد الغاية بدليل آخر ، وهو ما ذكر من القدر المشترك ، فيدور الأمر في الحكم بالتجوّز بين الاستعمالين ، فيبنى على مقتضى الاستعمال الغالب ، ولا أقلّ من تساوي الاحتمالين ، فلا دلالة فيما ذكر على أحد الوجهين.

ومنها : أنّه لو دلّ على ذلك لكان إمّا بصريح لفظة ، أو لانحصار فائدة التقييد في إفادته ، أو لجهة اخرى ، والأوّل واضح الفساد ، والثاني مسلّم ، لجواز أن يكون فائدة التقييد تعريف بقاء ما كان بعد الغاية على ما كان قبل الخطاب من غير تعرّض لإثبات الحكم فيه ، أو نفيه ، والثالث خلاف الأصل ، ولا يخفى أنّه تطويل

٥٤٩

بلا طائل ، فكان الأولى التمسّك بالأصل المذكور من أوّل الأمر ، وحينئذ فإن أراد الأصل المذكور في الوجه الأوّل فمن البيّن أنّه لا يعارض الدليل ، وإلّا فمجرّد أصالة انتفاء الجهة المفيدة لإثبات المفهوم المذكور إنّما يقضي بالتوقّف دون الجزم بنفي الدلالة الموجب للقول بوضع الأداة للقدر المشترك ، إذ مع الاختلاف في تعيين المعنى الموضوع له لا يمكن التمسّك فيه بالأصل ، فمقتضى ذلك هو اختيار القول بالوقف ، على أنّ تعريف بقاء ما كان بعد الغاية على ما كان قبل الخطاب أمر زائد على القدر المشترك لا يشهد به أصل ولا دليل ، وتوهّم الاستصحاب في مثله وهم فاسد ، كما سنشير إليه إن شاء الله تعالى.

ومنها : أنّه لا مانع من ورود الخطاب فيما بعد الغاية بمثل الحكم السابق على الغاية ، وقد تكثّر نقل الإجماع عليه في كلامهم ، وعند ذلك إمّا أن يكون تقييد الحكم بالغاية نافيا للحكم فيما بعدها ، أو لا ، والأوّل يلزم منه إثبات الحكم مع تحقّق ما ينفيه ، وهو خلاف الأصل. والثاني هو المطلوب ، وهو رجوع إلى التمسّك بالأصل ، إذ لا يزيد التقرير المذكور على ذلك كسابقه فهما معا تطويل من غير طائل ، على أنّ الخطاب الثاني يكون قرينة على إرادة خلاف الظاهر من الأوّل ، أو ناسخا له فلا ينافي المقصود.

ثمّ إنّ الغالب في الاستعمالات الواقعة قيام الدليل على إرادة المفهوم من نفس اللفظ ، لا على مجرّد مخالفة ما بعد الغاية لما قبلها في الحكم حتّى يقال بعدم منافاته للقدر المشترك ، فيلزم القول بمقتضى الدليل المذكور مع تحقّق ما ينفي من نفس اللفظ ، نظرا إلى أصالة الحقيقة ، وهو لشيوعه أولى بالاستناد ممّا ذكره لندرة وقوعه ، وأيضا فقد يقال : إنّ فرض ورود الخطاب بمثل الحكم السابق خارج عن محلّ المسألة ، لكن قد عرفت ما فيه.

ومنها : أنّه لو دلّ على ذلك لكان في آية الإسراء دلالة على نفي المعراج إلى السماء، ولكان قولك : «سرت من الكوفة إلى البصرة ومنها إلى الشام» مشتملا على التناقض ، ومن المعلوم أنّ شيئا من هذين الكلامين لا يدلّ على ما ذكر ،

٥٥٠

بل لا يستفاد من قوله : «سرت من الكوفة إلى البصرة» اختصاص سيره في الواقع بما بينهما ، إنّما يستفاد ذلك حيث تنحصر فائدة التقييد في مجرّد الحصر ، وذلك حيث لا يكون لذكر المبدأ والمنتهى خصوصية مقصودة بالإفادة ، كقولك : «سرت في الأرض الفلانيّة من هنا إلى هنا» أمّا مع الخصوصية كقولك : «سرت من المدينة المشرّفة إلى مكّة المعظّمة» فلا يكاد يظهر منه انتفاء السير فيما قبل المدينة وما بعد مكة المشرّفة ، ولا يعقل هناك فرق فيما بين المقامين إلّا انحصار الفائدة في الأوّل في إفادة المفهوم وعدمه في الثاني ، فيكون المدار في الدلالة على ذلك على نحو الحال في الأوصاف ومطلق القيود ، ولذا لا يظهر في المقامين المذكورين دلالة على المفهوم ، لظهور تعلّق الغرض بإفادة حصول الإسراء إلى المسجد الأقصى ، وإمكان حصوله في ذكر الكوفة والبصرة ، فإذا انحصرت الفائدة ـ كما في غالب المقامات ـ دلّ على ذلك ، ومن ذلك نشأ الاشتباه ، حتّى توهّم استناده إلى الوضع ولزوم التجوّز بدونه ، مع ما عرفت من بعضهم من أنّه لم يقل به أحد.

وفيه : أنّ التشكيك في وضع اللفظ للابتداء والانتهاء تشكيك في الامور الظاهرة ، كيف وهو المفروض في محلّ المسألة؟ فلابدّ حينئذ من ملاحظة متعلّقهما ، والشكّ في ذلك إنّما ينشأ من الشكّ في متعلّق الأمرين المذكورين ، فإن كان متعلّقهما مطلق الفعل أو الحكم دلّ على انتفاء أحدهما فيما خرج عن الحدّين ، لدلالة إذا على التحديد والحصر والاختصاص ، وإن كان متعلّقهما أمرا مخصوصا أو موضوعا خاصّا لم يكن فيه دلالة على ذلك. ومن المعلوم أنّ اختصاص البعض بالذكر لا يكون إلّا لفائدة ، إذ بدونها يكون تخصيصا من غير مخصّص ، فاختلاف المدلول بحسب اختصاص الفائدة وعدمه إنّما يبتني على ذلك ، فلابدّ من تشخيص المتعلّق بحسب إطلاق اللفظ وقرائن المقام.

ومن المعلوم أنّ اللفظ مع انتفاء القرينة إنّما يدلّ على تعلّق الأمرين المذكورين بتمام المعنى المفهوم من الكلام حتّى يقوم شاهد على إرادة بعض الخصوصيّات وتعلّق الغرض بإفادتها وإظهارها ، سواء كان من القرائن الحاليّة

٥٥١

أو المقاليّة ، ومع الشكّ يرجع إلى ظاهر الإطلاق ، ففي المثالين المذكورين وما أشبههما من الأمثلة حيث كان الظاهر بيان الخصوصيّة يكون مفادها اختصاص السير المقصود بالإظهار بما بين الحدّين ، وذلك لا ينافي استعمال اللفظ الموضوع للابتداء والانتهاء في معناه ، ولذا لا يلزم التجوّز فيه على ما ذكر ، كما مرّ التنبيه عليه ، بخلاف ما لم يظهر فيه ذلك ، فإنّ إطلاق اللفظ يقتضي تعلّق أداة الابتداء والانتهاء فيه بمطلق مدخولها ، فقولك : «سرت من الكوفة إلى البصرة» بحسب وضع اللفظ في معنى قولك : «ابتدأت في سيري بالكوفة وانتهيت إلى البصرة» فإذا كان هناك شاهد على استمرار سيره من قبل ومن بعد كان ذلك في معنى : ابتدأت في بعض مسيري بالكوفة وانتهيت في ذلك البعض إلى البصرة ، وذلك لتعلّق الغرض ببيانهما خاصّة دون غيره ، بل الغالب في مثل ذلك عدم تعلّق الغرض بالإخبار عن مطلق السير ، بل عن جملة منه مقصودة ، ولذا لا يفهم من قول القائل : «سرت إلى البصرة وأقمت بها أيّاما» عدم تجاوز سيره عنها ، والغلبة أقوى دليل على إرادة الخصوصيّة المذكورة.

فإن قلت : فيكون السير المطلق في ذلك مستعملا في الخصوصيّة فيلزم التجوّز في الكلام.

قلت : ليس المقصود ذلك ، وإنّما يقع استعماله في الخصوصيّة على نحو استعمال سائر المطلقات في أفرادها ، من غير أن يكون هناك فرق بين المقامين في ذلك ، لوضوح استعمال السير في الفرد الواقع منه ، سواء كان ذلك تمام الواقع منه أو بعضه.

فإن قلت : إذا كان الواقع على التقديرين هو السير الخاصّ والمطلق إنّما استعمل في الفرد المخصوص الحاصل في الخارج في كلا المقامين فما الفرق بينهما بحسب مدلول الكلام؟

قلت : قد يكون المتكلّم في مقام بيان تمام الأمر ، وقد يكون في مقام بيان بعضه ، لخصوصيّة فيه داعية إلى إظهاره.

٥٥٢

فإن قلت : إنّ ذلك هو الحال في مطلق القيود الواقعة في الكلام ، سواء كان من الألقاب أو الأوصاف فيدلّ التقييد على المفهوم في القسم الأوّل دون الثاني مطلقا ، فلا خصوصيّة إذا في أداة الابتداء والانتهاء.

قلت : إنّ الجهة المذكورة وإن كانت حاصلة في جميع القيود مشتركة بينها إلّا أنّ للأداة المذكورة خصوصيّة في الدلالة على الانتفاء في غير متعلّقها بحسب حقيقتها ومعناها ، بخلاف غيرها من القيود إذ لا دلالة لها على حال الخارج عن موردها ، وإنّما الغرض في المقام تعيين المتعلّق بحسب ظاهر الكلام ، فالمتعلّق في أكثر المقامات مطلق الفعل الحاصل منه ، كما هو قضيّة إطلاق اللفظ ، وفي بعضها خصوص القدر المقصود بإظهاره نظرا إلى الخصوصيّة الحاصلة فيه بحسب نظر المتكلّم ، فيتوقّف على قيام القرينة الحاليّة أو المقاليّة عليه.

فظهر بما قرّرناه ما في كلام السيّد من المبالغة في التسوية بين التقييد بالغاية والوصف، وإن أطال القول فيه ، ووافقه الشيخ وغيره عليه. وقد يحمل كلامه على إرادة إرجاع القيد في المقام إلى الموضوع ، فيكون من باب مفهوم الوصف بعينه ، كما مرّت الإشارة إليه والجواب عنه.

قوله : (والجواب المنع ... الخ).

الفرق بين التعليق على الوصف والتقييد بالغاية ظاهر ممّا مرّ ، إذ الوصف كسائر القيود الواقعة في الكلام من العدد والزمان والمكان ومطلق اللقب لا دلالة فيها بنفسها على حكم ما خرج عن مواردها ، وإنّما تحصل الدلالة من جهة انحصار الفائدة في موارد ظهوره من اللفظ ، أو من الخارج ، وإلّا فمن البيّن أنّ إثبات شيء بشيء آخر لا يقضي بنفي ما عداه ، فينحصر الوجه في دلالته على ذلك في الجهة المذكورة وهي خارجة عن الدلالة الوضعيّة ، كما مرّ بيانه في محلّه. وأمّا الغاية وكلّ ما يدلّ عليها من الاسماء والحروف فإنّما هي على ما عرفت بمعنى نهاية الشيء وآخره ، فتدلّ بالوضع على انقطاع الحكم عندها مع قطع النظر عن انحصار الفائدة فيه ، وإرجاعها إلى الوصف بالتوجيه الّذي مرّ ذكره في غاية

٥٥٣

البعد ، كما عرفت ، فليس الحال في مدلولها إلّا ما هو الحال في أداة الحصر والاستثناء والشرط ، فكأنّ المتكلّم حصر الحكم فيما قبل الغاية ، أو استثنى عنه حكم ما بعدها ، أو جعله شرطا فيه.

ألا ترى أنّ من قال في الاستثناء والشرط : بأنّ الغرض إثبات الحكم في مورد الشرط، وما عدا المستثنى نظرا إلى اقتضاء المصلحة في أن يعلم بثبوت ذلك الحكم بهذا النصّ مع السكوت عن غيرهما ليعلم ثبوته فيه بدليل آخر كان حقيقا بالإعراض عنه حريا بالسكوت عن جوابه فكذلك الحال في الغاية الصريحة في انتهاء المغيّا بها فينتفي فيما بعدها؟ وأين ذلك من الوصف؟! فليس التفرقة بينهما بمجرّد الدعوى ، بل ينبغي التسوية بينها وبين الاستثناء. فلو قيل : إنّ من فرّق بين تقييد الحكم بالغاية والاستثناء فقد فرّق بين المتساويين في أصل الدلالة ، وليس معه إلّا الدعوى كان أقرب ممّا أفاده السيّد رحمه‌الله.

قوله : (إذ لا ينفكّ تصوّر الصوم المقيّد بكون آخره الليل).

هذا هو الوجه في إثبات الدلالة الالتزاميّة باللزوم البيّن ، ولا ينافي ذلك ما مرّ عنه من أنّه لو فرض ثبوت الوجوب في الليل لزم خلاف المنطوق ، لوضوح أنّ انتفاء اللازم يوجب انتفاء الملزوم ، ولأجله يلزم ما ذكر ، كما مرّ بيانه ، فالملزوم هو المعنى المدلول عليه بالمنطوق، والمفهوم مدلول التزاميّ له ، فيكون ناشئا من وضع الأداة لما يفيد معنى الغاية والنهاية ، وأين ذلك من الوصف؟!

واعترض بمنع اللزوم الذهني ، بل الخارجي أيضا ، إذ لا مانع من ورود خطاب فيما بعد الغاية بمثل الحكم السابق إجماعا.

وأجيب تارة : بأنّ إمكان ذلك لا ينافي ما ذكر من اللزوم ، إنّما يكون إذا قرينة على عدم إرادة حقيقة الغاية من اللفظ الموضوع لها ، ولو صرّح بأنّ المراد منه وحقيقتها كان ذلك نسخا عند من يجوّز النسخ في مثله ، ومن لا يجوّزه يدّعي استحالة وقوع هذا المفروض.

واخرى : بأنّ الحكم المستند إلى الخطاب الأوّل مغاير للحكم المستند إلى الخطاب الثاني ، وإن ماثله فهو موجود حال عدم الأوّل.

٥٥٤

وقد يورد على الأوّل : بأنّ غرض المعترض دعوى عدم المنافاة بين الخطابين بحسب معناهما الحقيقي ، من غير لزوم تجوّز ولا نسخ.

وعلى الثاني : بأنّ الخطاب الثاني إذا كان دالّا على ثبوت مثل الحكم الثابت قبل الغاية فيما بعدها كان منافيا لمقتضى المفهوم ، لأنّ معناه الحكم بنفي الحكم المذكور عمّا بعد الغاية ، وقد عرفت رجوعه إلى نفي المماثل ، لوضوح أنّ الأوّل لا يتجاوز عن حدّه ومورده بالضرورة ، فإنّما يكون الثاني مماثلا للأوّل بعد انقطاعه.

والوجه في ذلك : ما تقدّم من أنّ أقصى ما يفيده المفهوم انتفاء الحكم المنطوق به فيما بعد الغاية وانقطاعه عندها ، فيكون المفهوم تابعا للمنطوق في الإطلاق والخصوصيّة ، فإن كان المغيّا مطلق الحكم دلّ على انتفائه فيما بعد ، وان كان حكما خاصّا كان أقصاه الدلالة على انتفائه ، فلا يدلّ على انتفاء نوعه ، فلابدّ من تشخيص مدلول المنطوق وتعيين الحكم المقيّد بالغاية فيه. وقد تقدم أنّ مدلول الخطابات بحسب ظاهرها مطلق الحكم ، ومدلول الأخبار ماهيّة الأمر المغيّا إلّا أن تقوم هناك قرينة على إرادة الخصوصيّة وتقييدها بالغاية من حيث هي ، ولا ينبغي التأمّل في مثله في عدم الدلالة على انتفاء المماثل ، فلا ينافي ذلك ورود خطاب آخر بمثل الحكم السابق ، فمثل وجوب القتل بالقصاص المقيّد بغاية العفو لا ينافي وجوبه بالردّة وغيرها فيما بعدها ، وكذا تحريم الزوجة المحرمة إلى غاية الخروج من الإحرام لا ينافي تحريمها بالحيض والظهار والإيلاء وغيرها ، وكذا الحال في الأحكام المستندة إلى أسباب خاصّة لا ينافي ثبوت مثلها بأسباب اخر ، بخلاف مثل قوله تعالى : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ)(١)(وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ)(٢)(فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً)(٣) ... إلى غير ذلك ، فلا تغفل.

وأمّا القول الثالث بالتفصيل فإن رجع إلى الكلام في نفس الغاية فقد تقدّم القول فيه، وإلّا فقد عرفت أنّه لا يناسب حكم ما بعد الغاية ، وغاية ما ذكره المفصّل

__________________

(١) البقرة : ١٨٧.

(٢) البقرة : ٢٢٢.

(٣) البقرة : ٢٣٠.

٥٥٥

أنّ الغاية إن انفصل عن ذي الغاية بمفصل محسوس كأتمّوا الصيام إلى الليل وجب أن يكون حكم ما بعدها بخلاف ما قبلها ، للعلم حسّا بانفصال أحدهما عن الآخر. وإن لم يكن كذلك مثل (إِلَى الْمَرافِقِ) لم يجب فيه المخالفة ، فإنّه لمّا كان المرفق غير منفصل عن اليد بمفصل محسوس لم يكن تعيين بعض المواضع في البدن أولى من بعض.

فها هنا يجوز أن يكون ما بعدها داخلا فيما قبلها ، وهو كما ترى.

قوله : (إنّه أقوى دلالة من التعليق بالشرط).

قد صرّح بذلك جماعة ، ويشهد به مضافا إلى الفهم العرفي أمران :

أحدهما : ما ذكره من أنّ كلّ من قال بمفهوم الشرط قال بثبوته ، وقد قال به بعض من أنكره أيضا ، كما صرّح بذلك جماعة من الخاصّة والعامّة.

والآخر : أنّ استعمال أداة الغاية في غير ما يفيد انتهاء المغيّا إليها أو انقطاعه عندها نادر بخلاف أداة الشرط ، لكثرة استعمالها في غير ما يفيد معنى الشرطيّة ، كالشروط المسوقة لبيان الموضوع فإنّها شائعة في الاستعمالات جدّا ، والواردة في مورد الغالب وغيرها ، وحيث إنّ مفهوم الشرط أقوى من الوصف والعدد عند القائل بهما ـ إذ الدلالة في الأوّل وضعيّة دون الأخيرين كما عرفت ـ كان مفهوم الغاية أقوى منهما أيضا بطريق أولى. وتظهر الفائدة في صورة المعارضة ، كتعارض مفهومي الغاية والشرط في قوله سبحانه : (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ ...) الآية (١) ، فيقدّم الأوّل مع انحصار الدليل وفقد المرجّح الخارجي.

وأمّا القول بالوقف فمرجعه بحسب العمل إلى نفي المفهوم ، للزوم الرجوع إلى الأصل العملي مع الشكّ في الدلالة كالجزم بنفيها.

وأمّا القول الرابع بالتفصيل فقد علّله القائل به : بأنّ قول القائل : «صم إلى الليل» إنّما يقتضي لغة وعرفا تعلّق طلبه بالصوم المغيّا بالليل ، وظاهر هذا لا ينافي

__________________

(١) البقرة : ٢٢٢.

٥٥٦

تعلّق أمره أيضا بصوم الليل إلى الفجر ـ مثلا ـ بطلب مستقلّ ، فإنّ مرجع الأمرين حينئذ إلى طلب كلّ من الصومين المحدودين بالغاية المذكورة.

وهذا كما ترى لا يستدعي خروجا عمّا يقتضيه ظاهر الأمر وظاهر الغاية ، وإنّما المفهوم من ذلك انقطاع الصوم المأمور به بذلك الخطاب ببلوغ الغاية ، والجواب عنه مع رجوعه إلى النفي المطلق ظاهر ممّا مرّ. ويشهد به : أنّ هذا الكلام ربّما يأتي في مفهوم الاستثناء وشبهه أيضا ، فإنّ قول القائل : «صم إلى الليل» إنّما يقتضي تعلّق طلبه بصيام ما عدا الليل ، فلا ينافي تعلّق أمره بصيام الليل بطلب مستقلّ أيضا ، وهو واضح الفساد ، كما اعترف به المفصّل ، فكذا في المقام وإنّما يتبع المفهوم إطلاق المنطوق وتقييده بحسب قرائن المقام ، فيدلّ على نفيه كائنا ما كان ، فإن اريد به الخصوصيّة ولو بحسب القرائن الحاليّة أو العاديّة أو غلبة الاستعمالات الجارية كان مفهومه انتفاء تلك الخصوصيّة فيما بعد الغاية ، وفي المستثنى في المثال المذكور ، فلا يدلّ على انتفاء مطلقه ، بخلاف ما إذا ثبت تقييد المطلق بأحد القيدين. ويأتي الكلام في مفهوم الشرط أيضا كما مرّ توضيح القول فيه.

وينبغي التنبيه على امور :

الأوّل : أنّ الدلالة على ما ذكرناه التزاميّة ، والمدلول من المفهوم دون المنطوق ، لرجوعه إلى نفي الحكم المذكور عن الموضوع الغير المذكور.

وحكي عن أبي الحسين البصري : أنّه من المنطوق ، وعن بعض العلماء : أنّ اللفظ صريح فيه ، قيل : فهو عنده مطابقة ، وهو ممنوع ، إنّما يريد صراحة اللفظ الموضوع للانتهاء في انتفاء الحكم عمّا بعده ، لكونه لازما بيّنا له من غير أن يكون ذلك نفس الموضوع له أو جزءه ، للقطع بأنّ موضوع هذا الحكم غير مندرج في مدلول اللفظ ، وكذا حكمه ، إذ ليس في الكلام لفظ موضوع لمعنى النفي حتّى يكون دلالته عليه بالمطابقة ، وكذا لو كان الحكم المغيّا نفيا فليس في اللفظ ما يفيد بمدلوله المطابقي معنى الإثبات ، وهو ظاهر.

٥٥٧

واحتجّ البصري باتّفاقهم على أنّ الغاية ليست كلاما مستقلّا فلا بدّ فيه من إضمار لضرورة تتميم الكلام ، والإضمار بمنزلة الملفوظ ، فإنّه إنّما يضمر لسبقه إلى فهم العارف باللسان ، كتقدير مثل : «فاقربوهنّ» بعد قوله : (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) إلى (يَطْهُرْنَ) أو «فيحلّ» بعد قوله تعالى : (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ).

وضعفه ظاهر ، إذ لا داعي إلى الإضمار المخالف للأصل ، وليس الحال في الغاية إلّا ما هو الحال في سائر القيود الواقعة في الكلام الدالّ منها على المفهوم ، كالشرط والحصر وغيره ، ولا يلزم في شيء منها إضمار.

وقد يقال : إنّ دلالة لفظ «الأوّل» و «الآخر» و «الابتداء» و «الانتهاء» على الانتفاء من قبل ومن بعد من المنطوق ، فكذا ما وضع بإزائها من الحروف ، ومقتضى ذلك إدراج اللوازم البيّنة بالمعنى الأخصّ في دلالة المنطوق. وقد عرفت في حدّ المنطوق والمفهوم أنّ ذلك خروج عن الاصطلاح ، وإنّما يندرج فيه ما كان مدلوله الانتفاء كلفظ «الزوال» و «الانقطاع» ونحوهما ، لدخول النفي الحاصل في الجزء الأوّل من زمانه في مدلولهما المطابقي كلفظ «الانتفاء» ، بخلاف ما إذا كان النفي لازما للمدلول المذكور وإن كان بيّنا.

نعم ، قد عرفت في مفهوم الشرط وجه الفرق بين قولك : «الطهارة شرط في الصلاة» أو «يشترط بها» وقولك : «إن كنت متطهّرا فصلّ» أو «يصحّ بشرط الطهارة» و «يجب بشرط البلوغ». وأنّ دلالة الأوّل على انتفاء الصلاة بانتفاء الطهارة مندرجة في المنطوق ، والثاني في المفهوم ، فكذا في المقام ينبغي التفرقة بين قولك : «أوّل الصوم أو ابتداؤه الفجر وآخره أو منتهاه الليل» وقولك : «صم مبتدأ بالفجر منتهيا إلى الليل». ويظهر من بعض المحقّقين أنّ مناط الفرق بين المثالين المذكورين في محلّ المسألتين التصريح بالشرط والغاية وعدمه ، وليس كذلك كما يظهر من المثال الّذي ذكرناه ، وإلّا فلا فرق في المنطوق بين النصّ والظاهر ومدلول الاسم والحرف ، فتأمّل.

الثاني : أنّ لفظة «إلى» قد تستعمل في لغة العرب بمعنى «مع» كما في قوله

٥٥٨

تعالى : (إِلى أَمْوالِكُمْ) ، وإن أوّله بعضهم بتقدير معنى الإضافة ، وعلى ذلك قد يحمل قوله تعالى : (إِلَى الْمَرافِقِ) كما في الخبر ، وحينئذ فلا دلالة في التقييد بذلك على انتفاء الحكم فيما بعد ، إذ هو حينئذ من جملة القيود الواقعة في الكلام الّتي لا يدلّ إثبات الحكم في موردها على نفيه عن غيره ، ولو دلّ على ذلك لكان باعتبار أنّه لو كان ما بعد المرفق داخلا في المغسول لكان الاقتصار على ذكر المرفق تخصيصا في الذكر من غير فائدة ، بل مخلّا بالمقصود ، إلّا أن تظهر هناك فائدة اخرى في التصريح المذكور دون غيره ، وتلك جهة اخرى خارجة عن مقتضى الوضع أو المعنى المستعمل فيه ، ولا ريب في خروج مثل ذلك عن محلّ المسألة ، وإنّما الكلام هناك في أداة الغاية ، بل كلّما يدلّ عليها أو يستعمل فيها من اسم أو حرف لاشتراكها في التقييد بمعنى الغاية وحقيقتها ، وقد عرفت استلزامه للانتفاء فيما بعدها ، وكذا الحال في كلّ ما دلّ على التوقيت والتحديد بحسب المبدأ أو المنتهى ، كقوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ)(١) ، لاستلزام التوقيت للانتفاء في خارج الوقت.

الثالث : أنّه قد ذكر الغزالي : أنّه يحتمل أن يقال : كلّ ما له ابتداء فغايته مقطع لبدايته ، فيرجع الحكم بعد الغاية إلى ما كان قبل البداية ، فيكون الإثبات مقصورا أو محدودا إلى الغاية ، ويكون ما بعد الغاية كما كان قبل البداية.

ولا يخفى أنّ ذلك إنّما في الحكم الإيجابي الحاصل بعد النفي المطلق ، إذ بعد قصر الحكم المفروض على ما بين الحدّين يرجع فيما عداه إلى أصالة النفي وهذا لا اختصاص له بأداة الغاية ، بل يجري في مطلق القيود الواقعة في الكلام ، إذ بعد فرض انحصار الحكم الثبوتي في موردها يتعيّن الرجوع في غيره إلى النفي الأصلي ، وأمّا إذا كان إثبات الحكم المغيّا مسبوقا بحكم وجوديّ آخر لم يكن فيه دلالة على رجوع حكم ما بعد الغاية إلى ما كان قبل البداية.

__________________

(١) الإسراء : ٧٨.

٥٥٩

ألا ترى أنّ قولك : «جلس زيد إلى الظهر» لا يدلّ على رجوعه بعد الظهر إلى الحال الّتي كان عليها قبل الجلوس ، إنّما يدلّ على انتفاء الجلوس فيما بعد الظهر ، سواء رجع إلى الحالة السابقة أم لا.

نعم ، يتمّ ذلك في الوصفين المتضادّين اللذين لا ثالث لهما كالحركة والسكون ، فإذا قال : «سكن زيد من الصبح إلى الظهر» دلّ على تحرّكه من قبل ومن بعد وإن اختلف نوع الحركة الحاصلة منه في الحالين. وكذا الحال في المتناقضين فلو قيّد النفي بمثل ذلك دلّ على الإثبات في الحالين ، وإن اختلف نوعه كما لو قيّد الإثبات دلّ على النفي في الحالين ، وأمّا سائر الأوصاف والحالات فلا وجه لرجوع الحال فيما بعد الغاية إلى الحالة السابقة. وتوهّم الاستصحاب في مثل ذلك وهم فاحش ، لانقطاع السابق بالأمر المغيّا فلا يعود إلّا بسبب جديد وإن زال الأمر المتوسّط بين الحالين ، كما لا يخفى.

ولنختم الكلام في باب المفاهيم بذكر ما أهمله المصنّف رحمه‌الله فيها ممّا تداول ذكره في كتب القوم مع الإشارة إلى غيره ، وكان اقتصاره على المفاهيم الثلاثة وترك التعرّض للباقي ، لظهور الحكم في بعضها بالنفي أو الإثبات ورجوع بعضها إلى المنطوق.

[مفهوم الاستثناء]

فمنها : مفهوم الاستثناء بكلّ ما دلّ عليه من الأسماء أو الحروف ، فإنّه إن ورد على أحد النقيضين دلّ على النقيض الآخر في المستثنى ، وإن ورد على أحد المتضادّين المنحصرين كالحركة والسكون دلّ على ثبوت الضدّ الآخر ، وإن ورد على سائر الأضداد الوجوديّة دلّ على انتفاء الأمر المفروض عنه من غير تعيين للضدّ الثابت له. فالاستثناء من النفي يدلّ على حصر الاثبات في المستثنى ، كما في كلمة التوحيد ، ومن الإثبات يدلّ على نفيه عنه ، فمفاده إخراج المستثنى عمّا قبله ومخالفته له في مدلوله كائنا ما كان. وقد أطبق على إثبات الدلالة المذكورة

٥٦٠