هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٨٣

وفيه : أنّ مدلول الأمر إنّما هو الإتيان بالمأمور به بعده كما مرّ في مسألة الفور والتراخي ، فلو كان حاصلا حين الأمر كان الإتيان به بعده تحصيلا للحاصل ، على أنّ الوجوب لا يتحقّق إلّا بتمام الأمر وحصول شرطه ، فإمّا أن يقع الفعل قبله أو بعده ، والواسطة بينهما أمر موهوم لا يعقل أن يكون محلّا للكلام.

واختلف الحكاية عن الأشاعرة في هذه المسألة فنقل عنهم : أنّ المأمور إنّما يصير مأمورا حال الفعل ، فلا أمر قبله بل هو إعلام له بأنّه سيصير مأمورا في الزمان الثاني وهو زمان حدوث الفعل ، وكأنّه المعروف منهم ، كما قال التفتازاني : إنّ المنقول من مذهب الأشعري في الكتب المشهورة ، أنّ التكليف إنّما يتعلّق عند المباشرة لا قبلها.

وحكى الآمدي اتّفاق الناس على جواز التكليف بالفعل قبل حدوثه قال : سوى شذوذ من أصحابنا.

واختلفوا في جواز تعلّقه به في أوّل زمان حدوثه فأثبته أصحابنا ، ونفاه المعتزلة.

وربما يظهر من العضدي دعوى الاتّفاق على ثبوت التكليف بالفعل قبل حدوثه وانقطاعه بعده قال : وهل هو باق حال حدوثه لا ينقطع؟ قال الأشعري به ، ومنعه إمام الحرمين والمعتزلة ، فهذه وجوه ثلاثة :

الأوّل : القول بامتناع تقدّم التكليف على الفعل فلابدّ من مقارنته مع الفعل ، فيكون الأوامر السابقة على الفعل محمولة على تعليق التكليف على الفعل ، كتعليقه على الشرائط العقليّة أو الشرعيّة فلا يجدي تقدّمها شيئا ، فيكون الحال فيها كما هو الحال في الأمر المقارن للفعل. ومقتضاه اختصاص التكليف بالمطيع وانتفاؤه في حق العصاة إلّا أنّهم لا يلتزمون بذلك وإن لزمهم.

وفيه قدح في جميع الشرائع والأديان.

وقد يبنى ذلك على ما ذهب إليه الأشعري : من أنّ القدرة إنّما يوجد مع الفعل فلا يجوز التكليف به قبل حصوله.

٧٢١

أمّا الأوّل : فلأنّ القدرة لابدّ لها من متعلّق ، فإن كان معدوما لزم تعلّق العرض بالمعدوم وهو محال.

وأيضا فالعدم أزليّ غير مقدور فكذا استمراره ، والمتعلّق بغير المقدور غير مقدور. ولأنّ الفعل حينئذ لا مرجّح لوجوده ، فلو تعلّقت القدرة به لزم تعلّق القدرة بالمحال وهو الترجيح من غير مرجّح.

وأمّا الثاني : فلأنّ التكليف إنّما يتعلّق بالمقدور فلا يتعلّق بالفعل قبل وجوده وإلّا لزم التكليف بالمحال.

وفساد المقدّمتين أوضح من أن يخفى.

أمّا الاولى : فلأنّ المعدوم ليس محلّا للقدرة وإنّما محلّها المكلّف فإن شاء فعل وإن شاء ترك ، وهو معنى كونه مقدورا ، وليس معناه تعلّق القدرة بالعدم الأزليّ أو بإيجاده من غير علّة ، بل بمعنى التمكّن من اختيار وجوده بإيجاد سببه واستمرار عدمه بعدمه ، على أنّ الأشعري في الحقيقة ينفي القدرة من أصلها ، وحدوثها مع الفعل غير معقول.

ولتمام الكلام فيه محلّ آخر.

وأمّا الثانية : فلأنّ الأشعري يجوّز التكليف بغير المقدور فلا يوافق مذهبه. وغيره إنّما يعتبر في التكليف السابق وجود القدرة حال وقوع الفعل فلا يمنع منه عدم حصولها قبله ، فإنّ معنى ما لا يطاق هو الّذي يمتنع تعلّق القدرة الحادثة به. فكون القدرة مع الفعل لا ينافي كون الفعل قبل الحدوث ممّا يصحّ تعلّق القدرة به.

الثاني : القول بجواز مقارنة التكليف للفعل كجواز تقدّمه عليه ، ويتصوّر على وجوه :

أحدها : صدور الأمر بالفعل حال اشتغال المكلّف به.

والثاني : تقدّم الأمر بالفعل على وجه التعليق ، بأن يكون مدلوله تعليق الوجوب والطلب على الاشتغال بالفعل ، كتعليق سائر الواجبات المشروطة على شرائطها ، فلا يكون واجبة قبل حصولها وإنّما تتّصف بالوجوب بعدها.

٧٢٢

والثالث : تقدّم الوجوب على الفعل أيضا مع تعليق الواجب على زمان حصوله ، كتعليق الصلاة بعد وجوبها على زمان الطهر ، وتعليق الحجّ بعد الاستطاعة على أوقاته ، وتعليق الصوم بعد وجوبه بالنذر أو دخول الشهر أو غيرهما على وجود النهار ، ونحو ذلك.

ولا يخفى عليك : أنّ شيئا من الوجوه الثلاثة ممّا لا يعقل فيما نحن فيه ، فإنّ تعليق الوجوب أو الواجب على حال الوقوع ليس له معنى محصّل ، فضلا عن حدوث الأمر به في تلك الحال كما عرفت.

وغاية ما احتجّوا به للقول بالجواز : أنّ الفعل في أوّل زمان حدوثه مقدور بالاتّفاق ، لأنّه أثر القدرة فيوجد معها ، سواء قيل بتقدّم القدرة عليه ـ كما هو مذهب المعتزلة ـ أو حدوثها معه. وإذا كان مقدورا أمكن تعلّق التكليف به ، لأنّه لا مانع إلّا عدم القدرة وقد انتفى.

واجيب : بأنّا لا نسلّم أنّ المقدور يصحّ التكليف به مطلقا ، وأنّه لا مانع غير ما ذكر ، بل لزوم التكليف بإيجاد الموجود وانتفاء الفائدة مانعان آخران.

واعترض : بأنّ الأوّل ليس إلّا عدم القدرة لأنّ التكليف بإيجاد الموجود إنّما امتنع لكونه تكليفا بمحال غير مقدور ، فإذا ثبت أنّه مقدور ارتفع المانع.

والقول بأنّ المقدور هو الفعل والمحال إيجاده فيمتنع التكليف به مدفوع ، بأنّه لا تكليف إلّا بالمقدور. فإن كان الفعل فالفعل أو الإيجاد فالايجاد. على أنّ كلام القوم ظاهر في أنّه الفعل ، لأنّه متعلّق الخطاب والأمر والطلب. وكونه إيقاع الفعل مذهب المعتزلة ، وكأنّه مبنيّ على الاختلاف في أنّ التأثير في الخارج نفس حصول الأثر أو أمر مغائر له سابق عليه.

وأمّا ما ذكر من انتفاء فائدة التكليف ، ففيه : أنّا لا نسلّم أنّ الابتلاء فائدة بقاء التكليف بل ابتداؤه.

وأنت خبير : بما في الكلمات المذكورة من الفساد والخروج عن السداد ، لوضوح أنّه ليس الغرض من دليل المانع خروج الفعل حين وقوعه عن كونه

٧٢٣

مقدورا عليه ، وإلّا لامتنع وجود الفعل المقدور ، بل الغرض أنّ التكليف إنّما يقتضي الإتيان به في ثاني الحال ، وإيجاد الحاصل بعينه محال. وإنّما يتعلّق بالفعل قبل وجود علّته الاختياريّة ليبقى الاختيار المصحّح للتكليف ، والفعل حال وقوعه مسبوق بعلّته ، ولا يلزمه خروجه حينئذ عن الفعل الاختياري ، إذ ليس المراد به إلّا المسبوق بالإرادة والاختيار المستند إليه. أمّا بعد وقوعه أو تحقّق علّته فلا اختيار.

وما ذكره : من أنّ الابتلاء فائدة الابتداء دون البقاء ، إنّما يناسب الوجه الثالث من وجوه تقرير كلام الخصم.

وما ذكر : من الفرق بين الفعل والإيجاد ، واضح الفساد.

وبالجملة : فالأمر المقارن للمأمور به طلب لممتنع الوجود على التعليل الأوّل ولممتنع العدم على الثاني من باب التنزّل ، ولو سلّم عدمهما فهو لغو لا فائدة له. وأمّا تعليق الوجوب أو الواجب على وقوعه فمرجع الأوّل إلى كون وجود الشيء شرطا في وجوبه ، والثاني إلى تعليق الشيء على نفسه. وقد يوجّه بتعليق أحدهما على زمان فعله ، ولا محصل له لأنّ اشتراط الوجوب بزمان الوقوع يستلزم اشتراطه بنفس الوقوع. وتعليق الإيجاد على زمان الوجود لغو لا حاصل له ، لوضوح أنّه لا يقع إلّا في الزمان.

نعم يمكن تعليق الوجوب جواز الفعل إذا كان موسّعا كما في الصلاة ، أمّا المضيّق فلا ، للزوم تقدّم الوجوب على الفعل ، إذ الوجوب هو الباعث على الامتثال والداعي إليه ، فلا يمكن اقترانه مع العبادة لكون المعلول مسبوقا بالعلّة ، بل الامتثال مسبوق بالنيّة ، والنيّة موقوفة على تحقّق الطلب فيتقدّم عليه من وجهين. فما يقع من هذا القبيل راجع إلى تعليق المطلوب دون الطلب.

فظهر بما ذكر أنّ وجوب الصوم لا يمكن اقترانه بأوّل الفجر ، بل لا بدّ من تقدّمه عليه ، فلا إشكال في وجوب الغسل قبل الفجر. فتوهّم توقّف وجوبه على الفجر وهم فاحش ، لرجوعه إلى مقارنة الوجوب مع الجزء الأوّل من المطلوب وتعليقه على زمان وجوده وهو غير جائز.

٧٢٤

وأمّا الواجبات الموسّعة فيمكن تعليق الوجوب فيها على دخول أوقاتها ، ولا ينافي ذلك كون أوّل الوقت زمان الفعل أيضا ، فإنّ المراد من التوقيت تعيين الزمان الّذي يصلح للفعل وإن كان تعليق الوجوب عليه موجبا لتأخّره عنه آنا مّا.

فإن قلت : إذا فرضنا مقارنة بعض شرائط الوجوب ـ كالبلوغ والعقل وغيرهما ـ مع أوّل النهار في الصوم الواجب أو أوّل الوقت في سائر الواجبات المضيّقة ، فمقتضى ما ذكر من اشتراط تقدّم الوجوب سقوط الصوم ـ مثلا ـ حينئذ ، كما لو حصل ذلك في أثناء النهار ، مع دعوى القطع بخلافه. وإذا جاز مقارنة الوجوب مع أوّل الوقت في ذلك جاز في غيره.

قلت : إنّ الحكم في ذلك بعد تحقّقه جار على خلاف مقتضى الأصل ، لوضوح أنّ الأصل في العبادة أن يكون مسبوقة بالنيّة مستندة إليها. ومن البيّن أنّ قصد الامتثال مسبوق بحصول الطلب. فلا يكفي فيه الوجوب المشروط قبل تحقّق شرطه وإن علم بحصوله فيما بعد ، لانتفائه قبل ذلك. فلا يكون هو الداعي إلى الفعل وإنّما يكون الباعث عليه علمه بحصوله فيما بعد ، فيكون الحال فيه كما لو علم بوقوع الأمر بعد ذلك ، لكّنه بعد ثبوته ولو بإطلاق الأدلّة ممّا لا مانع منه ، كما لو ثبت الاكتفاء بتجديد النيّة إلى الزوال أو إلى العصر في بعض المقامات ، ومرجعه إلى قصد الإمساك في باقي النهار منضمّا إلى ما كان فكذا في المقام ، فإذا بلغ الصبيّ أو عقل المجنون في أوّل الفجر نوى امتثال التكليف المتعلّق به حينئذ بالإمساك فيما عدا الجزء الأوّل منضمّا إليه وإن كان مقتضى الأصل سبق النيّة عليه ليكون الجزء الأوّل أيضا واقعا بداعي القربة ونيّة الامتثال.

ويمكن أيضا الاكتفاء بقصد الإتيان بما سيجب إذا دلّ الدليل عليه ، وليس ذلك تخصيصا للدليل العقلي الدالّ على لزوم تأخّر فعل الواجب عن الوجوب وتعلّق الطلب بالفعل المتأخّر دون المقارن نظرا إلى ترتّبه عليه وإن لم يكن من العبادة المتوقّفة على النيّة ، إنّما ذلك تصرّف في متعلّق الطلب. وقد يكتفى في ذلك بالتقدّم الطبعي وإن تقارنا في الوجود ، نظرا إلى إمكان الامتثال في مثله بعد العلم بحصوله قبل ذلك.

٧٢٥

وفيه : أنّ التقدّم الطبعي في ذلك ممّا لا معنى له وإنّما يتحقّق في العلّة والمعلول ، ومن البيّن أنّ الوجوب لا أثر له في الفعل المقارن له ، بل يكون الداعي إليه العلم بحصوله في زمانه. فالأصل تقدّم الوجوب زمانا ليترتّب عليه داعي الامتثال المترتّب عليه الفعل إلّا أن يثبت خلافه ، فلا يمكن حصول الثلاثة في آن واحد عقليّ على الحقيقة إلّا أنّ الأحكام الشرعيّة مبنيّة على المفاهيم العرفيّة دون الدقائق العقليّة.

فظهر أنّ الأمر لا يتعلّق إلّا بالفعل فيما بعده ، والوجوب لا يتعلّق بالحال الحقيقي وإن اقترن مع الفعل في الاتّصاف الخارجي ، ولا يجوز تعليق الوجوب على حال الوجود. وكذا لا يجوز مقارنة تنجّز الطلب مع المطلوب بعد تقدّمه عليه في الواقع ، فإنّ الباعث على قصد الامتثال إنّما هو تنجّز الطلب ، فإنّ وجوده الواقعي لا يبعث على انتهاض العبد للامتثال. والباعث على تنجّز الخطاب الواقعي هو العلم به والتذكّر له ، فلابدّ من تقدّمه أيضا على الفعل. ولا يلزم فيه العلم التفصيلي إلّا حيث يتوقّف الامتثال عليه فقد يكتفى فيه بالإجمال ، بل قد يكتفى عنه بالاحتمال حيث يبعث على الامتثال وذلك في مقام الخوف. وكما يعتبر تقدّم العلم بالطلب كذا يعتبر تقدّم العلم بالمطلوب وبشرائطه وأجزائه ، ويكفي فيه أيضا الإجمال أو الاحتمال على ما ذكر. ولابدّ من تقدّم العلم على الوجه المذكور على المقدّمات المفقودة فلا يجوز تأخّره عنها ، لامتناع الفعل حينئذ. ويجوز مقارنته معها وتقدّمها عليه ، إلّا إذا كانت عبادة يتوقّف مطلوبيّتها على مطلوبيّة ذيها. أمّا لو كانت مستحبّة بنفسها كالطهارة جاز تقدّمها.

الثالث : القول بعدم انقطاع التكليف السابق حال الفعل وإنّما ينقطع بعده.

فإن اريد به سقوط التكليف والخروج عن عهدته وحصول البراءة منه فمن البيّن توقّفه على حصول الامتثال ، فلا يقع حال الفعل وإنّما يقع بوقوعه ويصدق بتحقّقه في الخارج فيكون بعده. ففي الامور الارتباطيّة لا يمكن تحقّقه إلّا بعد الإتيان بجميع أجزائه ، وأمّا غيرها ففي كلّ جزء منها إنّما ينقطع التكليف بالإتيان به ولا يسقط وجوبه إلّا بعده.

٧٢٦

وإن اريد به حقيقة التكليف به حال وقوعه رجع إلى ما عرفت.

الشرط الثاني (١) : انتفاء المفسدة في نفس الأمر من جميع الجهات وحسن صدوره من الآمر بكلا معنييه ـ الأعمّ والأخصّ ـ بمعنى رجحان وجوده على عدمه على الوجه الّذي يقع عليه من زمانه ومحلّه وسائر قيوده. ولا يجب رجحان وقوع الفعل في حدّ ذاته ، لإمكان حصول الفائدة في الأمر دون المأمور به. فلا يجوز إهماله من الحكيم ، بل قد يتصوّر كون الفعل مرجوحا ويكون رجحان الأمر غالبا عليه ، إلّا أنّ الغالب أن يكون رجحان الأمر مبنيّا على رجحان المأمور به ، بل لم نقف على خلافه في الشرع وإن أمكن في نظر العقل.

وأمّا الأمر فلا يكفي حسنه بالمعنى الأعمّ ، لامتناع اللغو والعبث على الحكيم ، فلا يصدر منه ما يتساوى وجوده وعدمه. بل لا يمكن صدور الراجح مع وجود الأرجح منه بمجموع الاعتبارات المتصوّرة فيه حيث يدور الأمر بينهما ، لقبح ترجيح المرجوح على الراجح. فلا بدّ من وقوع كلّ فعل من أفعال الحكيم القادر على الإطلاق على الوجه الّذي لا يمكن أرجح منه في تلك الحال بملاحظة جميع الجهات المنضمّة إليه. ويمكن وقوع أحد المتساويين حيث يشتركان في حصول المصلحة المقصودة ولا يكون بينهما فرق بشيء من الوجوه الممكنة. فمع تساوي نسبتها إليهما وانتفاء المرجّح بينهما يتعيّن اختيار أحدهما ، لعدم جواز تفويت تلك المصلحة بتركهما وانتفاء ما يقتضي الجمع بينهما.

وخالف في ذلك من زعم استحالة ابتناء أفعاله سبحانه على الأغراض المطلوبة والمصالح المقصودة ، فضلا عن القول بتساوي جميع الأفعال الاختياريّة في صفاتها الذاتيّة وانتفاء صفتي الحسن والقبح فيها بالكلّية. وهو إنكار لحكم العقل من غير عقل ، كما تقرّر في محلّه.

الرابع المأمور به. ويعتبر فيه امور :

منها : أن يكون من جنس الأفعال أو التروك على وجه يأتي في النهي ، فلا

__________________

(١) من شرطي الأمر ، تقدّم أوّلهما في ص ٧٢٠.

٧٢٧

يتعلّق الأمر والنهي بالأعيان الخارجيّة إلّا بتأويلها بالأفعال المتعلّقة بها ، كما في قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) و (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) وقولنا : يجب الخمس والزكاة. وذلك ظاهر.

منها : انتفاء المفسدة فيه لنفسه ولغيره ، لقبح الأمر بما فيه المفسدة ، بل وبما لا مصلحة فيه إلّا حيث يكون المصلحة في نفس الأمر ، كما في الأوامر الابتلائيّة لتحقّق الطلب فيها على الحقيقة كما عرفت.

منها : كونه ممكن الحصول على وجهه بالفعل ، فلو كان ممتنعا لذاته أو لغيره امتنع تعلّق الطلب به ، سواء كان امتناعه بحكم العقل أو بحسب العادة ، في حقّ عامّة المكلّفين أو بالنسبة إلى المكلّف المخصوص ، على الإطلاق أو في خصوص تلك الحال ، في نفسه أو باعتبار مكانه أو زمانه ، أو شيء من سائر القيود المأخوذة فيه.

وقد اتّفق على ذلك كافّة أصحابنا والمعتزلة ، فإنّ معنى التكليف بالشيء هو استدعاء حصوله من المكلّف ، ولا يعقل تعلّق القصد بوقوع ما لا يمكن وقوعه مع علم الآمر به ، إلّا على سبيل التمنّي وهو أمر آخر غير الطلب ؛ ولأنّ التكليف به لغو لا يترتّب عليه فائدة ، بل هو قبيح بحسب العقل والعرف ، وإنّما يعدّ ذلك في نظر العقلاء من الجهل والسفاهة وسخافة الرأي.

واستدلّ عليه بامتناع تصوّر وقوع المحال فلا يمكن تعلّق الطلب به ، لتوقّفه على تصوّره من الآمر في طلبه ، وإمكان تصوّره من المأمور في امتثاله. أمّا الثاني فظاهر.

وأمّا الأوّل فقد يعلّل تارة : بأنّه لو كان متصوّرا لكان متميّزا ، ولو كان متميّزا لكان ثابتا. فما لا ثبوت له لا تميّز له ، وما لا تميّز له لا يكون متصوّرا.

واخرى : بأنّ تصوّر المحال من حيث الوقوع يستلزم تصوّره على خلاف ماهيّته ، فإنّ ماهيّته ينافي ثبوته ، فيكون ذاته غير ذاته ويلزمه انقلاب حقيقته ، كما أنّا لو تصوّرنا أربعة ليست بزوج فقد تصوّرنا أربعة ليست بأربعة ، فإنّ كلّ ما ليس بزوج ليس بأربعة.

٧٢٨

ويرد على الأوّل : أنّ تصوّره إنّما يستلزم تميّزه في الذهن دون الخارج ، فإنّ الممكن المعدوم لا تميّز له في الخارج أيضا مع إمكان تصوّره في الذهن.

وعلى الثاني : أنّ الّذي يلزم ذات الممتنع عدم وجوده في الخارج لا عدم تصوّره ، فلا يلزم من تصوّره خروجه عن حقيقته. وليس الحال في تصوّر الممكن ممتنعا والممتنع ممكنا إلّا كتصوّر المعدوم موجودا والموجود معدوما ، إذ لا امتناع في تصوّر الأشياء على خلاف ما هي عليها لذاتها أو لغيرها ، إنّما يمتنع انفكاكها عن لوازمها في الوجود الخارجي دون الاعتبار العقلي ، سواء كانت ذاتيّة أو عارضيّة.

نعم لا يمكن تصوّرها على خلاف حقائقها وذواتها ، لعدم كونه تصوّرا لها بأنفسها بخلاف لوازمها وإن كانت من ذاتيّاتها ، لعدم كونها مأخوذة في ماهيّاتها ، لوضوح الفرق بين حقيقة الشيء ولوازمه ، إذ لا يمكن تصوّر الشيء على خلاف ماهيّته ، ويمكن تصوّره منفكّا عمّا يلزمه لذاته.

والأصل في التعليل المذكور ما ذكره الشيخ في الشفاء : من أنّ المستحيل لا يحصل له صورة في العقل ، فلا يمكن أن يتصوّر شيء هو اجتماع النقيضين. فتصوّره إمّا على طريق التشبيه بأن يعقل بين السواد والحلاوة أمر هو الاجتماع ثمّ يقال مثل هذا الأمر لا يمكن حصوله بين السواد والبياض ، وإمّا على سبيل النفي بأن يعقل أنّه لا يمكن أن يوجد مفهوم هو اجتماع السواد والبياض.

وأيّده بعضهم بأنّ المحكوم عليه في قولنا اجتماع النقيضين مستحيل ليس أمرا خارجيّا إذ لا مستحيل في الخارج ، ولا متصوّرا ذهنيّا وإلّا لزم الحكم بالامتناع على ما ليس بممتنع ، إذ الثابت في الذهن ليس بممتنع ، فلابدّ من توجيهه بأحد الوجهين المذكورين.

وضعفه ظاهر ، إذ المحكوم عليه في القضيّة وإن كان متصوّرا لكن ليس الحكم على الصورة الذهنيّة ، بل على ما له تلك الصورة وهو ذات الممتنع. ولو سلّم فإنّما يراد منها الحكم بالامتناع في الخارج. فالغرض أنّ المعنى الحاصل من هذا اللفظ في الذهن يمتنع أن يوجد له في الخارج فرد يطابقه.

٧٢٩

وأمّا ما ذكره الشيخ فمحصّله : أنّ المستحيل لا يمكن تعقّله بماهيّته وتصوّره بكنهه ، وإنّما يتصوّر بوجه من الوجوه واعتبار من الاعتبارات ، ولا يتوقّف الحكم عليه بالأحكام الثبوتيّة والسلبيّة على أكثر من ذلك. فكذا الحال فيما لو فرض تعلّق الأمر والنهي به فيكفي في إمكانه تصوّره بالوجه فلا يرتبط بالمدّعى.

ويمكن التفرقة في ذلك بين ما ذكره من المثال ونحوه ـ كارتفاع النقيضين ـ وبين سائر الممتنعات الذاتيّة والغيريّة ، كشريك الباري سبحانه في أفعاله وصفاته ، فيمكن تصوّر الثاني.

ولا يمكن حصول صورة الأوّل في الذهن ، لأنّ تعقّل اتّصاف الشيء في الخارج بالمتناقضين والضدّين لا يمكن إلّا على سبيل المبادلة دون الاجتماع ، لأنّه حين تصوّره موجودا لا يتصوّر معدوما وبالعكس ، فتصوّره موجودا معدوما لا يمكن إلّا باختلاف الملاحظة. وكذا الحال في تعقّل الجسم أسود وأبيض ، بخلاف المختلفين تقول : هذا حلو أسود ، ولا تقول : هذا أبيض أسود ، فإنّك حين قلت : أبيض ، فقد نفيت عنه السواد ، وحين قلت : أسود ، فقد أنكرت بياضه ، فلا يتصوّر اجتماعهما على نحو المختلفين.

وكيف كان فهذا الكلام ممّا لا ربط له بالمقام على أنّ الكلام في مطلق المستحيل ، ولا شكّ في إمكان تصوّره في الجملة.

وقد اختلف النقل عن الأشاعرة في هذا الباب فالمعروف عنهم إطلاق القول بجواز التكليف بالمحال. قال العضدي : ولم يثبت تصريح الأشعري به فيكون مأخوذا من قوله بالجبر وخلق الأفعال ومقارنة القدرة لها من غير تأثير ونحو ذلك ، فيكون كلامهم في المحال الغيري ـ وهو الّذي يمكن في حدّ ذاته ولا يتعلّق به القدرة الحادثة عندهم ـ وبه خصّ محلّ النزاع في المواقف ، سواء كان من جنس ما يتعلّق به القدرة أولا.

والمستفاد من كلامه في شرح المختصر كغيره : أنّ محلّ النزاع ما يكون ممتنعا بالذات ، كالجمع بين الضدّين لتمسّكه في اختياره بامتناع تصوّره وتمثيله به قال :

٧٣٠

والإجماع منعقد على صحّة التكليف بما علم الله أنّه لا يقع وإن ظنّ قوم أنّه ممتنع لغيره.

وقد يتوهّم من ذلك دعواه الإجماع على جواز التكليف بالممتنع الغيري ، وهو وهم فاحش. إنّما يعني اتّفاق أهل الشرائع والأديان على صحّة التكليف بالأفعال وإن وقع الكلام في كونه تكليفا بالمحال ، فمن قال بالجبر يلزمه القول بجوازه بل وقوعه أيضا.

وأمّا الممتنع الذاتي فالقول بجواز الأمر به لا يستلزم القول بوقوعه.

وقد عرفت إنكاره تصريح الأشعري به.

وذكر الآمدي اختلاف قوله في ذلك ، وأنّ ميله في أكثر أقواله إلى الجواز مع تمثيله لذلك بالجمع بين الضدّين وقلب الأجناس وإيجاد القديم وإعدامه قال : وهو لازم على أصله في وجوب مقارنة القدرة للمقدور وعدم تأثيرها فيه. ثمّ قال : وهذا مذهب أكثر أصحابه وبعض معتزلة بغداد ـ حيث قالوا بجواز تكليف العبد بفعل في وقت علم الله أنّه يكون ممنوعا عنه ـ والكرّاميّة حيث زعموا أنّ الختم والطبع على الأفئدة مانعان من الإيمان مع التكليف به ، غير أنّ من قال بجواز ذلك من أصحابه اختلفوا في وقوعه نفيا وإثباتا ، ووافقه على القول بالنفي بعض الأصحاب وهو مذهب البصريّين من المعتزلة وبعض البغداديّين ، ثمّ اختار امتناع التكليف بالمستحيل لذاته وجوازه في المستحيل باعتبار غيره ، ونسب إلى الغزالي ميله إليه.

وأنت خبير بأنّ الشبهات العقليّة الّتي ذكروها في تجويز التكليف بالمحال إنّما يجري في الممتنع الغيري ، إذ هي الّتي ذكروها للقول بالجبر وخلق الأفعال وعدم تأثير قدرة العبد في مقدوره ووجوب مقارنتها له ونحو ذلك ، فكأنّهم يقيسون الممتنع الذاتي على ذلك بدعوى أنّ الامتناع إذا لم يمنع من التكليف تساوى فيه الذاتي والغيري.

وهذه المقالات من الضلالات البالغة إلى أقصى الغايات.

٧٣١

وتفصيل الكلام في تلك الشبهات وما يتعلّق بها من الأجوبة والإيرادات موكول إلى علم الكلام ، ولبعضها في هذا الفنّ محلّ آخر في مسألة الحسن والقبح العقليّين وحيث ثبت بالضرورة العقليّة بطلان القول بالجبر وما يرجع إليه تحقّق بطلان تلك الوجوه بأسرها ، فلا حاجة إلى ذكرها في هذا المقام.

وأمّا الوجوه النقليّة فهي شاملة للقسمين ، بل قد يحتجّ بها على جواز التكليف بالجمع بين الضدّين.

فمنها : أنّه سبحانه أخبر نوحا عليه‌السلام بأنّه لن يؤمن من قومه إلّا من قد آمن وأخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّ أبا لهب لا يصدّقه ، ومع ذلك فقد كلّفهم بتصديق النبي فيما يخبر به ، ومنه إخبارهم بعدم تصديقهم له ، ومن ضرورة ذلك تكليفهم بأن لا يصدّقوه ، تصديقا له في خبره أنّهم لا يؤمنون ، وفي ذلك تكليفهم بتصديقه وعدم تصديقه ، وهو تكليف بالجمع بين الضدّين.

واجيب بالمنع من وجود الإخبار بعدم الإيمان في الآيتين ، والمنع من تكليفهم بتصديق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما أخبر به من ذلك.

وفساد المنعين في غاية الظهور ، كما أنّ الاحتجاج المذكور من غرائب الامور ، لوضوح أنّ التكليف بتصديق النبي في إخباره باختيارهم الكفر لا يقتضي الأمر باختيار الكفر النهي (١) عن تصديقه الموجب لتكذيبه ، لوضوح امتناع التكليف بذلك إنّما يلزم ذلك لو كلّفوا بفعل ما أخبر بوقوعه ، وهو واضح المنع.

وغاية ما يعقل في تقرير الاحتجاج بذلك أن يقال : إنّ تكليف المذكورين بالإيمان يستلزم تكليفهم بتصديقه في عدم تصديقه ، وهو باطل ، إذ يلزم من وجوده عدمه. فكان على المستدلّ لو عقل تقريره على هذا الوجه ـ مع أنّه أيضا غير معقول ـ فإنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إنّما كلّف القوم باختيار الإيمان وتصديقه في جميع ما أخبر به ، ولو أنّهم أطاعوه فيذلك لم يخبر بعدم إيمانهم ، لكنّه علم بعدم تصديقهم له في ذلك بسوء اختيارهم فأخبر به بعد تكليفهم بما ذكر. فليس هذا الخبر من

__________________

(١) كذا ، والظاهر : المنهي.

٧٣٢

حيث خصوصيّته داخلا في الحكم الأوّل ، لتأخّر مورده عنه وانتفاء موضوعه حينئذ ، لأنّ الإخبار بعدم وقوع التصديق المأمور به مسبوق بالأمر به ولو على سبيل التقدير ، والأمر سابق عليه فلا يندرج فيه من حيث شخصه ، على أنّ التصديق فرع وجود خبر سابق عليه ولو فرضا ، فلا يندرج نفس الإخبار بوقوعه أو عدم وقوعه في متعلّقه وإنّما دخل فيه من حيث تحقّق العموم في عنوانه ، لتعلّق الحكم بالعنوان الكلّي ، ولا يلزم فيه المحذور المذكور.

فالفرق بين المقامين هو الفرق بين الإجمال والتفصيل ، كما يندفع به المصادرة المتوهّمة في الشكل الأوّل فتأمّل.

ومنها : قوله تعالى : (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) حيث سألوا دفع التكليف بما لا يطاق ، ولو كان ذلك ممتنعا لكان مندفعا بنفسه ولم يكن لسؤال دفعه عنهم معنى محصّل.

ويؤكّده قوله عليه‌السلام : رفع عن امّتي تسعة أشياء أو ستّ خصال ، وعدّ منها ما لا يطيقون ، لإشعاره بثبوته على الامم السابقة.

واعترض تارة بحمله على رفع الحرج والمشقّة.

وتارة بأنّ الآية الشريفة حكاية حال عن الداعين فلا حجّة فيها.

واخرى بمنافاته لمذهب الخصم من القول بالجبر في جميع الأفعال ، إذ لا فائدة معه لتخصيصهم بذكر ما لا يطاق ، فيرجع إلى سؤال رفع مطلق التكليف.

وضعف الجميع ظاهر ، إذ الأوّل مجاز لا يصار إليه إلّا بقرينة مفقودة في الكلام ، ويلزمه أيضا أن يكون تأكيدا لما قبله ، وهو خلاف الظاهر.

والثاني لا ينافي صحّته مع وروده في معرض التقرير أو التعليم أو المدح ، والمروي أنّ الداعي هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في ليلة المعراج.

والثالث لا ينافي اختلاف الأفعال في المقدوريّة وعدمها بحسب فهم العرف مع قطع النظر عن تلك الجهة ، والمسألة مبنيّة عليه والألفاظ محمولة على المعاني العرفيّة دون الدقائق العقليّة. فالوجه في الجواب حمل الآية الشريفة على ما رواه

٧٣٣

في الاحتجاج (١) من سؤال دفع البلايا العظيمة الواقعة على الامم السابقة ، تعليلا بأنّ الحكم في جميع الامم عدم تكليفهم بما فوق طاقتهم.

ومنها : قوله تعالى : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ)(٢) لدلالته على التكليف بالسجود مع عدم الاستطاعة.

ومثله : ما ورد في حقّ المصوّرين أنّهم يكلّفون يوم القيامة بنفخ الروح في تماثيلهم (٣) ، مع وضوح امتناعه.

وفيه : أنّ الدار الآخرة دار مجازاة وليست بدار عمل ، والتكليف فيها محمول على التعجيز أو السخريّة أو نحو ذلك.

ومنها : ما جاء في التكليف بالنظر والفكر (٤). ومن البيّن توقّف ذلك على القضايا الضروريّة دفعا للتسلسل ، والتصديق بها موقوف على تصوّر مفرداتها ، والتكليف به تكليف بالمحال ، لأنّه إن كان حاصلا كان إيجاده تحصيلا للحاصل وإلّا امتنع طلبه.

وهذا من غرائب الكلام إنّما الممتنع تكليف الغافل ، وأمّا الشاعر الملتفت إلى محلّ النظر فلا يمتنع عليه الفكر الموجب لحصول التصديقات وإن كانت مسبوقة بالتصوّرات ، لامكان اكتسابها بعد الالتفات الإجمالي أو بعد حصول تلك التصوّرات ، فلا تكليف إلّا بتحصيل التصديقات المقصودة وهو ظاهر.

ثمّ إنّ الأدلّة النقليّة على نفي التكليف بما لا يطاق ، والإشارة إلى عدم جوازه عقلا كثيرة. كصحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : الله أكرم من أن يكلّف الناس ما لا يطيقون (٥). ورواية حمزة بن حمران عنه عليه‌السلام قلت : إنّي أقول إنّ

__________________

(١) الاحتجاج : ص ٢٢١ ـ ٢٢٢.

(٢) سورة القلم : ٤٢.

(٣) البحار : ج ٧٩ ص ٢٨٧ ح ٦ ، وفيه (هم المصوّرون يكلّفون يوم القيامة ان ينفحوا فيها الروح).

(٤) سورة الاعراف : ١٨٥ ، سورة الجاثية : ١٣ ، البحار : ج ٣ ص ٢٦ ح ١.

(٥) البحار : ج ٥ ص ٤١ ح ٦٤.

٧٣٤

الله تعالى لم يكلّف العباد ما لا يستطيعون ، ولم يكلّفهم إلّا ما يطيقون ـ إلى أن قال ـ هذا دين الله الّذي أنا عليه وآبائي (١).

وعنه عليه‌السلام : إذا نظرت في جميع الأشياء لم تجد أحد في ضيق ـ إلى أن قال ـ وما امروا إلّا بدون سعتهم ، وكلّ شيء امر الناس به فهم يسعون له ، وكلّ شيء لا يسعون له فهو موضوع عنهم (٢). إلى غير ذلك ممّا لا يحصى.

والمسألة من البديهيّات وعليها إجماع الأصحاب ، والمنكر لا يستحقّ الجواب.

نعم قد يستثنى من ذلك امور (٣) :

الأوّل : أنّه لو كان المأمور جاهلا بامتناع الفعل المكلّف به في وقته ومحلّه ، فقد عرفت في مسألة الأمر بالشيء مع علم الآمر بانتفاء شرطه وجه القول بجواز التكليف به مع كونه من التكليف بما لا يطاق. لكنّ المعروف بين الأصحاب المنع منه إلّا مع جهل الآمر به أيضا ، وهو الصواب. إنّما يصحّ الحكم به في ظاهر الحال ، فإذا انكشف امتناع الفعل تبيّن انتفاء الحكم في الواقع ، ويصحّ إيقاع صورة الأمر به لإرادة تحصيل مقدّماته ، أو ابتلاء المكلّف به وإرادة ظهور حاله ومقامه ؛ وكلا الأمرين خارج عن حقيقة التكليف وقد تقدّم.

الثاني : أنّه لو توسّط أرضا مغصوبة فعن بعضهم جواز اجتماع الأمر والنهي فيه وفي أمثاله ، بل ووقوعه وفعليّته ، وهو من التكليف بالمحال الذاتي ، ومثله التكليف بذي المقدّمة بعد تفويت المقدّمة ، والتكليف بترك الحرام بعد إيجاد سببه. والّذي سوّغه ـ عند القائل به ـ توهّم أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

وربما زعم بعضهم أنّه مأمور بالخروج ولا إثم عليه في ذلك من باب ارتكاب أقلّ القبيحين.

__________________

(١) البحار : ج ٥ ص ٣٦ ح ٥٢.

(٢) البحار : ج ٥ ص ٣٠١ ح ٤.

(٣) في هامش المطبوعة ممّا يقرب بذلك الموضع يوجد هذا العنوان : «في الإيماء إلى مخالفته مدّ ظلّه مع والدهقدس‌سره» ويبدو منه : أنّ هذه المباحث من ابن المؤلّف قدس‌سرهما. والله أعلم.

٧٣٥

وينبغي القطع بالإثم في جميع تلك الموارد إذا تحقّق التكليف فيها قبل حصول الامتنا ، لأنّه باختياره أوجد سبب العصيان وبعدم جواز حدوث التكليف بعد حصول الامتناع ولو بالاختيار لعدم تقصيره إذن في إيجاد سببه. إنّما الكلام في بقاء التكليف الحاصل قبل الامتناع، والصواب عدمه ، كما يأتي في مسألة اجتماع الأمر والنهي إن شاء الله تعالى.

الثالث : قد عرفت أنّ الجاهل قد يمتنع عليه الفعل لجهله ، مع عدم خروجه عند القائلين بالتخطئة عن موضوع المكلّفين بالأحكام الواقعيّة الشأنيّة ، لقضاء الحكمة باطّرادها وتشريعها في حقّ العالم والجاهل على حدّ سواء ، وترتّب الفوائد على تعميمها ليصحّ الحكم على الوسائط بتبليغها وعلى المكلّفين بتحصيلها ، مع وضوح تأخّر العلم والجهل عن جعلها وإنشائها ، فلا يمكن تأخّرها عن العلم بها. ومقتضى ذلك إمكان شمول الحكم الواقعي لما يمتنع وقوعه بسبب الجهل عند ترتّب الفائدة على تعميمه ، واقتضاء الحكمة له مع عدم تنجّزه في حقّ المكلّف حينئذ وعدم ترتّب الذمّ والعقاب على مخالفته. وقد يلحق به السهو والنسيان ونحوهما ، لاشتراكهما معه في العلّة وحينئذ فالممتنع تنجّز التكليف بالمحال.

ولتحقيق الكلام في ذلك محلّ آخر في مبحث التصويب والتخطئة.

ومنها : كونه ممكن الترك فلو وجب حصول الفعل من غير اختيار المكلّف لم يجز تعلّق الطلب به كالمحال ـ كتكليف الأعمى والأصمّ والأخرس والأقطع بترك المحرّمات المتوقّفة على تلك الجوارح والآلات ـ فالنواهي وإن كانت مطلقة لكن يجب تقييدها بموارد الإمكان ، فالتروك الحاصلة بغير الاختيار خارجة عنها وإن كان المطلوب حاصلا بها.

وخالف في ذلك الأشاعرة أيضا لدوران الأمر في أفعال العباد عندهم بين واجب الحصول وممتنع الحصول ، لأنّ الشيء ما لم يجب لم يكن موجودا ، وما لم يمتنع لم يكن معدوما. فلا يمكن أن يكون على وجه يجوز فيه الوجهان ، لوجوبه مع علّته وإلّا لزم ترجّح الممكن من غير مرجّح. فالمراد من الممكن ما يجوز وجوده بوجود علّته ، وعدمه بعدمها.

٧٣٦

وفيه : أنّ الشيء قد يجب وقوعه أو لا وقوعه بإرادة المكلّف واختياره ، وقد يجب بغير ذلك. وشرط التكليف تعلّقه بالقسم الأوّل قبل الوجوب ، وشبهة الجبر باطلة.

ولتحقيق الجواب عن ذلك محلّ آخر ، ويترتّب على الشرط المذكور عدم جواز التخيير بين الفعل والترك إلّا مع توجيهه بما يرجع إلى غيره ، لرجوعه إلى وجوب أحد النقيضين ، ومن البيّن امتناع ارتفاعهما فلا يعقل فيه وقوع المخالفة. وفي ذلك إبطال لحكمة التكليف ونقض للغرض المقصود فيه : من ابتلاء المكلّف واختباره ، وإرشاده إلى مصالحه ، أو إيصال النفع إليه. بل ليس ذلك من حقيقة التكليف في شيء ، فهو لغو يمتنع على الحكيم ، ومنه التكليف بما اضطرّ المكلّف في العادة إلى اختياره أو استكره عليه.

وحديث رفعهما عن هذه الامّة لا تدلّ على ثبوتهما على الامم السالفة ، ولو دلّ على ذلك لزم حمله على نفي الآثار الوضعيّة ، أو تأويله بما يرجع إلى نفي الحرج والمشقّة. ومثله التكليف المتعلّق بما لا يرتبط بعمل المكلّف في العرف والعادة وإن أمكن وقوعه بحسب العقل. ولذا لو دار الحرام بين ما يتعلّق بعمل المكلّف وغيره لم يجر فيه حكم المشتبه بالمحصور، كما يأتي في محلّه إن شاء الله تعالى.

ومنها : أن لا يكون في فعله حرج أو مشقّة على أكثر المكلّفين ، أو على المكلّف بذلك التكليف وإن لم يكن متعسّرا على غيره. وهذا الشرط يستفاد من كلام بعضهم حيث تمسّكوا في إثباته بالدليل العقلي فلا يقبل التخصيص.

وغاية ما يستدلّ به على ذلك دعوى منافاته لما تقرّر في محلّه من قاعدة اللطف ، فإنّهم فسّروه بما يقرب إلى الطاعة ويبعد عن المعصية وأطلقوا القول بوجوبه في الحكمة. ولا شكّ أنّ الحرج والمشقّة ممّا يقرّب المكلّف إلى المخالفة ويبعّد عن الطاعة ، فيكون منافيا لتلك القاعدة. إنّما الكلام في وجوب مطلق اللطف بالمعنى المذكور ، إذ يتصوّر ما لا يحصى من الامور المقرّبة إلى الطاعة إلى

٧٣٧

أن ينتهي إلى عدم وقوع العصيان من جميع أفراد الإنسان وذلك ممّا يقطع بعدم وقوعه في شيء من الشرائع والأديان ، بل هو خلاف المعلوم بضرورة الوجدان ، إذ لا يحصل من عامّة المكلّفين إلّا المخالفة والعصيان إلّا من شذّ من أفراد الإنسان. ولو حصل اللطف على الوجه المذكور لكان الأمر بالعكس ، فلابدّ من القول بإناطة وجوبه بما يقبح التكليف بدونه فيتوقّف الوجه المذكور على إثبات قبح التكليف بما فيه الحرج. وقد يوجّه بالتزام وجوب اللطف مطلقا إلّا حيث يكون هناك حكمة اخرى مانعة عنه. فيكون اللطف من حيث هو واجبا عقليّا لو لا المانع ، فلابدّ أن يكون فيما لا يقع من الألطاف حكمة مانعة من ظهورها وتحقّقها. أمّا ما علم كونه لطفا في حدّ ذاته ولم يظهر هناك مانع من تحقّقه فيمكن البناء على وقوعه في الظاهر إلى أن يثبت المانع ، تمسّكا بالمقتضي المعلوم حتّى يظهر خلافه.

وفيه : أنّ العمل بالمقتضي على فرض ثبوته إنّما يصحّ حيث يمكن نفي المانع بالأصل، وذلك بأن يكون الحكم الشرعي معلّقا على مجرّد عدم المانع ، كما في استصحاب الامور الثابتة عند الشكّ في رافعها ومزيلها. وليس الحال في المقام كذلك ، إذ الغرض من التمسّك بالمقتضي إن كان مجرّد نفي الحكم إلى أن يقوم عليه دليل ، فذلك ممّا لا يتوقّف على إثبات المقتضي لثبوت أصالة النفي ، وإنّما المتوقّف على المقتضي وجود الشيء لا نفيه. وإن كان غير ذلك كتخصيص العمومات الثابتة ورفع الأحكام السابقة ـ كما هو الغرض الأصلي من عنوان المسألة ـ لم يثبت بمجرّد الأصل المذكور لتقدّمها عليه. ولا يكفي في الحكم بوجود الحادث مجرّد المقتضي لعدم ترتّبه على أصالة عدم المانع ، لما تقرّر من عدم حجّية الاصول المثبتة ، فيكون أصالة عدمه سالمة عن المعارض ، على أنّ تحقّق الاقتضاء في مطلق المقرّب محلّ منع ظاهر. ولعلّ هذا مراد من قال : إنّ الواجب هو اللطف الواقعي لا ما يتخيّل أنّه لطف ، ولعلّ التكليف الواصل إلى حدّ الحرج لطف واقعا ونحن لا نعرفه. فمحصّله المنع من كون نفي الحرج لطفا واجبا في حكم العقل. إنّما الثابت ما يستقبح التكليف بدونه واقعا ، فلا يرد عليه أنّه يلزمه سدّ باب الحكم بمقتضاه لانتفاء القدر الثابت منه فيما نحن فيه.

٧٣٨

وقد يوجّه في المقام بأنّ التكليف بما فيه الحرج قاض بوقوع كثرة المخالفة ، وهو مناف لمقتضى الرأفة الإلهيّة والعناية الأزليّة ، فإنّه سبحانه أرحم بعباده من أن يفتنهم بما يوقعهم في العذاب غالبا.

ألا ترى أنّ المولى لو أمر عبده بامور شاقة لا تتحمّل عادة عدّ ذلك خارجا عن مقتضى اللطف مشوبا بالأغراض ، بل لا يفعل ذلك إلّا من يريد العقوبة ويطلب إليها وسيلة ، كما قد يقع ذلك من الامراء والسلاطين إذا أرادوا عقوبة أحد من خدّامهم فيكلّفونه بامور شاقّة لا يتحمّل مثله لمثلها فيخالف فيأخذونه بذلك. وأمّا الّذي يريد تربية عبده ويقصد إصلاح حاله فإنّما يأمره بامور سهلة لا يشقّ عليه ارتكابها تمرينا له على الالتزام بالطاعة إلى أن يسهل عليه ما فوقها ، بخلاف التكليف بما فيه الحرج والضيق فإنّه من دواعي المخالفة وأسبابها ، فيكون مذموما عند العقلاء ويقولون : إنّ هذا ليس مقتضى اللطف بل اللائق أن يأمره بما لا يشقّ عليه حتّى لا يوجب خذلانه ، بل ربما يقبل اعذار العبد في مخالفته بالمشقّة ، نظرا إلى أنّ التكليف بالامور الصعاب الّتي لا يتحمّل غالبا لا يستحسن ممّن لا غرض له سوى التربية والتكميل.

واعترض بأنّ إفضاء التكليف المذكور إلى كثرة المخالفة ليس أمرا منافيا لمقتضى اللطف ، إنّما هي نقص من جانب المكلّف ، ولو أوجب ذلك عدم التكليف لزم أن يكون مقتضى اللطف عدم التكليف من رأس ، لإيجابه المخالفة ولا فرق فيها بين الكثرة والقلّة ، مع أنّا نرى كثرة المخالفة بحيث تجاوزت عن الحدّ ولم يوجبها إلّا أصل التكليف.

وقد يجاب بأنّ المقتضي لكثرة المخالفة ليس نفس التكليف لتساوي نسبته إلى الطاعة والمعصية ، وكما يرجّح جانب المعصية دواعي الشهوة والغضب كذا يرجّح جانب الطاعة كثرة الوعد والوعيد والترغيب والتهديد والثواب والعقاب ، مضافا إلى ما أنعم عليه من العقل المدرك لحسنها وقبح الخروج عنها لوجوه كثيرة. فكثرة وقوع المخالفة بسوء اختيار المكلّفين بعد إتمام الحجّة عليهم ليست مستندة

٧٣٩

إلى نفس التكليف بخلاف محلّ المسألة ، إذ الحرج والضيق من دواعي المخالفة وأسبابها. ومحال على الحكيم أن يقع منه أمر يفضي إلى العصيان ، فإنّ طريقة العقلاء في تربية العبيد تأبى عن ذلك.

وأنت خبير بما فيه إذ القدر الواجب في الحكمة أن يكون التكليف المذكور مبنيّا على مصلحة كاملة يستصغر معها ما يلحقه من الحرج.

ألا ترى أنّ العقلاء ربما يتحمّلون الامور الصعبة ويرتكبون الأهوال العظيمة لرجاء الوصول إلى المنافع المقصودة والمصالح المطلوبة. والأطبّاء قد يعالجون المرضى بما فيه غاية الحرج والمشقّة ـ كتقطيع الأعضاء المتآكلة ـ فيمدح ذلك من فعلهم ، وإذا ترتّبت عليها الفوائد المقصودة انتشر بين العقلاء مدحهم والثناء عليهم ، وعدّ ذلك من أبلغ الحكمة وأحسن التدبّر ، واستحقّوا بذلك أحسن الثناء وأكمل الثواب. والمرضى متى وثقوا بقول الأطبّاء وظنّوا بذلك العافية وحسن العاقبة اشتدّ شوقهم إلى تحمل المعالجات الصعبة ، وكذلك العقلاء متى وثقوا بقول أطبّاء النفوس استلانوا ما استوعره المترفون وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون.

ويشهد بما ذكرنا ما يظهر من الأخبار والآثار من وقوع التكليف بالامور الشاقّة في الامم السالفة حتّى كانت امّة منهم إذا أصاب أحدهم قطرة بول يقرضون لحومهم بالمقاريض، وإنّما تفضّل الله تعالى على هذه الامّة المرحومة بوضع الشريعة الطاهرة على غاية اليسر والسهولة ورفع أقسام الحرج والمشقّة عنها ، كما قال تعالى : (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ)(١) وكان ذلك بدعائه صلى‌الله‌عليه‌وآله في ليلة المعراج بقوله : (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا)(٢) فقد جاء في تفسيره ما يدلّ على ذلك بأبلغ الوجوه ، رواه العياشي (٣) وعلي بن ابراهيم (٤) في تفسيرهما والطبرسي في الاحتجاج(٥).

__________________

(١) سورة الاعراف : ١٥٧.

(٢) سورة البقرة : ٢٨٦.

(٣) تفسير العياشي : ج ١ ص ١٥٩ ح ٥٣١.

(٤) تفسير علي بن ابراهيم : ج ١ ص ٩٥.

(٥) الاحتجاج : ص ٢٢١ ـ ٢٢٢.

٧٤٠