هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٨٣

ويمكن تنزيل كلامهم على اتّحاد الطلب والإرادة التشريعيّة وهي ما ذكرنا من الإرادة الفعليّة الإنشائيّة المعبّر عنها بالاقتضاء والاستدعاء دون الإرادة النفسيّة المتعلّقة بحصول الفعل من المكلّف حسب ما مرّ تفصيل القول فيه ، وما ذكره من الوجه في خلوّ الأمر عن الإرادة المذكورة مذكور في كلام الأشاعرة ، وقد مرّ بيانه مفصّلا في محلّه.

إذا تقرّر ذلك فنقول : إنّ ما قد يتخيّل من الوجه في امتناع الأمر بالفعل مع علم الآمر بامتناعه امور :

أحدها : استحالة تعلّق الإرادة بالمحال ، فبعد علم الآمر بانتفاء الشرط لا يتعقّل معه إرادة الفعل.

ويدفعه : ما عرفت من أنّ المستحيل إنّما هو إرادة الفعل في النفس وترجيحه على الترك دون الإرادة الفعليّة الانشائيّة الحاصلة بإنشاء الصيغة ، وقد عرفت الفرق بين الأمرين ، وأنّ مفاد الأمر والتكليف هو الثاني دون الأوّل.

ثانيها : حكم العقل بقبح طلب المحال وإلزام المكلّف بما يستحيل صدوره منه.

ثالثها : خلوّ الطلب المفروض عن الفائدة فلا يعقل صدوره عن الحكيم.

ويدفعهما : أنّ ما ذكر إنّما يتمّ لو قلنا بالجواز مع علم المأمور بالحال ، وأمّا مع جهله وإمكان الفعل في نظره فلا وجه لتقبيح العقل للطلب المفروض ، ولا لعدم ترتّب مصلحة عليه ، لوضوح أنّ الطلب كما يحسن لمصالح حاصلة في الفعل المطلق كذا يحسن لمصالح مترتّبة على نفس الطلب مع حصولها.

وما يقال حينئذ من خروج ذلك عن محلّ البحث لخروج الأمر حينئذ عن حقيقته وكونه أمرا صوريّا محضا مدفوع بما عرفت من أنّ حقيقة الطلب لا يزيد على ذلك ، وهي حاصلة في الأوامر الامتحانيّة قطعا ، غاية الأمر خلوّها عن الإرادة بالوجه الآخر ، وقد عرفت أنّها خارجة عن مفاد الأمر لا ربط لها بحقيقة مدلول الصيغة ، فاتّضح بذلك أنّه لا محذور في الأمر بالفعل مع علم الآمر بانتفاء شرطه. وما عزي إلى الأصحاب من المنع مبنيّ على ما ذكر ، وقد ظهر ممّا قرّرنا

٦٢١

فساد مبناه ، فاتّجه القول بالجواز ، وليس فيه مخالفة لإجماع الأصحاب ، إذ لا يظهر منهم انعقاد إجماع منهم عليه ، ولا وقفنا على ادّعاء الإجماع عليه ، كيف! وقد ذهب المفيد إلى جواز نسخ الفعل قبل حضور وقته ، وهو من جملة جزئيّات هذه المسألة ، فإنّه إذا أمر بالشيء ثمّ نسخه قبل حضور وقته كان آمرا بالشيء مع علمه بانتفاء شرطه الّذي هو عدم النسخ ، وحيث إنّ المعروف عندنا (١) القول بالمنع في المقام فالمعروف هناك القول بالمنع أيضا. والمتّجه عندنا الجواز في المقامين.

ومن الغريب أنّ بعض الأفاضل مع قطعه في المسألة بالمنع أجاب عمّا احتجّوا به من أمر إبراهيم عليه‌السلام بذبح ولده ـ حسب ما يأتي ـ أنّه يمكن أن يكون ذلك من قبيل نسخ الفعل قبل حضور وقته ، مع أنّ ذلك أيضا عين مقصود المستدلّ من وقوع الأمر على النحو المفروض.

وأمّا المسألة الثانية فقد اختلفوا فيها أيضا ، بل قرّر السيّد النزاع في المسألة في ذلك بخصوصه ، واستحسنه المصنّف ، وقد نصّ السيّد بالمنع منه ، واختاره المصنّف ، وربّما يظهر ذلك من غيرهما أيضا ، وقد يستفاد ذلك من إطلاقهم المنع من الأمر بالشيء مع علم الآمر بانتفاء شرطه بناء على تعميم الأمر للتنجيزي والتعليقي.

ويبعّده : أنّ الأمر التعليقي لا يتعلّق بالمكلّف إلّا بعد حصول ما علّق عليه ، فلا أمر في الحقيقة قبل حصوله.

وأنت خبير بأنّ تخصيصه النزاع بالصورة المذكورة مخالف لظاهر كلمات القوم ، بل صريحها ، وما تقتضيه أدلّتهم في المسألة حسب ما ستجيء الإشارة إليه ، فإنّ قضيّة كلماتهم وقوع النزاع في تعلّق التكليف بالمكلّف فعلا مع علم الآمر بانتفاء شرطه في المستقبل ، إلّا أن يكون البحث في خصوص التكليف المعلّق على الشرط كما ذكره السيّد ، إذ غاية الأمر حينئذ قبح الاشتراط حسب ما أطال القول فيه ، أو قبح إلقاء الخطاب المفروض ، وليس مناط البحث فيه حينئذ إمكان تعلّق

__________________

(١) كذا ، والظاهر : عندهم.

٦٢٢

التكليف بالمكلّف بحسب الواقع واشتغال ذمّته بأداء الفعل مع علم الآمر بانتفاء شرطه وعدمه ، كما هو صريح كلماتهم وقضيّة أدلّتهم ، والتفريع الّذي فرّعوه عليها ، وكأنّه رحمه‌الله قرّر النزاع في ما ذكره لوضوح فساد ذلك ، وكونه من قبيل التكليف بالمحال ، أو من جهة ظهور التدافع بين حصول التكليف وفرض انتفاء شرطه ، فنزل الخلاف فيه على ما قرّره.

وقد عرفت اندفاع الوجهين ، مضافا إلى أنّ ظهور وهن الخلاف في شيء لا يقتضي عدم كونه موردا للخلاف ، مع اشتهار المخالف (١) وتنزيله الخلاف فيه على ما ذكره ممّا لا وجه له بعد تصريحهم بخلافه ، وإن أمكن وقوع الخلاف فيه أيضا إلّا أنّه غير المسألة المفروضة ، بل أمكن إدراجه في ما عنونوه بناء على تعميم الأمر للمنجّز والمعلق حسب ما أشرنا إليه ، وحينئذ فتخصيص النزاع به غير متّجه ، وكيف كان فالظاهر أيضا جواز ذلك للأصل وانتفاء المانع ، وما يتخيّل للمنع منه أمور :

منها : أنّه من التكليف بالمحال ، لتعلّق الطلب بما علم الآمر استحالته.

ومنها : لزوم الهذريّة والخلوّ عن الفائدة ، لعلمه بعدم حصول المكلّف به ، بل ارتفاع التكليف لانتفاء شرطه.

ومنها : قبح الاشتراط من العالم بالعواقب ، إذ مقتضاه الشكّ في حصول الشرط ، وعدم علمه بالحال ، حسب ما أشار إليه السيّد والكلّ مدفوع :

أمّا الأوّل فبما عرفت من عدم لزوم محذور من الجهة المذكورة مع تنجيز الأمر فكيف مع تعليقه على الشرط؟ ومع الغضّ عن ذلك فإنّما يلزم التكليف بالمحال لو كان هناك إطلاق في التكليف ، وليس كذلك ، إذ المفروض تعليقه على شرط غير حاصل ، فهو في معنى عدم التكليف ، لقضاء انتفاء الشرط بانتفاء المشروط ، فهو نظير القضيّة الشرطيّة الصادقة مع كذب المقدّمتين.

__________________

(١) في (ق) : قول المخالف.

٦٢٣

وأمّا الثاني فلأنّ فائدة صدور الأمر ليست منحصرة في الإتيان بالفعل لئلّا يترتّب عليه فائدة بعد العلم بفواته لانتفاء شرطه ، بل هناك فوائد اخر كما عرفت ذلك في المسألة السابقة.

وأمّا الثالث ففيه أوّلا : المنع من دلالة الاشتراط على الشكّ ، بل مفاده إناطة الحكم بما علّق عليه.

نعم ، قد يستفاد ذلك من بعض أدواته ، حسب ما ذكروه في التعليق الحاصل بإن كيف وإطلاق الأمر حينئذ قد يفيد خلاف المقصود ، لدلالته إذا على إطلاق الوجوب مع أنّ المفروض كونه مشروطا.

وثانيا : أن أقصى ما يفيده تشكيك المخاطب وترديده بين حصول الشرط وعدمه أعمّ من إفادته شكّ المتكلّم ، ولو سلّم كونه حقيقة في الثاني فلا مانع من الخروج عنه بعد قيام الدليل عليه ، وقد يستفاد من ذلك المنع من الاشتراط في حقّ العالم إذا كان عالما بحصول الشرط أيضا ، ولذا نصّ السيّد على المنع منه أيضا كما سيجيء.

وأمّا المسألة الثالثة فإن كان الآمر ظانّا بحصول الشرط فلا إشكال في جواز الأمر من دون تعليق على الشرط ، لقيام الظنّ في ذلك مقام العلم ، كما ستجيء الإشارة إليه في كلام السيّد ، إلّا أنّه معلّق في الواقع على حصول الشرط ، وإنّما اطلق نظرا إلى ظهور حصوله ، فيكشف عند ظهور انتفائه عدم حصول التكليف من أصله. ويحتمل القول بإطلاق الأمر وحصول التكليف حينئذ مطلقا لاعتقاده حصول الشرط ، غاية الأمر سقوطه عند انكشاف فساد ظنّه ، كما هو الحال في صورة القطع به بعد انكشاف فساد قطعه. وإن كان ظانّا بخلافه فيحتمل أيضا إلحاق ظنّه بالعلم لقيامه مقامه عند انسداد باب العلم ، فيكون مانعا من إطلاق الأمر (١). وربّما يتوهّم المنع من تعليق الأمر على الشرط المفروض نظرا إلى

__________________

(١) في (ق) زيادة «كما أنّه يجوز ما في الصورة الاولى».

٦٢٤

التنزيل المذكور ، وهو ضعيف جدّا ، إذ غاية ما يقتضيه التعليق قيام الاحتمال الحاصل في المقام ، فجواز تعليق الأمر عليه ممّا لا ينبغي الريب فيه. بل يحتمل حينئذ أن يقال بجواز إطلاق الأمر أيضا ـ لما نقرّره في صورة الشكّ ـ وإن كان شاكّا فيه. فقضيّة كلام السيّد فيما يأتي المنع منه أيضا ، وكأنّه لدلالة الإطلاق على حصول الأمر مع انتفاء الشرط أيضا.

ويدفعه : ظهور إرادة التعليق في مسألة (١) وإن لم يصرّح به كما هو الظاهر من ملاحظة الأوامر المطلقة الدائرة في المخاطبات العرفيّة.

نعم ، لو دار الأمر في إطلاق الأمر مع حصول الشرط وعدمه لم يجز ذلك قطعا ولو جوّزنا الأمر بالشيء مع علم الآمر بانتفاء شرطه ، حسب ما مرّت الإشارة إليه ، ويحتمل حينئذ جواز إطلاق الأمر على الوجه الّذي مرّ في صورة الظنّ ، فيتعلّق به التكليف ، وعند انتفاء الشرط يرتفع من حينه ، لا أنّه ينكشف انتفاؤه من أصله ، فيكون المصحّح له جهل الآمر بالانتفاء.

فإن قلت : إمكان الفعل شرط في تعلّق التكليف ، وهو مشكوك في المقام ، والشكّ فيه قاض بعدم جواز الإقدام على المشروط به.

قلت : قيام احتمال حصول الشرط قاض بإمكان الفعل في نظر الآمر ، وهذا القدر كاف في الإقدام عليه ، على أنّ اشتراط الإمكان الواقعي (٢) غير ظاهر ، غاية الأمر أنّه بعد ظهور الامتناع يرتفع التكليف حينئذ ، فكما يقوم الاحتمال المذكور بالنسبة إلى حصول الشرط في الزمان اللاحق كذا يجري في المقارن إذا شكّ في حصوله وإن كان الحال في الأوّل أولى.

قوله : (فأجازه مع علم المأمور أيضا).

ما ذكره بناء على قاعدتهم من تجويز التكليف بما لا يطاق ، فنقل كثير منهم الاتّفاق على منعه غير متّجه على أصولهم إلّا أن يكون المراد الاتّفاق على

__________________

(١) كذا ، والعبارة ناقصة ظاهرا.

(٢) في (ق): «على أنّ ثبوت الإقدام الواجب».

٦٢٥

عدم وقوعه ، أو يراد الاتّفاق على المنع بناء على امتناع التكليف بما لا يطاق ، ولا يخفى بعده.

وقد يقال : إنّه لمّا كان المفروض انتفاء شرط الوجوب كان القول بحصول الوجوب حينئذ تناقضا ، وتجويزهم حصول الأمر مع جهل المأمور إنّما هو بملاحظة الأمر الظاهري ، وهو غير جار في المقام ، نظرا إلى علم المأمور بالحال.

وأنت بعد التأمّل فيما قرّرناه في محلّ النزاع تعرف ضعف ذلك أيضا فليس المانع حينئذ سوى لزوم الهذريّة والخلوّ عن الفائدة ، فإذا لم يكن هناك مانع عقلي من ذلك على اصولهم لم يتّجه حكمهم بالمنع من جهته.

قوله : (وشرط أصحابنا في جوازه ... الخ).

ظاهره يعطي تجويزهم للأمر حينئذ مطلقا ومعلّقا على الشرط مع الظنّ بحصول الشرط والشكّ فيه ، بل والظنّ بعدمه ، وسيأتي في كلام السيّد المنع من الثاني مع إطلاق الأمر فيكون مانعا من الثالث بالاولى ، وظاهر المصنّف التسليم لجميع ما ذكره. ويمكن حمل كلامه هنا على جواز الأمر حينئذ في الجملة ولو معلّقا على الشرط ، فإنّ ذلك ممّا لا مانع فيه في شيء من الوجوه المذكورة.

قوله : (كأمر الله زيدا بصوم غد وهو يعلم موته فيه).

ظاهر كلامه يعطي اندراج الأمر المتعلّق بالشخص المنفرد في محلّ النزاع ، كما يظهر من غيره أيضا ، وهو كذلك ، إذ لا فرق بين انفراد المأمور وتعدّده في ما بنوا عليه الأصل المذكور. ولكن حكى العلّامة عن قاضي القضاة نفي الخلاف عن عدم جوازه ، والوجه فيه غير ظاهر على اصولهم.

قوله : (لكن لا يعجبني الترجمة ... الخ).

قد عرفت الوجه فيه ، فإنّ إطلاق الشرط في المقام غير متّجه ، لاندراج شروط الوجود المقدورة في الترجمة المذكورة ، مع أنّه لا خلاف في جواز الأمر مع العلم بانتفائها ، بل وكذا الكلام في شرائط الوجوب إذا كانت مقدورة على تفصيل مرّت الإشارة إليه.

وقد يجعل الوجه فيه : أنّ ظاهر العنوان المذكور يفيد كون النزاع في جواز

٦٢٦

إطلاق الأمر مع علم الآمر بانتفاء شرطه ، وليس الكلام فيه لاشتماله على المناقضة حسب ما مرّت الإشارة إليه ، بل إنّما البحث في جواز الأمر معلّقا على الشرط المفروض حسب ما ذكر السيّد في بيان محلّ الخلاف واستحسنه المصنّف ، وهذا الوجه وإن كان متّجها في بادئ النظر إلّا أنّه مدفوع بما عرفت ، غير موافق لما ذكره من الوجه في ترك العدول من قصده مطابقة دليل الخصم لما عنون به الدعوى ، فإنّه إنّما يوافق الوجه الأوّل ، حيث إنّ بعض أدلّتهم إنّما يفيد جواز الأمر مع انتفاء شرط الوجود (١) ، كما ستأتي الإشارة إليه في كلام المصنّف ، مضافا إلى أنّه المحكيّ عن المصنّف في وجه عدم الإعجاب.

قوله : (بشرط أن لا يمنع المكلّف ، أو بشرط أن يقدر).

وهذا ظاهر في كون الكلام في الشرائط الغير المقدورة للمكلّف دون المقدورة ، ولو كانت من شرائط الوجوب.

قوله : (ويزعمون انّه يكون مأمورا بذلك مع المنع).

قد يقال : إنّه إذا فرض كون الأمر معلّقا على الشرط المفروض فكيف يعقل أن يكون مأمورا به مع انتفاء الشرط؟ ويمكن أن يوجّه : بأنّ المراد أنّهم يزعمون جواز أمره التعليقي مع انتفاء الشرط ، وأيضا ليس المراد تعلّق الأمر به تنجيزا حال انتفاء الشرط ، وهذا العنوان كما ترى تحرير للمسألة الثانية ، والمعروف في كتب القوم بيان المسألة الاولى ، وهو المناسب لما ذكروه من الأدلّة ، وقد تدرج هذه فيها بناء على تعميم الأمر في كلامهم للتعليقي والتنجيزي حسب ما أشرنا إليه.

قوله : (فلا يجوز أن يأمره بشرط).

فإن كان عالما بحصول الشرط جاز الأمر ولم يجز الاشتراط ، وإن كان عالما بعدمه لم يجز الأمر ولا الشرط ، فلا يصحّ الأمر مطلقا ولا مشروطا ، وحينئذ فتندرج المسألة الاولى في كلامه أيضا ، وفي قوله : «قبح منّا أن نأمره بذلك» لا محالة دلالة على ذلك أيضا.

__________________

(١) في نسخة : «الوجوب».

٦٢٧

قوله : (فإذا فقد الخبر فلا بدّ من الشرط).

هذا يدلّ على بنائه على المنع في المسألة الثالثة ، وحينئذ لا بدّ من الاشتراط في صورة الشكّ في حصول الشرط والظنّ بعدمه. وقد يقال بامتناع الأمر في صورة الظنّ تنزيلا له منزلة العلم ، وهو بعيد ، والظاهر أنّه لا تأمّل في جوازه ، وليس في كلامه رحمه‌الله ما يفيد المنع منه.

نعم ، قد يجعل حكمه بقيام الظنّ مقام العلم عند انسداد السبيل إليه شاهدا على المنع ، وفيه نظر لا يخفى.

ثم إنّ ما استند إليه في قبح الأمر مطلقا في صورة العلم بانتفاء الشرط ما قد علمت ما فيه ، وأمّا ما ذكره من قبح الاشتراط مع العلم بوجود الشرط فالوجه فيه هو ما قدّمناه من اللغويّة ، أو الدلالة على حصول الشكّ ، وقد عرفت ما يرد عليهما (١).

قوله : (وأقلّها إرادة المكلّف).

قد يقال في توجيه الدليل : إنّه مبنيّ على كون الإرادة خارجة عن قدرة المكلّف ، فإنّ سائر الأفعال إنّما تكون مقدورة بحصولها بإرادة المكلّف ، فلا تكون الإرادة مقدورة لحصولها بغير توسّط الإرادة ، وإلّا لزم التسلسل في الإرادة ، وإذا كانت غير مقدورة وكان التكليف حاصلا من دون حصولها ثبت المدّعى ، وإن لم يثبت التكليف مع انتفائها لزم ما ذكر من اللازم.

وفيه أوّلا : أنّ التقرير المذكور لو تمّ فإنّما يجري في خصوص الإرادة دون سائر الشروط المفقودة ، وقضيّة التقرير المذكور جريان الدليل في غيرها من سائر الشروط المفقودة ، حيث ذكر : أنّ كلّ ما لم يقع فقد انتفى شرط من شروطه.

وثانيا : أنّ عدم مقدوريّة الإرادة ممنوعة ، وكونها غير حاصلة بإرادة اخرى لا يفيد ذلك ، فإنّها مقدورة بنفسها ، وتكون غيرها مقدورة بتوسّطها.

وثالثا : بأنّ محلّ النزاع في المقام إنّما هو بالنسبة إلى شروط الوجوب دون

__________________

(١) في نسخة : «عليها».

٦٢٨

الوجود ، والإرادة من شروط الوجود بالاتّفاق ، سواء كانت مقدورة أو غير مقدورة ، فتكون خارجة عن محلّ النزاع. وقد يوجّه الاستدلال بنحو آخر بأن يقال : إنّه كلّما انتفى شرط من شروط الفعل فهو ممّا يمتنع حصوله في الخارج ، لكون انتفائه معلوما لله تعالى فلو حصل في الخارج لزم انقلاب علمه تعالى جهلا ، وهو محال ، فالملزوم مثله ، فإذا كانت تلك الشرائط المفقودة ممتنعة لم تكن مقدورة أوّلا ، فتعلّق القدرة غير ظاهر ، غاية الأمر أن يقضي ذلك بامتناعها ، نظرا إلى اختيار المكلّف تركها ، وهو لا ينافي المقدوريّة ، بل يؤكّدها. نعم ، لو كانت ممتنعة من دون اختيار المكلّف تمّ ما ذكر ، إلّا أنّه ليس كذلك ، ولو سلّم عدم مقدوريّتها فليس الوجوب مشروطا بالنسبة إليها ، إذ ليس جميع الشرائط مشروطا في الوجوب ، فهي خارجة عن مورد النزاع ، ومجرّد عدم مقدوريّتها نظرا إلى الوجه المذكور لا يقضي بتقييد الوجوب بها وانتفائه مع انتفائها.

قوله : (لم يعلم أحد أنّه مكلّف).

قد مرّ أنّ العلم بحصول التكليف الظاهري حاصل بالاتّفاق ، ولو مع عدم حصول الظنّ بمطابقته للواقع إذا ثبت التكليف بملاحظة الطريق المقرّر في الشريعة لإثبات التكاليف الشرعيّة ، كما في العلم بتكليف المرأة بالصوم مع شكّها في طروء الحيض في أثناء النهار ، أو ظنّها به ، فالملازمة المدّعاة ممنوعة ، وما ذكر في بيانه لا يفيد ذلك ، أقصى الأمر أن يفيد عدم علمه بكونه مكلّفا ، نظرا إلى حكمه الواقعي الأوّلي ، وأمّا تكليفه الظاهري فليس مشروطا به حسب ما قدّمنا الإشارة إليه.

قوله : (لو اجتمعت الشرائط عند دخول الوقت).

لا يخفى أنّ مجرّد اجتماع الشرائط عند دخول الوقت لو كان كافيا في حصول اليقين بالتكليف لجرى في الضيّق أيضا إذا حصل اجتماع الشرائط عند دخول وقته ، وكيف يعقل حصول اليقين حينئذ بالتكليف مع الشكّ في طروء المانع ، أو ارتفاع بعض الشرائط في الأثناء ، وكأنّه أراد بما ذكره مضيّ مقدار أداء الفعل مستجمعا للشرائط بعد دخول الوقت ، وحينئذ يحصل اليقين بالاشتغال في الموسّع.

٦٢٩

ويدفعه : أنّ الحاصل حينئذ هو اليقين بسبق الاشتغال ، لا كونه مشتغلا بالفعل بالنسبة إلى ما يأتي حسب ما قرّره في الجواب.

قوله : (لو يعلم إبراهيم عليه‌السلام بوجوب ذبح ولده ... إلخ).

كان الأظهر أن يجعل تالي الشرطيّة المذكورة عدم أمر إبراهيم عليه‌السلام بذبح ولده ، والتالي باطل ، لدلالة الآية الشريفة على الأمر به ، وأيضا لو لا تعلّق الأمر به لم يعلم أمرهعليه‌السلام بوجوب ذبح ولده ، لامتناع الجهل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سيّما بالنسبة إلى الأحكام الشرعيّة ، وقد علم ذلك نظرا إلى إقدامه على الذبح ، وكأنّه راعى في ذلك الاختصار ، فإنّه لمّا كان علم إبراهيم عليه‌السلام دليلا على الأمر جعل ذلك تاليا للشرطيّة.

قوله : (وإنّما هو في الشرط الّذي يتوقّف عليه تمكّن المكلّف ... إلخ).

لا يخفى أنّ من الشروط : ما يتوقّف عليه حصول الفعل من غير أن يتوقّف التمكّن منه عليه ، كالشروط الوجوديّة المقدورة للمكلّف.

ومنها : ما يتوقّف عليه حصول تمكّن المكلّف عن الفعل ، كالقدرة على مقدّمات الفعل ، وحينئذ فقد يتوقّف عليه حصول القدرة ، وقد يتوقّف عليه بقاؤها ، والصورة الاولى خارجة عن محلّ النزاع قطعا ، وظاهر العبارة يفيد اندراج الصورة الثانية بقسميها في محلّ البحث ، لتوقف تمكّن المكلّف من الفعل عليها إمّا ابتداء أو استدامة. ومن البيّن أنّ ما يتوقّف عليه بقاء القدرة قد يكون مقدورا للمكلّف ، وقد لا يكون مقدورا له ، واندراج الأوّل في محلّ النزاع غير ظاهر كما عرفت ، وقد يخصّ كلامه بالقسم الأوّل أو ما يعمّه ، والثاني مع عدم كون البقاء مقدورا للمكلّف ، وكأنّه لذا جعل الوجه في عدم الإعجاب من الترجمة المتقدّمة كونها أعمّ من المقدّمات المقدورة وغيرها ، مع أنّ محلّ الخلاف هو الثانية لا غيرها ، لكن قد عرفت أنّ ظاهر إطلاق ما ذكر أعمّ من ذلك.

ويرد عليه : ما مرّت الإشارة إليه من جريان الخلاف في بعض شروط الوجوب ممّا يكون مقدورا للمكلّف فلا وجه للحصر المدّعى.

قوله : (المنع من بطلان اللازم).

٦٣٠

هذا مبنيّ على حمل العلم بالتكليف على العلم بتعلّق التكليف به واقعا ، وهو مقصود السيّد أيضا ، وقوله : «وليس يجب إذا لم يعلم قطعا أنّه مأمور به أن يسقط عنه وجوب التحرّز» إشارة إلى ثبوت التكليف الظاهري بالنسبة إليه ، وحصول العلم به قطعا حسب ما قرّره ، لكن لا يعتبر فيه حينئذ حصول الظنّ بالواقع ، بل يكفي فيه الرجوع إلى الطريق المقرّر شرعا ، ظنّا كان أو غيره حسب ما مرّت الإشارة إليه.

قوله : (إلّا بعد تقضّي الوقت وخروجه).

هذا في المضيّق ، وأمّا الموسّع فيكفي فيه تقضّي مقدار الفعل ومقدّماته الّتي يتوقّف عليها الفعل حينئذ ، وقد يعمّ الوقت في كلامه بحيث يشمل ذلك.

قوله : (بل كلّف بمقدّماته ... الخ).

لا يخفى أنّ ما ذكره يخالف ظاهر قوله تعالى : (إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى)(١) فإنّ الظاهر منه كون المأمور به نفس الذبح ، وحمله على إرادة المقدّمات مجاز، وجعل قوله تعالى : (صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) قرينة عليه حسب ما ادّعاه ليس بأولى من العكس ، لكن يمكن أن يقال : إنّ دوران الأمر بين الوجهين كاف في دفع الاستدلال ، نظرا إلى قيام الاحتمال ، إلّا أن يقال بترجيح المجاز الثاني نظرا إلى قربه ، بل يمكن أن يقال بحصول التصديق على سبيل الحقيقة ، إذ لم يكن سوى الإتيان بسبب الذبح وقد أتى به ، وإن لم يتفرّع عليه ذلك لمنعه تعالى إلّا أنّه يخرج حينئذ عن محلّ البحث لأدائه المأمور به ، وكذا الحال لو قيل بحصول فري الأوداج والتحام العضو بأمر الله تعالى ، وكلّ من الوجهين بعيد مناف لنزول الفداء ، إذ هذا ظاهر جدّا في كون المطلوب نفس الذبح وعدم حصوله في المقام ، وجعل الفداء عوضا عنه ، واحتمال كونه فداء عن الذبح نظرا إلى ما يظنّ من حصول الأمر به بعد ذلك ، أو عن بقيّة المقدّمات ممّا لم يؤمر به ، وظنّ أنّه سيؤمر به من التكلّفات البعيدة ولا داعي إلى ارتكابه ، والحقّ كون الأمر في المقام

__________________

(١) سورة الصافات : ١٠٢.

٦٣١

لاختبار إبراهيم عليه‌السلام وإظهار علوّ شأنه وكمال انقياده ، كما يشير إليه قوله تعالى : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ)(١). وقد عرفت أنّه لا تجوّز حينئذ في الأمر ، نظرا إلى حصول الطلب الّذي هو مدلول الصيغة والإرادة التشريعيّة لنفس الفعل وإن لم يكن مرادا بنحو آخر، لعلمه تعالى بمنعه عن الفعل ، وقد مرّ أنّ تلك الإرادة لا مدخل لها في مفاد الصيغة ، فالقضيّة المذكورة أقوى شاهد على المدّعى ، ولا حاجة في دفعه إلى التكلّفات المذكورة ، إذ ليس فيها منافاة لحكم العقل ، ولا لقواعد الشرع حتّى يتصدّى لتأويل النقل حسب ما عرفت تفصيل القول فيه ، وجعل الأمر في المقام للامتحان مع التزام التجوّز والخروج عن حقيقة التكليف بالفعل بإرادة التكليف بمقدّماته أو بعدم إرادة التكليف أصلا من غير أن يعلم إبراهيم عليه‌السلام بحقيقة الحال ليتعقّل حصول الامتحان ـ مع ما عرفت من ضعفه ـ قاض بحصول الجهل المركّب لإبراهيم عليه‌السلام ، وهو لا يناسب منصب النبوّة ، سيّما بالنسبة إلى الأحكام الشرعيّة.

قوله : (بل للعزم على الفعل والانقياد إليه ... إلخ).

لا يخفى أنّه بناء على المنع من تعلّق الأمر بالفعل مع علم الآمر بامتناعه لابدّ إمّا من القول بعدم جواز صدور الأوامر الامتحانيّة كما قد يومئ إليه.

قوله : (ولو سلّم ... إلخ) وهو في غاية البعد ، بل واضح الفساد كما عرفت. وامّا التوجيه في مادّة الأمر بإرجاعه إلى إرادة مقدّمات الفعل ، أو بالتجوّز في هيئته بإرادة صورة الطلب منه من غير أن يكون هناك طلب على سبيل الحقيقة.

وكلا الوجهين لا يتمّ على القول بعدم جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب إمّا مطلقا أو في ما له ظاهر ، فإنّه إن بيّن ذلك للمخاطب في حال الخطاب لم يتفرّع عليه ما هو المقصود من الامتحان ، وإن لم يبيّن ذلك لزم المفسدة المذكورة ، ومع الغضّ عن ذلك فلا يخفى ما في التوجيهين المذكورين من البعد والخروج عن الظاهر ، سيّما في ما اختاره المصنّف من الوجه الأوّل ، إذ استعمال الفعل في العزم عليه والإتيان بمقدّماته في غاية البعد ، بل ربّما يقال بكونه خطابا خاليا عن

__________________

(١) سورة الصافات : ١٠٦.

٦٣٢

العلاقة المعتبرة في المجاز على ما هو المتداول في الاستعمالات ، مضافا إلى خروجه عمّا هو ملحوظ المستعمل في مقام الامتحان ، وحصول مقصوده من الأمر المفروض بالعزم على الفعل والتهيّؤ له أو الإعراض عنه والتهاون فيه لا يفيد كون اللفظ مستعملا في ذلك ، كما لا يخفى ، على أنّه قد يكون الاختبار بإتيانه بنفس الفعل ، كما إذا لم يكن الآمر مريدا لوقوع الفعل في نفسه ، لكن يأمر العبد به لاختباره من غير أن يمنعه من الفعل إلى أن يأتي به.

وبالجملة : أنّ الاختبار كما يقع بما يريد الآمر عدم حصوله في الخارج كذا يقع بما يتساوى عنده الوقوع وعدمه ، والفرق بينهما : أنّه يجب عليه في الأوّل إعلام العبد قبل إيقاع الفعل إلّا مع عدم تمكّنه من الإتيان به ، بخلاف الثاني إذ لا يجب عليه الإعلام مطلقا ، لانتفاء المفسدة في أداء الفعل ، وعدم لزوم قبح عقلي ولو من جهة الإغراء بالجهل ، فلو كان ذلك خارجا عن حقيقة التكليف لكان الإعلام واجبا ، لامتناع تأخير البيان عن وقت الحاجة عندهم حسب ما حكي الإجماع عليه.

قوله : (وأمّا ما ذكره في المثال فإنّما يحسن ... إلخ).

هذا يفيد تسليمه تعلّق الأمر في صورة إرادة الامتحان بنفس الفعل ، وظاهره يومئ إلى كون الأمر حقيقيّا فإنّه الّذي أراده المستدلّ ، فتسليم حسنه والجواب بعدم جريانه في أوامره تعالى ظاهر في ذلك ، فملخّص جوابه عن الاستدلال بالمنع من جريان الامتحان في أوامره تعالى ، وبعد تسليمه فالمأمور به في الحقيقة إنّما هو العزم على الفعل والانقياد إليه ، لعلمه تعالى بامتناع الفعل. وأمّا ما ذكر من المثال من تعلّق الأمر حينئذ بنفس الفعل فإنّما يجري في غير أوامره تعالى ، لاستحالة الوجه المذكور بالنسبة إليه تعالى.

وأنت خبير بما فيه ، فإنّه وإن لم يعقل التوصّل بذلك إلى تحصيل العلم بالنسبة إليه تعالى إلّا أنّه يمكن أن يكون ذلك لمصالح اخر ، كإظهار حاله على غيره ، أو إقامة الحجّة عليه حسب ما مرّت الإشارة إليه.

هذا ، وقد يتفرّع على المسألة المذكورة أمور :

٦٣٣

منها : ما لو كان المأمور جاهلا بانتفاء الشرط إلى أن أدّى الفعل وكان الآمر عالما به، كما لو اتّفق تحيّض المرأة في نهار الصوم من غير أن تعلم به إلى أن تغيب الشمس فإنّه بناء على جواز الأمر بالشيء مع علم الآمر بانتفاء شرطه ينبغي القول بصحّة العمل ، بخلاف ما لو قيل بالمنع منه.

قلت : وعلى هذا يثمر أيضا في ثبوت الكفّارة عليها لو تناولت المفطر حينئذ لإفطارها الصوم المأمور به.

وفيه : أنّ المفروض انتفاء شرط الصحّة حينئذ بحسب الواقع فكيف يعقل معه الحكم بصحّة الفعل الواقع منه مع عدم مطابقته للمأمور به؟ وغاية ما يلزم من القول بالجواز في المقام هو كون الفعل المستجمع للشرائط مأمورا به واقعا مع علم الآمر بعدم حصول شرطه ، وكون المستجمع مأمورا به لا يقضي بصحّة غير المستجمع حتّى يتفرّع عليه ما ذكر ، وكذا القول بثبوت الكفّارة حينئذ فإنّ المفروض ثبوتها بتعمّد الإفطار ، وهو فرع التلبّس بالصوم قبله ، وقد تبيّن انتفاؤه فكيف يقال بثبوت الكفّارة الواجبة من جهة تعمّد إفطار الصوم؟

نعم ، لو قرّر النزاع في المقام في جواز الأمر بالشيء الّذي انتفى عنه الشرط إذا علم الآمر بانتفائه مع جهل المأمور بذلك حتّى يكون غير المستجمع بحسب الواقع مع جهل المأمور به مأمورا به صحّ التفريع المذكور ، وهو فرع جليل ، إذ قضيّته الحكم إذا بصحّة جميع الأفعال الفاقدة للشروط مع جهل المأمور بالحال إذا تبيّن الحال فيها بعد ذلك ، إلّا إذا قام الدليل على خلافه ، وهو أصل نافع جدّا ، إلّا أنّ ذلك ممّا لا ربط له بالمسألة المعنونة في المقام ، كيف؟ وجواز الأمر به على النحو المذكور ممّا لا مجال لإنكاره ، إذ غاية الأمر حينئذ أن يكون الشروط المعتبرة في الفعل شروطا علميّة لا واقعيّة. وأيضا مجرّد جواز وقوع التكليف على النحو المذكور لا يكفي في التفريع المذكور ، بل لا بدّ من القول بوقوع التكليف على ذلك الوجه حتّى يمكن أن يفرّع عليه ذلك. وأيضا لا يجري ذلك بالنسبة إلى الشرائط العقليّة كالقدرة على الفعل ، مع أنّ تمثيلاتهم في المقام صريحة في اندراجها في المسألة ولا يوافق ما ذكر.

٦٣٤

والحاصل أنّ كلامهم في هذه المسألة صريح في خلاف ذلك ، فلا يمكن تنزيل الخلاف عليه ، فلا وجه للتفريع المذكور أصلا ، وغاية ما يتفرّع عليه بملاحظة ذلك حصول انفصال المخالفة ، نظرا إلى حصول الأمر مع انتفاء الشرط حسب ما مرّت الإشارة اليه.

ومنها : ما لو أدرك أوّل وقت الفعل ثمّ طرأه مانع من حيض ونحوه قبل انقضاء مدّة يسع الفعل فإنّه يجب عليه القضاء بناء على جواز الأمر كذلك ، بخلاف ما لو قيل بالمنع منه ، إذ لا أمر حينئذ بالفعل حتّى يتحقّق معه صدق الفوات.

وفيه : أنّه لو قيل بكون القضاء تابعا للأداء فربما أمكن تصحيح الكلام إلّا أنّه مذهب ضعيف اتّفق المحقّقون على فساده.

وأمّا على القول بكونه عن أمر جديد كما هو المختار عند الجمهور فهو إنّما يتبع ورود الأمر من غير فرق في ذلك بين القولين ، وليست تسميته قضاء مبنيّة على وجوب الأداء كما هو ظاهر ومعلوم من ملاحظة قضاء الحائض وغيره للصوم.

ومنها : انتقاض التيمّم بوجدان الماء إذا لم يتمكّن من استعماله بعد وجدانه لعدم اتّساع زمانه أو لغير ذلك ، فإذا قلنا بكونه مأمورا بالمائيّة إذا لم يعلم أوّلا بعدم تمكّنه من الاستعمال حكم بانتقاض التيمّم وإلّا حكم ببقائه. وقد يقال حينئذ بالانتقاض من جهة إطلاق النصوص وإن لم نقل بجواز الأمر على الوجه المفروض.

ومنها : لو ملك قدر الاستطاعة وقت مضيّ الرفقة فتعمّد التخلّف عنهم ثمّ مات أو تلف ماله قبل زمان الحجّ أو منعه مانع عن المضيّ إلى الحجّ في العام الأوّل بعد حصول الاستطاعة ، فإنّه على القول بجواز الأمر مع العلم بانتفاء الشرط يتعيّن عليه أداء الحجّ بعد ذلك والقضاء عنه ، بخلاف ما لو قيل بالمنع من ذلك. ويشكل ذلك بالمنع من كون مجرّد تعلق الأمر أوّلا قاضيا باستقرار الحجّ في الذمّة بعد انكشاف انتفاء الاستطاعة.

ومنها : لزوم الكفّارة على من أفطر شهر رمضان ثمّ طرءه مانع اضطراري من

٦٣٥

الصوم كالحيض والمرض أو اختياري كالسفر ، فإنّه على القول بجواز الأمر مع علم الآمر بانتفاء الشرط يكون مأمورا حينئذ بالصوم ، فيجب عليه الكفّارة ، بخلاف ما لو قيل بعدم تعلّق الأمر به ، فإنّه مع عدم علم الآمر بالصوم لا يكون مفطرا للصوم الواجب. وقد يقال بأنّه يمكن أن يكون وجوب الكفّارة منوطا بمخالفة التكليف الظاهري نظرا إلى حصول التجرّي بمخالفته وإن لم يكن مطابقا للواقع ، وذلك حاصل في المقام على القول بعدم جواز تعلّق الأمر مع العلم بانتفاء الشرط ، ولذا وقع الخلاف في وجوب الكفّارة بين أصحابنا.

وأنت خبير بأنّ المقصود تفريع ذلك على ما إذا علّق وجوب الكفّارة على إفطار الصوم الواجب ، وأمّا لو دلّ الدليل على وجوبها بمجرّد التجرّي المذكور فلا كلام ، وحينئذ فلا مانع من التفريع المذكور من تلك الجهة.

نعم قد يشكل ذلك من جهة اخرى عدم استجماع ذلك اليوم لشرائط صحّة الصوم ، فصومه فاسد في الواقع وإن تعلّق الأمر بصومه نظرا إلى جهل المأمور بالحال ، فليس الأمر متعلّقا به من حيث انتفاء الشرط المفروض ، بل لم يتعلّق الأمر بالصحيح المستجمع لجميع الشرائط وإن لم يمكن حصوله من المأمور به بحسب الواقع. والإفطار إنّما حصل للصوم الفاسد بحسب الواقع ، فلا كفّارة من جهة إفطارها للصوم الصحيح لولاه كما هو المقصود ، فلا ثمرة للخلاف سوى تحقّق العصيان حسب ما مرّت الإشارة إليه وهو أيضا غير متّجه ، لحصوله على القول الآخر ، نظرا إلى تحقّق التكليف الظاهري قطعا كما عرفت ، إلّا أنّ تحقّق العصيان بالنسبة إلى الأمر الأوّلي على الأوّل والأمر الثانوي على الثاني ، ولا تفاوت بينهما بعد الاشتراك في مطلق الإثم والعصيان. وغاية ما يمكن أن يصحّح الثمرة المذكورة أن يقال : إنّه لمّا لم يحصل بعد الفساد وكان المفروض تعلّق الأمر واقعا بالصوم لم يتّصف صومه بالفساد واقعا إلّا حين طروّ المفسد ، فيتعلّق به الكفّارة بالإفطار قبله ولا يخفى ذلك أيضا عن تأمّل.

* * *

٦٣٦

معالم الدين :

أصل

الأقرب عندي : أنّ نسخ مدلول الأمر ـ وهو الوجوب ـ لا يبقى معه الدلالة على الجواز ، بل يرجع إلى الحكم الّذي كان قبل الأمر. وبه قال العلّامة في النهاية ، وبعض المحقّقين من العامّة. وقال أكثرهم بالبقاء ، وهو مختاره في التهذيب.

لنا : أنّ الأمر إنّما يدلّ على الجواز بالمعنى الأعمّ ـ أعني الإذن في الفعل فقط ـ وهو قدر مشترك بين الوجوب ، والندب ، والإباحة ، والكراهة. فلا يتقوّم إلّا بما فيها من القيود، ولا يدخل بدون ضمّ شيء منها إليه في الوجود ، فادّعاء بقائه بنفسه بعد نسخ الوجوب غير معقول.

والقول بانضمام الإذن في الترك إليه باعتبار لزومه لرفع المنع الّذي اقتضاه النسخ ، موقوف على كون النسخ متعلّقا بالمنع من الترك الّذي هو جزء مفهوم الوجوب ، دون المجموع. وذلك غير معلوم ؛ إذ النزاع في النسخ الواقع بلفظ : «نسخت الوجوب» ونحوه. وهو كما يحتمل التعلّق بالجزء الّذي هو المنع من الترك ، لكون رفعه كافيا في رفع مفهوم الكلّ ، كذلك يحتمل التعلّق بالمجموع ، وبالجزء الآخر الّذي هو رفع الحرج عن الفعل ، كما ذكره البعض ، وإن كان قليل الجدوى ؛ لكونه في

٦٣٧

الحقيقة راجعا إلى التعلّق بالمجموع.

احتجّوا : بأنّ المقتضي للجواز موجود ، والمانع منه مفقود ؛ فوجب القول بتحقّقه.

امّا الأوّل : فلأنّ الجواز جزء من الوجوب ، والمقتضي للمركّب مقتض لأجزائه.

وأمّا الثاني : فلأنّ الموانع كلّها منتفية بحكم الأصل والفرض ، سوى نسخ الوجوب وهو لا يصلح للمانعيّة ؛ لأنّ الوجوب ماهيّة مركّبة ، والمركّب يكفي في رفعه رفع أحد أجزائه، فيكفي في رفع الوجوب رفع المنع من الترك الذي هو جزؤه. وحينئذ فلا يدلّ نسخه على ارتفاع الجواز.

فان قيل : لا نسلّم عدم مانعيّة نسخ الوجوب لثبوت الجواز ؛ لأنّ الفصل علّة لوجود الحصّة التي معه من الجنس ، كما نصّ عليه جمع من المحقّقين. فالجواز الذي هو جنس للواجب وغيره لا بدّ لوجوده في الواجب من علّة هي الفصل له ، وذلك هو المنع من الترك ، فزواله مقتض لزوال الجواز ، لأنّ المعلول يزول بزوال علّته ، فتثبت مانعيّة النسخ لبقاء الجواز.

قلنا : هذا مردود من وجهين :

أحدهما : أنّ الخلاف واقع في كون الفصل علّة للجنس ؛ فقد أنكره بعضهم وقال : إنّهما معلولان لعلّة واحدة. وتحقيق ذلك يطلب من مواضعه.

وثانيهما : أنّا وإن سلّمنا كونه علّة فلا نسلّم أنّ ارتفاعه مطلقا يقتضي ارتفاع الجنس، بل إنّما يرتفع بارتفاعه ، إذا لم يخلفه فصل آخر ؛ وذلك لأنّ الجنس إنّما يفتقر إلى فصل مّا ومن البيّن أنّ ارتفاع المنع من

٦٣٨

الترك مقتض لثبوت الإذن فيه ، وهو فصل آخر للجنس الذي هو الجواز.

والحاصل : أنّ للجواز قيدين : أحدهما ـ المنع من الترك ، والآخر ـ الإذن فيه ؛ فإذا زال الأوّل خلفه الثاني. ومن هنا ظهر أنّه ليس المدّعى ثبوت الجواز بمجرّد الأمر ، بل به وبالناسخ ، فجنسه بالأوّل وفصله بالثاني. ولا ينافي هذا إطلاق القول بأنّه إذا نسخ الوجوب بقي الجواز ، حيث إنّ ظاهره استقلال الأمر به ، فإنّ ذلك توسّع في العبارة. وأكثرهم مصرّحون بما قلناه.

فإن قيل : لمّا كان رفع المركّب يحصل تارة برفع جميع أجزائه ، وأخرى برفع بعضها ، لم يعلم بقاء الجواز بعد رفع الوجوب ؛ لتساوي احتمالي رفع البعض الّذي يتحقّق معه البقاء ، ورفع الجميع الّذي معه يزول.

قلنا : الظاهر يقتضي البقاء ، لتحقّق مقتضيه أوّلا ، والأصل استمراره. فلا يدفع بالاحتمال. وتوضيح ذلك : أنّ النسخ إنّما توجّه إلى الوجوب ، والمقتضي للجواز هو الأمر ، فيستصحب إلى أن يثبت ما ينافيه. وحيث إنّ رفع الوجوب يتحقّق برفع أحد جزئيه ، لم يبق لنا سبيل إلى القطع بسقوط المنافي فيستمرّ الجواز ظاهرا. وهذا معنى ظهور بقائه.

والجواب : المنع من وجود المقتضي ؛ فإنّ الجواز الّذي هو جزء من ماهيّة الوجوب وقدر مشترك بينها وبين الأحكام الثلاثة الاخر ، لا تحقّق له بدون انضمام أحد قيودها إليه قطعا ، وإن لم يثبت علّيّة الفصل للجنس ، لأنّ انحصار الأحكام في الخمسة يعدّ في الضروريّات. وحينئذ فالشكّ في وجود القيد يوجب الشكّ في وجود المقتضي. وقد علمت أنّ نسخ الوجوب ، كما يحتمل التعلّق بالقيد فقط ـ أعني

٦٣٩

المنع من الترك ـ فيقتضي ثبوت نقيضه الّذي هو قيد آخر ، كذلك يحتمل التعلّق بالمجموع ، فلا يبقى قيد ولا مقيّد ؛ فانضمام القيد مشكوك فيه ، ولا يتحقّق معه وجود المقتضي. ولو تشبّث الخصم في ترجيح الاحتمال الأوّل بأصالة عدم تعلّق النسخ بالجميع ، لكان معارضا بأصالة عدم وجود القيد ، فيتساقطان.

وبهذا يظهر فساد قولهم في آخر الحجّة : «إنّ الظاهر يقتضي البقاء ، لتحقّق مقتضيه ، والأصل استمراره» ، فإنّ انضمام القيد ممّا يتوقّف عليه وجود المقتضي ، ولم يثبت.

إذا تقرّر ذلك ، فاعلم : أنّ دليل الخصم لو تمّ ، لكان دالّا على بقاء الاستحباب ، لا الجواز فقط ، كما هو المشهور على ألسنتهم ، يريدون به الإباحة. ولا الأعمّ منه ومن الاستحباب ، كما يوجد في كلام جماعة. ولا منهما ومن المكروه ، كما ذهب إليه بعض ، حتّى انّهم لم ينقلوا القول ببقاء الاستحباب بخصوصه إلّا عن شاذّ ، بل ربّما ردّ ذلك بعضهم نافيا للقائل به ، مع أنّ دليلهم على البقاء كما رأيت ينادى بأنّ الباقي هو الاستحباب.

وتوضيحه : أنّ الوجوب لمّا كان مركّبا من الإذن في الفعل وكونه راجحا ممنوعا من تركه ، وكان رفع المنع من الترك كافيا في رفع حقيقة الوجوب ، لا جرم كان الباقي من مفهومه هو الإذن في الفعل مع رجحانه ؛ فإذا انضمّ إليه الإذن في الترك على ما اقتضاه الناسخ ، تكمّلت قيود الندب وكان الندب هو الباقي.

٦٤٠