هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٨٣

المؤمن عن التلف أو حفظ بيضة الإسلام قدّما عليهما قطعا؟ وكذا لو دار بين حفظ نفس المؤمن وحفظ بيضة الإسلام إلى غير ذلك ممّا لا يحصى.

ودعوى التخيير بين الأمرين في أمثال تلك المسألة كان الضرورة تشهد بخلافها ، وحينئذ فبعد تحتّم الإتيان بالأهمّ إذا تلبّس بالآخر يجري فيه ما ذكره من انتفاء الأمر بالنسبة إليه ، ولا مناص عمّا قرّره إلّا ما ذكرنا.

الثالث : أنّ ما ذكره من وجوب الفعل في آخر الوقت على سبيل التخيير بينه وبين الأوّل غير مفهوم المعنى ، فإن أراد به أنّ وجوبه الحاصل له من أوّل الأمر إنّما هو على الوجه المذكور فذلك ممّا لا ربط له بالمقام. وإن أراد به بقاءه حينئذ على تلك الحال ـ كما هو صريح كلامه في بيان الوجه فيه ـ فهو ظاهر الفساد ، إذ مع تركه في تلك الأزمنة وتأخيره إلى آخر الوقت يتعيّن عليه الفعل حينئذ قطعا بمقتضى التوقيت ، كيف والواجبات الّتي نصّ الأمر على التخيير بينها لو انحصر مقدور المكلّف في أحدها تعيّن عليه ذلك ؛ وسقط عنه البواقي وارتفع التخيير بالنسبة إليه ، فكيف يعقل لنا التخيير في المقام مع وضوح امتناع إتيان الفعل في الماضي؟ وكيف يعقل عدم رفع تحتّم الفعل حينئذ التخيير فيه بالنسبة إلى الماضي حسب ما ادّعاه؟

الرابع : أنّ قوله «فالتخيير إن لم يكن بينهما ترتيب» إن أراد به عدم الترتيب المأخوذ فيهما بحسب تكليف الأمر وتشريعه فحكمه بالتخيير مطلقا غير متّجه ، وكأنّه يقول حينئذ بعدم العبرة بالأهمّيّة أيضا حسب ما مرّ. وقد عرفت ضعفه ، وأنّى ثمرة ما ذكره؟

وإن أراد به الأعمّ من ذلك وإن كان بعيدا عن سياق كلامه ففيه أيضا ما عرفت من وضوح الثمرة فيما إذا كان الترتيب من جهة الأهمّيّة ، فكيف غضّوا النظر عنه؟

ثمّ إنّ ما ذكره من الوجهين في هذه الصورة قد عرفت ما فيه ، وكان لفظ «النهي» من قوله : «فلا يمكن الاستدلال على النهي من أحدهما بالأمر بالآخر» وقع سهوا ، وكان عليه أن يذكر مكانه «عدم الأمر».

٢٨١

ثانيها (١) : أنّه ذكر بعض المتأخّرين : أنّ الأمر بالشيء على وجه الوجوب لا يقتضي عدم الأمر بضدّه على وجه الاستحباب ، إذ لا تناقض في إيجاب عبادة في وقت مخصوص واستحباب اخرى فيه بعينه ، ولا شكّ في صحّة التصريح به من دون تناقض.

وأنت خبير بأنّه إن قيل بجواز ورود الخطابين المفروضين في مرتبة واحدة ـ إذ ليس في تكليف الندبيّ إلزام على المكلّف ليلزم بسببه التكليف بأحدهما ـ فهو بيّن الفساد ، لوضوح امتناع التكليف بالضدّين معا على سبيل الاستحباب ، سواء عدّ الندب تكليفا في الحقيقة أو لا ، فكيف مع كون التكليف بأحدهما وجوبيّا والآخر ندبيّا؟

وإن قيل بجواز ورودهما مرتّبين ـ كما ذكره الفاضل المذكور في بيان ما ذكره ـ فهو حقّ كما قدّمناه ، لكن لا وجه لتخصيصه الحكم بالندب على ما يستفاد من كلامه لجريانه بالنسبة إلى التكليف الوجوبي أيضا حسب ما قرّرناه.

ثالثها : أنّ الأمر بالشيء على وجه الندب يقتضي النهي عن تركه تنزيها قطعا ، حسب ما مرّ في بيان دلالة الأمر الإيجابي على النهي عن الضدّ العامّ ، لكن لا يسمّى ذلك كراهة ، إذ هو عين استحباب الفعل ، فإنّ رجحان الفعل على الترك عين مرجوحيّة الترك بالنسبة إليه حسب ما مرّت الإشارة إليه. وهل يقتضي ذلك مرجوحيّة أضداده الخاصّة؟ الحقّ ذلك ، لعين ما عرفت في بيان دلالة الأمر الإيجابي على النهي عن أضداده الخاصّة ، لكن لا يقتضي ذلك كراهتها بحسب الاصطلاح ، لما عرفت من أنّ المرجوحيّة المذكورة من حيث كون ذلك الترك من مقدّمات المستحبّ المفروض لكون ترك أحد الضدّين مقدّمة لفعل الآخر ، فلا يقتضي ذلك إلّا مرجوحيّة ذلك الفعل على تركه من حيث كون تركه مؤدّيا إلى ذلك المندوب ، ولا ينافي ذلك استحبابه في نفسه ورجحان فعله على تركه

__________________

(١) أي ثاني الامور تقدّم أوّلها في ص ٢٧٥.

٢٨٢

بملاحظة ذاته ، بل ورجحانه على المستحبّ المفروض أيضا ، ولا تدافع ، لما عرفت من انتفاء المضادّة في ذلك ، وجواز اجتماع الجهات المتقابلة في الشيء وإن كان الحكم تابعا لما هو الأقوى ؛ فلا يفيد الجهة المفروضة إذن إلّا مرجوحيّة غيريّة لفعل الضدّ من تلك الجهة الخاصّة وأين ذلك من الكراهة المصطلحة.

رابعها : أنّ النهي عن الشيء تحريما هل يقتضي الأمر بضدّه إيجابا ، أو لا؟

قيل النزاع فيه بعينه النزاع في الأمر في ادّعاء العينيّة والاستلزام.

قلت : إنّ مفاد النهي هو طلب ترك الشيء على سبيل الحتم ، فكون الضدّ العامّ لإيجاد الشيء ـ أعني تركه ـ مطلوبا هو عين مفاد النهي عن الشيء ، فلا مجال هنا لتوهّم النزاع فيه حسب ما توهّم في مسألة الأمر على ما مرّ. ولا نزاع في كونه على سبيل التضمّن أو الالتزام حسب ما وقع الخلاف فيه هناك ، كيف وليس حقيقة النهي على حسب حدّه المشهور إلّا طلب الترك ، فليس ذلك إذن حكما آخر على ما مرّ تحقيقه ، وفي ذلك إيضاح لما قرّرناه هناك.

وأمّا بالنسبة إلى الضدّ الخاصّ فالقول بدلالة النهي على إيجابه هو بعينه مذهب الكعبي ، حيث زعم أنّ ترك الحرام لا يتمّ إلّا بفعل من الأفعال ، فيكون النهي عن الشيء قاضيا بإيجاب واحد منها ، فيكون الجميع واجبا على سبيل التخيير ، ولذا ذهب إلى نفي المباح. وقد عرفت وهن ما ذكره. وأنّ ترك الشيء لا يتوقّف على فعل ضدّ من أضداده ، بل يكفي في حصوله عدم إرادة الفعل. والفرق بينه وبين إيجاد الشيء واضح ، فإنّه يتوقّف على ترك ضدّه حسب ما مرّ. وكون فعل الضدّ متوقّفا على ترك ضدّه لا يقضي بكون فعل الضدّ مقدّمة لترك ضدّه أيضا ، بل يقضي ذلك بخلافه ، وإلّا لزم الدور.

نعم ، غاية الأمر أن يكون فعل الضدّ من أحد أسباب ترك الضدّ ، وهو لا يقضي بثبوت التوقّف عليه ، لما عرفت من أنّ سببيّته شأنيّة ، وهو مسبوق أبدا بسبب آخر مقدّم عليه ، فلا يتّصف بالوجوب من تلك الجهة.

وأنت بملاحظة ما ذكرناه تعرف الفرق بين هذه المسألة ومسألة اقتضاء الأمر

٢٨٣

بالشيء النهي عن ضدّه في المقامين ، فالقول بأنّ النزاع فيه بعينه النزاع في الأمر حسب ما ذكره كما ترى.

وكأنّه لذا عبّر في النهاية عن الخلاف في ذلك بأنّ من الناس من طرد البحث في النهي ، فقال : النهي عن الشيء أمر بضدّه ، وهو اختيار القاضي أبي بكر. وهذا كما ترى يفيد التفاوت في الخلاف بحسب المقامين.

ثمّ إنّ ما حكاه عن القاضي يفيد ذهابه إلى مقالة الكعبي ، حسب ما عرفت بعد تنزيل الضدّ في كلامه على الضدّ الخاصّ أو الأعمّ منه ومن العامّ. وقد ذكر في جملة احتجاج القاضي على ذلك : بأنّ النهي طلب ترك الفعل ، والترك فعل الضدّ ، فيكون أمرا بالضدّ. وهذا كما ترى أحد تقريرات شبهة الكعبي في القول بنفي المباح بعد حمل الضدّ في كلامه على الخاصّ. هذا.

وذكر العلّامة رحمه‌الله في النهاية بعد ذلك : أنّ التحقيق : أنّ النهي طلب الإخلال بالشيء ، وهو يستلزم الأمر بما لا يصحّ الإخلال بالمنهيّ عنه إلّا معه ، فإن كان المنهيّ عنه لا يمكن الانصراف عن المنهيّ عنه إلّا إليه كان النهي دليلا على وجوبه بعينه ، وإن كان له أضداد كثيرة لا يمكن الانصراف عنه إلّا إلى واحد منها كان النهي في حكم الأمر بها أجمع على البدل.

وأنت خبير بما فيه ، فإنّ مجرّد عدم إمكان الانصراف عنه إلّا إلى واحد منها لا يقضي بوجوبها ، إذ قد يكون ذلك من لوازم وجود المكلّف حسب ما مرّ ، فيمتنع انفكاك ترك الحرام عن التلبّس بواحد منها ، وذلك غير مسألة التوقّف ، كيف ولوازم الواجب ممّا لا يمكن فعل الواجب بدونها ، ولا توقّف لها عليها ، ولا يقضي وجوب الواجب بوجوبها كما مرّ ، فالقول بالدلالة في الصورة المفروضة أيضا فاسدة ، إلّا أن يحصل هناك توقّف للترك على بعض الأضداد ، أو واحد منها ؛ فيجب الإتيان به لأجل ذلك على حسب ما مرّ ، وذلك أمر آخر.

نعم ، لو اتّحد الضدّ ـ كالحركة والسكون ـ لم يبعد أن يكون مفاد النهي عن أحدهما هو الأمر بالآخر ، إذ لا فرق عرفا بين أن يقول : «اسكن» أو «لا تتحرّك»

٢٨٤

فذلك أيضا أمر آخر يرجع إلى دلالة العرف في خصوص المقام ، ولا ربط له بما لوحظ في هذا العنوان.

خامسها : أنّ النهي عن الشيء تنزيها هل يدلّ على الأمر بضدّه استحبابا ، أو لا؟ وقد ظهر الحال ممّا مرّ فيه.

أمّا بالنسبة إلى الضدّ العامّ فقد عرفت أنّ الأمر بضدّه عين مفاد الكراهة ، إذ مفاد النهي المفروض طلب تركه على وجه الرجحان الغير المانع من النقيض ، فليس ذلك حكما آخر ثابتا للضدّ ، بل هو عين مفاد النهي عنه كذلك حسب ما مرّ نظيره.

وأمّا بالنسبة إلى الضدّ الخاصّ فقد عرفت أنّه لا دلالة فيه عليه ؛ إلّا اذا فرض توقّف الترك على واحد منها في خصوص بعض المقامات ، أو كان الإتيان بالضدّ رافعا له ، كما في بعض الفروض حسب ما مرّ بيانه ، فيفيد ذلك إذن رجحان ذلك الفعل رجحانا من تلك الجهة غير مانع من النقيض ، فلا ينافي ذلك وجوبه من جهة اخرى ، أو كراهته كذلك ، إذ ليس ذلك حينئذ إلّا جهة مرجّحة ثابتة له كذلك. وقد عرفت أنّ ثبوت الجهات المتخالفة في الفعل ممّا لا مانع منه ، والحكم الشرعيّ يتبع الجهة الأقوى ، ومع التساوي والتخالف في المقتضى يتخيّر بينهما ، ولو اتّحد الضدّ ـ كالحركة والسكون ـ كان الحال فيه هنا على نحو ما مرّ في النهي التحريمي.

سادسها : لو حكم الشارع بإباحة فعل أفاد ذلك إباحة ضدّه العامّ قطعا ، بل هو عين مفاد إباحته ، إذ حقيقة الإباحة تساوي طرفي الفعل والترك ، وأمّا أضداده الخاصّة فلا دلالة فيه على إباحتها أصلا.

نعم ، هي من حيث تحقّق ترك المباح بها ـ كما في بعض الفروض ـ لا رجحان فيها ولا مرجوحيّة ، وهو لا يفيد شيئا ، لوضوح أنّ الواجب أو المندوب أو الحرام لا يجب أن يكون كذلك من جميع الوجوه. نعم ، لو اتّحد ضدّ المباح أفاده إباحته لعين ما مرّ.

* * *

٢٨٥
٢٨٦

معالم الدين :

أصل

المشهور بين أصحابنا أنّ الأمر بالشيئين أو الأشياء على وجه التخيير يقتضي إيجاب الجميع ، لكن تخييرا ، بمعنى أنّه لا يجب الجميع ، ولا يجوز الاخلال بالجميع ، وأيّها فعل كان واجبا بالأصالة. وهو اختيار جمهور المعتزلة.

وقالت الأشاعرة : الواجب واحد لا بعينه ، ويتعيّن بفعل المكلّف.

قال العلّامة رحمه‌الله ونعم ما قال : «الظاهر أنّه لا خلاف بين القولين في المعنى ، لأنّ المراد بوجوب الكلّ على البدل أنّه لا يجوز للمكلّف الإخلال بها أجمع ، ولا يلزمه الجمع بينها ، وله الخيار في تعيين أيّها شاء. والقائلون بوجوب واحد لا بعينه عنوا به هذا ، فلا خلاف معنويّ بينهم. نعم هاهنا مذهب تبرّأ كلّ واحد من المعتزلة والأشاعرة منه ونسبه كلّ منهم إلى صاحبه واتّفقا على فساده ، وهو : أنّ الواجب واحد معيّن عند الله تعالى غير معيّن عندنا ، إلّا أنّ الله تعالى يعلم أنّ ما يختاره المكلّف هو ذلك المعيّن عنده تعالى.

ثمّ إنّه أطال الكلام في البحث عن هذا القول. وحيث كان بهذه المثابة فلا فائدة لنا مهمّة في إطالة القول في توجيهه وردّه. ولقد أحسن المحقّق رحمه‌الله حيث قال بعد نقل الخلاف في هذه المسألة : «وليست المسألة كثيرة الفائدة».

٢٨٧

قوله : (المشهور بين أصحابنا) (١).

لمّا كان حقيقة الوجوب متقوّمة بالمنع من الترك وكان جملة من الواجبات ـ كالواجب التخييري والموسّع ـ ممّا يجوز تركها في الجملة وقع الإشكال هناك في متعلّق الوجوب بحيث ترتفع المنافاة الّتي تتراءى بين الوجوب وجواز الترك ؛ ولذا وقع الخلاف بينهم في عدّة من الواجبات ممّا شأنها ذلك ، وعقدوا لكلّ منها بحثا ، ومن جملتها الواجب التخييري.

ويمكن تقرير الإشكال فيه : بأنّ الوجوب هناك امّا أن يتعلّق بكلّ واحد من الأفعال المعيّنة ، أو بالمجموع ، أو بواحد معيّن ، أو بواحد غير معيّن ، ولا سبيل إلى شيء منها.

أمّا الأوّل والثاني فللزوم عدم حصول الامتثال بأداء واحد منها ، هو خلاف الإجماع.

وأمّا الثالث فلاختصاص الوجوب هناك بذلك الفعل ، فيتعيّن الإتيان به دون غيره.

وأمّا الرابع فللزوم عدم حصول الامتثال بكلّ واحد من تلك الأفعال ، وهو أيضا خلاف الإجماع ، مضافا إلى أنّ الوجوب صفة معيّنة فلا يعقل تعلّقه بأمر مبهم بحسب الواقع.

وقد اختاروا لدفع الإشكال في المقام وجوها ، وقد اختلفت من جهته الأقوال في الواجب التخييري.

منها : ما اختاره كثير من أصحابنا : كالسيّد والشيخ والمحقّق والعلّامة في بعض كتبه ، وعزي القول به إلى المعتزلة وإلى جمهورهم ، بل عزاه في المنية إلى أصحابنا ؛ مؤذنا بإطباقهم عليه ، وهو القول بقيام الوجوب بكلّ واحد من الأفعال المفروضة ، لكن على سبيل التخيير، بمعنى كون ذلك الفعل مطلوبا للآمر بحيث

__________________

(١) في (ف) زيادة : «أنّ الأمر بالشيئين أو الأشياء ... الخ».

٢٨٨

لا يرضى بتركه وترك أبداله. وقد عبّروا عن ذلك بأنّه لا يجب الجميع ، ولا يجوز الإخلال بالجميع ، وأرادوا بعدم وجوب الجميع : عدم وجوب كلّ منها على سبيل التعيين ، وبعدم جواز الإخلال بالجميع : عدم جواز ترك الجميع على سبيل السلب الكلّي.

وتوضيح المقام : أنّ حقيقة الوجوب ـ كما عرفت ـ هي مطلوبيّة الفعل على سبيل الجزم والحتم في الجملة ، بأن يريد الآمر صدور الفعل من المكلّف ؛ ولا يرضى بتركه في الجملة ، فإذا أمر المكلّف بأفعال عديدة على سبيل التخيير بينها فقد أراد حصول كلّ واحد منها على وجه المنع من ترك الجميع بأن لا يكون تاركا للكلّ ، فالمنع من الترك المأخوذ فصلا للوجوب حاصل في ذلك ، كما أنّه حاصل في الوجوب التعييني.

وتفصيل ذلك : أنّ الطلب المتعلّق بالفعل قد يكون مع عدم المنع من الترك بالمرّة ، فلا يكون الترك ممنوعا منه على سبيل السلب الكلّي ، وهذا هو الطلب الحاصل في المندوب. وقد يكون مع المنع من الترك في الجملة على سبيل الإيجاب الجزئي في مقابلة السلب الكلّي المأخوذ في النوع الأوّل ، وهذا هو المأخوذ فصلا للوجوب.

فإن قلت : إنّه ينتقض حدّ الواجب حينئذ ببعض الأفعال الّتي تجب على بعض الأحوال دون بعضها ؛ لحصول المنع من تركه في الجملة ، مع أنّه ليس واجبا مطلقا.

قلت : إنّ الحاصل هناك طلبان متعلّقان بالفعل ، يتقيّد أحدهما بعدم المنع من الترك مطلقا ، والآخر بالمنع منه بخلاف المقام ، فإنّ هناك طلبا واحدا يتقيّد بالمنع من الترك في الجملة ، وهو الّذي ينطبق عليه الحدّ دون الصورة المفروضة ، وحينئذ ينقسم ذلك إلى قسمين:

أحدهما : أن يتعلّق المنع بترك ذلك الفعل بالخصوص ، وهو الوجوب التعييني.

وثانيهما : أن يتعلّق بترك ذلك الفعل وما يقوم مقامه ، وهو الوجوب التخييري.

وحينئذ فالطلب متعلّق بكلّ من الأفعال الّتي وقع التخيير بينها ، وكذا المنع من

٢٨٩

الترك على الوجه المذكور. ولذا صحّ عدّ كلّ منها واجبا على الحقيقة ، وقضية الطلب الواقع على الوجه المفروض حصول الامتثال بفعل واحد منها فإنّ مقتضى ما أخذ فيه من المنع من الترك على الوجه الّذي قرّرنا عدم ترك الجميع الحاصل بفعل البعض.

لا يقال : إنّ قضية ما ذكر من تعلق الطلب بكلّ واحد منها حصول الامتثال بالفعل الثاني والثالث مثلا من تلك الأفعال وإن ارتفع المنع من الترك بفعل الأوّل مع أنّ الحال على خلاف ذلك ، إذ بعد الإتيان بواحد منها لا يبقى هناك تكليف أصلا.

لأنّا نقول : إنّ الطلب الحتمي الحاصل في المقام المتعلّق بكلّ منها متقوّم بالمنع من الترك الملحوظ على الوجه المذكور ، فإذا (١) فرض ارتفاع المنع من الترك بفعل واحد منها قضى ذلك بارتفاع الطلب المتقوّم به ، فلا وجه لتحقّق الامتثال بعد ذلك.

هذا ، وقد ظهر بما ذكرنا : أنّه ليس الطلب في المقام متعلّقا بالأصالة بمفهوم أحدها ، ولا المنع من الترك متعلّقا به كذلك ، وإنّما يتعلّق الطلب بخصوص كلّ من الأفعال المفروضة ، كما هو ظاهر من ملاحظة الأوامر المتعلّقة بها. وكذا المنع من الترك فإنّه قيد مقوّم للطلب المفروض فيدور مداره. غاية الأمر أنّه يصحّ الحكم بعد ملاحظة الأوامر المذكورة بوجوب أحد تلك الأفعال على سبيل التعيين ، وعدم جواز تركه مطلقا ، من غير أن يكون المفهوم المفروض ملحوظا في المكلّف به بوجه من الوجوه ، إذ ليس متعلّق الأمر أصالة إلّا كلّ واحد من الأفعال المفروضة بالخصوص.

ولو فرض تعلّق الأمر أصالة بأداء واحد من تلك الأفعال فليس المكلّف به

__________________

(١) في حاشية (ل) : فرض انتفاء الترك المتعلق للمنع بفعل واحد منها فقد ارتفع المنع المتعلق به وبارتفاعه يرتفع الطلب المتقوم به اذ ليس الحاصل هناك إلّا طلبا خاصا على الوجه المذكور. (نسخة).

٢٩٠

أيضا إلّا خصوص كلّ واحد منها على وجه التخيير ، وإنّما اخذ مفهوم الواحد هناك مرآة لملاحظة كلّ واحد منها ، والحكم إنّما يتعلّق بكلّ من تلك الخصوصيّات دون المفهوم المذكور، كما لو تعلّق صريح الأمر بكلّ منها على سبيل التخيير ، من غير فرق بين مفاد التعبيرين المذكورين أصلا ، فيكون الوجوب التعييني المتعلّق بمفهوم أحدها على الوجه المذكور تابعا لما ذكر من وجوب كلّ منها بخصوصه على سبيل التخيير.

وتفصيل المقام : أنّ كلّا من الوجوب التعييني والتخييري : إمّا أن يكون أصليّا ، أو تبعيّا ، فالوجوه أربعة ، والأمر في الوجوب التعييني الأصلي ظاهر كالوجوب التخييري الأصلي ، كخصال الكفّارة. وأمّا الوجوب التعييني التبعي ـ فكمطلوبيّة أحد تلك الخصال على سبيل التعيين ـ فإنّه تابع لتعلّق الخطاب بتلك الأفعال على سبيل التخيير والوجوب التخييري التبعي ، كوجوب الإتيان بأفراد الطبيعة على سبيل التخيير عند تعلّق الأمر بها.

فكلّ واجب تخييري أصلي يلزمه وجوب تعييني تبعي. كما أنّ كلّ واجب تعييني أصلي يلزمه وجوب تخييري تبعي إذا تعلّق الوجوب بطبيعة كلّيّة ، لا بأن يكون هناك تكليفان مستقلّان يكون أحدهما عينيّا والآخر تخييريّا. إنّما الحاصل في المقام تكليف واحد يختلف الحال فيه بحسب الاعتبارين المذكورين ، فهما اعتباران حاصلان بإيجاب واحد يتعلّق بأحدهما على سبيل الأصالة ، ويتبعه صدق الآخر من غير أن يقوم به فرد آخر من الوجوب ، كما هو الحال في الوجوب التبعي الحاصل للأجزاء بالوجوب المتعلّق بالكلّ ، فإنّ هناك وجوبا واحدا يتعلّق أصالة بالكلّ ، وتبعا بالأجزاء ، فهي واجبة بوجوب الكلّ ، وإن ثبت هناك وجوب آخر للأجزاء من جهة اخرى حسب ما مرّت الإشارة إليه في مقدّمة الواجب ، وذلك نظير ما تقرّر في الدلالة المطابقيّة والتضمّنية ، فإنّ هناك دلالة واحدة لها اعتباران ، يعدّ بالنسبة إلى أحدهما مطابقة ، وبالنسبة إلى الآخر تضمّنا ، فأحد ذينك الاعتبارين تابع للآخر ؛ من غير أن يكون هناك دلالتان متعدّدتان

٢٩١

في الواقع ، تكون إحداهما تابعة للاخرى ، فنقول بمثل ذلك في المقام ، فإنّ الوجوب الحاصل هنا أيضا واحد يختلف الحال فيه بحسب الاعتبارين ، فهناك وجوب متعلّق (١) أصالة بكلّ من تلك الأفعال على وجه التخيير بينهما ، ويتبعه صحّة اتّصاف أحدها بالوجوب الحتمي التعييني ، من غير أن يكون هناك وجوبان وكذا الحال في اتّصاف الماهيّة بالوجوب التعييني فإنّه يتبعه وجوب أفرادها بالوجوب المتعلّق بالطبيعة ، لاتّحادها معها على سبيل التخيير بينها ، فوجوب الأفراد كذلك وجوب نفسي تبعي حاصل بعين وجوب الطبيعة ، حسبما قرّرنا.

فظهر بذلك : أنّ الحال في الواجبات التخييريّة على عكس الواجبات التعيينيّة ، وأنّ كلّ واحد من الخصال المخيّر فيها مطلوب للآمر بخصوصه وإن صدق معه تعلّق الوجوب بالقدر الجامع بينها.

كما أنّ القدر الجامع في الواجب التعييني مطلوب للآمر ، من غير أن تكون خصوصيّة الأفراد مطلوبة بذلك الطلب وإن صحّت نسبته إليها بالتبع ، كما عرفت.

وممّا ذكرنا ظهر : أنّ ما يتراءى من كون المفهوم عرفا من قول السيّد لعبده : «أكرم زيدا» أو «أطعم عمروا» أنّ الواجب مفهوم أحدهما ـ ولذا لو سأل العبد عمّا هو الواجب عليه صحّ عند العقلاء أن يجيبه السيّد بأنّ الواجب واحد منهما ، لا جميعهما ، ولا واحد معيّن منهما ـ مبنيّ على إرادة الواجب التعييني التابع في المقام للتخييري ، فإنّه لمّا كان الظاهر من الوجوب هو الوجوب التعييني صحّ الحكم بأنّ الواجب بمعناه الظاهر هو أحد الأمرين المذكورين ، لا جميعهما ، لوضوح عدم تعيّن الإتيان بهما. ولذا يصحّ الجواب أيضا بوجوب كلّ منهما على سبيل التخيير. وكان ما ذكرناه مقصود جماعة من علمائنا ، حيث حكموا في المقام بتعلّق الوجوب بأحدهما ، كما سنشير إليه.

وعلى ما ذكرنا فالتخيير يتعلّق بأصل الواجب ، لا في ما يتحقّق الواجب به ، كما عزي إلى جماعة.

__________________

(١) في (ف) : حيث إنّه وجوب يتعلّق.

٢٩٢

نعم ، لو جعل الواجب خصوص المفهوم المذكور لم يتحقّق هناك تخيير في نفس الواجب ، وهو ضعيف جدّا ، كما سنشير إليه إن شاء الله.

ومنها : أنّ الواجب في المقام مفهوم أحدهما ، والمنع من الترك حاصل بالنسبة إليه ، واختاره جماعة من الخاصّة والعامّة ، منهم : العلّامة في النهاية ونهج الحقّ ، والسيّد العميدي، والشهيد ، والمحقّق الكركي ، وشيخنا البهائي ، والمحقّق الخوانساري ، والحاجبي ، والبيضاوي.

وعن القاضي حكاية إجماع سلف الامّة عليه. وحكاه في العدّة عن شيخنا المفيد رحمه‌الله وعزاه في نهج الحقّ إلى الإماميّة ، مؤذنا بإطباقهم عليه. وعن ... أنّ الّذي عليه المحقّقون من أصحابنا والمعتزلة والأشاعرة : أنّ الواجب واحد لا بعينه من امور معيّنة.

قلت : يمكن أن يكون المراد بمفهوم أحدها : ما يكون آلة لملاحظة كلّ من تلك الأفعال على سبيل البدليّة ، ويكون المطلوب خصوص كلّ من تلك الخصال على سبيل التخيير بينها والمنع من تركها أجمع ، فيكون ذلك إلزاما لأحد تلك الأفعال من غير أن يكون المطلوب تحصيل المفهوم المذكور لذاته أصلا ، وأن يكون المراد به هو المفهوم الجامع بين الأفعال المفروضة ؛ بأن يكون المطلوب هو تحصيل ذلك المفهوم الحاصل بحصول أيّ منها ، فلا يكون كلّ من الخصال المخيّر بينها مطلوبا بخصوصه ، بل لكونه مصداقا لمفهوم أحدها ، ومتّحدا بذلك المفهوم ، وأن يكون المراد به أحدها على سبيل الإبهام ، فيراد قيام الوجوب بواحد مبهم منها دون غيره ، فيكون غير ذلك المبهم قائما مقامه في الإجزاء ، وأن يكون المراد به واحدا مبهما عندنا معيّنا عند الله ، فإن أتى المكلّف به فلا كلام ، وإلّا أجزأ غيره من الأفعال المفروضة عنه وناب منابه ، وأن يكون المراد به ذلك أيضا ، فيكون الواجب معيّنا عند الله سبحانه ، لكن مع اختلافه بحسب اختلاف اختيار المكلّفين ، فيكشف اختيار كلّ منهم عمّا هو الواجب في شأنه.

فالوجه الأوّل راجع إلى المذهب المختار ، إذ المأمور به حينئذ هو كلّ واحد

٢٩٣

من الخصال بخصوصه ، ويكون كلّ منها مطلوبا بنفسه ، إلّا أنّه يتخيّر المكلّف بينها حسب ما مرّ تفصيله.

فإن شئت عبّرت بأنّ الواجب الّذي لا يجوز تركه هو واحد من تلك الأفعال.

وإن شئت قلت : إن كلّا منها واجب على سبيل التخيير.

والحاصل : أنّ الأمر الحاصل في المقام شيء واحد يصحّ التعبير عنه بالوجهين ، وقد مرّ تفصيل الكلام فيه. ويمكن تنزيل كلام المفيد (١) عليه ، وكأنّه لأجل ذلك قال في العدّة بعد الإشارة إلى القولين المذكورين : إنّ هذه المسألة إذا كشف عن معناها ربّما زال الخلاف فيها.

واستظهر في النهاية كون النزاع بينهما لفظيّا ، كما سيشير إليه المصنّف.

والوجه الثاني مغاير لما اخترناه ، وربّما يتفرّع عليهما بعض الثمرات ، وربّما نشير إلى بعضها.

وقد يوهمه عبارة النهاية ، حيث قال : إنّ التحقيق في هذا الباب : أنّ الواجب هو الكلّي ، لا الجزئيّات ، إلّا أنّ القول به في المقام ضعيف ، حيث إنّ المطلوب في المقام خصوص كلّ من تلك الأفعال دون المفهوم المذكور ، وليس ذلك المفهوم إلّا أمرا اعتباريّا ينتزع من الأفعال المذكورة ، وليس المقصود بالأمر المتعلّق بكلّ من تلك الخصال تحصيل ذلك المفهوم قطعا.

والوجه الثالث لا يظهر قائل به. وقد يشكل الحال فيه أيضا بأن الوجوب معنى متعيّن لا يعقل تعلّقه بالمبهم واقعا ، وقد مرت الإشارة إليه.

ويدفعه : أنّ للمبهم المذكور تعيّنا في الذمّة ، ولذا يصحّ توجيه الأمر به نحو المكلّف ، ألا ترى أنّه يصحّ أن يأمر السيّد عبده بإتيانه غدا برجل ما على وجه الإبهام ، من غير أن يتعيّن شخصه عند السيّد حين أمره لتأمّله في تعيينه؟

نعم ، لو لم يعيّنه إلى وقت تنجّز الخطاب وحضور وقت الحاجة كانت المفسدة الحاصلة فيه من تلك الجهة ، وهي جهة اخرى لا ربط لها بذلك ، ولا مانع من جهتها

__________________

(١) في (ف) : السيّد.

٢٩٤

إذا كان للمكلّف مندوحة عن الخروج عن عهدة التكليف كما في المقام ، حيث يقال بالاكتفاء في الامتثال بإتيانه أو إتيان أحد أبداله.

وأمّا الوجهان الآخران وإن احتملا في المقام ـ وربّما يستفاد من بعض الأدلّة المذكورة للمذهب المختار ما يفيد إبطالهما فتومئ إلى كون ذلك مقصود القائل بتعلّقه بأحدهما ـ فهما موهونان جدّا ، كما لا يخفى ، وستأتي الإشارة إليه إن شاء الله.

ومنها : أنّ الواجب هو الجميع ، لكنّه يسقط بفعل البعض. كما أنّ الكفائيّ يجب على جميع المكلّفين ويسقط بفعل بعضهم ، فلو ترك الجميع استحق العقاب على كلّ منها ، ولو أتى بالجميع استحقّ الثواب كذلك. وهذا القول محكيّ عن البعض ، وربّما يحكى عن السيّد والشيخ ، وهو غلط.

ومنها : أنّ الواجب واحد معيّن لا يختلف الحال فيه ، لكنّه يسقط التكليف بالإتيان به أو بالآخر. وقد حكي ذلك قولا في المقام ، وهو أحد الوجوه في تفسير أحدهما كما عرفت. والظاهر أنّ ذلك هو الّذي احتمله الشيخ في العدّة في تفسير القول بوجوب أحدهما ، حيث إنّه بعد احتماله إرجاع القول المذكور إلى المختار وقوله : إنّ ذلك يكون خلافا في عبارة لا اعتبار به قال : وإن قال : إنّ الّذي هو لطف ومصلحة واحد من الثلاثة ، والثنتان ليس لهما صفة الوجوب ، فذلك يكون خلافا في المعنى ، ثمّ احتجّ على إبطاله.

ومنها : أنّ الواجب واحد معيّن عند الله ، لكنّه يختلف بحسب اختلاف المكلّفين فيكشف ما يختاره المكلّف أنّ ذلك هو الواجب في شأنه ، وهذا هو الّذي حكاه المصنّف ، وذكر ـ تبعا للعلّامة في النهاية ـ إسناد كلّ من الأشاعرة والمعتزلة ذلك إلى صاحبه وتبرّي الفريقين منه. وقد حكاه العضدي عن بعض المعتزلة.

وأنت بعد التأمّل في جميع ما ذكرنا تعرف أنّ الإيراد المتوهّم في المقام يندفع عمّا يقتضيه ظاهر الأمر من وجوب الجميع على وجه التخيير ، حسبما ذكر في الوجه الأوّل ، فلا حاجة إلى التزام التمحّل اللازم على سائر الأقوال المذكورة ،

٢٩٥

بل لابدّ من الجري على الظاهر ، مضافا إلى غير ذلك من المفاسد الواردة على غيره من الأقوال.

نعم ، الوجه الأوّل للقول الثاني متجه ، إلّا أنّك قد عرفت أنّه راجع إلى القول المختار، وأنّه ليس الاختلاف بينهما إلّا في العبارة ، كما نصّ عليه جماعة منهم المصنّف. هذا.

ولنفصّل المقال فيما استدلّ به على هذه الأقوال :

أمّا القول المختار فيمكن الاحتجاج عليه بوجوه :

أحدها : أنّه لا شكّ أنّه قد تشترك أفعال عديدة في الاشتمال على مصلحة لازمة للمكلّف لا يجوز إهمالها في العقل ، من غير تفاوت بينها في ترتّب تلك المصلحة ، فيجب عليه الإتيان بخصوص فعل من تلك الأفعال لإحراز تلك المصلحة إن دلّه العقل على ذلك ، وإلّا لزم دلالة الشرع عليه كذلك ، نظرا إلى وجوب اللطف عليه ، وقضيّة ذلك وجوب كلّ من تلك الأفعال بخصوصه على وجه التخيير بينها حسب ما قرّرنا.

وإن شئت قلت : إنّه يجب عليه واحد من الأفعال المفروضة على النحو الّذي قرّرناه في الوجه الأوّل. وقد عرفت أنّه عين ما اخترناه ، حسب ما اتّضح وجهه ونصّ عليه الجماعة.

فلا وجه إذن للقول بوجوب الجميع وإن سقط بفعل البعض ، لما عرفت من انتفاء المقتضي له ، ولا للقول بوجوب واحد منها دون الباقي ، أو لما عرفت من قيام المقتضي في كلّ منها على نحو واحد ، فلا يعقل ترجيح البعض للوجوب دون الباقي. وقد أشار إلى هذا الوجه في الذريعة وغيره.

ثانيها : ما أشرنا إليه من ورود الأمر في الشريعة بعدّة واجبات على وجه التخيير بينها ، وقضيّة الأدلّة الدالّة على وجوب تلك الأفعال وجوب كلّ منها بذاته على وجه التخيير بينها ، فهناك أفعال متعدّدة متّصفة بالوجوب متعلّقة للطلب بخصوصها على حسب ما قرّرناه ، وقد عرفت أنّه لا مانع عقلا من إيجاب الفعل

٢٩٦

على الوجه المذكور ، فلا قاضي بصرف تلك الأدلّة عن ظواهرها وارتكاب خلاف الظاهر بالنسبة إليها من غير قيام باعث على صرفها.

ثالثها : اتّفاق الأصحاب على القولين الأوّلين ، بل اتّفاق الاصوليّين عليه ، عدا شذوذ لا عبرة بأقوالهم في المقام ، وقد عرفت إرجاع أحدهما إلى الآخر ، وكون النزاع بينهما لفظيّا ، فيتعيّن البناء على القول المذكور ، ويبطل به سائر الأقوال المنقولة. وكأنّه لذا لم يتعرّض المصنّف رحمه‌الله في المقام للاحتجاج على ما ذهب إليه ، واقتصر على إرجاع أحد القولين إلى الآخر.

رابعها : أنّ جميع الأقوال المذكورة في المسألة منحصرة في ما ذكرناه ، وقد عرفت إرجاع القولين الأوّلين إلى أمر واحد ، وانتفاء الخلاف بينهما في المعنى وسائر الأقوال بيّن الوهن ، لما فيها من ارتكاب امور يقطع بفسادها ، حسب ما هو ظاهر ممّا قرّرناه ، فتعيّن الأخذ بما اخترناه.

خامسها : أنّه لا سبيل إلى القول بوجوب الجميع على وجه الجمع ، لعدم تعلّق الأمر بها كذلك ، ولا القول بوجوب واحد منها ؛ لورود التخيير بينه وبين غيره. ومن الواضح عدم جواز ورود التخيير من الحكيم بين ما له صفة الوجوب وما ليس له ذلك ، كيف ولو اشتمل الآخر أيضا على المصلحة المترتّبة على الواجب لم يعقل ترجيح أحدهما بالوجوب دون الآخر ، وإن لم يشتمل عليه لم يجز التخيير المذكور ؛ لما فيه من تفويت مصلحة الواجب ، وعلمه بأنّه لا يختار إلّا الواجب لا يحسن التخيير المذكور. كما لا يحسن التخيير بين الواجب والمباح إذا علم أنّه يختار الواجب ، وإذا بطل الوجهان تعيّن القول بوجوب الجميع على سبيل التخيير ، أو وجوب أحدهما على سبيل البدليّة على النحو الّذي قرّرناه ، وقد عرفت أنّ مفاد أحدهما عين الآخر فثبت المدّعى.

حجّة القول بكون المكلّف به أحدهما لا بعينه امور :

منها : أنّ الإنسان لو عقد على قفيز من صبرة لم يكن المبيع قفيزا معيّنا ، وكان الخيار للبائع في التعيين ، فالواجب هناك قفيز غير معيّن ، والتعيين فيه باختيار المكلّف. وكذا الحال في غيره من الواجبات التخييريّة من غير تفاوت أصلا.

٢٩٧

ويدفعه : أنّ ذلك إمّا محمول على الإشاعة إن كان العقد مستقلّا في إفادة الانتقال ، وحينئذ فلا إشكال ولا يرتبط بالمدّعى ، وإلّا كان العقد وتعيين البائع معا باعثا على انتقال المعيّن من دون أن ينتقل شيء إلى المشتري قبل تعيينه ، لوضوح أنّ المنتقل إليه ليس أمرا كلّيا في الذمّة ، لعدم تعلّق القصد به ، ووجود الكلّي في الخارج ليس إلّا في ضمن المعيّن ، والمفروض أنّه لم ينتقل إليه شيء من القفران المعيّنة قبل اختياره ، وانتقال غير المعيّن إليه في الخارج غير معقول ، فلا ينتقل إليه شيء بنفس العقد.

غاية الأمر أن يحصل الانتقال به وبالاختيار : إمّا بأن يكون جزءا أخيرا من الناقل ، أو يكون كاشفا عن الانتقال بالعقد ؛ كما هو الحال في عتق أحد العبيد وطلاق إحدى الزوجات إن قلنا بصحّته ، وذلك أمر يتبع قيام الدليل عليه ، ولا يتصوّر القول بانتقال الجميع إليه على سبيل التخيير ؛ كما يقال بوجوب الجميع كذلك في المقام. فالفرق بين المقامين ظاهر ، ووجوب الدفع الحاصل في المقام تابع للانتقال ، فلا يصحّ القول بالتخيير بالنسبة إليه دونه ، ولو أمكن القول به فهو مطابق لما ذكرناه ، لما عرفت من أنّ وجوب أحد الأفعال على الوجه المذكور عين ما اخترناه.

ومنها : أنّ القول بالتخيير يؤدّي إلى أن يكون المكلّف مخيّرا بين عبيد الدنيا كلّها ، وكذا الكسوة والإطعام ، وذلك فاسد ؛ كذا ذكره السيّد ، ومحصّله : أنّه لو لم يكن مفاد التخيير وجوب أحدها لكان مفاد التخيير بين الجزئيّات عند إيجاب الطبيعة هو التخيير بين جميع الأفراد الغير المحصورة ، حسب ما قرّر ، ووهنه ظاهر ؛ للفرق الظاهر بين المقامين ، ومع الغضّ عنه فليس متعلّق التخيير إلّا القدر الممكن من الأفراد دون جميعها ممّا لا يتعلّق قدرة المكلّف بها.

ومنها : أنّه لو نصّ على أنّ ما أوجب عليه واحد لا بعينه لكان ذلك هو الواجب عليه ، وكذا لو خيّر بين تلك الأفعال لاتّحاد مؤدّى العبارتين.

ويدفعه : أنّه إن اريد بوجوب أحدهما هو الوجه الأوّل الّذي قرّرناه ـ كما هو

٢٩٨

الظاهر من العبارة المذكورة ـ فما ذكره حقّ ، وقد عرفت اتّحاد مؤدّى اللفظين وكون الاختلاف بين القولين لفظيّا لا يرجع إلى طائل.

وإن اريد به أحد الوجوه المتأخّرة فالقول باتّحاد مؤدّى العبارتين حينئذ واضح الفساد ، وإيجاب واحد لا بعينه على بعض الوجوه المذكورة غير جائز من أصله ؛ لوضوح أنّ الوجوب أمر معيّن لا يمكن تعلّقه خارجا بالمبهم.

وإن اريد به المعيّن في الواقع المبهم عند المكلّف فهو أيضا غير جائز في الجملة (١) بعد فرض تساوي الفعلين في وجه المصلحة.

ومنها : أنّه لو فعل المكلّف جميعها لكان الواجب واحدا منها بالإجماع ، فكذا يجب أن يكون الواجب أحدها قبل الفعل ، إذ لا يختلف الحال في ذلك قبل إيجاد الفعل وبعده.

ويدفعه : أنّه إن اريد بالواجب ما لا يجوز تركه بالخصوص فمن البيّن أنّه ليس الواجب كذلك ، إلّا أحدها بالتفسير الّذي ذكرناه ، ولا يختلف فيه الحال قبل الفعل وبعده ، وهو ـ كما عرفت ـ يرجع إلى ما اخترناه.

وإن اريد به ما تعلّق به الإيجاب ولا يجوز تركه في الجملة ـ يعني ـ ما يعمّ تركه وترك بدله ـ فالوجوب بهذا المعنى قائم بكلّ منها ولا يختلف الحال فيه أيضا على الوجهين.

ودعوى الإجماع على قيام الوجوب بهذا المعنى بأحدها بيّن الفساد ، بل دعوى الإجماع على وجوب أحدها عند الإتيان بالكلّ دون الجميع محلّ نظر ، كما سيجيء الإشارة إليه. وقد عرفت أيضا في أقوال المسألة وجود القول بالحكم بوجوب الجميع ، وحينئذ كأنّه لم يلتفت إليه لوهنه.

ومنها : أنّه لو ترك الجميع لاستحقّ العقاب على واحدة منها ، فعلم أنّ الواجب هو أحدها.

ويدفعه : أنّه لا دلالة في ذلك على اتّحاد الواجب ، فإنّ الواجبات المخيّر بينها

__________________

(١) في (ط) : في الحكمة.

٢٩٩

على الوجه الّذي قرّرناه إنّما يكون استحقاق العقاب على ترك واحد منها ، إذ استحقاق العقوبة إنّما يتبع حصول المنع من الترك ، وقد عرفت أنّ المنع من ترك كلّ منها إنّما هو في الجملة بمعنى المنع من تركه وترك ما يقوم مقامه ، فكيف يصحّ الاحتجاج باتّحاد العقاب على عدم وجوب الجميع كذلك مع أنّ القائل به يقول بهذا قطعا؟!

ومنها : أنّه لو كان في كلّ منها جهة موجبة لفعله ليصحّ اتّصافه بالوجوب من جهتها لزم وجوب الجمع بينها مع الإمكان إحرازا للمصلحة الموجبة ، فيخرج بذلك عن حدّ الوجوب التخييري ، وإن كان تلك الجهة في أحدها كان الواجب واحدا منها ، كما هو المدّعى.

ويدفعه : أنّ الجهة الموجبة قد تكون حاصلة بكلّ منها بانفراده بأن لا يحصل تلك المصلحة الموجبة من فعل آخر ، وقد تكون حاصلة بأيّ منها بأن يكون كلّ منها كافيا في تحصيل تلك الثمرة. فعلى الأوّل يجب الجمع بينها بحسب الإمكان ، ويكون الوجوب المتعلّق بها تعيينيّا بخلاف الثاني ، لاستقلال كلّ منها بتحصيل الفائدة المطلوبة ، ولا حاجة إلى الباقي بعد إيجاد واحد منها ، والحال فيه ظاهر من ملاحظة ما عندنا من المصالح المترتّبة على الأفعال ، فإنّه قد يرى الوالد مصلحة لازمة لا يجوز تقويته على ولده ، لكن يقوم بتحصيل تلك المصلحة أفعال عديدة ؛ من غير فرق بينها في الأداء إلى تلك المصلحة ، فلا محالة يوجب عليه حينئذ تلك الأفعال على وجه التخيير ، من غير فرق بينها في ذلك ، وهو الّذي اخترناه.

ويمكن الاحتجاج للثالث : بأنّه لا بدّ للوجوب من محلّ يقوم به : فإمّا أن يقوم بواحد معيّن من تلك الأفعال ، أو بواحد مبهم منها ، أو بالمجموع ، أو بكلّ واحد واحد منها لا سبيل إلى الأوّل ، إذ لا ترجيح مع الاشتراك في المصلحة الموجبة ، ولا إلى الثاني ، إذ لا بدّ من قيام الوجوب بمحلّ متعيّن ، ضرورة عدم إمكان قيام الصفة المتعيّنة بالموصوف المبهم. ولا إلى الثالث ، وإلّا لكان المجموع واجبا واحدا ، فتعيّن الرابع ، وهو المدّعى.

٣٠٠