هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٨٣

كيف ولو كانت واجبة على الوجه الثاني خاصّة لاكتفى في وجودها بمجرّد وجود الواجب؟

فإنّ وجوبها حينئذ إنّما يتفرّع على عدم انفكاكها عن الواجب فيثبت لها الحكم الثابت له بالعرض والمجاز ، وليس الحال كذلك بالنسبة إليها بل الأمر فيها بالعكس بالنسبة إلى المقدّمة السببيّة وفي غيرها لا يكون حصول المقدّمة متفرّعا على حصول ذيها ضرورة.

والحاصل : أنّ هناك فرقا ظاهرا بين عدم انفكاك الشيء عن الواجب وعدم إمكان انفكاك الواجب عن الشيء لتوقّفه عليه ، واللازم للأوّل هو وجوب ذلك الشيء بوجوب ذلك الغير بالعرض والمجاز تبعا للواجب واللازم للثاني زيادة على ذلك وجوبه لأجل الغير على الوجه الّذي قرّرناه وهو أمر ظاهر بعد التأمّل فيما بيّنّاه وهو المدّعى.

وأمّا القول الرابع فقد احتجّ عليه الحاجبي.

أمّا على وجوب الشرط الشرعي فبما توضيحه أنّه لو لم يكن الشرط الشرعي واجبا خرج عن كونه شرطا وهو خلف ، أمّا الملازمة فلأنّه مع البناء على عدم وجوبه يجوز للمكلّف تركه ، فحينئذ إذا تركه وأتى بالمشروط فإمّا أن يكون آتيا بتمام المأمور به أو بعضه، لا سبيل إلى الثاني فتعيّن الأوّل ، إذ الشرط الشرعي لا يتوقّف عليه إيجاد المشروط عقلا ولا عادة.

والمفروض أنّه لا يجب الإتيان به شرعا أيضا فالمكلّف إذا تركه وأتى بالمشروط فقد أتى بجميع ما يجب عليه وذلك قاض بحصول الامتثال والاجتزاء بالإتيان به من دون شرطه وهو ما ذكرناه من اللازم.

وأمّا على عدم وجوب غيره فبجملة من أدلّة القائلين بعدم وجوب المقدّمة وقد مرّ الكلام فيها وفيما يرد عليها.

ويرد على ما احتجّ به على الوجوب في الشرط الشرعي أنّه لا فرق بين الشروط الشرعيّة وغيرها إلّا في كون الاشتراط فيها حاصلا بحكم الشرع وفي

١٦١

غيرها حاصلا من جهة العقل أو العادة ، فبعد ثبوت الاشتراط من جهة الشرع كيف يعقل القول بحصول المشروط من دون شرطه لو قلنا بعدم وجوب الشرط؟ إذ لا ملازمة بين عدم وجوب الشرط وإمكان الإتيان بالمشروط مع انتفائه كما أنّ عدم الوجوب بالنسبة إلى المقدّمات العقليّة والعاديّة لا يقضي بإمكان أداء الواجب من دونها.

غاية الأمر أن يكون التوقّف والاشتراط هناك بالنظر إلى العقل أو العادة وهنا بالنظر إلى الشرع بل نقول : إنّ امتناع الإتيان به من دونه هنا أيضا عقلي بعد ثبوت الاشتراط والتوقّف ، لعدم إمكان الإتيان بالمقيّد من دون القيد ، وخروج القيد عن الواجب لا يقضي بإمكان حصوله من دونه مع دخول التقييد فيه ، وأيضا على ما هو المختار عند العدليّة من مطابقة حكم العقل للشرع يكون الشرط الشرعي راجعا إلى العقلي ؛ غاية الأمر أن يكون الاشتراط معلوما للعقول الضعيفة ويكون حكم الشرع كاشفا عنه فلا وجه للتفصيل بينهما.

وأورد عليه أيضا : بأنّ الكلام في المقام إنّما هو في دلالة مجرّد الأمر بالشيء على الأمر بمقدّمته ، ولا يظهر من البيان المذكور فرق بين الشروط الشرعيّة وغيرها في ذلك ؛ غاية الأمر أنّ الشروط الشرعيّة يجب الإتيان بها من جهة حكم الشرع بوجوبها ، إذ ليس مفاد حكمه بشرطيّة شيء للواجب على ما ذكره إلّا وجوب الإتيان به لأداء ذلك الواجب ، فوجوب الشرائط الشرعيّة معلوم من حكم الشارع ، كما أنّ وجوب الشرائط العقليّة معلوم في حكم العقل ، فليس وجوبها من جهة الأمر بما يتوقّف عليها ، كما هو المدّعى.

ولا يخفى عليك ما فيه ، فإنّ ذلك عين مقصود المفصّل ، فإنّه إنّما يستفيد وجوب الشروط الشرعيّة من وجوب المشروط به بعد حكم الشارع بالاشتراط.

فإن قلت : إنّه لا ربط لما ذكره بكون الأمر بالشيء أمرا بمقدّمته حتّى يصحّ عدّ ما ذكر من القول تفصيلا في المسألة ، فإنّ قضيّة الحجّة المذكورة دلالة حكم الشارع بالاشتراط على وجوب الشرط والأمر به ، وهذا ممّا لا ربط له بكون الأمر بالمشروط قاضيا بوجوبه ، كما هو الملحوظ في المقام.

١٦٢

قلت : من البيّن أنّ مجرّد الحكم بالاشتراط لا يفيد وجوب الشرط ، إذ قد لا يكون المشروط واجبا فلا يعقل وجوب شرطه ، وإنّما يحكم بدلالة الاشتراط عليه بعد الحكم بوجوب المشروط فيكون وجوب الشرط مستفادا من وجوب المشروط بعد ثبوت الاشتراط ، فيندرج ذلك في محلّ النزاع.

وربما يورد في المقام : بأنّه إذا كان الواجب هو الفعل المقيّد بالشرط المخصوص ، كالصلاة المخصوصة الصادرة عن المتطهّر فلا يمكن تحصيلها إلّا بإيجاد سببها وكان التكليف بالصلاة المخصوصة بالخصوصيّة المذكورة تكليفا بأسبابه ، وسببه (١) الأركان المخصوصة مع الطهارة فيلزم تعلّق التكليف بالطهارة كتعلّقه بالصلاة.

وفيه بعد تسليم القائل المذكور لوجوب السبب ، كما هو أحد الاحتمالين في مذهبه أنّه إذا كان الواجب هو الفعل المقيّد لم يصحّ عدّ الإتيان بالسبب الباعث على حصول القيد سببا لحصول الواجب ، إذ ليس الواجب هناك إلّا شيئا واحدا ومن الواضح أنّ مجرّد الإتيان بالشرط ليس سببا لحصول الفعل ، بل ولاقتران الفعل به وإلّا لزم حصول الصلاة بمجرّد الإتيان بالطهارة ، فكيف يصحّ عدّ ذلك من المقدّمة السببيّة على أنّ الحال في الشروط ليست بأعظم من الأجزاء؟ وسيجيء أنّ حكم الجزء حكم سائر المقدّمات فيكون الحكم بوجوبه مبنيّا على وجوب المقدّمة ، فلا يكون نفس الأجزاء واجبة بناء على القول بعدم وجوب المقدّمة فضلا عن السبب الباعث على وجودها ، فكيف يصحّ القول بوجوب السبب المؤدّى إلى وجود الشرط؟

ثمّ إنّ عدّ نفس الصلاة سببا لأداء الواجب مع وضوح كونه أداء لنفس الواجب ، كما ترى ، واحتجّ في النهاية للقائل بوجوب الشرط دون غيره بأنّه لو لم يجب الشرط لم يكن شرطا.

__________________

(١) في نسخة ف بدل «بأسبابه ، وسببه» بأسبابها وسببها.

١٦٣

وأنت خبير بأنّه إن خصّ ذلك بالشروط الشرعيّة ليكون إشارة إلى الدليل المذكور لم يفد ذلك وجوب الشرط مطلقا ، كما هو قضيّة إطلاقه ، وإن أراد به مطلق الشرط لم يتّجه ما ذكره من الملازمة ، ولا يجري ما ذكره ـ مع فساده ـ في غير الشروط الشرعيّة كما لا يخفى.

ولنختم الكلام في المرام ببيان امور :

أحدها : أنّه يجري الكلام المذكور في وجوب المقدّمة وعدمه بالنسبة إلى أجزاء الواجب أيضا نظرا إلى توقّف وجود الكلّ على وجودها ، فلا بدّ من الإتيان بها لأجل أداء الكلّ ، فحينئذ يجب الإتيان بها لأجل أدائه بناءا على القول بوجوب المقدّمة ولا يجب الإتيان بها بناءا على عدم وجوبها ، فالحال فيها كالحال في المقدّمات من غير فرق ، فالوجوب المتعلّق بها على القول بوجوب المقدّمة توصّلي أيضا ، ودلالة وجوب الكلّ على وجوبها بالاستلزام العقلي كالمقدّمات.

وقد يتخيّل الفرق بين الأمرين بأنّ دلالة وجوب الكلّ على وجوب أجزائه على سبيل التضمّن لاندراجها فيه دون المقدّمات الخارجة ، لأنّه لا يعقل إفادته لوجوبها إلّا على وجه الاستلزام ، فلا وجه لجعل الدلالة في المقامين على نحو واحد.

وعن بعض الأفاضل : أنّ محلّ الخلاف هو الأمور الخارجة عن ظاهر ما تناوله الأمر من الأسباب والشروط وأمّا الأجزاء فكأنّه لا ريب في أنّ الأمر بالكلّ أمر بها من حيث هي في ضمنه ، لأنّ إيجاد الكلّ هو إيجادها كذلك ، وليس ايجاد الكلّ أمرا آخر غير إيجاد أجزائها. انتهى.

وقد قطع الفاضل المحشّي في البحث الآتي بأنّ وجوب الكلّ يستلزم وجوب كلّ من أجزائه ، إذ جزء الواجب واجب اتّفاقا ، ومن جميع ذلك يظهر أنّ دلالة وجوب الكلّ على وجوب أجزائه ممّا لا مجال للتأمّل فيها كيف وقد عدّ دلالة التضمّن من المنطوق الصريح بخلاف المقدّمات؟ فإنّ دلالة الالتزام مبنيّة على ثبوت الاستلزام وهو قابل للإنكار والمنع.

١٦٤

ويدفعه : أنّ هناك فرقا بيّنا بين وجوب الجزء بوجوب الكلّ وفي ضمنه ووجوب الجزء بسبب وجوب الكلّ ولأجله.

والقدر المسلّم في المقام هو الوجه الأوّل ، ولا ريب أنّ المتّصف بالوجوب على الحقيقة إنّما هو الكلّ وأنّ الجزء إنّما يتّصف به من جهة اتّصاف الكلّ به فذلك الاتّصاف منسوب إلى الكلّ بالذات وإلى أجزائه بالعرض ، نظير ما ذكرناه في المقدّمات ، وقد عرفت أنّ ذلك غير المتنازع فيه في المقام إلّا أنّ ملاحظة وجوب الأجزاء كذلك على سبيل التضمّن وملاحظة وجوب المقدّمات على سبيل الالتزام.

وأمّا الوجه الثاني فيتوقّف القول به على وجوب المقدّمة فهو وجوب غيريّ متعلّق بذات الجزء من حيث توقّف الكلّ عليه وكون إيجاده مؤدّيا إلى إيجاد الكلّ ، وهذه الدلالة على سبيل الالتزام في المقامين من غير فرق بين الأمرين ، وقد حكم غير واحد من المتأخرين بعدم الفرق بين أجزاء الواجب والامور الخارجة عنه في جريان البحث المذكور.

نعم لو تحقّق هناك إجماع من الخارج على وجوب الأجزاء على الوجه المذكور فهو أمر آخر ، وهو محلّ تأمّل وكان دعوى الاتّفاق في المقام مبنيّ على الخلط بين الوجهين المذكورين أو أنّه مبنيّ على ظهور الحال عنده من الدليل المذكور فتوهّم الاتّفاق عليه من جهته ، لوضوحه عنده بحيث لا يذهل عنه أحد من أهل العلم وليس الحال على ما زعمه كما عرفت ، بل الظاهر عدم الفرق بين الأجزاء وغيرها في ذلك.

هذا إذا قام الوجوب بالكلّ من حيث إنّه كلّ دون ما إذا قام بالأجزاء وبعبارة اخرى إنّما يكون الحال على ما ذكر إذا قام الوجوب بمجموع الأجزاء لا بجميعها.

وتوضيح الحال : أنّ الصفات العارضة للكلّ قد يكون عارضة لمجموع الأجزاء من دون أن يكون عارضة لكلّ منها كما في الوحدة العارضة على الكلّ وقد يكون عروضه للكلّ عين عروضه لأجزائه ، كعروض السواد على الجسم فإنّه كما يتّصف به الكلّ على سبيل الحقيقة كذلك أجزاؤه.

١٦٥

وحينئذ فنقول : إنّ عروض الوجوب للكلّ يتصوّر على كلّ من الوجهين المذكورين ، فإنّه قد يكون مطلوب الأمر هو ايجاد الكل من حيث إنّه كلّ حتّى أنّه لو أتى به ناقصا لم يكن مطلوبا له ولا راجحا عنده ، كما هو الحال في وجوب الصلاة وقد يكون مطلوبه هو جميع الأجزاء بأن لا يكون للهيئة الاجتماعيّة مدخليّة في تعلّق الوجوب بالأجزاء ، فيكون نسبة الوجوب إلى الأجزاء على نحو نسبته إلى الكلّ ، كما في وجوب الزكاة وصيام شهر رمضان بالنسبة إلى أيّامه ، لقيام الوجوب حقيقة بكلّ جزء من أجزاء الزكاة وكلّ يوم من أيّامه ، ولذا يحصل الامتثال بحسبه بالنسبة إلى كلّ منها فليس الكلّ إلّا عنوانا لأجزائه ويكون الحكم متعلّقا بالأجزاء ، فهي حينئذ مطلوبة بالذات على وجه الحقيقة بخلاف الوجه الأوّل.

فالفرق بين الوجهين نظير الفرق بين العامّ المجموعي والاستغراقي ، فكما أنّ هناك اعتبارين حاصلين في الحكم المتعلّق بالجزئيّات كذا في المقام بملاحظة الأجزاء فكلّ الأجزاء في الصورة الاولى متعلّق للطلب على سبيل الحقيقة بعنوان واحد ـ أعني عنوان الكلّ من حيث هو ـ وليست دلالته على الأجزاء مقصودة إلّا بقصد الكلّ ، كتعلّق الحكم بها من غير أن يتعلّق القصد ولا الحكم بشيء منها في نفسه ولا من حيث أدائه إلى أداء الكلّ.

ولو قلنا بدلالته على ثبوت الحكم للأجزاء من الحيثيّة المذكورة فهي بملاحظة اخرى غير تلك الملاحظة وتلك الأجزاء في الصورة الثانية متعلّقة للطلب حقيقة بعنوان واحد أيضا ـ أعني بملاحظة الكلّ ـ لكن لا يتعلّق الحكم به من حيث هو كلّ ، بل لما جعل ذلك العنوان مرآتا لملاحظة ماله من الأجزاء فكلّ من تلك الأجزاء متعلّق للطلب على سبيل الحقيقة ، ودلالة وجوب الكلّ على وجوبها كذلك على سبيل التضمّن ، فلا بدّ من الفرق بين الصورتين وما ذكرناه من أنّ دلالته على وجوب الأجزاء من باب المقدّمة من جهة استلزام وجوب الكلّ لوجوبها إنّما هو في الصورة الاولى خاصّة.

ثمّ اعلم أنّ هناك فرقا بين وجوب الاجزاء من باب المقدّمة ووجوب

١٦٦

المقدّمات ، فإنّ الأجزاء إنّما يكون مطلوبة لأجل أداء الواجب بحصولها وسائر المقدّمات إنّما يتعلّق الطلب بها لأدائها إلى أداء الواجب ، ويتفرّع على ذلك عدم إمكان أداء الواجب مع تحريم الجزء مطلقا بخلاف المقدّمات الخارجة عن الواجب.

وتوضيح المقام : أنّ مقدّمة الواجب وجزءه إن كانت منحصرة في المحرّم كان التكليف بالواجب ساقطا إلّا إذا كان اهتمام الشارع بأداء ذلك الواجب أعظم من ترك ذلك المحرّم ، فلا يقضي ذلك حينئذ بسقوط الواجب إلّا أنّه لا تحريم حينئذ للمقدّمة أو الجزء المفروضين وإن لم يكن المقدّمة أو الجزء منحصرة في المحرّم لكن اختار المكلّف أداءها بالمحرّم ، فلا يمنع ذلك من أداء الواجب وصحّته بالنسبة إلى المقدّمة بخلاف الجزء ، إذ مع حرمته لا يمكن اتّصاف الكلّ بالوجوب وذلك لتقوّم الكلّ بأجزائه فإذا كان الجزء حراما لم يكن الكلّ الحاصل به راجحا ؛ أقصى الأمر حينئذ اختلاف الجهتين في اجتماع الواجب والحرام.

والتحقيق عدم تصحيح ذلك اجتماع الحكمين كما سيجيء تفصيل القول فيه إن شاء الله ، ولا يجري ذلك بالنسبة إلى المقدّمة ، لخروجها عن حقيقة الواجب فيكون اختيار المحرّم مسقطا لما تعلّق به التكليف من المقدّمة ، لحصول الغرض منها ، ولا مانع حينئذ من رجحان الفعل مع مرجوحيّة ما يوصل به إليه بخلاف الجزء.

ومن ذلك يظهر الحال فيما إذا انحصرت المقدّمة في المحرّم وتصدّى المكلّف لإتيانها ، فإنّه إن كانت المقدّمة متقدّمة على الفعل قضى اختيارها بتعلّق الوجوب بالمكلّف بعد حصولها إذ لا مانع حينئذ من تعلّق الأمر ، وإن كانت مقارنة للفعل منع ذلك من تعلّق الأمر ، وذلك لانتفاء التمكّن شرعا من أداء المقدّمة ، ومن البين أنّ جميع الواجبات مقيّدة بالنسبة إلى التمكّن منها ومن مقدّماتها.

نعم قد يصحّ تعلق الأمر به فيصحّ الفعل حينئذ في بعض الوجوه حسبما يأتي الإشارة إليه إن شاء الله.

١٦٧

ثانيها : أنّه هل يتصوّر تقدّم وجوب المقدّمة على وجوب ذيها بحيث لو علم أو ظنّ تعلّق الوجوب بذي المقدّمة بعد ذلك وجب عليه الإتيان بالمقدّمة قبل وجوبها أو أنّها لا تجب إلّا بعد وجوب ذيها ، وليس الكلام في ذلك مبنيّا على القول بوجوب المقدّمة ، بل يجري على القول بعدم وجوبها أيضا إذا كانت ممّا تعلّق الأمر بها أصالة لأجل غيرها.

والحاصل : أنّه إذا كان الوجوب المتعلّق بالفعل غيريّا سواء كان ثبوته له على وجه التبعيّة أو بالأصالة ـ كما في الوضوء بالنسبة إلى الصلاة الواجبة ـ فهل يتوقّف وجوبه على وجوب ذلك الغير أو يمكن القول بوجوبه قبل وجوب الآخر؟ قولان.

والمحكيّ عن ظاهر الجمهور البناء على الأوّل من غير إشكال فيه ولذا قطعوا بعدم وجوب الوضوء قبل وجوب شيء من غاياته.

وذهب جماعة ـ منهم صاحب الذخيرة والمحقّق الخوانساري ـ إلى الثاني وزعموا أنّه لا مانع من أن يكون الفعل واجبا لغيره قبل وجوب غايته إذا كان وجوبها في وقتها معلوما أو مظنونا.

واحتجّ للأوّل بأنّ السبب في وجوب ما يجب لغيره هو وجوب ذلك الغير ولذا يسقط وجوبه عند سقوط الوجوب عن الغير ، فلا يتعقّل تقدّم وجوبه على وجوب ذلك الغير إذ لا يتقدّم المعلول على علّته.

وأورد عليه بالمنع من كون العلّة في وجوب المقدّمة منحصرة في وجوب ذيها ، لجواز أن يكون العلّة فيه أحد الأمرين من ذلك ومن العلم أو الظنّ بوجوبه في المستقبل مع مطابقته للواقع فلا مانع إذن من وجوبها قبل وجوب الغاية نظرا إلى حصول العلّة الثانية.

ويدفعه : أنّ المقصود من العلم أو الظنّ بوجوب الغير في وقته هو وجوبه مطلقا ولو مع ترك مقدّمته قبل وجوبه ، فيكون ترك المقدّمة باعثا على ترك الواجب في ذلك الوقت ، لعدم التمكّن منه حينئذ أو يراد بذلك العلم أو الظنّ بوجوبه على فرض وجود مقدّمته لا مع عدمه ، فعلى الأوّل يتمّ ما ذكر من الوجه

١٦٨

لكن تحقّق الوجوب على النحو المذكور غير معقول ، إذ لا يصحّ إيجاب الفعل مع عدم القدرة على مقدّمته وعلى الثاني لا وجه لتعلّق الوجوب بالمقدّمة ؛ مع أنّ المفروض كون وجودها شرطا لوجوب غايتها فمع انتفاء وجودها لا يتحقّق وجوب الغاية في الخارج حتّى يجب المقدّمة لأجله فلا يعقل هناك علم أو ظنّ بوجوبه مع ترك مقدّمته.

ويمكن دفع ذلك تارة باختيار الوجه الأوّل ولا مانع من وجوب الفعل حينئذ إذا كان ترك المقدّمة عن اختيار المكلّف بناءا على انّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ، وقد مرّت الإشارة اليه وإلى ما فيه وأيضا قد تكون المقدّمة مقدورة بعد تعلّق الوجوب بالفعل ، وحينئذ فيتصف الغاية بالوجوب في وقتها فلا مانع من تعلّق الوجوب بمقدّمتها بعد العلم أو الظنّ بذلك وجوبا موسّعا فيتخيّر المكلّف بين أدائه قبل دخول وقت الغاية وبعده.

وتارة باختيار الثاني ، وما ذكر من كون وجوب الفعل مشروطا حينئذ بوجود مقدّمته فلا يتصوّر حينئذ وجوب مقدّمته للاتّفاق على عدم وجوب مقدّمة الواجب المشروط مدفوع بأنّه إنّما لا يتّصف مقدّمة الواجب المشروط بالوجوب من جهة الأمر المتعلّق بذلك الواجب لتوقّف تعلّقه به على وجود ذلك الشرط ، فلا يعقل وجوب ذلك الشرط بالأمر الّذي يتعلّق بالمشروط على تقدير وجود الشرط وأمّا وجوبه بأمر آخر متعلّق بالمقدّمة لأجل الإيصال إلى الغاية الآتية فلا مانع منه ، وحينئذ فيتقدّم وجوب المقدّمة على وجوب ذيها من جهة تعلّق ذلك الأمر بها ، وأيضا لا توقّف لوجوب الواجب بعد ذلك على وجود الشرط المذكور ، بل إنّما يتوقّف على القدرة عليه فإذا كانت القدرة عليه حاصلة مع التأخير لم يكن ذلك من قبيل وجوب مقدّمة الواجب المشروط ، وحينئذ فالقول بتوقّف تعلّق الوجوب به على فرض وجود مقدّمته غير متّجه إلّا بالنسبة إلى المقدّمة الّتي لا يتمكّن منها مع التأخير لا مطلقا.

وفيه : أنّ كون مجرّد العلم أو الظنّ بوجوب الواجب فيما بعد ذلك علّة لوجوب

١٦٩

الفعل قبله ممّا لا وجه له ، لوضوح أنّ وجوب الفعل شرعا لا بدّ أن يستند إلى طلب الشارع إمّا أصالة أو تبعا ، وليس مجرّد العلم بوجوب ذلك الفعل فيما يأتي قاضيا بالأمر بما يتوقّف عليه قبل وجوب ذلك الشيء بشيء من الوجهين المذكورين ، أمّا الأوّل فواضح وأمّا الثاني فلأنّه إذا لم يكن نفس وجوب الشيء فيما يأتي قاضيا بوجوب ما يتوقّف عليه قبله لم يعقل أن يكون مجرّد العلم به سببا لحصوله.

وتوضيح ذلك أنّ هناك وجوبا للفعل في المستقبل ووجوبا لما يتوقّف عليه قبل وجوب ذلك الفعل وعلما بوجوب ذلك الفعل في المستقبل وعلما بوجوب المقدّمة قبل ذلك ، وغاية ما يتخيّل في المقام حصول الملازمة بين الوجهين ، ويتفرّع عليه الملازمة بين العلمين بعد العلم بالملازمة المذكورة واعتبار الملازمة بين العلم بوجوب الفعل في المستقبل ونفس وجوب المقدّمة قبل وجوبه ممّا لا يعقل وجهه ، فإنّه إذا لم يكن هناك ملازمة بحسب الواقع بين وجوب الفعل في المستقبل ووجوب مقدّمته قبله ، لوضوح فساد حصول اللازم قبل حصول الملزوم لم يعقل تأثير العلم بالأوّل في وجود الثاني ولا العلم به.

نعم يمكن أن يتعلّق من الشارع أمر أصليّ بالمقدّمة منوطا بالعلم أو الظنّ بل مجرّد احتمال وجوب ذلك الفعل في المستقبل ، فيتسبّب وجوب المقدّمة المفروضة عن الأمر المتعلّق بها لا عن مجرّد العلم أو الظنّ أو الاحتمال المفروض.

وتحقيق المقام : أنّه إن فسّر الوجوب الغيري بما يكون وجوب الفعل منوطا بوجوب غيره وحاصلا من جهة حصوله من غير أن يكون له مطلوبيّة بحسب ذاته ، بل إنّما يكون مطلوبيّته لأجل مطلوبيّة غيره ، فيكون وجوبه في نفسه عين وجوبه لوجوب غيره لم يتعقّل الوجوب الغيري قبل حصول الوجوب النفسي ، لتفرّع حصوله على حصول ذلك وتقوّمه به وإن تعلّق به أمر أصلي.

وإن فسّر الوجوب الغيري بما لا يكون المصلحة الداعية إلى وجوبه حاصلة في نفسه ، بل يكون تعلّق الطلب به لأجل مصلحة حاصلة بفعل غيره لا يجوز

١٧٠

تفويت المكلّف لها فيجب عليه ذلك ليتمكّن من إتيانه بذلك الغير أمكن القول بوجوبها قبل وجوب ذيها لا من جهة الأمر الّذي يتعلّق بذيها ، بل بأمر أصليّ متعلّق بها ، وحينئذ فلا يكون مطلوبيّة الفعل حاصلة من مطلوبيّة غيره آتية من قبله وإنّما هي حاصلة من الطلب المستقلّ المتعلّق به ؛ غاية الأمر أن تكون الحكمة الباعثة على تعلّق الطلب به تحصيل الفائدة المترتّبة على فعل آخر يكون الفعل المذكور موصلا إليه إن بقي المكلّف على حال يصحّ تعلّق ذلك التكليف به عند حضور وقته ، وقضيّة ذلك استحقاق المكلّف للعقاب عند تركه له ، لمخالفته للأمر المتعلّق به وإن لم يكن تفويته للواجب المشروط عصيانا موجبا للعقاب ، نظرا إلى أنّ تفويته له قبل تعلّق الوجوب به فقد صار المكلّف على حال لا يتعلّق ذلك التكليف به حتّى يكون عاصيا بتركه ، ولا فرق حينئذ بين ما إذا علم وجوب الفعل الآخر في وقته أو ظنّه أو احتمله.

فظهر بما قرّرنا : أنّ الاستناد في وجوب المقدّمة قبل وجوب ذيها إلى الأمر المتعلّق بذيها حال حضور وقته غير متّجه على شيء من الوجهين المذكورين ، وأمّا وجوبها لأجل الغير بأمر مستقلّ فلا يصحّ على الوجه الأوّل ولا مانع منه على الوجه الثاني لكن عدّ ذلك من الوجوب الغيري محلّ تأمّل ، بل لا يبعد كونه نحوا من الوجوب النفسي ، لما عرفت من ترتّب استحقاق العقاب على تركه من غير استحقاق للعقوبة على ترك الآخر.

والوجه للقول الآخر إطلاق ما دلّ على وجوب مقدّمة الواجب ولا مانع من كون الفعل واجبا لغيره ومع ذلك يكون واجبا قبل دخول وقت الغير إذا كان وجوب الغاية في وقتها معلوما أو مظنونا ، ألا ترى أنّ قطع المسافة ليس واجبا لنفسه بل واجب للحجّ ، ومع ذلك لم يجب إيقاعه إلّا قبل زمان الحجّ وكذلك صحّة الصوم مشروط بالاغتسال من الجنابة قبل الفجر عند الأكثر ، وما لا يتمّ الواجب المطلق إلّا به فهو واجب ، فيكون الغسل واجبا للصوم قبل دخول وقته.

وضعفه ظاهر ممّا قرّرنا ، لوضوح أنّ القاضي بوجوب المقدّمة إنّما هو وجوب ذي المقدّمة فمع عدم حصوله كيف يعقل حصول ما يلزمه ويتفرّع عليه؟

١٧١

والقول بكون العلم بوجوبه في وقته أو الظنّ به كافيا في ذلك قد عرفت وهنه. هذا إذا حمل كلام الجماعة على حكمهم بوجوب المقدّمة من جهة ما يتعلّق من الأمر بذيها ، كما هو الظاهر من كلامهم ، وإن أرادوا إمكان وجوبه بأمر من الخارج فقد عرفت أنّه لا مانع منه على الوجه الذي قرّرناه ولا يظنّ أنّ أحدا يخالف فيه.

وفصّل بعض الأفاضل في المقام بين مقدّمات الواجب المضيّق ممّا يعتبر حصولها قبله وغيرها فقال بوجوب الأوّل قبل وجوب ذيها ، لحكم العقل حينئذ بلزوم الإتيان بها ، فلو كانت المقدّمة من العبادات حكم بصحّتها حينئذ ، نظرا إلى تعلّق الأمر بها ، وكذلك الحال عنده في الواجب الموسّع إذا لم يسع الوقت لأدائه وأداء مقدّمته ، كما في مثال الحجّ ، فالمناط في حكم العقل بالوجوب هو ما إذا علم المكلّف أو ظنّ أنّه إن لم يأت بالمقدّمة قبل وجوب ذيها يفوته الواجب في وقته وأمّا في غير ذلك فلا مانع من تعلّق الأمر بالمقدّمة من الخارج ، وأمّا مجرّد الأمر بذيها فلا دلالة فيه على وجوب المقدّمة لا عقلا ولا شرعا.

نعم لو أتى بالمقدّمة قبل وجوب ذيها كان مجزيا إلّا إذا كانت عبادة فيشكل الحال لتوقّفها على الأمر المفقود في المقام والفاضل المذكور ممن لا يقول بوجوب المقدّمة ، فكان قوله بانتفاء الدلالة في المقام من جهة عدم ذهابه إلى وجوب المقدّمة ، وحينئذ فيشكل الحال في حكمه بالوجوب مع الضيق إلّا أن يفصل في وجوب المقدّمة بين الوجهين ، نظرا إلى ادّعائه إدراك العقل لوجوبها في الصورة الاولى دون الثانية ، وحينئذ فلا يكون ما ذكره تفصيلا في هذه المسألة وهو تفصيل غريب في وجوب المقدّمة لا يعلم ذهاب أحد إليه ولا وجه له كما لا يخفى ؛ ومع الغضّ عنه فكما يقول بحكم العقل بوجوب المقدّمة هناك على وجه التضييق فليقل بحكمه بالوجوب في الباقي على وجه التوسعة ، إذ لا فارق بين المقامين فيما سوى الضيق والتوسعة ، والحقّ أنّ حكم العقل منفي في المقامين.

وتحقيق المقام : أنّ الواجب إمّا أن يكون موقّتا أو غير موقّت ، وعلى التقديرين فإمّا أن يكون مضيّقا أو غير مضيّق ، وعلى التقادير فإمّا أن يكون الوقت

١٧٢

في نفسه متّسعا لأداء الفعل ومقدّماته أو لا ، وعلى الأوّل فإمّا أن يطرؤه ما يكون مانعا من اتّساعه للمقدّمة أو يكون هناك مانع آخر من إيقاعها في الوقت لعدم تمكّنه من فعلها مع تأخيرها إلى الوقت أو لا.

فنقول : إنّه إذا لم يكن الوقت شرطا في وجوب الفعل بل كان شرطا في وجوده ، كما هو الحال في الحجّ بالنسبة إلى وقته فلا إشكال في وجوب المقدّمة قبل حضور الزمان المضروب له بناءا على القول بوجوب المقدّمة سواء وسع الوقت لمقدّمات الفعل أو لم يسعه ، وليس ذلك حينئذ من مسألتنا ، إذ ليس ذلك من تقدّم وجوب المقدّمة على ذيها ، ومن ذلك أيضا وجوب غسل الجنابة في الليل للصوم الواجب ، إذ الظاهر كون النهار محلّا لوقوع الصوم لا شرطا في وجوبه ، كما في الصلاة اليوميّة بالنسبة إلى أوقاتها حيث دلّ الدليل على كون الوقت شرطا في وجوبها وصحّتها فما استشهد به من حكينا عنه من بعض المتأخّرين لتقدّم وجوب المقدّمة على ذيها من المثالين المذكورين ممّا لا وجه له ، ولا فرق حينئذ بين سعة الوقت للفعل ومقدّماته وعدمها.

وأمّا إذا كان الوقت شرطا في وجوب الفعل أو لم يكن الفعل موقّتا لكن علم بحصول سببه بعد ذلك فالظاهر أنّه لا وجه للقول بوجوب المقدّمة من جهة الأمر المتعلّق بذيها في الزمان المتأخّر ، كما أشرنا إليه من غير فرق بين سعة الوقت للفعل ومقدّماته وعدم اتّساعه لها وتمكّنه من الإتيان بها حينئذ وعدمه ؛ غاية الأمر أنّه إذا دخل الوقت ولم يسع لأداء المقدّمة أو لم يتمكّن المكلّف من أدائها فيه لا يتعلّق الأمر بذي المقدّمة ، لعدم تمكّنه حينئذ من الإتيان بها فلا يجب عليه ذلك الفعل ولا محذور فيه أصلا.

ودعوى قضاء العقل بأداء المقدّمة قبل الزمان المفروض ـ كما مرّ عن بعض الأفاضل ـ واضح الفساد ، إذ لم يتعلّق أمر بالمكلّف قبل حضور ذلك الوقت حتّى يحكم العقل بوجوب الإتيان بمقدّمته على ما هو شأنه في سائر المقدّمات ، وحكم العقل بوجوب جعل المكلّف نفسه قابلا لتعلّق الخطاب ، وورود التكليف عليه ممّا لا يلتزمه أحد.

١٧٣

وتسليم الفاضل المتقدّم ـ حكم العقل بوجوب المقدّمة قبل وجوب ذيها إذا لم يتّسع الوقت للمقدّمة مع منعه من حكم العقل بالوجوب بعد دخول الوقت مطلقا ولو مع عدم اتّساعه إلّا لأداء الواجب ومقدّمته ـ من الغرائب ، إذ لا فارق بين الصورتين سوى دخول وقت الواجب في الثاني وعدم دخوله في الأوّل ، ومن البيّن أنّ دخول الوقت إن لم يكن مؤيّدا للحكم بالوجوب فلا يكون مانعا منه.

ويأتي على ما ذكره المفصّل المذكور وجوب الإتيان بالمقدّمة قبل وجوب ذيها في جميع الصور الّتي لا يتمكّن المكلّف من أداء المقدّمة في وقت وجوب الفعل لاشتراك الوجه فيها.

ثمّ إنّ ما ذكرناه إنّما هو بالنظر إلى دلالة الأمر الّذي يتعلّق بذي المقدّمة وأمّا لو قام هناك أمر من الخارج على وجوب الإتيان بالمقدّمة قبل وجوب الفعل لأن يتمكّن من فعل المأمور به عند تعلّق الوجوب به فلا مانع منه أصلا كما قرّرناه ؛ ولا فرق حينئذ أيضا بين الصور المذكورة لكن في عدّ ذلك حينئذ من الوجوب الغيري تأمّل أشرنا إليه ، ولا يبعد إدراجه في الوجوب النفسي إن كان الأمر به لإحراز مصلحة حاصلة بفعل غيره ، والأمر في ذلك هيّن بعد وضوح الحكم وعدم تفرّع ثمرة على مجرد إطلاق الاسم.

ثالثها : أنّ وجوب المقدّمة ـ كما مرّ الكلام فيه ـ من لوازم وجوب الواجب فإذا قام دليل على عدم وجوب بعض مقدمات الفعل قضى ذلك بعدم وجوب ذلك الفعل أيضا وحينئذ لو دلّ دليل آخر على وجوبه قامت المعارضة بين الدليلين المذكورين ، فلابدّ من ملاحظة الجمع بينهما بتقييد أحدهما بالآخر ونحو ذلك ان أمكن ذلك بحسب المقام والأخذ بمقتضى التعادل والترجيح.

ويظهر من بعض أفاضل المتأخّرين الجمع بين الأمرين ، نظرا إلى جعله وجوب المقدّمة من مقتضيات وجوب ذيها لا من لوازمه ، فيصحّ الانفكاك بينهما بعد قيام الدليل عليه وقد عرفت ضعفه.

إذا تقرّر ذلك فنقول : إذا ثبت عدم وجوب بعض مقدّمات الفعل سواء ثبت

١٧٤

تحريمه أو كراهته أو غيرهما من الأحكام قضى ذلك بعدم وجوب ذلك الفعل لكن لا مطلقا بل على سبيل الإطلاق ، فلا مانع حينئذ من كونه واجبا مشروطا بوجود تلك المقدّمة ، إذ لا مانع من حرمة مقدّمة الواجب المشروط وثبوت سائر الأحكام لها نظرا إلى ما تقرّر من عدم وجوبها ، وحينئذ فلو دلّ الدليل على وجوب ذلك الفعل في الجملة أمكن الجمع بينهما بحمله على الوجوب المشروط وتقييد إطلاق وجوبه بذلك.

وحينئذ فإن كانت تلك المقدّمة المحرّمة مثلا متقدّمة على الفعل وتصدّى المكلّف لفعلها فلا إشكال حينئذ في تعلّق الوجوب بذلك الفعل وصحّة الإتيان به ، لتعلّق الأمر به بعد الإتيان بمقدّمته المحرّمة ومقتضى الأمر الإجزاء والصحّة. وأمّا إن كانت مقارنة للفعل أو متأخّرة عنه فقد يتخيّل حينئذ عدم صحّة الفعل المذكور ، لكون المقدّمة المذكورة حينئذ من مقدّمات الوجوب فلا يتعلّق أمر بالفعل قبل حصولها فلا يعقل القول بصحّته.

ويمكن دفعه : بأنّ مقدّمة وجود الشيء لا يجب تقدّمها على حصول ذلك الشيء ، بل قد يقارنه وقد تتأخّر عنه ، ألا ترى أنّ الإجازة الحاصلة من المالك في البيع الفضولي شرط في حصول الانتقال حال العقد بناءا على المعروف من كون الإجازة كاشفة لا ناقلة ومع ذلك تتأخّر عنه.

فحينئذ نقول : إنّ مقدّمة الوجوب من مقدّمة الوجود بالنسبة إلى الوجوب ، فحصول الوجوب إذا كان متوقّفا على وجود المقدّمة المذكورة في الجملة فقد يكون متوقّفا على وجود ذلك الفعل أوّلا ، ليتفرّع عليه الوجوب المفروض ، وحينئذ فلا إشكال في عدم صحّة ذلك الفعل قبل حصول مقدّمته المفروضة وقد يكون متوقّفا على حصول ذلك الفعل في الجملة سواء كان متقدّما عليه أو مقارنا له أو متأخّرا عنه ، بل وقد يتوقّف على خصوص حصوله المتأخّر فيكون حصوله أخيرا كاشفا عن وجوب ذلك الفعل أوّلا.

وحينئذ فلا مانع من صحّة الفعل مع حرمة مقدّمته المذكورة وإن كانت

١٧٥

متأخّرة ، لكون وجودها أخيرا ولو على وجه محرّم كافيا في وجوب ذلك الفعل أوّلا ، وقد يجعل من ذلك اعتبار تبقية النصاب إلى انقضاء الشهر الثاني عشر في وجوب الزكاة عند دخوله بناءا على اعتبار بقاء النصاب طول الشهر في الوجوب ، كما ذهب إليه جماعة فلو فرضنا حينئذ حرمة تبقية النصاب كما إذا كان له غريم يطالبه بحقّه وكان الوفاء منحصرا بدفعه لم يمنع ذلك من وجوب الزكاة عليه وصحّة دفعه إذا لم يكن ما يدفعه في الزكاة منافيا لأداء حقّ الغريم ، بل ولو كان منافيا أيضا في وجه.

ويتفرّع على ما قرّرناه أنّ ترك الواجب المضيّق إذا كان من مقدّمات أداء الموسّع لم يمنع تحريمه من صحّة ما يتوقّف عليه من فعل الموسّع ليكون قاضيا بسقوط الأمر المتعلّق به القاضي بفساد فعله ، وسيجيء تفصيل القول فيه إن شاء الله في المسألة الآتية.

رابعها : أنّه قد يتخيّل أنّ الواجب من المقدّمة هو ما يحصل به التوصّل إلى الواجب دون غيره ، فإذا أوجب الشارع علينا الحجّ كان قطع المسافة الموصلة إلى الحجّ واجبا علينا لا مطلقا ، فلو قطع المسافة إلى مكّة المشرّفة وترك الحجّ لم يكن آتيا بالمقدّمة الواجبة ، وكذا لو أتى بالوضوء وترك الإتيان بالصلاة ، ومن ذلك ما إذا كان له صارف عن أداء الواجب ، فإنّه يخرج بذلك سائر ما يأتي به من مقدّمات الفعل عن الوجوب ، فلا مانع حينئذ من تركها حيث إنّه لا إيصال لشيء منها إلى الواجب وإن كان المكلّف تاركا للمقدمة الواجبة أيضا ـ أعني خصوص الموصلة إلى الواجب ـ إلّا أنّ ما يقدم على تركه من الشرائط أو فعله من الموانع وأضداد الوجوب ليس تركا للواجب ولا إقداما على الحرام مع وجود الصارف عن الواجب وعدم إيصال شيء منها إلى فعله على فرض الإتيان بها أو تركها.

وقد يستفاد ذلك من المصنّف في ذيل المسألة الآتية حيث قال : إنّ حجّة القول بوجوب المقدّمة على تقدير تسليمها إنّما ينهض دليلا على الوجوب في حال كون المكلّف مريدا للفعل المتوقف عليها كما لا يخفى على من أعطاها حقّ

١٧٦

النظر ، وكأنّه إنّما خصّ الوجوب بها في تلك الحال من جهة حصول التوصّل بها عند إرادة ما يتوقّف عليها دون ما إذا لم يكن مريدا له ، إذ لا يتوصّل بها حينئذ إلى فعله.

والأظهر كما هو ظاهر الجمهور وجوب المقدّمة من حيث إيصالها إلى أداء الواجب ، فالمقدّمة الّتي لا يتحقّق بها الإيصال إلى الواجب واجب الحصول من حيث التوصّل بها إلى الواجب ، فيجب الإتيان بها والتوصّل إلى الواجب من حينها ، فإذا لم يتوصل المكلّف بها إلى الواجب لم يخرج المقدّمة عن الوجوب ، فإذا وجب علينا شيء وجب الإتيان بما يتوقّف عليه لا من جهة ذاته بل من حيث أدائه إلى الواجب ، ويجب علينا الإقدام على فعل الواجب بعد الإتيان بمقدّمته ، فعدم الإقدام على الواجب بعد الإتيان بالمقدّمة لا يخرج ما أتى به من المقدّمة عن الوجوب فإنّها واجبة من حيث كونها مؤدّية إلى الواجب وإن لم يحصل التأدية إليه لإهمال المكلّف ، فإنّ عدم حصول الأداء بها لا ينافي اعتبارها من حيث كونها مؤدّيا ليحكم بوجوبها من تلك الجهة.

وبالجملة : أنّه لا يتنوّع المقدّمة من جهة إيصالها إلى ذي المقدّمة وعدمه إلى نوعين ليقال بوجوب أحدهما دون الآخر ، بل ليس هناك إلّا فعل واحد يتّصف بالوجوب من حيث كونها موصلة إلى الواجب سواء أتى بها على تلك الجهة أو لا ، وتلك الجهة حاصلة فيها سواء تحقّق بها الإيصال إليه أو لا.

نعم لو فرض انتفاء الجهة المذكورة عن المقدّمة لم تكن واجبة وحينئذ يخرج عن عنوان المقدّمة كما لا يخفى ، فلا فرق في وجوبها بين وجود الصارف الاختياري عن أداء الواجب وعدمه ولو كان هناك صارف عن الواجب خارج عن اختيار المكلّف خرجت به المقدّمة عن الوجوب ، لانتفاء الحيثيّة المذكورة وحينئذ يسقط التكليف بالواجب أيضا.

والتأمّل في الأدلّة المتقدّمة لوجوب المقدّمة قاض بما قلناه ، كما لا يخفى على من أعطاها حقّ النظر ، وقد نصّ على ما ذكرنا غير واحد من أفاضل

١٧٧

المتأخّرين مصرّحا بأنّ ما دلّ على وجوب المقدّمة إنّما ينهض دليلا على الوجوب المطلق إذا أمكن صدور الواجب عن المكلّف. هذا.

ويتفرّع على الوجهين المذكورين امور :

منها : أنّه إذا كان للمكلّف صارف عن أداء الواجب لم يكن ما يقدّم عليه من ترك مقدّماته ممنوعا منه على الأوّل ، إذ المقدّمات المتروكة غير موصلة إلى الواجب مع وجود الصارف عنه وإنّما الممنوع منه هو ترك المقدّمة الموصلة ، وليس ذلك بشيء من تلك التروك ويتفرّع عليه صحّة أداء الواجب الموسّع عند مزاحمته للمضيّق ، إذ لا يتحقّق فعل الموسّع إلّا مع وجود الصارف عن المضيّق ، وحينئذ فلا يكون ما يأتي به من الموسّع منهيّا عنه ليقضي النهي بفساده بخلاف ما لو قيل بالثاني ، لتعلّق النهي به حينئذ لكون تركه مقدّمة لأداء الواجب فيكون واجبا من حيث كونه موصلا إلى الواجب.

ويشكل بأنّه لا إشكال في حرمة ترك المقدّمة الموصلة وكذا في وجوب ترك المانع الموصل إلى فعل الواجب ، فالمكلّف مع وجود الصارف عن الواجب إذا ترك الواجب وترك مقدّمته يكون تاركا لواجب نفسي ولمقدّمته الموصلة إليه ، فكيف يصحّ القول بكون ما يقدّم عليه من ترك المقدّمة جائزا؟ ومجرّد مقارنته لوجود الصارف مع حرمته أيضا لا يقضي بجواز الترك الحاصل منه وإذا ترك الواجب وأتى بضدّه فقد ترك نفس الواجب ومقدّمته الواجبة الّتي هي ترك ضدّه الموصل إليه.

ومن البيّن : أنّ ما أتى به من فعل الضدّ ترك لترك الضدّ الموصل إلى الواجب أيضا فيلزم أن يكون حراما من تلك الجهة وإن لم يكن ترك الضدّ في المقام موصلا إلى الواجب بسوء اختيار المكلّف ولا مانع من اجتماع حصول التركين في المقام بفعل الضدّ كما لا يخفى، فلا يتمّ الحكم بصحّة ما أتى به من الضدّ أيضا ، وسيجيء الكلام في ذلك إن شاء الله.

ومنها : أنّه يصحّ أداء الوضوء ونحوه بقصد الوجوب عند اشتغال الذمّة بالغاية

١٧٨

الواجبة وان لم يأت به لأداء تلك الغاية بل لغاية مندوبة بناءا على الثاني بخلاف الأوّل ، إذ لا يجوز حينئذ قصد الوجوب إلّا إذا أتى به لأداء الغاية الواجبة ولا أقلّ من ظنّه بأدائه إليها إذا لم يلحظ الغاية الواجبة حال أداء الفعل.

ومنها : جواز أخذ الاجرة على فعل المقدّمة في الصورة المفروضة وعدم جوازه على الوجهين ، نظرا إلى ما تقرّر من عدم جواز أخذ الاجرة على الواجبات بناءا على عدم الفرق في ذلك بين الواجبات النفسيّة والغيريّة ، كما مرّت الإشارة إليه.

ومنها : برء النذر بفعلها في الصورة المذكورة لو تعلّق نذره بفعل الواجب أو واجبات عديدة بناءا على الثاني إذا قلنا بشمول الواجب عند الإطلاق للواجبات الغيريّة أو صرّح الناذر بالتعميم بخلاف ما لو بنى على الأوّل.

خامسها : أنّه يجري جميع ما قلناه في مقدّمة الواجب بالنسبة إلى مقدّمات المندوب فيحكم بحصول الندب الغيري في مقدّماته على القول بوجوب مقدّمة الواجب بخلاف القول بعدمه.

والظاهر أنّه لا إشكال في استحباب مقدّمة المندوب إذا أتى بها لأجل أدائها إليه وإن قلنا بعدم وجوب مقدّمة الواجب ، لما تقرّر من أنّ كلّ فعل قصد به الطاعة فهو طاعة وهو غير ما نحن بصدده من بيان استحبابها الغيري ، فإنّ ذلك استحباب نفسي حاصل في مقدّمة الواجب أيضا وإن لم نقل بوجوبها الغيري ولذا ينعقد نذرها من حيث إنّها مقدّمة لأداء الواجب على القول بعدم وجوب المقدّمة أيضا ، ولا مانع من اجتماع الاستحباب النفسي والوجوب الغيري بوجه ، كما أنّه لا مانع من اجتماع الوجوب الغيري والاستحباب الغيري فيما إذا كان الفعل المفروض مقدّمة للواجب والمندوب ، وتضادّ الأحكام لا يقضي بامتناع ذلك مع عدم الاكتفاء باختلاف الجهة مع اتّحاد المتعلّق ـ كما قد يتوهّم ـ فإنّه إنّما يفيد امتناع اجتماع حكمين منها في أمر واحد بحسب الواقع بأن يكون الفعل الواحد واجبا غير جائز الترك ومندوبا جائز الترك لا اجتماع الجهتين ، إذ الحكم حينئذ يتبع

١٧٩

الجهة الأقوى فعند اجتماع الوجوب الغيري والاستحباب النفسي أو الغيري يكون حكم ذلك الشيء هو الوجوب غير أنّه إذا لوحظ ذلك الشيء في نفسه أو بالنسبة إلى غاية اخرى راجحة كان راجحا رجحانا غير بالغ إلى درجة المنع من الترك.

فالحاصل بحسب الواقع جهتان مرجّحتان للفعل إحداهما بالغة إلى درجة المنع من الترك والاخرى غير بالغة إليها.

ومن البيّن أنّه لا تضادّ بينهما فلا مانع من اجتماعهما في أمر واحد ، فإنّ عدم إيصاله الجهة النادبة إلى حدّ الوجوب لا ينافي إيصاله الاخرى إلى ذلك وذلك كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة الواجبة وبالنظر إلى قراءة القرآن ونحوها ، إذ من الواضح عدم سقوط رجحان الوضوء لأجل التلاوة بعد دخول وقت الصلاة ؛ غاية الأمر حينئذ أن يكون الوضوء موصوفا بالوجوب لا غير وذلك لا يستلزم إتيان العامل به على ذلك الوجه ، إذ لا مانع من إتيانه به لا من جهة وجوبه ، بل بجهة اخرى راجحة غير بالغة إلى تلك الدرجة ، فيختلف الحال بملاحظة ذلك بين الوجوب الّذي يكون صفة للفعل وما يكون جهة لإيقاعه ويعبّر عن الأوّل بالوجوب الواقع «صفة» وعن الثاني بالوجوب المجعول «غاية».

فيمكن اجتماع الوجوبين ، كما إذا أتى بالفعل المفروض لأجل كونه واجبا.

ويمكن افتراقهما ، كما إذا أتى بالواجب لأجل رجحانه الغير البالغ إلى درجة الوجوب فيكون آتيا بالواجب لكن لا على جهة وجوبه بل على الجهة النادبة ، ولا يمنع ذلك من أداء الواجب وإن كان عبادة ، لما تقرّر من عدم اعتبار ملاحظة الامتثال للأمر الخاص في أداء الواجب فإنّه بعد العلم برجحان الفعل في الجملة والإتيان به من جهة رجحانه يصحّ الفعل ويتّصف بالوجوب بحسب الواقع ، فيكون المكلّف آتيا بالواجب خارجا عن عهدة التكليف وإن لم يصدق امتثال ذلك الأمر إلّا بعد ملاحظته في الجملة عند الإتيان بالفعل ، فإذا أتى بالفعل على وجه القربة ولو كانت تلك الجهة نادبة إلى الفعل وكان ذلك الفعل عبادة واجبة عليه من جهة اخرى لا يعلمها أصلا أو غفل حال أداء الفعل عنها كان ذلك الفعل

١٨٠