هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٨٣

وفيه يعني بالإصر الشدائد الّتي كانت على من كان قبلنا ، فأجابه الله تعالى إلى ذلك فقال : قد رفعت عن أمّتك الآصار الّتي كانت على الامم السالفة ، وذكر جملة من أحكامها.

وروى في قرب الاسناد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : أعطى الله امّتي ثلاث خصال لم يعطها الأنبياء. وعدّ منها قوله : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(١) يقول من ضيق.

وقد يقال : إنّ التكاليف الشاقّة الّتي كانت على بني إسرائيل إنّما كانت شاقّة بالنسبة إلينا لو كلّفنا مثل تكليفهم ولذلك رفعت عنّا ولم يكن بالنسبة إليهم حرجا وإصرا ، نظرا إلى ما نقل من بسطة الأوّلين في الأعمار والأجسام وشدّتهم وطاقتهم على تحمّل شدائد الامور.

وربما يؤيّده ما ورد في حديث المعراج من قول موسى عليه‌السلام لنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ امّتك لا يطيق ذلك. فيكون الحرج منفيّا في جميع الملل وإنّما يختلف الحال باختلاف أهلها فما هو حرج بالنسبة إلينا لم يكن حرجا حيث شرّع ، لكن الامتنان بنفي الحرج في هذا الدين ورفع الأغلال والآصار يمنع من ذلك.

فالوجه في المقام التمسّك بالأدلّة النقليّة : من الآيات الشريفة ، والأخبار المتواترة ، وإجماع الطائفة المحقّة. قال الله سبحانه : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(٢) وقال عزّ من قائل : (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ)(٣) وقال جلّ شأنه : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(٤) وهو بمنزلة التعليل لحكم إفطار المريض والمسافر.

وأما قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها)(٥) فظاهره عامّ في جميع الامم فالغرض نفي التكليف بما لا يطاق.

ومنه قوله عليه‌السلام : الله أكرم من أن يكلّف الناس ما لا يطيقون (٦). وقوله : لم يكلّف

__________________

(١) قرب الاسناد : ص ٨٤ ح ٢٧٧.

(٢) سورة الحج : ٧٨.

(٣) سورة المائدة : ٦.

(٤) سورة البقرة : ١٨٥.

(٥) سورة البقرة : ٢٨٦.

(٦) البحار : ج ٥ ص ٤١ ح ٦٤.

٧٤١

العباد ما لا يستطيعون (١) ونحو ذلك وأمّا قوله عليه‌السلام : رفع عن امّتي تسعة أشياء ، فتوجيه اختصاصه بالامّة مذكور في محلّه.

وأمّا النصوص الواردة فيما ذكر فكثيرة.

منها : صحيحة زرارة في تفسير آية التيمّم أنّه تعالى أثبت بعض الغسل مسحا ، لأنّه تعلق من ذلك الصعيد ببعض الكف ولا يعلق ببعضها (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ)(٢) والحرج الضيق.

ومنها : صحيحة الفضيل بن يسار في الرجل الجنب يغتسل فينضح من الماء في الإناء فقال : لا بأس (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(٣).

ومنها : صحيحة أبي بصير عن الجنب بيده الركوة والتور فيدخل اصبعه فيه قال : إن كان يده قذرة فليهرقه ، وإن كان لم يصبها قذر فليغتسل منه ، هذا ممّا قال الله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(٤).

ومنها : حسنة محمّد بن الميسر عن الرجل الجنب ينتهي إلى الماء القليل في الطريق ويريد أن يغتسل وليس معه إناء يغرف به ويداه قذرتان ، قال : يضع يده ويتوضّأ ثمّ يغتسل ، هذا ممّا قال الله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(٥).

ومنها : رواية عبد الأعلى عثرت فانقطع ظفري فجعلت على اصبعي مرارة فكيف أصنع بالوضوء؟ قال : يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله تعالى (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) فامسح عليه (٦).

ومنها : موثّقة أبي بصير ، إنّا نسافر فربما بلينا بالغدير من المطر إلى جانب القرية فيكون فيه العذرة ويبول فيه الصبيّ وتبول الدابّة وتروث فقال : إن عرض

__________________

(١) البحار : ج ٥ ص ٣٦ ح ٥٢.

(٢) الوسائل : ج ٢ باب ١٣ من أبواب التيمّم ص ٩٨٠ ح ١.

(٣) البحار : ج ٢ ص ٢٧٤ ح ١٥.

(٤) نور الثقلين : ج ٣ ص ٥٢٤ ح ٢٣٣.

(٥) نور الثقلين : ج ٣ ص ٥٢٤ ح ٢٣٦.

(٦) نور الثقلين : ج ٣ ص ٥٢٤ ح ٢٣٥.

٧٤٢

في قلبك منه شيء فقل هكذا ، يعني أخرج الماء بيدك ثمّ توضّأ فإنّ الدين ليس بمضيق ، فإنّ الله عزوجل يقول : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(١).

ومنها : صحيحة البزنطي ، عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبّة فرّاء لا يدري أذكيّة هي أم غير ذكيّة أيصلي فيها؟ قال : نعم ، ليس عليكم المسألة إنّ أبا جعفر عليه‌السلام كان يقول : إنّ الخوارج ضيّقوا على أنفسهم بجهالتهم ، إنّ الدين أوسع من ذلك (٢).

ومنها : رواية حمزة البزنطي في حديث ، قال : بعد ذكر قضاء الصلاة إذا نام عنها ، والصيام للمريض بعد الصحّة ، وكذلك إذا نظرت في جميع الأشياء لم تجد أحدا في ضيق ـ إلى أن قال ـ وما امروا إلّا بدون سعتهم (٣).

ومنها : النبوي بعثت بالحنيفيّة السهلة السمحاء (٤). وقوله عليه‌السلام دين محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله حنيف (٥). كما قال تعالى.

ومنها : ما أشرنا إليه من رواية الاحتجاج في بيان الآصار الّتي كانت على الامم السابقة ، ورفعت عن هذه الامّة في تفسير الآية الشريفة. إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع في الأخبار.

ويشهد به تتبّع الأحكام كما يظهر من التأمّل في كيفيّة الصلاة وأعدادها ، وسائر العبادات وأحكامها ، كإفطار المريض والمسافر ، والعفو عن دم الجروح والقروح وما دون الدرهم ، ونجاسة ثوب المربّية ، وما لا يتمّ الصلاة فيه ، والمسلوس والمبطون والمستحاضة ، وطهارة ماء الاستنجاء ، وحكم ما يوجد في أسواق المسلمين وأيديهم ، وأصل الصحّة في أفعالهم ، وقاعدة الطهارة والحلّية ، وتشريع التيمّم في المضارّ اليسيرة ، وحكم المشتبه بغير المحصور ، والقصر في صلاة المسافر والخائف ، وسقوط الزكاة عن المعلوفة وغيرها ، والحجّ عن غير

__________________

(١) نور الثقلين : ج ٣ ص ٥٢٤ ح ٢٣٤.

(٢) البحار : ج ٢ ص ٢٨١ ح ٥٤.

(٣) البحار : ج ٥ ص ٣٠١ ح ٤.

(٤) عوالي اللئالي : ج ١ ص ٣٨١ ح ٣ ، وفيه «بعثت بالحنيفية السمحة».

(٥) وسائل الشيعة : ج ٣ باب ٢٣ من أبواب لباس المصلّي ص ٢٨٥ ح ١.

٧٤٣

المستطيع الشرعي ، وتناول الميتة في المخمصة ، وارتكاب المحظورات عند الضرورات ، وعدم العبرة بالشكّ بعد المحلّ ومع الكثرة ، وكفاية الظنّ في الصلاة ، والاكتفاء في مسحات الوضوء بأقلّ المسمّى ، وتشريع التقيّة في مواردها ، وسقوط قضاء الصلاة عن الحائض والنفساء ، وجواز الإفطار للحامل المقرب والشيخ والمرضعة وذي العطاش ، ونفي الضرر والضرار في الشرع ، وشرعيّة التصرّف في البيوت المخصوصة والأنهار العظيمة والأملاك المتّسعة ، والاكتفاء بالشياع في جملة من المقامات ، وبالقسامة في تهمة القتل ، وحكم الأخرس ، وإنظار المعسر ، وإثبات الوصيّة ، وشرعية الخيارات ، والكفّارات ، والديات ، والطلاق ، والرجعة إلى غير ذلك.

وبالجملة فجميع الأحكام الشرعيّة مبنيّة على كمال اليسر والسهولة ، وينتفي عنها أقسام الحرج والمشقّة.

وقد يناقش بوجود التكاليف الشاقّة أيضا ـ كوجوب الجهاد والثبات عليه والصبر على السيوف والأسنّة والرماح وحرمة الفرار عن الزحف ، ولزوم الحجّ على النائي ولو بمسافة سنة أو أكثر ، والصوم ولو في أحرّ الأيّام وأطولها ، والهجرة والتغرّب عن الأوطان في طلب العلم ، ومجاهدة النفس ، والوضوء والغسل في السفر وفي الشتاء بالماء البارد ، والمشاقّ الّتي تكون على جهة العقوبة على الحرام وإن أدّت إلى تلف النفس كالحدود والسياسات إلى غير ذلك ـ فيشكل الجمع بين تلك الأحكام الثابتة وما ورد من نفي بعض التكاليف السهلة الّتي هي دون تلك الأحكام بمراتب شتّى بدليل العسر والحرج ، كما مرّ في عدّة من الأخبار الواردة.

وقد اختلف الأصحاب في الجواب عن ذلك.

فمنهم : من رماه بالإجمال قائلا إنّه لا يمكن الجزم به فيما عدا تكليف ما لا يطاق وإلّا لزم رفع جميع التكاليف ، وكأنّه زعم أنّ التكليف بمعنى الإيقاع في الكلفة فلا يخلو شيء من التكاليف عن نوع من المشقّة ، فالمنفيّ إذن نوع مخصوص من الحرج وحيث لا شاهد على تعيينه فيرجع إلى الإجمال.

٧٤٤

وهو واضح الفساد ، إذ الحرج موضوع للحكم الشرعي ، ومرجعه كسائر الموضوعات إلى اللغة والعرف. ومن البيّن عدم تحقّقه في معظم التكاليف الثابتة ، إذ ليس في مطلق الأفعال الاختياريّة معنى الحرج ، فكيف يعقل ثبوته فيها عند وقوعها في حيّز التكليف ، وإنّما يتحقّق في بعضها فيدلّ ذلك على عدم تعلّق التكليف به ، على أنّ المعلوم من سيرة الفقهاء وطريقتهم التمسّك بنفي الحرج في أبواب الفقه ، كما ورد ذلك عن أئمّة الهدى عليهم‌السلام في مقامات كثيرة مرّت الإشارة إلى جملة منها ، ولو كان مجملا امتنع الاستناد إليه في شيء من الموارد.

وأمّا العسر فقد يقال بكونه أعمّ من الحرج مطلقا ، فقد حكى في النهاية قولا بأنّ الحرج أضيق الضيق.

وعن عليّ بن ابراهيم : أنّ الحرج الّذي لا مدخل له والضيق ما يكون له مدخل له(١).

وفي المجمع فسّر الحرج والضيق بالتكليف بما لا طاقة للعباد به وما يعجزون عنه. لكن قد مرّ في الأخبار تفسيره بمطلق الضيق ، وبه فسّر في الصحاح والقاموس وغيرهما ، يقال مكان حرج أي : ضيق ، وفي الدعاء حرج المسالك ، فيوافق معنى العسر ، إذ كلّ متعسّر فلا يخلو من ضيق. ومع ذلك فالظاهر أنّ العسر أعمّ من الحرج. فصيام المسافر لا يخلو من عسر كما يظهر من الآية وليس من الحرج في الأغلب. فالصواب التمسّك بما جاء في نفي الأمرين جميعا ، وعدم الاقتصار على نفي الحرج خاصّة. وحينئذ فما ثبت من العسر في الأحكام الشرعيّة خارج عن العموم بالدليل ولا يلزم منه التخصيص بالأكثر ، ولو سلّم فإمّا أن يحمل العسر على الحرج لكونه المتيقّن أو يقيّد بما لا يتحمّل مثله في العادات ، كما يظهر من التقييد به في جملة من العبارات فتأمّل.

ومنهم من أنكر موضوع الحرج والمشقّة في شيء من التكاليف الشديدة

__________________

(١) تفسير علي بن ابراهيم : ج ١ ص ٢١٦.

٧٤٥

الواقعة في الشرع من الحجّ والجهاد والزكاة وتحمّل العاقلة للدية ونحوها بناء على أنّ العسر والحرج في الامور ممّا يختلف باختلاف العوارض الخارجيّة ، فقد يصير الحرج باعتبارها سهلا وسعة.

فمنها : جريان العادة بارتكاب أمثالها من دون عوض وتكليف كالمحاربة للحميّة أو بعوض يسير. فما جرت العادة بالإتيان بمثله والمسامحة فيه وإن كان عظيما في نفسه ـ كبذل النفس والمال ـ ليس من الحرج في شيء.

نعم تعذيب النفس وتحريم المباحات والمنع عن جميع المشتهيات أو نوع منها على الدوام على ما كانت عليه طريقة القسّيسين والرهبان حرج وضيق ، ومثله منتف في الشرع.

ومنها : مقابلته بالعوض الكثير ، فإنّا نرى العقلاء يستصعبون الأعمال اليسيرة عند خلوّها عن الأعواض ويعدّون أعظم منها سهلا يسيرا بملاحظة كثرة أعواضها ونفاستها. ومعلوم أنّ ما كلّف الله سبحانه به من الأعمال الشاقّة يقابله ما لا يحصى من الأجر فلا يكون شيء منها حرجا ، وما لم يرض به بأدنى مشقّة فإنّه من الامور الّتي لا يقابلها أجر ولا يستحقّ بفعلها عوض.

ومنها : اندفاع المضارّ العظيمة بفعله ألا ترى أنّ الأدوية المرّة يصعب شربها من دون حاجة ويطلب ذلك لدفع الأمراض المزمنة.

وأنت خبير بأنّ شيئا من ذلك لا أثر له في رفع المشقّة الحاصلة في الأعمال الشاقّة ، وإنّما يقضي بتحمّلها طلبا لما هو أعظم منها أو أخذا بأقلّ المحذورين وأهون المشقّتين.

نعم ربما تقضي العادة بتخفيف المشقّة الحاصلة فيها لصيرورتها كالطبيعة الثانية ، وقد لا يكون في الفعل مشقّة بدنيّة ويكون فيه مشقّة قلبيّة يصعب تحمّلها على النفس تنشأ من فوات المحبوب أو وقوع المكروه كما في الضرر المالي ويكون العلم بفوائدها وأفعالها ، كما لا يشقّ بذل الأموال العظيمة في مقابلة الأعواض المقصودة بخلاف الضرر اليسير الّذي لا يقابل بعوض ، وذلك أمر آخر

٧٤٦

غير ما نحن فيه. على أنّ الوجه المذكور يؤدّي إلى إبطال التمسّك بتلك القاعدة الشريفة في نفي شيء من الحرج عن الدين ، لأنّ وقوعه في الدين يقتضي إذن انتفاء موضوعه لما يترتّب على الدين من الفوائد العظيمة ودفع المضارّ المتصوّرة ، فلا يمكن الحكم حينئذ بارتفاع شيء من التكاليف الشاقّة إلّا بعد إثبات خلوّه عن الفائدة ، ولا يكون ذلك إلّا بعد تحقّق خروجه عن الدين ، فالتمسّك به إذن يشتمل على دور ظاهر. وحمله على الإخبار بأن ليس في الدين تكليف شاقّ بغير فائدة لا يرجع إلى معنى محصل ، إذ لا فرق فيه بين الشاقّ وغيره.

ومنهم من زعم أنّ المراد بنفي العسر والحرج نفي ما هو زائد على ما هو لازم لطبائع التكاليف الثابتة بالنسبة إلى طاقة أوساط الناس والقدر الّذي هو معيار التكاليف ، بل هي منفيّة من الأصل إلّا فيما ثبت وبقدر ما ثبت ، فالغرض إنّ الله سبحانه وتعالى لا يريد بعباده العسر والحرج والضرر إلّا من جهة التكاليف الثابتة بحسب أحوال المتعارف في الأوساط من الناس وهم الأغلبون ، فالباقي منفيّ سواء لم يثبت أصله أصلا أو ثبت ولكن على نهج لا يستلزم هذه الزيادة. وهذا في الوهن نظير سابقه لكونه تقييدا لتلك القاعدة بما يخرجه عن الفائدة من غير علّة ، إذ التكليف المفروض إن كان عليه دليل في الشرع لم يكن حينئذ منفيّا ، وإلّا كان مدفوعا بالأصل ، ولو لا ذلك لتوقّف التمسّك بها على إثبات عدم وروده في الشرع ، فلو توقّف عليها لزم ما ذكر من الدور ، هذا إذا قيّد بغير الثابت من الأحكام فيكون من أدلّة أصل البراءة. ولو قيّد بغير الواقع من التكاليف كان من اللغو الّذي لا يرجع إلى محصّل ، فكأنّه قيل ما جعل زيادة على ما جعل وهو كما ترى.

ومنهم من زعم أنّ أدلّة نفي الحرج إطلاقات وعمومات لابدّ من ملاحظة نسبتها مع أدلّة التكاليف الشرعيّة فيجب الأخذ بقواعد المعارضة ، فإن كانت النسبة بين الدليلين من العموم المطلق لزم تقديم الخاصّ ، وإن كان ذلك من العامّين من وجه تعيّن الرجوع إلى المرجّحات الخارجيّة ، ومع التعادل فعلى الخلاف فيه.

وهذا الوجه أيضا يقتضي قلّة الفائدة في تمهيد تلك القاعدة الشريفة ، لوضوح

٧٤٧

كون نسبتها مع جميع ما يعارضها من العمومات المثبتة للتكاليف من القسم الثاني ، فلو لم يجز التمسّك بها بمجرّدها في تلك الموارد اختصّ بما لا دليل عليه. وحينئذ ففي الاصول العمليّة ما يغني عن التمسّك بها ، بل الصواب تقديمها على العمومات المذكورة مطلقا ، كما يظهر من طريقة الأصحاب في الاستدلال بها على أحكام مواردها من غير تأمّل منهم في ذلك من الجهة المذكورة.

نعم إن قام الدليل على إثبات ما فيه الحرج بحيث كان أخصّ بحسب المورد من تلك الأدلّة مطلقا قدّم عليها لكونه إثباتا للحرج الخاصّ فيخصّ به الدليل العامّ بخلاف العامّين من وجه ، إذ الأدلّة المذكورة حاكمة على أدلّة الأحكام مسبوقة بها ناظرة إليها ، فكأنّها مفسّرة لها مبيّنة لمواردها. ومن المعلوم أنّ أحد الدليلين متى جرى مجرى التفسير والبيان لموارد الآخر قدّم عليه ، إذ ليس المفهوم منهما إذن إلّا ذلك.

ألا ترى ترى أنّه لو أمر المولى عبده بإكرام طوائف من الناس فيهم العدول والفسّاق ـ كالفقهاء ، والحكماء ، والجيران ، والأرحام إلى غير ذلك ـ ثمّ قال : ما أوجبت عليك إكرام الفاسق لم يعقل من الخطابين في العرف والعادة إلّا إخراج الفسّاق من المكرمين في الخطابات السابقة فيرجع الثاني إلى تفسير الأوّل ، فكأنّه قال : أردت من الفقهاء والحكماء وسائر من أمرت بإكرامهم سوى الفسّاق منهم ، بخلاف ما لو قال : لا تكرم الفسّاق ، وكذا الحال فيما نحن فيه. ففرق بين قول القائل ليس عليك حرج وقوله : ما جعلت عليك فيما أمرتك به من حرج أو ما اريد بك العسر فيما اكلّفك ، إذ الأوّل لا نظر له إلى التكاليف السابقة والثاني بيان لما تقدّمه أو تأخّره من الخطابات الّتي تعمّ موارد الحرج ، أو إخبار باختصاصها بغيرها مسوق لإظهار الامتنان بعدم تعلّقها بها. فقوله سبحانه : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(١) بيان لاختصاص المجعولات الشرعيّة والتكاليف الدينيّة بما

__________________

(١) سورة الحج : ٧٨.

٧٤٨

لا حرج فيه على العباد ، فهو ناظر إلى الأحكام المجعولة الّتي يعبّر عن مجموعها بالدين ، وليست الخطابات المثبتة لها ناظرة إلى الدليل المذكور وإن كانت شاملة لما فيه الحرج مقتضية بعمومها لتخصيص نفي الحرج بغير مواردها من حيث استلزام حملها على العموم لذلك لا من حيث النظر إليه والتفسير له ، وبه يظهر الفرق بين الدليلين. وكذا قوله تعالى : (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ)(١) لما فيه من الإشارة إلى المجعولات السابقة أو اللاحقة ، وأنّه ليس في شيء منها ما يفضي إلى الحرج. وكذا نفي إرادة العسر في الآية الاخرى أيضا ناظر إلى ما يريده من الأحكام ، وأنّ المراد منها اليسر دون العسر. وهذا هو الحال في تعارض عمومي الوارد والمورد عليه في بعض المقامات.

وتفصيل الكلام في ذلك مذكور في محلّه ، وسيأتي إن شاء الله تعالى.

وممّا يشهد بتقديم القاعدة المذكورة على عمومات الأحكام ما جاء من الأخبار في التمسّك بها في مقابل بعض العمومات ، كتعليل المسح على نحو الجبائر بنفي الحرج مع عموم ما دلّ على وجوب غسل البشرة أو المسح عليها ، وكان المراد الاستناد إليها في سقوط غسل البشرة أو مسحها لا في إيجاب المسح على الجبيرة. ونحوه ما مرّ في الماء القليل وغيره.

وبالجملة فالأصل سقوط التكليف بحصول الحرج في المكلّف به إلّا ما دلّ الدليل على إثباته بخصوصه كالجهاد وشبهه.

ودعوى قبح ورود التخصيص على تلك الأدلّة على نحو التخصيص في مثل قوله تعالى: (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ)(٢) ممنوعة ، إذ ليست بيّنة ولا مبيّنة والمثال من مستقلّات العقل فلا يقبل التخصيص بخلاف نفي الحرج كما عرفت ، ولا يأبى عن ذلك وروده في مقام الامتنان لظهوره بوضع الحرج عن معظم الأحكام.

وقد يقال : إنّ ما ثبت في الشرع من الجهاد وشبهه فإنّما وقع بصورة المبايعة

__________________

(١) سورة المائدة : ٥.

(٢) سورة آل عمران : ١٠٨.

٧٤٩

من الله سبحانه مع خلقه في قوله سبحانه (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ)(١) الآية. ومن البيّن أنّ بيعها بأعلى القيم وأعلى الثمن ليس من الحرج في شيء ، كما قال تعالى : (فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ)(٢) فتأمّل.

وينبغي التنبيه على امور :

منها : أنّ المنفي بأدلّة نفي الحرج هل هو نوع التكاليف الشاقّة بالإضافة إلى أواسط الناس وإن لم يكن فيها مشقّة بالنسبة إلى أقويائهم دون غيرها وإن كان فيها مشقّة على ضعفائهم ، أو التكاليف الشاقّة بالنسبة إلى أشخاص المكلّفين فلا يسقط التكليف عن القويّ الّذي لا مشقّة عليه ويسقط عن الضعيف الّذي يتعسّر عليه وجهان : والّذي يظهر من عموم الأدلّة ما أشرنا إليه في صدر المسألة من نفي الأمرين جميعا ، فالحكم الّذي يتضمّن الحرج في الأغلب منفيّ عن الشرع ، لبناء أحكام الشرع على ملاحظة حال الغالب من المكلّفين فلا يكلّف الأقوى بما لا يكلّف به أغلب الناس من حيث قوّته على تحمّل ما يضعف عنه غيره. ومع ذلك فلو اتّفق تعسّر الامتثال على المكلّف المخصوص من حيث ضعفه عن تحمّل ما يقوى عليه الأكثر سقط التكليف عنه أيضا ، لأنّ نفي الحرج يقتضي نفي جميع أفراده ومصاديقه.

فإن قلت : إن كان الملحوظ في تلك الأدلّة حال النوع تعيّن الأوّل أو حال الشخص تعيّن الثاني ، فلا وجه للجمع بينهما.

قلت : لمّا كانت التكاليف والأحكام الشرعيّة مجعولة بالنسبة إلى نوع المكلّفين كان الحرج الحاصل في حقّ الأكثر وأفعالها من أصلها ، إذ لم يجعل حكم مخصوص بالنسبة إلى أقوى الناس ، لكن العذر الشرعي قد يختصّ بواحد معيّن فيقضي بسقوط التكليف عنه. ومنه الحرج والمشقّة فيكون منفيّا على كلا الوجهين ، كما هو قضيّة تعلّق النفي بالطبيعة. فزيادة القوّة عن المتعارف لا يقضي بزيادة

__________________

(١) سورة التوبة : ١١١.

(٢) سورة التوبة : ١١١.

٧٥٠

التكليف ، ونقصانها قاض بحصول التخفيف ، لاندراج الحرج النوعي والشخصي معا في الأدلّة بغير منافاة بينهما ؛ فتأمّل.

ومنها : أنّ الأدلّة المذكورة كما تقضي بنفي التكاليف الحتميّة المشتملة على الحرج والمشقّة من الإيجابيّة والتحريميّة فهل يجري في موارد الاستحباب والكراهة أيضا؟ وجهان : من أنّ أحد الأمرين إذا تعلّق بما فيه الحرج استلزم إرادة العسر ، إذ الإرادة أعمّ من الحتم والإلزام وغيره بل يقتضي جعل الحرج في الدين لاندراجهما في الدين أيضا ؛ ومن أنّ موضوع الحرج ينتفي بتجويز الترك وعدم إلزام المكلّف بالامتثال فلا يصدق إيقاع المكلّف في المشقّة.

والوجه أن يقال : إنّ الحرج إن فرض حاصلا في متعلّق الخطاب الواحد قضى عموم دليل نفي الحرج بنفيه ، وإن كان حاصلا في الإكثار من العمل بمصاديق الماهيّات المطلوبة أو في العمل بخطابات عديدة دون أحدها لم يمنع العمل بأحدها من رجحان العمل بالباقي وإن أوجب الوقوع في غاية الحرج والمشقّة. ولذا كان أئمّة الهدى عليهم‌السلام وأصحابهم الأبرار يتحمّلون المشاقّ العظيمة في طاعة الله سبحانه ، وذلك أنّ التكليف المتعلّق بالماهيّة المطلوبة كقوله عليه‌السلام : الصلاة خير موضوع فمن شاء استقلّ ومن شاء استكثر (١) ، ليس من إرادة العسر ولا من جعل الحرج في الدين. وكذا كلّ واحد من الخطابات المتعلّقة بالأدعية والأذكار والصلوات وغيرها لا يصدق عليه ذلك وإن كان العمل بمجموعها مشقّة عظيمة بخلاف ما إذا تعلّق الطلب الواحد بمجموع تلك الأفعال ، فإنّ جعل ما فيه الحرج في الدين وتعلّق الطلب به يقتضي إرادة العسر ولو على سبيل الاستحباب ، فإنّ الإذن في الترك وإن كان رافعا للحرج عن العبد لكنّه لا يمنع من صدق طلب المشقّة وإرادة العسر ، لشمولها للطلب الاستحبابي والنهي التنزيهي أيضا.

ومن هنا قيل بعدم مطلوبيّة الاحتياط في الطهارة والنجاسة والحلّية والحرمة ، إلّا في المقامات الخاصّة وعلى بعض الوجوه المخصوصة.

__________________

(١) البحار : ج ٨٢ ص ٣٠٨ ح ٩.

٧٥١

فإن قلت : إنّ رجحان الأفراد المتكثّرة من الماهيّة المطلوبة والخطابات التعيّنية المتعلّقة بالأفعال المتعدّدة يقتضي تعلّق الطلب بالجمع المتعسّر كما في الطلب الإيجابي ، وإلّا رجع الأمر إلى مطلوبيّة بعض الأفراد والتخيير بين تلك الأفعال.

قلت : هناك فرق بيّن بين الطلب الإيجابي وغيره ، فإنّ الأوّل على الوجه المذكور موجب لوقوع العبد في الحرج لمنعه من الإخلال بالبعض بخلاف الثاني ، لما عرفت من أنّ الإذن في الترك رافع للحرج عنه. وإنّما قلنا بعدم تعلّق الطلب بالمجموع من حيث المجموع أخذا بظاهر نفي الجعل والإرادة للعسر ، ولا يقضي ذلك بنفي جعل الطبيعة المشتركة بين الكلّ والبعض أو خصوص شيء من الخطابات المفروضة بعد عدم وقوع العبد من أجلها في المشقّة. فالفارق بين المقامين هو العرف مع اشتراكهما في عدم الحرج على العبد فتأمّل.

ومنها : أنّ الأدلّة المذكورة كما يقتضي نفي الحرج في التكاليف الأصليّة كذا يقتضي نفيه في الأحكام التبعيّة كالمقدّمات العلميّة ، فإنّ إلزام المكلّف بالفعل عند دورانه بين امور عديدة يتعسّر الجمع بينها ـ كما في الشبهة الغير المحصورة إيجابيّة كانت أو تحريميّة ـ يستلزم إيقاع العبد في الحرج والمشقّة ، بخلاف حكم الاستحباب والكراهه. والفرق بين المقامين هو ما عرفت من الفرق بينهما في المسألة السابقة. ومن أجل ذلك قلنا بعدم وجوب الاحتياط عند انسداد سبيل العلم بالواقع في الغالب وثبوت استحبابه.

وتوهّم انصراف تلك الأدلّة إلى نفس الأحكام المجعولة وهم فاحش ، فإنّ الموجب للحرج هو نفس الإلزام بتلك الأحكام في تلك الحال نظرا إلى استلزامه للجمع المتعسّر كما هو الحال في مقدّمات الوجود فلو توقّف أداء الفعل على مقدّمة متعسّرة قضى نفي الحرج بعدم وجوبه لا بسقوط وجوبها الغيري ، إذ لا يجدي ذلك في رفع الحرج بعد ثبوت التوقّف والأبديّة. وكذا لو كان الحرج في لوازم المأمور به كفى في سقوطه أيضا ، مع عدم اتّصاف اللوازم بالوجوب قطعا.

٧٥٢

وأمّا الطلب الاستحبابي فيمكن الفرق فيه بين مقدّمة العلم ومقدّمة الوجود نظرا إلى اختلافهما في الصدق العرفي على نحو ما عرفت في المسألة السابقة.

ومنها : أنّ الأدلّة المذكورة كما تقضي بنفي الحرج في التكاليف التعيينيّة فهل يجري في التخييريّة الشرعيّة أو العقليّة والكفائيّة والموسّعة أيضا ـ بحيث يكون الحرج في إحدى الخصال أو أحد الأفراد أو بعض المكلّفين أو شيء من أجزاء الوقت قاضيا بخروج ما فيه الحرج عن حيّز التكليف واختصاصه بالموارد الّتي لا مشقّة فيها ، فلا يكون الإتيان بالفرد المتعسّر بعد تحمّل المشقّة في فعله قاضيا بسقوط التكليف من أصله نظرا إلى عدم الإتيان بنفس المأمور به إلّا إذا قام دليل من خارج على سقوط التكليف به ـ أو لا يكون كذلك؟ وجهان : من إطلاق نفي الجعل والإرادة للحرج والعسر فلا يقع في حيّز التكليف لاستلزامه للإرادة والجعل، ومن أنّ تجويز الترك واختيار البدل كاف في رفع المشقّة عن العبد فلا يكون في ذلك حرج عليه.

ويمكن الفرق في ذلك بين التخيير الشرعي والعقلي ، فإنّ الطلب متى تعلّق بالفرد المتعسّر بخصوصه صدق عليه جعل الحرج وإرادة العسر وان لم يرد على العبد مشقّة في ذلك نظير ما عرفت في الاستحباب والكراهة ، بل هو أولى منهما نظرا إلى جواز الترك فيهما لا إلى بدل بخلاف المقام. وأمّا التخيير العقلي الحاصل بين أفراد الطبيعة المأمور بها فالطلب إنّما تعلّق بالكلّي ، فمتى كان في أفراده ما لا حرج في فعله لم يكن في الأمر به إرادة للعسر ولا جعل للحرج نظرا إلى تحقّقه في ضمن الفرد المفروض ، والحرج الحاصل في خصوصيّة بعض الأفراد ليس بواقع في حيّز الطلب فلا ينفيه الدليل ومنه الموسّع ، فإنّ الطلب فيه إنّما تعلّق بالفعل المقيّد بوقوعه في الوقت ، فمتى تيسّر الإتيان به في بعض أجزاء الوقت صدق انتفاء الحرج في ذلك التكليف. فمن تحمّل الحرج في فعله في الوقت الآخر كان ذلك أداء للمأمور وخروجا عن عهدة التكليف به ، من حيث كون فعله مصداقا له وفردا من أفراده وإن لم يكن الخصوصيّة الحاصلة فيه مطلوبة للأمر ، لعدم تعلّق

٧٥٣

الطلب بها بالمرّة بل لو فرض كونها مقدّمة لفعل المأمور به ـ كما زعمه بعضهم ـ كان الحال فيها هو كالحال في المقدّمات المحرّمة إذا عصى المكلّف بفعلها حتّى ينتهي إلى فعل المأمور به حيث لا ينحصر المقدّمة فيها ، كركوب المغصوبة مع إمكان غيرها بخلاف التخيير الشرعي لتعلّق الطلب فيه بالخصوصيّة.

ويمكن التفصيل فيه أيضا بين حصول الحرج في بعض الخصال على الوجه (١) تعلّق به وغير ذلك ، إذ التكليف بها في تلك الحال جعل للحرج على ما ذكر. بخلاف الثاني ، إذ التكليف الواقع بالخطاب المفروض إنّما تعلّق بالامور السهلة. وعروض التعسّر في بعض الخصال لا يقضي بسقوط الخطاب ، لانتفاء الحرج على العبد وعدم اندراجه حينئذ في إطلاق الأدلّة المذكورة وإنّما يندرج فيها عند تعسّر جميعها. وكذا الحال في الواجب الكفائي فإنّ جعل الإيجاب على من يتعسّر عليه الفعل حال الخطاب جعل للحرج ولو على سبيل الكفاية ، بخلاف ما إذا تيسّر الفعل على المكلّفين في حال الخطاب ثمّ عرض التعسّر في حقّ البعض أو تعلّق الطلب بالعنوان الكلّي مع حصول الحرج في خصوص البعض.

نعم يمكن أن يقال بسقوط الوجوب عمّن تعسّر عليه الفعل وإن عصى الباقون بترك المأمور به ، وإلّا فمع ترك الباقين يتحتّم الفعل على المكلّف المفروض فيستلزم إيقاعه في الحرج. أمّا لو تحمل الحرج في فعله قضى ذلك بسقوط التكليف عن غيره وارتفاع العصيان عنه ، لحصول المطلوب ـ الّذي هو القدر المشترك بين فعل الجميع ـ فيقوم غير الواجب مقام الواجب. بل له أن ينوي الوجوب مع ذلك ، لأنّ ترك الغير إنّما يقضي بتعيّن البعض وإلزامه بالفعل بالنظر إلى الواقع ، فإذا تضمّن الحرج سقط عنه. وإنّما يتحقق ذلك في الظاهر عند خروج الوقت وترك الجميع فيأثم الكلّ بذلك ، سوى من كان عليه الحرج. أمّا قبل ذلك فتكليف الجميع بالفعل على سبيل الكفاية باق على حاله ، وليس في حرج البعض

__________________

(١) كذا ، وفي العبارة تصحيف أو سقط.

٧٥٤

ما يمنع عنه على ما عرفت ، فينوي الوجوب الكفائي ويسقط بفعله عن غيره ، لكن لا يأثم بتركه وإنّما يختصّ الإثم بغيره.

فإن قلت : إذا انتفى الإثم عنه في تركه وترك غيره فما معنى وجوبه عليه؟

قلت : يتصوّر ذلك على وجهين كما أشرنا إليهما :

أحدهما : أن يكون ثابتا قبل التعسّر ويكون التعسّر مسقطا له ، إلّا أنّ الفعل الواقع منه مسقط للتكليف عن غيره ، لحصول المطلوب به.

والآخر : أن يكون الوجوب ثابتا للعنوان الكلّي الشامل لمن تعسّر عليه الفعل ، ويكون فائدة شموله حصول الاجتزاء بفعله عن فعل غيره ويكون أثر الوجوب ترتّب الإثم على غيره عند ترك الجميع. ومع ذلك فالأوجه القول بانتفاء الوجوب في حقّه وعدم جواز قصده وتعلّقه بسائر المكلّفين ، فيكون فعله مسقطا للواجب عن غيره من غير أن يكون واجبا على نفسه. وهذا معنى ما هو المختار في الواجب الكفائي.

وأمّا على سائر الأقوال فيه. وفي المخيّر والموسّع ، فيظهر الحال فيها من التأمّل فيما ذكر.

ومنها : أنّ الأدلّة المذكورة هل تنفي الحرج في التكاليف الالتزاميّة الحاصلة باختيار المكلّف للسبب الموجب لها كالنذر والعهد واليمين والشرط والإجارة بل وسائر العقود والإيقاعات الواقعة مع تعسّر الوفاء بمقتضاها وتحمّل الديون والحقوق بالاختيار مع تعسّر أدائها؟ قد يمنع من ذلك من حيث إنّ الحرج في تلك الموارد ليس بأمر مجعول من الشارع ، وإنّما المجعول تجويز الالتزام المذكور وشبهه وليس في نفس الإذن فيه شائبة الحرج ، وإنّما اختار المكلّف إيقاع نفسه في الحرج فلا يندرج في الأدلّة.

وقد يفصّل بين علمه في تلك الحال بتضمّنه للحرج وعدمه. فيقال بسقوط التكليف بما فيه الحرج منها مع جهله بذلك ، إذ لو كلّف بعد ذلك بوجوب تحمّله كان ذلك تكليفا بالحرج وإرادة للعسر ، ولذا يسقط أداء الدين في المستثنيات وعلى

٧٥٥

الوجوه المتعسّرة مع أنّه إنّما يقع على المكلّف باختياره في الغالب. بخلاف ما إذا كان عالما بذلك في حال التحمّل ، فقد يقال في المثال المذكور بأنّ المعسر إذا استدان شيئا باختياره مع علمه بتعسّر أدائه أو انحصار الوجه فيه في بذل المستثنيات فالأصل وجوب أدائه وإن تعسّر عليه ، لأنّه الّذي أوقع نفسه في الحرج إلّا أن يثبت خلافه من إطلاق الاستثناء. وكذا الحال في العقود الواقعة في حال العلم بتعسّر الوفاء بمقتضاها ، كالإجارة على الأعمال الشاقّة وغير ذلك. وكذا غيرها من الأسباب الاختياريّة.

ويمكن أن يقال : إنّ عموم ما دلّ على نفي الحرج قاض بعدم وجوب العمل بما فيه الحرج وإن كان مستندا إلى الأسباب الاختياريّة. بل وإن علم المكلّف باستلزامها للحرج ، فإنّ إيجاب العمل بمقتضاها بعد وقوعها جعل للحرج وإرادة للعسر وقد ثبت انتفاؤهما.

وهل يبطل العقد المفروض حينئذ من أصله نظرا إلى اقتضائه للّزوم الموجب للحرج أو ينقلب جائزا ـ لكون الحرج في لزومه لا في جوازه ـ أو يقع على وجهه لكن لا يلزم العمل به ما دام الحرج باقيا ويدور مداره مع بقاء محلّه فلو زال الحرج رجع إلى اللزوم كما أنّه لو لم يتضمّن الحرج حال وقوعه ثمّ عرضه الحرج رجع إلى الجواز فإذا زال عاد حكم اللزوم؟ وجوه:

أشبهها الأخير ، والوجه فيه أنّ ما دلّ على وجوب الوفاء بالعقود مقيّد بغير موارد الحرج كسائر التكاليف ، فيختلف الحال في ذلك باختلافه وجودا وعدما ما دام المحلّ باقيا فإذا فات المحلّ انحلّ العقد. هذا إذا كان الحرج في الوفاء بنفس العقد أو الإيقاع كما في المثال المذكور ـ أعني الاجارة ـ أمّا لو اتّفق حصول الحرج في آثاره وما يترتّب عليه فنفي الحرج لا يقضي بفساد الأمر الواقع. فلو استتبع الطلاق أو العتق مشقّة عظيمة في الفرقة الحاصلة وآثارها لم يمنع ذلك من انعقادهما ، لعدم تضمّنهما للحرج من حيث نفسهما فلا يندرج في الأدلّة.

ومنها : أنّ الحرج قد يتحقّق في الفعل أو الترك بنفسه ، وقد يتحقّق في تكراره

٧٥٦

أو استمراره عند تعلّق الأمر بأحدهما. فمقتضى الدليل إناطة التكليف بهما بعدم حصول الحرج فيستمرّ على أحدهما إلى أن يحصل الحرج.

وقد يقال : إنّ إناطة الحكم بالحرج ودورانه مداره حرج آخر ، إذ ليس له حدّ معيّن معلوم يقف عليه ، بل لابدّ من حصول العلم به ولا يحصل إلّا بعد وقوع الحرج ووجدانه من نفسه ، كالاشتغال بقضاء الفوائت على القول بالمضايقة أو الاحتياط في الموارد الّتي يقع الاشتباه فيها في تعيين المكلّف به إلى أن يتحقّق عنده الحرج.

وفيه : أنّه لا مانع من التزام الحرج بالقدر الّذي يتوقّف العلم بموضوعه عليه ، كالصبر على الإمساك المضرّ في أيّام الصيام إلى أن يظهر الإضرار ، وكذا الضرر الحاصل في سائر المقامات الموجب لتبدّل أحكام الواجبات والمحرّمات.

ومنها : أنّ الحرج قد يكون في نفس الفعل أو الترك المأمور به ، وقد يقع في أجزائه أو شرائطه أو الاحتراز عن موانعه ، فهل يسقط به التكليف بذلك من أصله إلى أن يثبت خلافه أو يسقط به جزئيّة الجزء أو الشرط المتعسّر فيجب الإتيان بالباقي حتّى يثبت ارتفاعه؟ والّذي يظهر إجمال الدليل بالنسبة إلى ذلك ، لتحقّق نفي الحرج على كلا الوجهين ، فيرجع الأمر في ذلك إلى ما عرفت من حكم تعذّر الجزء أو الشرط وأنّ الأصل سقوط أصل الحكم، إلّا حيث يقوم هناك دليل آخر على تعلّق الطلب بالباقي أو على قاعدة تقتضي ذلك.

ومنها : أنّ نفي الحرج هل يختصّ بالتكاليف السمعيّة أو يجري في الأحكام العقليّة أيضا كوجوب ردّ الوديعة وتحريم الظلم بأقسامه؟ الوجه أن يقال : إنّه إن استقلّ العقل بوجوب ما فيه الحرج أو تحريم ما في تركه الحرج فمقتضى التلازم بين حكمي العقل والشرع بقاء التكليف بمقتضى حكم العقل ، أمّا مع عدم استقلال العقل في مورد الحرج فلا. ومن الأوّل وجوب استنقاذ النبيّ وشبهه من موارد الهلاك وتحريم ظلمه وهتك حرمته.

ويمكن القول بأنّ مطلق قتل المسلم بغير حقّ من هذا القبيل. ومن الثاني

٧٥٧

حرمة التصرّف في مال الغير بدون إذنه ، ومنه قبول الولاية عن الجائر والعمل بمقتضاها عند الخوف في غير القتل فتأمّل.

ـ وسادسها ـ

أنّ الأصل في الأوامر وجوب المباشرة ، فلا يكفي الاستنابة والتولية إلّا حيث يقوم الدليل عليه. ولو تعذّرت المباشرة فالأصل سقوط التكليف وعدم قيام الاستنابة أو التولية مقامها إلّا بدليل ، كما في الطهارات الثلاث والحجّ في بعض المقامات. ويجوز الاستنابة اختيارا في الواجبات التوصّليّة ، حيث يحصل الغرض بها ، كما في العبادات الماليّة. ويصحّ النيابة عن الأموات في مطلق العبادات وعن الأحياء في الحجّ والطواف والزيارات وما يتبعها من الصلوات ، وهو تكليف آخر يدور مع الدليل المثبت له وجودا وعدما فلا ربط له بالأمر الأوّل.

وربما يحكى عن الأشاعرة أنّ الأصل جواز الاستنابة إلّا مع قيام الدليل على المنع ، نظرا إلى حصول الغرض المقصود من وجود الفعل في الخارج ولو بواسطة أو وسائط وهو فاسد من وجوه :

الأوّل : أنّ المتبادر من الخطاب طلب الفعل من المكلّف ، فامتثاله إنّما يصدق مع مباشرة المكلّف للفعل المأمور به والاستنابة فعل آخر غير ما تعلّق الأمر به. فالاكتفاء بها يتوقّف على أمر آخر يتعلّق بها ، أو بتحصيل المطلوب على الوجه الشامل لها ، فمع عدمه يتعيّن المباشرة ويصحّ سلب الفعل بدونها. هذا إذا كان الدليل على الوجوب لفظ الأمر وما يقوم مقامه ، فلا يجري فيما إذا كان الدليل على ذلك من الألفاظ المجملة أو من الإجماع وشبهه ممّا يدلّ على وجوب الفعل في الجملة.

الثاني : أنّ قضيّة الأصل عند دوران الأمر في الواجب بين الوجهين هو الاقتصار على القدر المتيقّن للعلم بحصول الامتثال مع المباشرة والشكّ فيه بدونها ، فقاعدة الاشتغال واستصحابه قاضيان بلزوم الاقتصار عليه. وهذا هو

٧٥٨

الحال في كلّ موضع دار الأمر في متعلّق التكليف فيه بين التعيين والتخيير ، إذ الاشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينيّة المتوقّفة على مراعاة الوجه الأوّل. ولا فرق في ذلك بين كون الدليل على ذلك إجماعا أو نحوه ، أو من الأدلّة اللفظيّة.

وتوهّم رجوع الأمر إلى تكليف زائد يتعلّق بالمباشرة ـ ومقتضى الأصل في مثله هو الاقتصار على القدر المعلوم وهو التكليف بإيجاد الفعل على الوجه الأعمّ.

وأمّا التكليف بما يزيد عليه فالأصل البراءة عنه ـ مدفوع ، بأنّ المباشرة ليس فعلا آخر غير إيجاد المأمور به حتّى يرجع الشكّ في ذلك إلى الشكّ في وحدة التكليف وتعدّده. إنّما هو شكّ في تعيين المكلّف به وأنّه الأعمّ أو الأخصّ. وإرجاع المعنى الأخصّ إلى الأجزاء العقليّة بالتحليل العقلي لا يجدي في ذلك شيئا ، إذ ليس هناك قدر متيقّن ليحصل الامتثال للقدر المتيقّن من التكليف به ، إذ الوجه الآخر مشكوك فيه من أصله ، فلا يمكن الاكتفاء به في الخروج عن عهدة التكليف المعلوم.

الثالث : أنّ الحكمة المقصودة من التكاليف وهي الابتلاء والاختبار بتحمّل المشاقّ الحاصلة فيها إنّما يظهر بالمباشرة ولا يحصل بفعل الغير. واحتمال الفائدة في استنابة الغير مدفوع ، بأنّها إذن فائدة اخرى غير ما هو الفائدة في نفس الفعل المأمور به. فإذا لم يقع من المكلّف لم يتحقّق الفائدة المقصودة منه. ففائدة الجهاد ـ مثلا ـ وهي الامتحان ببذل النفس لا يكاد يظهر بفعل النائب ؛ وبذل المال من المنوب عنه غير ما هو الفائدة في نفس الجهاد ، إذ ليس الغرض منه بالأصالة بذل المال ، إنّما هو فائدة العبادات الماليّة الّتي لا يقصد منها إلّا ذلك. فيجوز الاكتفاء بفعل النائب فيما لا يراد منه إلّا الابتلاء ببذل المال الحاصل بالمباشرة والاستنابة على حدّ سواء ، بخلاف ما يكون بذل المال فيه بالتبع كما في الحجّ ، إذ المقصود منه الهجرة عن الأوطان وتحمّل المشاقّ في الإتيان بتلك الأفعال المخصوصة وإن لزمه بذل الأموال في الزاد والراحلة.

والحاصل : أنّه إن علم أنّ غرض الآمر حصول الفعل في الخارج من أيّ مباشر كان ـ كما في الواجبات التوصّليّة ـ جاز فيه التوكيل والاستنابة ، بل يكفي

٧٥٩

فيه حصول أثر الفعل ولو من غير الفاعل المختار حيث لا يقصد منه سوى حصول الأثر ، كما في إزالة النجاسات.

وهل الأصل فيما جاز فيه ذلك اشتراط العدالة في النائب أو عدمه؟ وفائدة التوجهين إنّما يظهر مع الشكّ في وقوع الفعل ، إذ مع القطع به أو بعدمه لا فرق بين عدالة النائب وفسقه ، إنّما يكون ذلك حيث يراد التعويل على قول النائب في وقوع الفعل. فيمكن البناء على الاشتراط اقتصارا على المتيقّن من سقوط التكليف ، وعملا بعموم ما دلّ على وجوب التبيّن في خبر الفاسق وما دلّ على عدم كونه أهلا للأمانة والمنع من الركون إليه وسقوطه عن درجة الاعتبار والايتمان ونحو ذلك. ويحتمل البناء على الصحّة في قول النائب وفعله ، للأمر بوضع أمره على أحسنه وغيره ممّا دلّ على أصل الصحّة في أفعال المسلمين. بل قاعدة الصحّة تعمّ فعل المسلم وغيره على ما قرّر في محلّه.

وقد يفصّل بين ما يكون مسقطا للتكليف عن الغير أو حجّة عليه أو تصرّفا في ماله بدون إذنه وغير ذلك ، فيشترط العدالة في الصور الاولى خاصّة ـ كما في نائب العبادات الواجبة عن الحيّ أو الميّت باستنابة المنوب عنه بنفسه أو وليّه أو وكيله وإمام الجمعة والجماعة والشاهد والقاضي والكاتب والمترجم وعامل الصدقة والمقوّم والمقسّم ومنصوب الحاكم في نظارة الوقف والحقوق العامّة ومال الصبيّ ومطلق المحجور عليه والأمانات الشرعيّة إلى غير ذلك ـ ومحلّ المسألة من القسم الأوّل. لكن ظاهرهم قبول قول الوكيل في العقود والإيقاعات وتطهير المتنجّسات ، بل مطلق المسلم بل الفاعل حيث يتحقّق صدور الفعل منه ، فيسمع قوله فيما لا يعلم إلّا من قبله أو فيما لا معارض له أو ما أشبه ذلك ، مع استلزامه لحجّية قوله على غيره وسقوط التكليف عنه.

وتفصيل القول في ذلك يطلب من مظانّه في الفقه ، لرجوعه إلى الأدلّة الخاصّة والقواعد الفقهيّة. وإلّا فمن البيّن أصالة عدم حجّية قول الغير إلّا في موضع اليقين ، كما أنّ الأصل عدم الاكتفاء بفعله إلّا مع قيام الدليل عليه على الوجه الّذي دلّ عليه كما لا يخفى.

٧٦٠