هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٨٣

ـ وسابعها ـ

أنّه قد يقال : إنّ الأصل في الأوامر حصول الاجتزاء بفعل المأمور به على أيّ وجه وقع ، سواء وقع بقصد الامتثال والطاعة أو بدونه ، بل وإن وقع بقصد الرياء أو غيره ، مستقلّا أو منضمّا إلى قصد القربة على وجه يكون كلّ من القصدين مستقلّا في الداعي ، أو يكون أحدهما مستقلّا والآخر تبعا له ، أو يكون المجموع هو الداعي دون أحدهما ، إلّا أنّ استحقاق المدح والثواب يتوقّف على الإتيان بالمطلوب على وجه الامتثال وإطاعة الأمر ، فالإتيان به بغير القصد المذكور إنّما يرفع عقوبة المخالفة.

ودعوى استلزام موافقة الأمر للإثابة ممنوعة ، إنّما يستحقّ العوض بالإتيان بالفعل من حيث كونه مطلوبا للآمر وإن انضمّ إليه غيره من القصود أيضا.

وقد يقال بانصراف الأوامر إلى طلب الفعل المأمور به من حيث كونه مطلوبا للآمر ، فلو أتى به لغير تلك الجهة بل لأغراض اخر خارجة عن غرض الآمر لم يكن من الواجب ، فيبقى في عهدته حتّى يأتي به على وجهه إلّا أن يظهر من القرينة حصول الغرض بمطلق الفعل ، فالأصل في الأوامر أن يكون متعلّقها عبادة حتّى يظهر خلافه. ويشهد به فهم العرف.

ألا ترى أنّه لو أمر المولى عبده بشراء اللحم ـ مثلا ـ فاشتراه العبد لنفسه أو لرجل آخر لم يكن آتيا بمطلوب المولى. وكذا لو أمر الموكّل وكيله في شراء متاع أو الموصي وصيّه في عتق أو وقف فاشتراه لنفسه أو لغيره أو أعتق ووقف عن نفسه أو عن رجل آخر لم يكن عاملا بمقتضى الأمر ولم يقع للآمر ، ولو كان الأمر المذكور شاملا لكلا الوجهين لزم وقوعه عنه. ولو أمر المستأجر أجيره بعمل من الأعمال فعملها لنفسه أو لغيره أو من غير قصد الموافقة فلا شكّ في خروجه عن غرض المستأجر ولا يستحقّ عليه شيئا من المسمّى واجرة المثل. وهذا ينبغي أن يكون وجها في عدم ترتّب الثواب على الواجبات الواقعة لغير غرض الامتثال. ولو اندراج ذلك في مدلول الأمر كان من المطلوب بعينه فينبغي ترتّب الثواب عليه.

٧٦١

وفيه : أنّ القرائن في الأمثلة المذكورة ظاهرة دالّة على إرادة العمل للآمر ، وليس الحال في الخطابات الشرعيّة من هذا القبيل. وقد تقدّم تفصيل القول في ذلك فيما سبق.

هذا كلّه إذا وقع الفعل على سبيل القصد والاختيار بعد العلم بالتكليف على الوجه المعتبر في امكان الامتثال. أمّا إذا وقع على وجه السهو والغفلة عن نفس الفعل أو عن تعلّق الأمر به أو في حال الجهل بأصل الخطاب أو متعلّقاته أو على سبيل الإلجاء والاضطرار فلا يجزي عن الواجب ، لامتناع تعلّق الطلب بغير الفعل الاختياري ـ كالساهي والغالط والمخطئ ـ أو توجّه الخطاب إلى الجاهل المطلق بالأمر والناسي له ونحوهما. فلا يكون الفعل الواقع في تلك الأحوال من المأمور به كما سلف ، ولذلك قلنا باشتراط التكليف بإمكان القصد إلى امتثال المأمور به المتوقّف على العلم بالتكليف وتذكّره ولو على الإجمال على ما عرفت. ففرق بين اشتراط إمكان قصد الامتثال واعتباره قيدا في المطلوب فالمعتبر هو الأوّل ، لامتناع تكليف الغافل. أمّا بعد وقوع التكليف وتذكّر المكلّف فالأصل سقوط التكليف بمجرّد وقوع المطلوب ولو على غير جهة الامتثال ، لأنّ اشتراط القصد إليه أمر زائد على ماهيّة المأمور به ، فيتوقّف اعتباره فيه على قيام دليل آخر عليه. فإطلاق الأمر يقتضي عدم تقييد المطلوب والطلب بقيد زائد على الماهيّة وإن امتنع توجّهه إلى الغافل والجاهل المحض الّذي لا طريق له إلى أداء المأمور به.

نعم قد تقرّر شمول الخطابات الواقعيّة للجاهل والغافل بالتوجيه المذكور في محلّه وإن توقف تنجّزها على العلم والتذكّر. فيمكن القول بوقوع المطلوب إذا اتّفق صدوره عن الغافل لاندراجه في الخطاب الواقعي ، ويلزمه سقوط التكليف به بعد العلم به نظرا إلى اقتضاء الأمر للاجتزاء ، وإذا سقط الأمر الواقعي لم يتعلّق به في الظاهر بعد حصول العلم به.

فهناك فرق بين السهو والغفلة عن نفس الفعل أو عن الطلب المتعلّق به. فالأوّل : لا يمكن اندراجه في المأمور به ، لامتناع التكليف به وظهور الأمر بحسب العرف في طلب الفعل الصادر على وجه العمد دون الغفلة أو الالتباس بغيره.

٧٦٢

والثاني : لا يمنع من التكليف بحسب الواقع والاندراج في المكلّف به بعد صدوره على وجه القصد والاختيار ، فإطلاق الأمر يقتضي الاجتزاء به حتّى يثبت تقييده بما يقع على سبيل الطاعة والانقياد كما في العبادات.

وأنت خبير بأنّ هذا وإن كان مقتضى ما مرّ بيانه في متعلّقات مسألة كون الأمر للوجوب إلّا أنّ المانع من اندراج فعل الغافل والساهي في المأمور به يمنع من شمول الأمر للجاهل المطلق والغافل عن نفس الطلب أيضا ، لأنّ استحالة التكليف بالفعل مع غفلة المأمور وذهوله عن ذلك الفعل كاستحالته مع غفلته عن نفس الأمر أو جهله به مطلقا ؛ إذ لا فارق في نظر العقل بين تكليف الغافل عن الأمر والمأمور به ، لاشتراكهما في قبح التكليف في نظر العقل. فكون المأتيّ به أداء للواجب إنّما هو بعد العلم بالتكليف ولو على الإجمال على الوجه الّذي مرّت الإشارة إليه. فلو أتى به قبل ذلك ثمّ انكشف التكليف به لم يكن ما أتى به واجبا حتّى يسقط به ذلك التكليف ، إلّا أن يظهر من الخارج تعلّق الغرض بمجرّد تحقّق الفعل في الخارج نظرا إلى حصول المصلحة المقصودة بمجرّده. فلا إشكال في الاكتفاء به سواء صدر من المأمور على سبيل القصد والإرادة أو وقع على وجه السهو والغفلة ، من غير فرق بين الغفلة عن الطلب أو المطلوب أيضا. وذلك أمر آخر غير ما هو المقصود من النظر إلى مدلول الأمر بمجرّده مع قطع النظر عن القرائن الخارجيّة ، فلا فرق بالنظر إلى ذلك بين الوجهين المذكورين أيضا.

نعم لو فرض علم المكلّف بالطلب والمطلوب معا من غير حصول مانع من تعلّق الطلب به ـ من سهو أو خطأ أو غيرهما ـ كان إطلاق الأمر قاضيا بسقوط الواجب بالإتيان بالفعل سواء قصد به الامتثال والإطاعة أو لم يقصد ذلك ، إلّا أنّه مع الإتيان به على الوجه الأوّل يكون مطيعا مستحقّا للمدح والثواب ، وعلى الثاني يكون آتيا بالواجب من غير أن يكون مستحقّا للمدح والثواب وإنّما يندفع به العقاب.

وأمّا إطلاقات ما دلّ على وجوب الطاعة المتوقّفة على قصد الامتثال فقد مرّ

٧٦٣

الجواب عنها ، فالمعتبر في التكليف إمكان القصد إلى امتثاله على ما مرّ بيانه في شرائطه دون وقوعه ، فلا يتقيّد المطلوب بخصوص القيد المذكور إلّا بشاهد من خارج.

وأمّا ما اجيب به عن لزوم التكليف بالمحال : من أنّ المدار في تعلّق الطلب في الواقع هو كون صدور الفعل محبوبا للآمر وإن كان المكلّف معذورا من جهة جهله ، فيكفي في التعلّق الواقعي أن يكون الفعل على وجه لو علم به المكلّف كان عليه الإتيان به نظرا إلى حسنه في ذاته وإرادة المكلّف له وإن توقّف تعلّقه به في ظاهر الشرع على فعليّة العلم به. ففيه :

أوّلا : أنّ نسيان الطلب والمطلوب أو الجهل بهما أو نحوهما من الأعذار العقليّة في نظر العقل بمنزلة واحدة في جواز التكليف وعدمه ، فإذا جاز التكليف الواقعي مع فرض الأوّل جاز على الثاني أيضا ، إذ الغرض منه على ما ذكر مجرّد كون الفعل على وجه لو علم به المكلّف كان عليه الإتيان به ، وهذا المعنى حاصل على الوجهين من غير تصوّر فرق بينهما في ذلك بوجه من الوجوه.

وثانيا : أنّ مجرّد ما ذكر من الفرض والتقدير إنّما يصلح مجوّزا لتقدير التكليف ولا كلام فيه ، لإمكان فرضه في جميع الأعذار العقليّة ولا يجدي شيئا ، إذ الغرض من ذلك حصول الاجتزاء بوقوع الفعل في حال الغفلة ولا يترتّب ذلك على الأمر الفرضي كما هو ظاهر. وأمّا حصول التكليف بحسب الواقع في حال الغفلة وشبهها من غير أن يكون معلّقا على زوال العذر فذلك ممّا لا يجوز في نظر العقل ، والمعقول من ذلك على ما مرّت الإشارة إليه. إنّما هو التكليف الشأني الّذي يتعلّق به العلم والجهل. ولا يعقل أن يكون مسبوقا بأحدهما أو متوقّفا على العلم به وإنّما العلم به مسبوق بحصوله ، وهو الّذي يجب تحصيله وتعلّمه وتعليمه وإيصاله إلى المكلّفين ويعذّر الجاهل به إذا لم يكن مقصّرا في تحصيله. فالعلم بالتكليف وإن لم يكن كسائر الشرائط العقليّة والشرعيّة من البلوغ والعقل ونحوهما فإمكانه شرط في تنجّزه وفعليّته وترتّب الآثار عليه فلا أثر له بدونه ، إنّما يثبت على سبيل

٧٦٤

القوّة والشأنيّة. وما هذا حاله فلا يستدعي الامتثال ما لم يخرج من القوّة إلى الفعل ، فالإتيان بالمطلوب حينئذ لا يكون إتيانا بالواجب الفعلي ، فلا يكون مسقطا له إلّا إذا ثبت قيامه مقامه ، كفعل الساهي والنائم ونحوهما.

فإن قلت : إن تقيّد الطلب بالقيد المذكور كان الحال في ذلك كسائر الشرائط فينتفي الحكم الواقعي وقد ثبت خلافه ، وإلّا حصل المطلوب بدونه فكان أداء للواجب بعينه.

قلت : إنّما يثبت التقييد في الطلب الفعلي دون الشأني ، وبه يظهر الفرق بينه وبين سائر القيود.

فإن قلت : إنّ الأصل في الحكم عند القائلين بالتخطئة هو الحكم الواقعي وإنّما يترتّب عليه الفعليّة بإمكان العلم به ، فإذا لم يتقيّد الواقع بالقيد المذكور حصل المطلوب لا محالة ويلزمه سقوط الواقع في نفس الأمر ، فلا يترتّب عليه الفعليّة بعد الانكشاف.

قلت : إنّ الطلب وإن كان مطلقا في الواقع لكن المطلوب مقيّد بالإمكان ، وكما أنّ فعل الساهي والناسي والمخطئ خارج عن الفعل الاختياري كذا فعل الجاهل بالحكم والغافل عنه خارج عن مورد الطلب وإن اتّفق مصادفته للمطلوب الواقعي ، إذ الأمر الواقع بالبخت والاتّفاق خارج عن القصد والشعور ، ويمتنع معه الالتفات إلى أداء المكلّف به ، ومن البيّن أنّ التكليف لا يتعلّق إلّا بالمقدور.

فإن قلت : إذا كان المكلّف به مقيّدا بأمر غير حاصل فقد انتفى التكليف قبل حصول القيد في نفس الأمر ـ كتقييد الصيام بالنهار ، والحجّ بالموسم وغيرهما ـ فلا حكم لهما قبل ذلك في الواقع. وإذا كان الحال في المقام أيضا كذلك رجع إلى التصويب.

قلت : فرق بين التقييد بزمان غير حاصل كالصوم المقيد بالنهار والتقييد بوصف غير حاصل إذ التكليف به في معنى التكليف بتحصيل الوصف ، وهو أيضا وإن كان من التكليف بغير المقدور لكنّه أمر شأني لا تنجّز له ، فلا يمتنع تعلّقه بمثله

٧٦٥

ـ كما مرّت الإشارة إليه ـ بخلاف تعلّقه بالزمان الغير الحاصل ، لأنّه لا يقبل وقوعه في حيّز الطلب ولو شأنا. وحينئذ فالفعل الواقع في حال الغفلة ليس من المأمور به ـ كفعل الساهي وشبهه ـ فلا يجدي ولا يغني عن نفس المطلوب بعد فرض تنجّزه على المكلّف ، إذ ليس الإتيان به إتيانا بالواجب بعينه. إنّما الواجب في الواقع إيقاع الفعل على سبيل العمد والشعور، وهو الحكم الشأني الثابت في الواقع عند المخطئة.

فظهر ممّا ذكر أنّ الأصل في الأوامر اعتبار إمكان القصد والشعور إلى أداء المأمور به حال الإتيان به ، إذ الغافل عن الأمر حين الفعل لا يتعلّق به التكليف ، بل قد عرفت إمكان القول بانصرافها إلى ما قصد به ذلك فعلا ، فإنّ الأمر يستدعي الامتثال وينصرف إليه ، فلا يكون الواجب إلّا ما قصد به أداء المأمور به بالفعل.

نعم إطلاق الأمر يقتضي الاكتفاء بمطلق القصد إليه وإن انضمّ إليه من سائر القصود ما لا يمنع من حصوله ولو كان من الرياء ، إلّا أن يتمسّك في المنع منه بعموم ما دلّ على اشتراط الإخلاص والمنع من التشريك في العمل ، فيكون ذلك قاعدة ثانويّة مستندة إلى عمومات الكتاب والسنّة كقوله تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)(١) والأخبار الكثيرة الدالّة عليه ، فيكون الأصل في الأوامر أن يكون متعلّقها من العبادة بالمعنى الأخصّ حتّى يثبت خلافه ، وذلك أمر آخر مبنيّ على تماميّة الأدلّة الخاصّة الدالّة عليه وهو من القواعد الفقهيّة ، وإنّما غرض الاصولي هو البحث عن الحكم الكلّي مع قطع النظر عن الأدلّة الخاصّة.

ويمكن التمسّك فيه بعدم الفصل ، لأنّه إذا اقتضى إطلاق الأمر قصد الامتثال بأداء المطلوب تعيّن اشتراطه بالإخلاص والخلوص عن شوائب الرياء وإن لم يمنع منه سائر الضمائم على بعض الوجوه ، فتأمّل.

فتلخّص ممّا قرّرناه أنّ في المقام امورا خمسة : إمكان القصد إلى أداء الفعل

__________________

(١) سورة البيّنة : ٥.

٧٦٦

المخصوص ولو على الإجمال ، ووقوع القصد المذكور ، وإمكان القصد إلى امتثال الأمر الخاصّ المتعلّق به حال الإتيان به ولو على الإجمال ، ووقوعه ، وخلوصه عن شوائب الرياء وغيره من القصود المنضمّة إلى القصد المذكور على أحد الوجوه الأربعة في الاستقلال والتبعيّة.

وقد تقدّم في ذيل مسألة الأمر للوجوب اعتبار الأوّلين ، وعرفت في شرائط المكلّف اعتبار الثالث. وأمّا الرابع فلا كلام في اعتباره في استحقاق الثواب وتوقّف صدق الإطاعة والامتثال عليه ، إنّما الكلام في اعتباره في الإجزاء وسقوط التكليف وعدمه ، ويبنى ذلك على انصراف الأمر إلى طلب إيقاع الفعل لغرض الامتثال وعدمه. فإن تمّ ذلك دلّ على اشتراطه بذلك إلّا مع اقترانه بقرينة دالّة على عدم اعتبار الخصوصيّة في المطلوب ـ كما في الواجبات التوصّليّة والأوامر الصادرة من الموالي للعبيد وأمثالهم ـ وإلّا كان الأمر على إطلاقه حتّى يثبت التقييد. والفرق بين وقوع القصد إلى نفس الفعل والقصد إلى الامتثال به أنّ الفعل الواقع بدون القصد ليس من الاختياري الّذي يمكن تعلّق الأمر به بخلاف الثاني ، إذ بعد العلم بالأمر والمأمور به والالتفات إليهما لا يخرج المأتيّ به عن الفعل الاختياري وإن لم يقصد به امتثال الأمر.

وأمّا الخامس فليس في نفس الأمر ما يدلّ على اعتباره فيتوقّف على قيام دليل آخر عليه ، فإن تمّت القاعدة المذكورة نظرا إلى إطلاقات الكتاب والسنّة فذاك ، وإلّا فإطلاق الأمر يقضي بالاجتزاء به مطلقا.

نعم إن قلنا بانصرافه إلى طلب الامتثال أمكن القول باعتباره على الاستقلال وإن انضمّ إليه غيره من الدواعي على سبيل التبعيّة أو الاستقلال أيضا. أمّا لو كان الامتثال مقصودا بالتبع أو كان الداعي مركّبا من القصدين من دون استقلال لأحدهما في ذلك فلا ، إلّا أنّ البناء على الإطلاق الشامل للوجوه الأربعة أظهر.

وأمّا قصد الرياء فهو مبطل للعبادة بأقسامها الأربعة كما ثبت في محلّه.

٧٦٧

ـ ثامنها ـ

أنّ الخطابات المتعلّقة بالأحكام الفرعيّة تعمّ المسلمين والكفّار تكليفيّة كانت أو وضعيّة ، فالكفّار أيضا مكلّفون بالفروع معاقبون عليها كالاصول وإن كانت مترتّبة على الإسلام كترتّب الإمامة في الاصول على النبوّة ، والنبوّة على معرفة الحقّ سبحانه.

غاية الأمر اشتراط صحّة العبادات من الفروع بالتصديق والإقرار بالاصول كاشتراط جملة من العبادات بالطهارات ، فحصول الإسلام والإيمان من شرائط وجودها دون وجوبها ، وإنّما الشرط في وجوبها هو التمكّن منهما.

وقد ذهب إلى ذلك علماؤنا حتّى حكى عليه كثير منهم اجماعنا عليه وإن خالفهم في ذلك شرذمة من متأخّري الأخباريّين ـ كالمحدّث القاساني في الوافي ، والاسترابادي في الفوائد المدنيّة ، وصاحب الحدائق ـ فإنّ ذلك لا يقدح في الإجماع المذكور. واختلفت العامّة في ذلك على أقوال : فذهب كثير منهم إلى ما ذكرناه ، وذهب بعضهم إلى اختصاص التكليف بالفروع بالمسلمين فلا يكلّف الكافر إلّا باصول الدين وحكي اختياره عن أبي حنيفة.

وينبغي على هذا القول تخصيصه بغير ما يستقلّ به العقل من الأحكام السمعيّة المتوقّفة على ثبوت الشرع.

وأمّا ما يستقلّ بإدراكه العقل ـ كحسن الإحسان ، وقبح الظلم والعدوان ، ووجوب شكر المنعم ، والتحرّز عن الضرر المخوف ـ فلا وجه للقول بتوقّف التكليف به على الإسلام. كيف! ومن المعلوم أنّ القول بوجوب النظر في المعجزة والتأمّل في الأدلّة المفضية إلى معرفة الاصول ممّا يبتني على حكم العقل به تحرّزا عن الضرر المخوف ، فلو لم يكلّف العبد بمثله لزم إقحام الأنبياء وإعذار معظم الكفّار.

وعن بعضهم التفصيل في محلّ المسألة بين الواجبات والمحرّمات ، فزعم

٧٦٨

اختصاص الأوامر بالمسلمين وشمول النواهي لجميع المكلّفين. وعن السيّد رضى عنه الله أنّه والله خلاف الإجماع.

حجّة الأوّل وجوه :

الأوّل : عمومات الخطابات الواردة في الكتاب والسنّة المثبتة للأحكام الفرعيّة من الأوامر والنواهي وغيرها من الأحكام الوضعيّة.

فمن الأوّل قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ)(١) وقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ)(٢) وقوله عزّ من قائل : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)(٣).

وقوله سبحانه : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ)(٤) وقوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)(٥) وقوله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى)(٦) وجملة من الأوامر الواردة في الصلاة والزكاة والصوم والطهارة وغيرها.

ومن الثاني قوله تعالى : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) ... إلى آخر الآيات (٧).

وقوله عزّ من قائل : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ)(٨) وقوله تعالى (وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)(٩) وقوله سبحانه : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ)(١٠) وقوله : (وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ)(١١) وقوله (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ)(١٢) إلى غير ذلك.

ومن الثالث قوله تعالى : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ)(١٣)

__________________

(١ و ٢) سورة لقمان : ٣٣.

(٣) سورة الذاريات : ٥٦.

(٤) سورة يس : ٦٠.

(٥) سورة آل عمران : ٩٧.

(٦) سورة النحل : ٩٠.

(٧) سورة المطففين : ١.

(٨) سورة النساء : ٩٣.

(٩) سورة الزلزلة : ٨.

(١٠) سورة ابراهيم : ٤٢.

(١١) سورة النحل : ٩٠.

(١٢) سورة البقرة : ٢١٩.

(١٣) سورة النساء : ٧.

٧٦٩

الآيات وغيرها ممّا جاء في الكتاب والسنّة من الأحكام الوضعيّة ، ومرجعها إلى الأحكام التكليفيّة وإن قلنا بثبوتها على الاستقلال أيضا. هذا مضافا إلى جميع ما دلّ على اشتراك العباد في التكاليف والأحكام وأنّ حكم الله في حقّ الأوّلين والآخرين سواء.

الثاني : ما جاء في حدود الإسلام والإيمان واشتمالها على العمل بالأركان والإقرار باللسان ، والأخبار في ذلك كثيرة جدّا وفي جملة منها اعتبار الإيتان بالفرائض المعروفة ، فيكون التكليف بهما في معنى التكليف بتلك الفرائض والأعمال.

فإن قلت : إنّ المعروف خروجها عن حقيقتهما كما يدلّ على ذلك أخبار كثيرة أيضا ، فالمقصود اعتبارها في بلوغهما حدّ التمام والكمال.

قلت : مقتضى القول بعدم تكليف الكفّار بالفروع أن لا يكونوا مكلّفين إلّا بشيء واحد هو الاعتقاد بالأصول المعروفة ، فلا يكون لشيء من جوارحهم تكليف أصلا ، مع ما علم من تكثّر درجات الإيمان ومراتبه وتوزيعه على الجوارح والأعضاء بحسب الأفعال المتعلّقة بكلّ منها. واعتبارها في الإيمان الكامل لا يقدح في اندراجها في التكليف بالإيمان وإن ترتّبت الواجبات بعضها على البعض كترتّب كلّ من الاصول والفروع بعضها على بعض ، فليس الحال في ترتّب الفروع على الاصول إلّا ما هو الحال في الترتّب الحاصل بين أحكام أحدهما ، فيكون التكليف متعلّقا بجميعها على الترتيب فلا تغفل.

الثالث : أنّ التكليف بالفروع لو اختصّ بأهل الإسلام لزم تساوي جميع الكفّار في استحقاق العقوبة مع شدّة اختلافهم في الأخلاق والملكات والأفعال الحسنة والقبيحة ، فيلزم التسوية بين المرتكب منهم للقبائح العظيمة ـ كقتل الناس أجمعين ، وتخريب بلاد المؤمنين وسبي نسائهم وذراريهم ونهب أموالهم ، وقتل الأنبياء والأئمّة عليهم‌السلام كمثل ما وقع في حقّ أهل البيت عليهم‌السلام ، وما صدر من مثل چنكيز وبخت النصر ـ وبين الكافر الأمين الّذي أعان المؤمنين وآواهم ونصرهم وبذل

٧٧٠

نفسه وماله واسرته في نصرتهم وتشييد أركانهم والإحسان إليهم وإعانتهم على نشر الإسلام والمجاهدة مع أعدائهم فضلا عن نشر العدل والإحسان في عامّة العباد والبلاد ، فيلزم تساوي الفريقين في الجزاء.

ومن المعلوم بضرورة العقول فساد الالتزام بذلك ، وكيف يجوز مع ذلك إلزامهم في الدعاوي والمرافعات وسائر الأفعال بشيء وهو خلاف الضرورة. والقول بتكليفهم في ذلك كلّه بفروع مذهبهم مخالف لمقتضى النسخ ، على أنّا نتكلّم في الكافر الّذي لم يعتقد بشيء من الشرائع والأديان.

وفيه : أنّه إن اريد تساوي الكفّار بالنظر إلى الواجبات السمعيّة فبطلان التالي ممنوع ، وإن اريد تساويهم في ذلك مع اختلافهم في ارتكاب القبائح العقليّة وأقسام الحسن العقلي فالملازمة ممنوعة ، لما عرفت من إمكان اختصاص محلّ المسألة بغير الأحكام العقليّة.

الرابع : خصوص عدّة من الآيات والروايات الدالّة على مؤاخذة الكفّار بالفروع ، ففي النواهي مثل قوله سبحانه : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ)(١) الآية. وفي الأوامر قوله عزّ من قائل : (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ* الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ)(٢) وقوله تعالى : (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى* وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى)(٣) وقوله سبحانه : (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ* قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ* وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ* وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ* وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ)(٤).

وقد يورد بأنّ التهديد والذمّ على مخالفة المجموع المركّب من الاصول والفروع لا يستلزم استقلال البعض في ذلك ، فلا يفيد المطلوب.

وضعفه ظاهر ، إذ لو فرضنا عدم إرادة الفروع من الكفّار لم يكن لمخالفتهم

__________________

(١) سورة الفرقان : ٦٨.

(٢) سورة فصلت : ٦ ـ ٧.

(٣) سورة القيامة : ٣١ ـ ٣٢.

(٤) سورة المدثر : ٤٢ ـ ٤٦.

٧٧١

فيها مدخليّة في الذمّ ، وكان ضمّها إلى مخالفة الاصول كضميمة ارتكاب المباحات إلى المحرّمات في الوعيد عليها ، وهو قبيح.

حجّة القول الثاني وجوه :

الأوّل : أنّه لو كلّف الكافر بالفروع صحّ منه فعلها واستحقّ الثواب عليها إذ الصحّة موافقة الأمر والامتثال يستلزم الثواب ، وفساده ظاهر ، لأنّ الحال في الإسلام هو الحال في سائر مقدّمات الوجود والشرائط المفقودة شرعيّة كانت أو عقليّة ، مثل (١) الطهارة والاستقبال وستر العورة وقطع المسافة والإرادة وغيرها. فإن اريد من الملازمة أنّ التكليف يستلزم صحّة وقوع الفعل في الحال الّتي عليها المكلّف فهو مقطوع الفساد ، وإن اريد صحّة الفعل في الجملة فبطلان اللازم واضح الفساد إذ المقدور بالواسطة مقدور.

الثاني : أنّ تكليف الكافر بالفروع يرجع إلى التكليف بما لا يطاق ، فإنّ تكليف الجاهل بما هو جاهل به تصوّرا وتصديقا عين التكليف بالمحال. وفيه :

أوّلا : أنّ الجاهل بالأصل كالجاهل بالفرع ، فما هو الوجه في تكليف الأوّل يجري في الثاني.

وثانيا : أنّ المعذور في المقامين إنّما هو القاصر الّذي لا طريق له إلى تحصيل العلم ، أمّا القادر على ذلك بتحصيل الأسباب المفضية إليه المقصّر في تحصيله فلا امتناع في حقّه.

وثالثا : أنّ المقصود في المقام اثبات الحكم الواقعي ، وذلك لا ينافي إعذار المكلّف فيه ورفع العقاب عنه لقصوره عن دركه وجهله به ، كما هو مقتضى القول بالتخطئة وإبطال التصويب.

الثالث : أنّه لو كلّف بالفروع أمكنه امتثالها ، لوضوح أنّ التكليف فرع القدرة. والكافر لا يتمكن من الامتثال ، لأنّه في حال الكفر بالطل للقطع باشتراطه بالإسلام وبعد الإسلام يسقط عنه.

__________________

(١) في الأصل : كما قبل الطهارة.

٧٧٢

وفيه أولا : أنّ التكليف بفعل العبادة من أوّل الوقت بشرط الإسلام ممّا لا يتصوّر له مانع أصلا وإن كانت مضيّقة ، إذ الإسلام لا يسقطه في وقت العبادة قبل تعذّرها وكان ذلك كتكليف المحدث بالصلاة. فيكون مكلّفا بترك الكفر والإتيان بالعبادة في زمانها ، ولا يلزم منه القضاء لو لم يفعل ، لأنّه بأمر جديد ؛ ولو كان بالأمر الأوّل لاختصّ بما لم يقم فيه دليل على سقوطه كبعض العبادات الّتي لا قضاء لها.

وثانيا : أنّ ما ذكر لا يجري في الواجبات الّتي لا تفتقر إلى القربة فضلا عن النواهي ، فلا شبهة في تمكّن الكافر من الإتيان بتلك الواجبات ـ كردّ الوديعة ، والوفاء بالعقود وما أشبه ذلك ـ والاجتناب عن المحرّمات خصوصا فيما يستقلّ العقل بإدراكه ، كتحريم القتل والظلم وما أشبه ذلك بناء على تعميم محلّ المسألة لمثل ذلك.

فإن قلت : إنّ من جملة الفروع هو التكليف بقضاء الفوائت والكفّارات المقرّرة في جملة من المقامات ومن البيّن اشتراطهما بالإسلام وسقوطهما بعده ، فكيف! يعقل تكليف الكافر بهما مع اشتراطهما بالإسلام الموجب لسقوطه ، لرجوعه إلى الأمر بهما بعد الإسلام فيكون منافيا لما دلّ على سقوطه بالإسلام ، فيلزمه عدم تكليف الكافر بهما وإن عوقب على موجبهما.

قلت : إنّ التكليف بهما ثابت عليه أيضا قبل حصول المسقط إكمالا للحجّة عليه ، ولولاه لم يكن للإسقاط معنى محصّل فيجب الإتيان بهما ، وتعبيرهما من الفروع مع ثبوت اشتراطها بالإسلام وتحقّق وجوبه من باب المقدّمة زيادة على وجوبه الذاتي ، إلّا أنّ وقوع الإسلام في الخارج قاض بسقوط التكليف عنه من حينه ، ولا امتناع في التكليف بمثله.

نعم لو كان الإسلام كاشفا عن انتفاء التكليف من الأصل امتنع ، وليس كذلك.

فإن قلت : إنّ التكليف بالفعل المشروط بالإسلام حينئذ في معنى التكليف بالفعل بعد سقوطه ، وهو محال.

٧٧٣

قلت : إن كان الغرض إثبات التكليف بعد وقوع الإسلام كان الحال كما ذكر ، وليس كذلك. بل الغرض إثبات التكليف قبل وقوعه بمجرّد التمكن من تحصيله ، إذ لا يشترط العبادات إلّا بالتمكّن من تحصيل مقدّماتها الّتي منها الإسلام. ومن المعلوم أنّ التمكن منه لا يوجب سقوطه عن المكلّف ، وانّما المسقط وقوعه في الخارج ولم يثبت بعده تكليف بذلك بل يسقط به.

فإن قلت : لا شكّ في كون حصول الإسلام شرطا في صحّة العمل ، فيكون المسقط شرطا للمكلّف به مع كونه رافعا لأصل التكليف.

قلت : لا مانع من كون حصول المسقط للحكم شرطا في موضوعه بعد عدم كونه شرطا للحكم ، لما عرفت من أنّ شرط الحكم مجرّد التمكّن دون الوقوع ، غاية الأمر امتناع وقوع المكلّف به بوصف كونه مكلّفا به ، وليس ذلك من التكليف بالمحال ، إذ الوصف المذكور ليس من قيود الموضوع.

فإن قلت : لا شكّ أنّ الشرط مقدّمة للمشروط سابق عليه ، فيرجع التكليف بذلك إلى الأمر بالعبادة بعد حصول الإسلام مع انتفاء وجوبها حينئذ.

قلت : لا أمر بالعبادة بعد حصول الإسلام وإنّما الأمر سابق عليه لكن وقوعه مأخوذ في موضوع المأمور به ، فإذا تحقّق في الخارج سقط الأمر ، غاية ما في الباب تعلّق الطلب الغيري والنفسي بإيجاد المسقط للأمر ولا مانع منه.

فإن قلت : لا فائدة في الأمر بمثله بعد تعذّر بقائه حين الفعل ليمكن امتثاله به فيكون لغوا.

قلت : يكفي في فائدته صحّة المؤاخذة عليه في ترك الإتيان بمقدّمته المؤدّي إلى تركه فيتضاعف عقوبته في ذلك ، ومن فائدته حكمة اطّراد الأحكام وشمولها أوّلا لكافّة الأنام.

الرابع : أنّه لو كلّف الكافر بالفروع لوجب قضاؤها عليه كالمسلم استدراكا للمصلحة الفائتة في تلك العبادات ، وليس كذلك. وهو احتجاج غريب لبطلان الملازمة وصحّة التالي، إذ قد عرفت أنّ التكليف بالقضاء أيضا من الفروع إلّا أنّه يسقط بالإسلام كغيره.

٧٧٤

الخامس : عدّة من الأخبار الظاهرة في اختصاص التكاليف الفرعيّة بالمسلمين ، كصحيحة زرارة قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام أخبرني عن معرفة الإمام منكم واجبة على جميع الخلق ، فقال : إنّ الله تعالى بعث محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الناس أجمعين رسولا وحجّة منه على خلقه في أرضه ، فمن آمن بالله وبمحمّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله واتّبعه وصدّقه فإنّ معرفة الإمام منّا واجبة عليه ، ومن لم يؤمن بالله ورسوله ولم يتّبعه ولم يصدّقه ويعرف حقّهما ، فكيف! يجب عليه معرفة الإمام وهو لا يؤمن بالله ويعرف حقّهما (١) الحديث.

والمرويّ في الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في حديث الزنديق ، قال : فكان أوّل ما قيّدهم به الإقرار بالوحدانيّة والربوبيّة والشهادة أن لا إله إلّا الله ، فلمّا أقرّوا بذلك تلاه بالإقرار لنبيّه بالنبوّة والشهادة بالرسالة ، فلمّا انقادوا لذلك فرض عليهم الصلاة ثمّ الصوم ثمّ الحجّ (٢). الحديث.

والمرويّ في تفسير عليّ بن ابراهيم في قوله تعالى : (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ* الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) قال : أترى أنّ الله عزوجل طلب من المشركين زكاة أموالهم وهم يشركون به ، حيث يقول : ويل للمشركين إنّما دعى للإيمان به فإذا آمنوا بالله ورسوله افترض عليهم الفرض (٣).

والمرويّ في تفسير قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) قال: كيف يأمر باطاعتهم ويرخّص في منازعتهم ، إنّما قال ذلك للمأمورين الّذين قيل لهم أطيعوا الله وأطيعوا الرسول (٤). ويؤكّد ذلك اختصاص كثيرا من الخطابات الواردة في الفروع بالمؤمنين ، كما في عدّة من الآيات المقيّدة بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وفي الأخبار الواردة في طلب العلم «إنّ طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ومسلمة» (٥) وأمّا الخطابات المطلقة المصدّرة ب (يا أَيُّهَا

__________________

(١) الكافي : ج ١ ص ١٨٠ ح ٣.

(٢) البحار : ج ٩٣ ص ١٢٢.

(٣) تفسير علي بن ابراهيم : ج ٢ ص ٢٦٢.

(٤) البحار : ج ٢٣ ص ٣٠٢ ح ٦٠.

(٥) البحار : ج ١ ص ١٧١ ح ٢٤ وغيره.

٧٧٥

النَّاسُ) وما يجري مجراه فمحمولة على المقيّد حملا للعامّ على الخاص ، كما هو القاعدة المسلّمة بينهم.

والجواب عن الأوّل وهو الأخبار الخاصّة ، أولا : المنع من دلالتها على المدّعى.

أمّا الأوّل ، فلأنّ معرفة الإمام عندنا من الاصول ، والتمسّك بالفحوى أو العلّة المنصوصة فرع العمل به ولا أظنّ الخصم يلتزم به ، إذ مقتضاه عدم وجوب الإذعان بالنبوّة أيضا إلّا بعد المعرفة بالتوحيد. وأيضا فليس الغرض نفي وجوب الإقرار بالأئمّة عليهم‌السلام مطلقا ، إذ الأخبار المتواترة ناطقة بخلافه ، كحديث الميثاق وعرض الأمانة وغيرهما ، فيمكن تنزيله على الترتيب الحاصل في متعلّقات عدّة من الأحكام ومواردها دون نفسها ، إذ الواجب على جميع المكلّفين أوّلا معرفة الله تعالى ثمّ معرفة النبي ثانيا بعدها ثمّ معرفة الإمام ثالثا بعدهما ثمّ الفروع فتجب الطهارة أوّلا ثمّ الصلاة بعدها وهكذا. ويشهد بذلك سياق الخبر في إحالته على الوضوح كيف يجب عليه معرفة الإمام ، إنّما الغرض عدم وجوبه مقيّدا بإنكار الحقّ سبحانه وتعالى.

وإنّما يترتّب التكاليف بعضها على بعض كترتّب الصلاة على الطهارة فيجب الجميع على سبيل الترتيب.

وأمّا الثاني فمفاده ورود الأحكام على سبيل التدريج ولا كلام فيه ، إنّما الكلام في ثبوتها بعد ورودها على الجميع.

وأمّا الثالث فمفاده أيضا ما ذكرناه من ترتّب الأحكام والتكاليف ، فيجب الفروع بعد الاصول وإن ثبت التكليف بهما كذلك من أوّل الأمر. وكذا الحال في الرابع.

وثانيا : أنّ غاية الأمر ظهور تلك الأخبار فيما ذكر ، ولا يصلح ذلك لمعارضة الآيات الكثيرة والأخبار المتواترة مع مخالفتها لعمل علمائنا وإجماعاتهم ، فظاهرها متروك ، فيحمل على التقيّة أو غيرها من المحامل.

٧٧٦

والمناقشة في حملها على التقيّة ـ لاشتمال بعضها على كون الإمام من أهل البيتعليهم‌السلام ـ ضعيفة ، لما تقرّر من عدم كونه مانعا من الحمل على التقيّة سيّما مع موافقته لمذهب الزيديّة مع عدم انحصار توجيه تلك الأخبار في حملها على ذلك.

وعن الثاني أنّ حمل المطلق على المقيّد إنّما يصحّ مع المنافاة ولا منافاة بين إثبات الحكم لطائفة مع ثبوته لاخرى ، ولعلّ تخصيص الاولى بالذكر من جهة اختصاص الانتفاع به بالمسلمين ولتشريفهم بالتخصيص في الذكر أو نحو ذلك.

وحجّة المفصّل : أنّ الأفعال يفتقر إلى القربة ولا يتأتّى ذلك مع الكفر بخلاف التروك. وفساده ظاهر لإمكان القربة من الكافر بشرط الإسلام إذ ليس الغرض من تكليف الكافر تكليفه بشرط الكفر ، ولامتناع الترك المطلوب في النهي من الكافر وهو الواقع على جهة الامتثال لتوقّفه على معرفة المكلّف والتكليف. ومطلق الترك كالأفعال التوصّليّة الّتي لا تتوقّف على القربة فلا فرق بينها في ذلك ، فالأوامر الواردة في غير العبادات كالنواهي ، فلا وجه للتفصيل بينهما في ذلك كما هو ظاهر.

ولنقطع الكلام في المجلّد الثاني من كتاب

هداية المسترشدين في شرح اصول معالم الدين

حامدين لله سبحانه مسلّمين على رسوله والأئمّة المعصومين من آله

ويتلوه الكلام في المجلّد الثالث في النواهي

والمسؤول من الله عزّ شأنه أن ينفع به كما نفع بأصله ،

وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم موجبا لثوابه الجسيم

وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.

٧٧٧
٧٧٨

فهرس الموضوعات

كلمة مهمّة حول الكتاب......................................................... ٣

متن المعالم....................................................................... ٧

المرّة والتكرار................................................................... ١٠

متن المعالم..................................................................... ٤١

الفور والتراخي.................................................................. ٤٥

متن المعالم..................................................................... ٧١

فائدة فيما يتفرّع على القول بالفور................................................ ٧٣

متن المعالم..................................................................... ٨١

مقدّمة الواجب

تحقيق معنى الواجب............................................................. ٨٤

أقسام الواجب باعتبار ما يتوقّف عليه............................................. ٨٦

أقسام الواجب باعتبار تعلّق الخطاب به وعدمه..................................... ٨٨

أقسام المقدّمة.................................................................. ٩٢

هل الأصل في الواجب كونه مطلقا أو مقيّدا أو التفصيل؟............................ ٩٥

تحرير محلّ النزاع................................................................ ٩٩

٧٧٩

الأقوال في المسألة............................................................. ١٠٣

ثمرة النزاع.................................................................... ١٠٤

اعتبار المقدوريّة في المقدّمة...................................................... ١٠٨

المقدّمة السببيّة................................................................ ١١٠

حول ما اختاره الماتن قدس‌سره....................................................... ١٢١

حجج المانعين من وجوب المقدّمة مطلقا.......................................... ١٢٣

حجج القائلين بالوجوب مطلقا................................................. ١٢٧

الجواب عن أدلّة المثبتين........................................................ ١٣٤

حجج اخرى للقول بوجوب المقدّمة.............................................. ١٤٥

القول الرابع في وجوب المقدّمة.................................................. ١٦١

المقدّمات الداخليّة............................................................. ١٦٤

هل يتصوّر وجوب المقدّمة قبل وجوب ذيها؟...................................... ١٦٨

تعارض الأدلّة في المقدّمة....................................................... ١٧٤

المقدّمة الموصلة................................................................ ١٧٦

مقدّمة المندوب............................................................... ١٧٩

مقدّمة ترك الحرام.............................................................. ١٨١

المقدّمة العلميّة................................................................ ١٨٢

متن المعالم.................................................................... ١٨٥

مبحث الضدّ................................................................. ١٩٤

تحرير محلّ النزاع............................................................... ١٩٧

الضدّ الخاصّ................................................................. ٢٠٦

الضدّ العام................................................................... ٢٠٧

شبهة الكعبي وجوابها.......................................................... ٢٣٣

٧٨٠