هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٨٣

قوله : (الأقرب عندي أنّ نسخ مدلول الأمر ... الخ).

هذه المسألة أيضا من أحكام الوجوب ولا ترتبط بالأوامر إلّا من جهة كون مدلولها ذلك عند الجمهور ، فلا فرق بين كون الوجوب مدلولا للامر أو غيره من الأدلّة اللفظيّة أو العقليّة وإن لم نسمّ الثاني نسخا بل ارتباطها بالنسخ أولى من ربطها بالوجوب ، إذ لا خصوصيّة للحكم المذكور بالوجوب ، لجريانه في الندب وغيره من الأحكام ، بل وغير الأحكام أيضا ، فالمناط في ذلك على ما بنوا عليه الاستدلال أنّه إذا رفع أمر مركّب فهل يحكم برفعه أجمع أو إنّما يحكم برفع ما تحقّق رفعه من أبعاضه ويحكم ببقاء الباقي ، وحينئذ فقد يكون التركيب في نفس الحكم الثابت كما في المقام وقد يكون في متعلّقه كما إذا تعلّق الحكم بمقيّد ثمّ نسخ ذلك ، فإنّه هل يحكم بارتفاعه عن خصوص القيد فيثبت المطلقة أو يحكم برفعه مطلقا ، وقد يكون نحو التركيب في ثبوت الحكم كما لو ثبت حكم على وجه العموم ثمّ نسخ ذلك ، فإنّه هل يحكم برفعه كذلك؟ وإنّما يحكم برفع القدر المحقّق من جزئيّات ذلك العامّ لارتفاع العموم به ويحكم ببقاء الباقي. ويجري البحث المذكور بالنسبة إلى نسخ الوجوب العيني فإنّه هل يدلّ على رفع الوجوب من أصله أو إنّما يفيد رفع عينيّته ، فلو احتمل وجوبه على سبيل التخيير ينى عليه بحكم الأصل ، ثمّ إنّ نسخ الوجوب رفع له بطريق مخصوص. ويجري الكلام المذكور بعينه في ارتفاع الوجوب بغير نحو النسخ ، كما إذا وجب شيء في حال ودلّ الدليل على ارتفاع الوجوب في حال اخرى فهل يحكم حينئذ ببقاء الجواز أو لا؟ وحيث عرفت جريان الكلام بالنسبة إلى ما يتعلّق به الوجوب فيندرج في ذلك أيضا ما إذا تعلّق الوجوب بوقت مخصوص ، فإنّه يرتفع ذلك الواجب قطعا بفوات وقته ، وهل يحكم ببقاء الوجوب لأصل الفعل حتّى لا يتوقّف وجوب القضاء على أمر جديد أو يحكم بارتفاع الوجوب رأسا فيتوقّف وجوب القضاء على أمر آخر؟ وقد عنونوا بعض المسائل المذكورة بعنوان مستقلّ إلّا أنّه بعد تفصيل القول في المسألة يتبيّن الحال في الجميع ، ونحن نفصّل الكلام في غيرها أيضا إن شاء الله في المباحث الآتية.

٦٤١

ثمّ إنّ نسخ الوجوب كما عرفت هو رفعه فقد يتعلّق الرفع بنفس الوجوب أو بجزئه الأخصّ أو الأعمّ أو بجزئيه معا ، لا إشكال في وقوع الخلاف في الصورة الاولى كخروج الأخيرين عن محلّ النزاع.

وأمّا الثالث فسيجيء في كلام المصنّف التصريح بخروجه عن محلّ البحث ، لكن نصّ الشهيد الثاني وغيره باندراجه في محلّ الخلاف وهو المتّجه ، لجريان الوجه الآتي بعينه في ذلك أيضا ، فإنّ ارتفاع الفصل قاض بارتفاع الجنس ، فيندفع به ما يتخيّل من انتفاء الإشكال حينئذ في بقاء الجواز.

نعم قد لا يجري في بعض الوجوه المتخيّلة لارتفاع الجواز ، ومجرّد ذلك لا يقضي بخروجه عن محلّ البحث ، مع أنّ ظاهر إطلاقاتهم شمول النزاع للوجهين وإن كان الأظهر بالنظر إلى سياق كلامهم هو الصورة الاولى خاصّة.

والمراد بالدلالة في المقام إمّا الدلالة اللفظيّة بأن يكون الدالّ على الوجوب هو الدالّ على بقاء الجواز بأن يفيد النسخ رفع جزئه الأخصّ فيكون الأعمّ مدلولا لما دلّ على ثبوت الكلّ ، أو لا دلالة له على الجواز وإثباته بواسطة اللفظ وإن كان ثبوته من جهة استصحاب الجواز ، فالمدّعى حينئذ إثبات الجواز بواسطة اللفظ الدالّ على ثبوت الوجوب ، والثاني هو المناسب لبعض أدلّتهم الآتية. وأما إثبات الجواز بواسطة أصالة البراءة أو الإباحة ونحوهما من غير تمسّك بثبوت الجواز أوّلا بالأمر فممّا لا ربط له بالمقام بل هو من قول المنكر لدلالته على الجواز.

ثم إنّ الجواز المبحوث عنه هو الجواز بالمعنى الأعمّ الشامل للأحكام الأربعة ، كما هو المنساق عن العبارة وإن لم يكن حصوله في المقام في ضمن الوجوب من جهة النسخ أو الشامل للثلاثة ، حيث إنّ نسخ الوجوب دليل على عدم حصول الجواز في ضمنه وإسناد البقاء إليه مع أنّه أخصّ من المعنى الجنسي الحاصل في ضمن الوجوب نظرا إلى حصول الأعمّ في ضمنه وكون الخصوصيّة من لوازم نسخ الوجوب المأخوذ في عنوان المسألة. أو يراد به الجواز بالمعنى الأخصّ يعني خصوص الإباحة كما احتمله في النهاية ، وسيأتي عن المصنّف

٦٤٢

حكاية الشهرة عليه ، وهو بعيد عن ظاهر العنوان إلّا أنّه سيأتي في احتجاج القائل بالبقاء توجيه ذلك ، على أنّ ذلك ممّا لا دليل عليه كما سيجيء الإشارة إليه إن شاء الله. ولا يجري بالنسبة إلى ما لا يعقل فيه الإباحة كما في العبادات. وقد يراد به الجواز في ضمن الاستحباب وهو الّذي تقتضيه حجّتهم على ذلك كما سيشير إليه المصنّف إلّا انّ القول به نادر حسب ما نصّ عليه المصنّف.

قوله : (بل يرجع إلى الحكم الّذي كان قبل الأمر) قيل عليه : إنّ رجوعه إلى الحكم الّذي كان قبل الأمر لا دليل عليه فالحقّ أنّه يصير من قبيل ما لا حكم فيه.

قلت : مبنى الإيراد المذكور على حمل الحكم الّذي كان قبل الأمر على ظاهر إطلاقهم ليشمل الحكم الثابت له قبل ذلك بالدليل الخاصّ أيضا ، وعلى هذا فالحكم بالرجوع إليه واضح الفساد ، إذ لا معيد إلى الحكم الخاصّ بعد ارتفاعه بالأمر الدالّ على الوجوب. ولا يبعد أن يريد به رجوعه إلى الحكم الّذي لو لا الأمر ، فالمراد بالحكم الثابت له قبل الأمر هو الحكم الثابت بمقتضى الأصل عقليّا كان كالإباحة والحظر العقليين ، أو شرعيّا كأصالة البراءة والإباحة الثابتتين بالشرع أو القاعدة الشرعيّة الثابتة في الشريعة ، كما إذا نسخ وجوب قتل فاعل بعض الكبائر فإنّه يرجع إلى قاعدة تحريم قتل المسلم الثابتة بحكم الشرع بل العقل أيضا ، وما إذا نسخ وجوب الصدقة عند النجوى فإنّه يرجع إلى الاستحباب الثابت شرعا بل وعقلا لمطلق الصدقة ، وما إذا نسخ وجوب صوم يوم معيّن فإنّه يرجع إلى قاعدة الاستحباب الثابت لمطلق الصوم إلى غير ذلك.

وحينئذ فما ذكره المدقّق المحشّي في رفع المتقدّم من تفسيره الحكم الّذي كان قبل الأمر بالحكم الأصلي الّذي يحكم به العقل من الإباحة أو الحظر الأصليّين دون الحكم الشرعي الّذي كان مرتفعا بالأمر المنسوخ ليس على ما ينبغي ، إذ قد عرفت أنّه لا مانع من الرجوع إليه إذا كان ذلك الحكم أصلا شرعيّا وقد خرج عنه من جهة الأمر فإذا نسخ ذلك رجع الأمر إلى الأصل المفروض هذا.

٦٤٣

والمذاهب بالنظر إلى ظاهر الحال خمسة :

أحدها : القول ببقاء الجواز وهو يرجع إلى وجوه بل أقوال ثلاثة : بقاء الجواز بالمعنى الأعمّ من الأحكام الاربعة ، أو الدائر بين الثلاثة حسب ما مرّ ، أو الأخصّ وبقاء الاستحباب.

ثانيها : الرجوع إلى الحكم الثابت قبل الأمر.

ثالثها : الخلوّ عن الحكم.

رابعها : الرجوع إلى الحكم الثابت قبل الأمر من الإباحة أو الحظر العقليّين.

خامسها : ما اخترناه ويمكن إرجاع الأقوال الثلاثة المذكورة إلى الخامس. وكيف كان فيدلّ على المختار أنّ الوجوب معنى بسيط في الخارج وقد دلّ عليه الأمر فإذا فرض رفعه بالنسخ ارتفع بالمرّة ، إذ ليس مركّبا من أشياء ليقال بإمكان ارتفاع المركّب برفع بعض أجزائه حسب ما ذكره المصنّف في الاستدلال الآتي وتوهّمه القائل ببقاء الجواز فيما سيقرّره من الاحتجاج على مذهبه.

نعم إنّما يثبت له أجزاء تحليليّة عقليّة من الإذن في الفعل والمنع من الترك وغيرها إن ثبت كونها امورا ذاتيّة له ، ومن البيّن أنّ ذلك لا يوجب تركّبا بحسب الخارج بأن يكون هناك موجودات متعدّدة منضمّة ليصحّ القول برفع بعضها دون بعض. فالاشتباه في المقام إنّما وقع من جهة الخلط بين التركيب العقلي والخارجي ، بل قد مرّ التأمّل في كون المنع من الترك من أجزائه العقلية أيضا حتّى قيل بكونه من لوازمه البيّنة بالمعنى الأعمّ. وإذا ثبت زوال الحكم المذكور من جهة النسخ بالمرّة فلابدّ فيه من الرجوع إلى الاصول والقواعد الشرعيّة أو العقليّة حسب ما قرّرناه.

قوله : (إنّ الأمر انّما يدلّ على الجواز بالمعنى الأعمّ).

لا يخفى أنّ مدلول الأمر هو مفهوم الوجوب دون مفهوم الجواز غاية الأمر أنّه يصحّ أن ينتزع العقل منه مفهوم الجواز ، ومجرّد ذلك لا يقضي بكون الجواز مدلولا لفظيّا له ، ولو سلّم كونه مدلولا لفظيّا له في الجملة فالقدر الّذي يكون مدلولا له هو الجواز

٦٤٤

المتّحد مع الوجوب المرتفع بارتفاعه ، وذلك لا يستلزم كون الجواز مع قطع النظر عن اتّحاده بالوجوب مدلولا له حتّى يكون الجواز المطلق ـ أعني مفهوم الجواز في نفسه ـ مدلولا للأمر، فيعمّ الجواز المتّحد بالوجوب وبغيره من الأحكام المضادّة له ، فيكون الدلالة عليه باقية بعد ارتفاع الوجوب ، فيتوقّف بقاؤه حينئذ على ضمّ أحد القيود لتقوّمه بها حسب ما توهّموه في المقام. ولو سلّم كون الجواز المطلق مدلولا له بعد ارتفاع الوجوب فلا مانع من القول بدلالته عليه من دون ثبوت انضمام شيء من القيود إليه ألا ترى أنّه يصحّ التصريح بالإذن في الفعل على سبيل الإطلاق الشامل للأحكام الأربعة من دون بيان شيء من الخصوصيّات المنضمّة إليه.

غاية الأمر أنّه لابدّ من كون ذلك الإذن متحقّقا بحسب الواقع في ضمن أحد الوجوه الأربعة لتقوّمه بواحد منها. ومن البيّن حينئذ أنّ توقّف حصول الإذن على أحد القيود المذكورة بحسب الواقع لا يقضي بنفي الإذن المدلول عليه بالعبارة مع عدم ثبوت شيء من تلك الخصوصيّات ، فدفع دلالته على الإذن من جهة انتفاء الدليل على الخصوصيّة ممّا لا وجه له أصلا. وحينئذ فقوله فادّعاء بقائه بنفسه بعد نسخ الوجوب غير معقول كما ترى ، إذ المدّعى حينئذ دلالته على الإذن بنفسه لابقاء الإذن كذلك من دون انضمام شيء من الخصوصيّات إليه بحسب الواقع. هذا بناء على ظاهر عنوانه والمصرّح به في كلام بعضهم من كون الكلام في الدلالة اللفظيّة.

نعم لو أراد بذلك رفع دلالته عليه من جهة الاستصحاب ـ نظرا إلى أنّه لمّا ثبت الجواز والمنع من الترك قبل النسخ من جهة دلالة الأمر عليهما كان قضيّة الاستصحاب بقاء الجواز الثابت ، إذ غاية ما يقتضيه النسخ هو رفع الثاني دون الأوّل ـ كان له وجه ، إذ لا يعقل استصحاب بقاء الجواز بعد ارتفاع ما يقوّمه.

ويمكن المناقشة فيه : بأنّه إن اريد من الحكم ببقائه بنفسه بقاؤه «بشرط لا» من دون انضمام شيء من الخصوصيّات إليه فالأمر كما ذكره ، إلّا أنّه ليس مقصود

٦٤٥

القائل بالبقاء قطعا ، ضرورة عدم إمكان وجود المبهم في الخارج فضلا من بقائه. وإن اريد الحكم ببقائه «لا بشرط شيء» فلا وجه إذن لعدم معقوليّته.

وغاية ما يلزم من إبهامه واشتراكه بين الأحكام الأربعة عدم دخوله في الوجود من دون انضمام واحد من تلك القيود إليه ، ضرورة استحالة الحكم ببقائه من دون انضمام شيء منها إليه بحسب الواقع لا مطلقا.

فغاية الأمر أن يكون استصحابه مستتبعا لثبوت إحدى تلك الخصوصيّات للإذن المفروض ، لعدم إمكان خروجه واقعا عن أحد تلك الأقسام.

والقول بأنّ وجود تلك الخصوصيّات أيضا مخالف للأصل فيعارض أصالة بقاء الإذن مدفوع بأن بقاء الإذن مستتبع لواحد منها قطعا ، ضرورة أنّه لابدّ من كون الإذن بحسب الواقع على نحو مخصوص فهو من لوازم بقاء الإذن ، ومن البيّن أنّ وجود لوازم الشيء وتوابعه وضروريّاته لو كانت مخالفة للأصل لم يمنع من إجراء الاستصحاب في المتبوع ولم يعارضه ، وإلّا لم يجر الاستصحاب في كثير من المقامات المسلّمة عندهم. ألا ترى أنّه لا كلام عندهم في جواز استصحاب الحياة مع توقّفه على امور كثيرة وجوديّة من الأكل والشرب وغيرهما ، فإنّها وإن كانت مخالفة للأصل في نفسها إلّا أنّها لمّا كانت من توابع بقاء الحياة عادة لم يمنع من جريان الاستصحاب فيها.

قوله : (وانضمام الإذن في الترك إليه ... الخ).

محصّله أنّ الفصل الّذي ينضمّ إلى الجنس المذكور حاصل في المقام ، فإنّ الإذن في الترك لازم لرفع المنع من الترك فيكون الإذن في الفعل قابلا للاستصحاب ، إذ ليس إذن باقيا بنفسه بل بالفصل المفروض ، فإذا ثبت الفصل المذكور بما ذكرناه ثبت بقاء الإذن حينئذ بالاستصحاب وتمّ المدّعى.

وأجاب عن ذلك بقوله : (موقوف على كون النسخ متعلقا بالمنع من الترك ... الخ).

ويمكن تقرير ذلك بوجهين :

أحدهما : أنّ مفاد رفع المنع من الترك هو الإذن في الترك دون رفع أصل

٦٤٦

الوجوب فإن كان النسخ متعلّقا بخصوص المنع من الترك صحّ ما ذكر دون ما إذا تعلق بالمجموع.

ثانيهما : أنّ انضمام الإذن في الترك إلى الإذن في الفعل موقوف على كون النسخ متعلّقا بخصوص المنع من الترك ، إذ لو تعلّق بالمجموع لم يعقل انضمامه إليه.

ويرد على الأوّل : أنّ المنع من الترك مرتفع عند نسخ الوجوب قطعا فإمّا أن يكون هو المرتفع خاصّة أو يكون المرتفع هو وغيره ، ومن البيّن أنّ رفع المنع من الترك في معنى الإذن فيه في الصورتين ، فلا فرق إذن بين الوجهين إلّا أن يقال : إنّ هناك فرق بين تعلّق الرفع بنفس المنع من الترك ـ سواء لوحظ وحده أو مع غيره ـ وتعلّقه بمفهوم الوجوب ، فإنّ رفع الوجوب لا يستلزم الإذن في الترك إذ قد يكون مسكوتا عنه أو خاليا عن الحكم.

ويضعّفه : أنّه إمّا أن يقال بكون استلزام رفع المنع من الترك للإذن فيه عقليّا بأن يكون مفاد الاذن في الترك بعد المنع منه مساوقا لرفع المنع من تركه وحينئذ فلا ريب في حصول ذلك عند رفع الوجوب أيضا ، أو يقال بكونه لازما عرفيّا له حيث إنّ مفاد رفع المنع من الترك عرفا هو الإذن فيه ، وإن كان الإذن في الترك غير لازم لرفع المنع منه عقلا وحينئذ فلا ريب أيضا في كون المفهوم العرفي من قوله لا يجب عليك هذا الفعل كونه مأذونا في تركه فلا وجه للفرق بين الوجهين.

وعلى الثاني : بأنّه لمّا كان قضيّة الأصل بقاء الإذن كان النسخ متعلّقا بخصوص المنع من الترك ، وحينئذ فيضمّ [الإذن في الترك إلى](١) الإذن في الفعل على انضمام الفصل ـ أعني الإذن في الترك ـ إليه مانعا من جريان الاستصحاب نظرا إلى عدم العلم بحصول ما يتوقّف عليه ، فإنّه إمّا أن يراد بعدم العلم بحصول ما يتوقّف عليه عدم العلم بحصوله في نفسه أو عدم العلم بحصول انضمامه إليه (٢) ،

__________________

(١) لم يرد في ق ١.

(٢) العبارة من قوله : وحينئذ إلى هنا مشوّشة غير واضحة المعنى ، فلاحظ.

٦٤٧

أمّا الأوّل فقد عرفت وهنه ، وأمّا الثاني فلأن مجرّد الاستصحاب قاض بحصوله ، فإنّه إذا كان الإذن في الترك حاصلا وكان الإذن في الفعل مستصحبا حصل انضمام أحدهما إلى الآخر ، ولا يعارض الاستصحاب المذكور أصالة عدم الانضمام ، فإنّ الانضمام أمر اعتباري من توابع الاستصحاب المذكور وضروريّاته ، وقد عرفت أنّ أصالة عدم التابع لا يعارض استصحاب المتبوع.

والحاصل : أنّه يتوقّف استصحاب الجنس على حصول ما ينضمّ إليه من أحد الفصول ، فإذا حصل ذلك الفصل حصل الانضمام من استصحابه.

ثمّ إنّه قد بقي في كلامه امور :

أحدها : أنّه إن أراد بالإذن في الترك الإذن المساوي للإذن في الفعل لم يتّجه جعله لازما لرفع الوجوب ، فإنّ اللازم له هو الإذن الأعمّ. وإن أراد به المعنى الأعمّ لم يتّجه عدّه فصلا للإذن في الفعل ، ضرورة كونه معنى إبهاميّا مشتركا بين الأحكام الأربعة كالإذن في الفعل ، ومع انضمام أحدهما إلى الاخر إنّما يقلّ الاشتراك ، لدورانه حينئذ بين أحكام ثلاثة، فكيف يعقل حينئذ تحصّله به وخروجه عن الإبهام.

ثانيها : أنّ المستفاد من كلامه أنّه لو تعلّق النسخ بالمنع من الترك صحّ ما ذكر من الاستدلال فيحكم حينئذ ببقاء الجواز ، إلّا أنّه خارج عن محلّ الكلام وقد عرفت وهنه ، فإنّ الوجوب معنى بسيط بحسب الخارج فبعد ارتفاع المنع من الترك يرتفع الوجوب من أصله سواء جعلناه فصلا له أو لازما.

ثالثها : أنّ إخراج الصورة المذكورة عن محلّ الكلام ـ كما يفيد صريح قوله : إذ النزاع في النسخ الواقع بلفظ نسخت الوجوب ونحوه ـ غير متّجه حسب ما مرّت الإشارة إليه.

قوله : (والمقتضي للمركّب مقتض لأجزائه).

لا يخفى أنّ المقتضي للمركّب إنّما يكون مقتضيا لأجزائه من حيث اقتضائه للمركّب ، فإذا فرض ارتفاع المركّب ارتفع اقتضاؤه لأجزائه ، إذ لا اقتضاء بالنسبة

٦٤٨

إليها استقلالا وإنّما هي مقتضاه باقتضائه للكلّ ، ومع الغضّ عن ذلك فالمراد بكون الأمر مقتضيا للجواز اقتضاؤه إيّاه ابتداءا أو استدامة فإن اريد الأوّل فمسلّم ولا يفيد المدّعى ، وإن أريد الثاني فممنوع وكونه مقتضيا للجواز حال اقتضائه الوجوب لا يقضي بحصول الاقتضاء مع ارتفاع الوجوب ، وإمكان رفع المركّب بارتفاع أحد جزئيه وارتفاعهما معا ، فإنّه إذا جاز الوجهان ولم يعلم خصوص أحدهما لم يكن في اللفظ اقتضاء ودلالة على خصوص أحد الوجهين ، فيكون ذلك نظير العامّ المخصّص بالمجمل فكما لا يحكم هناك بإخراج الأقلّ وإدراج غيره تحت العامّ بل يتوقّف في الحكم إلى أن يجيء البيان فكذا في المقام ، فليس إذن في الأمر اقتضاء لبقاء الجواز إلّا أن يقال : إنّ المقصود أنّ ثبوت الجواز في ضمن ثبوت الوجوب قاض ببقائه من جهة الاستصحاب فليس المقصود الاستناد إلى الدلالة اللفظيّة وكون اللفظ مقتضيا لبقاء الجواز بل المقتضى له هو الاستصحاب بعد دلالة اللفظ على حصوله. وحينئذ يرد عليه ما مرّت الإشارة إليه.

قوله : (لأنّ الفصل علّة لوجود الحصّة الّتي ... الخ).

كان مرادهم بعلّية الفصل للجنس أنّ وجود الجنس مستند إلى وجود الفصل بأن يكون المتأصّل بحسب الوجود في الخارج هو الفصل ويكون الجنس موجودا بوجود الفصل تبعا له لاتّحاده به ، فهناك وجود واحد ينسب أصالة إلى الفصل وتبعا إلى الجنس وهما متّحدان بحسب الوجود.

نعم يتصوّر العلّية الحقيقيّة في الأنواع المركّبة بين ما يحاذي الفصل والجنس فإنّهما متغايران بحسب الوجود.

وقد يقال : إنّ المراد من علّية الفصل للجنس أنّه علّة لصفات الجنس في الذهن كالتعيين وزوال الإبهام ، فهو علّة له من حيث إنّه موصوف بتلك الصفات ، وإلّا فليس علّة له في العقل ، وإلّا لزم أن لا يعقل الجنس بدون الفصل ولا في الخارج ، وإلّا تغايرا في الوجود وامتنع الحمل.

وأنت خبير بما فيه كيف ولو اريد ذلك لم ينفع المستدلّ في شيء ، إذ لا ربط

٦٤٩

لذلك بانتفاء الجنس في الخارج من جهة انتفاء الفصل حسب ما ادّعاه المستدلّ.

قوله : (فقال إنّهما معلولان لعلّة واحدة).

لا يخفى أنّ القول المذكور أيضا كاف في ثبوت ما يريده المستدلّ فإنّهما إذا كانا معلولين لعلّة واحدة كان زوال أحدهما كاشفا عن زوال علّته القاضي بزوال المعلول الآخر ، فالتمسّك في دفع الاستدلال بقيام هذا الاحتمال ممّا لا وجه له.

ويدفعه : أنّه ليس المقصود من إبداء الاحتمال المذكور إلّا دفع الحكم بكون الفصل علّة للجنس وبيان كون ذلك من المسائل الخلافية ، والمقصود من ذلك عدم وضوح الحال في المسألة لا حصر الوجه فيه في القولين المذكورين حتى يقال بكون كلّ منهما كافيا في إثبات المقصود.

قوله : (ولا نسلّم أنّ ارتفاعه مطلقا ... الخ).

ما ذكره ظاهر بالنسبة إلى بعض العلل الناقصة كالشرائط ، وأمّا العلّة المقوّمة لوجود المعلول فلا يعقل ذلك فيه سيّما في المقام لما عرفت أنّه لا تغاير بحسب الخارج بين الجنس والفصل وإنّهما متّحدان في الوجود متغايران في لحاظ العقل وتحليله وحينئذ فيقال إنّ الموجود بالذات هو الفصل ، والجنس إنّما يوجد تبعا له من جهة الاتّحاديّة به ، فكيف يعقل حينئذ بقاء وجود الجنس بذلك الوجود بعد انتفاء الفصل المفروض ، غاية الأمر إمكان حصوله حصّة اخرى منه بوجود فصل آخر.

قوله : (مقتض لثبوت الإذن فيه) قد عرفت أنّه إن أراد اقتضاءه للإذن في الفعل على الوجه الشامل للإباحة وغيرها ممّا عدا الحرمة فمسلّم وليس فصلا ، وإن أراد اقتضاءه للإذن في الفعل على الوجه الّذي يساوي الترك فممنوع.

قوله : (ظهر أنّه ليس المدّعى ... الخ) هذا صريح في كون المراد بقولهم بقي الجواز في عنوان المسألة هو الجواز بالمعنى الأخصّ.

وقد عرفت أنّ إسناد البقاء إليه غير متّجه وما يذكره من التوجيه لا يصحّح ذلك.

والحاصل : أنّ إرادة المعنى المذكور بعيد عن التعبير المذكور جدّا. ثمّ إنّك

٦٥٠

قد عرفت أنّ ما يفيد بقاء الجواز بالمعنى الجنسي على فرض صحّته إنّما هو الاستصحاب دون الأمر ، فإنّه بعد تعلّق النسخ به ودورانه بين الوجهين لا يبقى هناك دلالة لفظيّة على بقاء الجنس حتّى يصحّ القول بثبوته بالأمر.

وقد يوجّه ذلك بأنّ المراد استناد ثبوت الجواز إلى الأمر في الجملة ولو باستناد ثبوته الاولى إليه واستناد بقائه حينئذ إلى الاستصحاب.

قوله : (فإن قيل رفع المركّب ... الخ).

يمكن تقرير الإيراد المذكور بوجهين :

أحدهما : أن يكون معارضة وإثباتا لانتفاء المقتضي في المقام بأن يقال : إنّ نسخ الوجوب رفع له في الخارج ، وكما يكون رفع المركّب برفع أحد جزئيه كذا يكون برفعهما معا ، فبعد ثبوت الرافع المذكور ودورانه بين الوجهين لا يبقى دلالة في لفظ الأمر على بقاء الجواز ، فيرجع إلى ما قرّرناه من الإيراد عند تقرير الاحتجاج. فالمقصود من قوله : لم يعلم ببقاء الجواز ، عدم دلالة اللفظ عليه المقتضي لبقائه فلا يعلم بقاؤه وقوله في الجواب : انّ الظاهر يقتضي البقاء ، يعني بقاء الجواز لتحقّق مقتضيه أوّلا أي الأمر الدالّ عليه قبل النسخ فيقضي الاستصحاب ببقائه فمحصّل الإيراد دفع الاقتضاء اللفظي ، ومحصّل الجواب تسليم ذلك والتمسّك بمجرّد استصحاب الجواز.

ثانيهما : أن يكون منعا لوجود المقتضي ، لدوران الأمر فيه بين وجهين يكون المقتضي موجودا على أحدهما منتفيا على الآخر ، فلا يعلم حينئذ بقاء الجواز بعد رفع الوجوب نظرا إلى عدم العلم بثبوت مقتضيه.

وتوضيحه أن يقال : إنّ الموانع الحاصلة قد تكون مانعة من تأثير المقتضي مع كونه مقتضيا في حال المنع إلّا أنّها لا تؤثّر لوجود المانع ، وقد تكون مانعة لأصل اقتضاء المقتضي حتّى إنّه لا يكون مقتضيا أصلا بعد وجود المانع.

فالأوّل يمكن التمسّك في رفعه عند الشكّ في حصوله بأصالة عدم المانع بخلاف الثاني ، فإنّه مع احتمال وجود المانع المفروض لا علم بوجود المقتضي ،

٦٥١

إذ الشكّ في حصول المانع المفروض يرجع إلى الشكّ في حصول المقتضي ، والمفروض في المقام من هذا القبيل ، فإنّه وإن كان رفع المركّب هنا برفع جزئيه لم يبق هناك مقتضي الجواز ، وإذا رجع الحال إلى الشكّ في وجود المقتضي فلا يتمّ ما ذكر من الحكم بوجود المقتضي ، وحينئذ فمحصّل الجواب أنّ لمّا كان المقتضي حاصلا قبل طروّ المانع المذكور فالأصل بقاؤه إلى أن يثبت خلافه ، وقضيّة ذلك بقاء الجواز لبقاء مقتضيه.

لكن يرد عليه حينئذ أنّ مجرّد بقاء استصحاب المقتضي غير مانع في المقام ، إذ لا أقلّ في مداليل الألفاظ من حصول الظنّ فلا يعوّل فيها على مجرّد الأصل. ودعوى حصول الظنّ في المقام كما قد يومئ إليه قوله : إنّ الظاهر يقتضي البقاء ممنوعة بعد دوران الأمر في رفع المركّب بين الوجهين المذكورين ، وكون أحدهما أقرب إلى الأصل لا يفيد الظنّ بإرادته كما هو الحال في تخصيص العامّ بالمجمل. وقد مرّ تفصيل الكلام فيه في محلّه.

ويمكن تقرير الجواب على الوجه الأوّل أيضا بأن يراد به إجراء الاستصحاب بالنسبة إلى نفس الجواز وإن لم نقل بجريانه بالنسبة إلى نفس المقتضي ولم نحكم ببقائه بعد طروّ النسخ، إلّا أنّه لمّا كان المقتضي موجودا قبل النسخ والجواز حاصلا به كان الجواز مستصحبا إلى أن يثبت خلافه وإن كان وجود المقتضي بعد النسخ مشكوكا فيه ، فإنّه لا ينافي جريان الاستصحاب بالنسبة إلى الجواز ، فعلى هذا يكون الضمير في قوله : والأصل في استمراره ، راجعا إلى الجواز أو ما بمعناه لا إلى المقتضي.

فظهر بما قرّرناه اندفاع ما أورد في المقام من عدم ارتباط الإيراد المذكور بشيء من مقدّمات المستدلّ ولا يصحّ جعله معارضة بل هو منع للمدّعى بعد الاستدلال عليه ، وكذا ما ذكر من الإيراد على الاستدلال بالوجه الثاني من الوجهين المتقدّمين ، واحتمل أن يكون ذلك هو مراد المورد لكنه خلط في تقريره ، ألا ترى أنّه قرّر الاستصحاب بالنسبة إلى نفس الجواز الظاهر في كون السؤال في بقائه لابقاء مقتضيه.

٦٥٢

وأنت بعد التأمّل فيما ذكر تعرف ضعف جميع ذلك فلا حاجة إلى التطويل.

قوله : (والجواب المنع من وجود المقتضي).

أورد عليه بأنّ ما ذكره سندا للمنع لا ربط له بنفي وجود المقتضي ، فإنّ عدم حصول المقتضي لا يدلّ على عدم وجود المقتضي لإمكان استناد انتفائه إلى وجود المانع.

ويدفعه : أنّ المقتضي للجواز حسب ما يؤول إليه كلام المستدلّ هو الاستصحاب وهو مدفوع بما سنبيّنه ، فيكون ما ذكره دفعا لثبوت المقتضي ، وحيث إنّ دفعه مبنيّ على عدم إمكان بقاء الإذن بنفسه بيّن ذلك بما قرّره ولو على القول بعدم علّية الفصل للجنس ، فالإيراد المذكور كأنّه بالنظر إلى بادئ الرأي مع قطع النظر عن ملاحظة ما ذكره في الجواب ، وأمّا بعد التأمّل فيه فلا مجال للإيراد المذكور أصلا كما لا يخفى ، وقوله في آخر كلامه : فإنّ انضمام القيد ممّا يتوقّف عليه وجود المقتضي ، صريح في ذلك.

قوله : (لأنّ انحصار الأحكام في الخمسة).

لا يخفى أنّه لابدّ أن يكون للإذن في الفعل مرتبة معيّنة بحسب الواقع من البلوغ إلى درجة المنع من الترك وعدمه ، وبلوغه في الثاني إلى درجة رجحان الفعل وعدمه وبلوغ الترك في الثاني إلى درجة الرجحان وعدمه ، ولا يعقل خلوّه عن إحدى المراتب المذكورة فبعد الحكم بتحقّق الإذن في المقام يتبعه القول بحصول إحدى تلك المراتب له عمّا سوى المرتبة الاولى.

غاية الأمر أنّه لابدّ من القول بحصول ما يوافق الأصل منها بعد تحقّق الإذن ، ولا يمكن أن يعارضه أصالة عدم الخصوصيّة المذكورة ، فإنّ تلك الخصوصيّة تابعة لبناء الإذن ، وقد عرفت أنّ أصالة عدم التابع لا يعارض أصالة بقاء المتبوع ، كما يعرف ذلك من تتبّع موارد جريان الاستصحاب كما مرّت الإشارة إليه.

قوله : (لكان معارضا بأصالة عدم القيد).

قد عرفت أنّ الإذن في الترك حاصل على الوجهين فلا وجه للقول بأصالة عدمه إلّا أن يقال : إنّه مع تعلّق النسخ بالجميع لا يحصل هناك إذن في الترك ، وهو كما ترى ، كما تقدّمت الإشارة إليه.

٦٥٣

نعم قد يتخيّل أنّ الانضمام أيضا على خلاف الأصل وهو إنّما يحصل بناء على بقاء الجواز فيكتفي به في معارضة الاستصحاب المذكور ، وكأنّه أشار إلى ذلك بقوله : فإنّ انضمام القيد ممّا يتوقّف عليه وجود المقتضي ، وفيه ما قد عرفت من أنّ الانضمام أمر اعتباري تابع لبقاء الإذن فلا يمكن أن يعارض به أصالة بقائه هذا.

ولنختم الكلام في الأوامر بذكر مسائل يتعلّق بها قد يتداول إيرادها في جملة مباحثها ، ولم يتعرّض المصنّف لبيانها ونحن نفصّل الكلام فيها :

ـ أحدها ـ

أنّه إذا تعلّق الأمر بموقّت فهل يفوت وجوب الفعل بفوات الوقت أو أنّه لا يسقط وجوب أصل الفعل لفوات وقته؟ فيجب الإتيان بعد الوقت أيضا إذا لم يأت به في وقته ، فيكون وجوب القضاء بالأمر الجديد على الأوّل وبالأمر الأوّل على الثاني قولان. وهذه المسألة جزئيّة من قاعدة كليّة وهي انّه إذا تعلّق الأمر بمقيّد ثمّ فات المقيّد أو لم يتمكّن المكلّف من الإتيان به كذلك فهل يجب الإتيان بالمطلق أو لا؟ سواء كان تقييده بزمان أو مكان أو آلة أو كيفيّة خارجة أو نحوها ، وهي قريبة المأخذ من المسألة المتقدّمة بل المناط فيها واحد في الحقيقة كما أشرنا إليه ثمّة.

وهنا مسألة اخرى نظير المسألة المذكورة وهي أنّه إذا تعلّق الأمر بالكلّ فلم يتمكّن المكلّف من الإتيان ببعض أجزائه فهل يسقط التكليف بالكلّ أو أنّه يجب الإتيان به على حسب ما يتمكّن من أجزائه إلّا أن يقوم دليل على السقوط؟

وأيضا إذا تعمّد ترك الإتيان ببعض أجزائه فهل الأصل حصول الامتثال على قدر ما يأتي به منها أو أنّه لا امتثال إلّا بأداء الكلّ؟ ونحن نفصّل البحث في جميع الصور المذكورة إن شاء الله تعالى إلّا أنّا نتكلّم أوّلا فيما هو محلّ البحث في المقام ثمّ نتبعه بالكلام عن سائر الأقسام.

٦٥٤

فنقول : إذا صدر من الآمر توقيت الفعل بزمان مخصوص ، فإمّا أن يتعلّق الأمر بالفعل مقيّدا بالزمان المفروض ، أو يتعلّق بالفعل مطلقا ثمّ يأمر بإتيانه في الوقت المعيّن ، وعلى التقديرين فإمّا أن يعلم أنّ المطلوب حصول المقيّد بما هو مقيّد ، أو يعلم كون كلّ من المطلق والخصوصيّة مطلوبا له ، أو لا يعلم شيء من الأمرين ، والحال في الأوّل والثاني ظاهر، وأمّا الثالث فهل الأصل إلحاقه بالصورة الاولى أو الثانية؟ اختلفوا فيه على قولين والمعروف بينهم هو الأوّل ، فقالوا يتوقّف وجوب القضاء على أمر جديد ، وقيل بعدم توقّفه بالمرّة ووجوب القضاء بعد فوات الوقت من جهة الأمر الأوّل.

وبنى العضدي الخلاف في ذلك على أنّ المأمور به في قولنا : صم يوم الجمعة شيئان في الخارج أو شيء واحد ، فالمطلق والخصوصيّة متعدّدان بحسب الوجود الخارجي في الأوّل ومتّحدان على الثاني وإن تعدّدا بحسب المفهوم الذهني ، وعبّر عن كلّ منهما بلفظ وجعل ذلك مبنيّا على الخلاف في كون الجنس والفصل متميّزين بحسب الوجود الخارجي في الأوّل ومتّحدان على الثاني وإن تعدّد بحسب المفهوم الذهني ، وعبّر عن كلّ منهما بلفظ وجعل ذلك مبنيّا على الخلاف في كون الجنس والفصل متميّزين بحسب الوجود الخارجي أو متّحدين ، ومقصوده أنّ اتّحاد المطلق والخصوصيّة بحسب الوجود مع تعلّق التكليف بالمقيّد قاض بانتفاء التكليف بالمطلق بعد فوات قيده قطعا ، إذ المفروض انتفاء المأمور به بفوات ذلك قطعا ، وتكليفه بحصّة اخرى من المطلق يتوقّف على أمر جديد فلا يعقل القول بوجوب المطلق حينئذ بالأمر الأوّل ، وأمّا إذا قيل بكونهما شيئين بحسب الوجود بعد تعلّق الوجوب بهما يتّجه القول ببقاء وجوب المطلق بعد فوات القيد استصحابا لوجوبه الثابت حال وجود القيد من غير قيام دليل على ارتفاعه بارتفاعه.

وأورد عليه :

تارة : بأنّ كونهما شيئين في الخارج لا يقتضي كون القضاء بالفرض الأوّل ولا ينافي كونه بأمر جديد ، لاحتمال أن يكون غرض الآمر الإتيان بهما مجتمعا فمع انتفاء أحدهما ينتفي الاجتماع.

٦٥٥

واخرى : بأنّه لا يفيد كونهما شيئا واحدا في نفي كون القضاء بالأمر الأوّل لاحتمال كون المراد هو الإتيان بالمطلق لا بشرط الخصوصيّة وإنّما ذكر المقيد لحصول المطلق في ضمنه من غير اعتبار الخصوصيّة الحاصلة معه فلا ينتفي المطلق بفوات القيد.

واورد على الأوّل بما عرفت : من أن المأمور به إذا كان متعدّدا في الخارج لم يكن مجرّد زوال أحدهما قاضيا بزوال الآخر ، وقضيّة الأصل حينئذ بقاؤه.

نعم لو علم إناطة أحدهما بالآخر في ثبوت الحكم ثبت ذلك إلّا أنّه غير معلوم ، بخلاف ما إذا كانا متّحدين في الخارج فإنّ ارتفاع أحدهما عين ارتفاع الآخر.

ويدفعه : أنّ ذلك لو تمّ فإنّما يتمّ إذا تعلّق الوجوب بكلّ من الأمرين وشكّ في ارتباط وجوب أحدهما بالآخر ، فإنّه قد يقال حينئذ بأصالة عدم ربط الأمر بأحدهما للأمر بالآخر مع أنّه مشكل أيضا.

وأمّا إذا قيل بتعلّق الأمر بهما تبعا من غير تعلّقه بخصوص شيء منهما إلّا بالتبع على نحو وجوب المقدّمة على القول به فلا مجال لما ذكر ، فإنّه مع الشكّ في تعلّق الأمر بالمجموع من حيث هو مجموع أو بخصوص كلّ منهما لا يعقل القول بكون الأصل تعلّقه بكلّ منهما ، ولا لاستصحاب بقاء وجوب أحدهما بعد انتفاء الآخر ، وحينئذ فالإيراد المذكور يتّجه جدّا. لكن يرد على الثاني خروج الفرض المذكور عن محلّ النزاع فإنّ مورد البحث ما إذا كانت الخصوصيّة مطلوبة إذ المفروض توقيت الوجوب وكون الخارج عن الوقت قضاء فلا وجه لإبداء الاحتمال المذكور.

ويمكن توجيهه بفرض الخصوصيّة مطلوبة على الاستقلال من غير أن تكون مخصّصة لأصل الطلب فيرجع التكليف بالصيام في يوم الجمعة في المثال المذكور إلى أمرين مستقلّين على ما هو الحال في التكليف بالحجّ في السنة الاولى والأمر بأداء الدين عند حلوله وما أشبه ذلك ، فإنّ الطلب في تلك المقامات وإن تعلّق بأمر

٦٥٦

واحد في الخارج لا تعدّد فيه بحسب الوجود إلّا أنّه بحسب المراد الواقعي ينحلّ إلى أمرين :

أحدهما : التكليف به من حيث حصول المطلق في ضمنه ، فيكون المطلوب بهذا الاعتبار مطلق الصيام من غير اعتبار الخصوصيّة في أصل المطلوبيّة.

والآخر : التكليف به مع اعتبار الخصوصيّة فيه بمعنى الأمر بالمبادرة إليه ، فيكون الآمر قد جمع بين التكليفين في خطابه المذكور.

وفيه : أنّ الأمر المذكور خارج عن مدلول الخطاب وإنّما يثبت بدليل من خارج ، وإلّا فلا يعقل استفادة التكليفين المذكورين من الأمر الواحد المتعلّق بالفعل الواحد ، لوضوح تنافي الاعتبارين المذكورين وتضادّهما فيمتنع اجتماعهما فيه.

وقد يورد عليه أيضا : بأنّ الاحتمال المذكور إنّما يتصوّر فيما ذكر من الجنس والفصل، إذ لا تقوّم للجنس بدون الفصل في الخارج دون ما نحن فيه من القيد والمقيّد كالصوم ويوم الجمعة ـ مثلا ـ فإنّهما شيئان متمايزان في الخارج لا يعقل اتّحادهما ، لخروج الزمان عن ماهيّة المأمور به وإنّما قيّد به لكونه ظرفا للفعل ومطلقه من ضروريّات المأمور به ولا يعقل تعلّق الطلب به.

وهو سهو ظاهر ، إذ ليس المراد من القيد في المقام نفس الزمان المخصوص وإنّما هو الإيقاع المخصوص ولا شكّ في اتّحاده مع المطلق بل هو أولى بالاتّحاد من الجنس والفصل ، لأنّهما ماهيّتان مختلفتان بحسب الحقيقة.

فقد يتوهّم لذلك تمايزهما في الخارج بخلاف المطلق والمقيّد ، لاتّحادهما بحسب الخارج والحقيقة وإنّما يختلفان بحسب الاعتبار ، فلا يعقل التمايز بينهما في الخارج وإلّا لزم القول بتركّب البسائط الخارجيّة والامور الاعتباريّة من امور كثيرة متمايزة في الخارج وهو خلاف الضرورة ، وبناء كلام الخصم على ذلك غير ظاهر بل الظاهر ابتناؤه على ما مر في المسألة السابقة من القول بجواز استصحاب الوجوب بعد نسخ الجواز.

٦٥٧

فظهر أنّ تفريع المسألة على مسألة الجنس غير متّجه. على أنّه إمّا يقال بعلّية الفصل للجنس أو بكونهما معلولين لعلّة واحدة ، وعلى الوجهين فيمتنع انفكاك أحدهما عن الآخر. وأمّا الحاصل بسائر الفصول فموجود آخر غير الأوّل ففرض تمايزهما في الخارج لا يفيد المقصود ، لأنّه لا يقتضي جواز الانفكاك ، فكان الأولى إذن بناؤها على جواز الانفكاك وعدمه لا على مجرّد التمايز ، لكنّه أيضا غير واضح ، إذ الكلام هنا في المطلوبيّة ولا إشكال في جواز الانفكاك فيها.

ثمّ القول بتمايز الجنس والفصل بحسب الخارج واضح الفساد كما تقرّر في محلّه ، وإلّا لامتنع حمل أحدهما على الموجود الخارجي ، لوضوح أنّ المركّب من الداخل والخارج خارج عن الشيء لا يصحّ حمله عليه ، ثمّ لو فرضنا صحّة ذلك بحسب التدقيق العقلي وقلنا بجواز انفكاك أحدهما عن الآخر أيضا كذلك فلا شكّ في خروجه عن المفهوم العرفي ، إذ لا يكاد يفهم من المقيّد الخارجي إلّا أمر واحد لا تركّب فيه بحسب العرف.

ومن البيّن أنّ المدار في مداليل الخطابات على فهم العرف ، لتوجّهها إلى عامّة الناس ومنهم أهل البوادي والقرى وأمثالهم ، وقد لا يكون التكليف مستفادا من الألفاظ وإنّما يستفاد من إجماع أو نحوه ممّا لا يكون له ظاهر يعوّل عليه ، وإنّما يدور الأمر إذن مدار القدر المتيقّن ، وعلى الوجهين فالقدر المعلوم تعلّق الطلب بالخصوصيّة سواء قلنا بتمايزها عن المطلق أو لم نقل ، فيرجع في غيره إلى أصل البراءة.

والحاصل أنّ الاحتمال الأوّل في المقام واضح الفساد ، وعلى فرضه فاستصحاب الأمر المتعلّق بالمطلق أيضا بيّن البطلان.

وأورد عليه أيضا بأنّ الجنس لا يتقوّم في الخارج إلّا بالفصل سواء قلنا بتمايزهما فيه أو لا ، فيتوقّف بقاء الجنس عند زوال فصله على وجود فصل آخر ، فكما أنّ الأصل بقاء الجنس كذا الأصل عدم قيام فصل آخر مقام الأوّل.

ويدفعه : أنّ استصحاب الأمر المتعلّق بالمطلق على فرض صحّته لا يتوقّف على إثبات اللوازم الغير المقصودة وإن كانت مخالفة للأصل.

٦٥٨

ألا ترى أنّه قد يستصحب حياة الغائب مع مخالفة أكثر لوازمها للاصول ، على أنّه ليس الغرض إثبات وجود المطلق في الخارج ليستلزم وجود فصل آخر وإنّما الغرض بقاؤه على المطلوبيّة ، ومن البيّن أنّ خصوصيّة الفصل الآخر لا مدخليّة لها في المطلوبيّة ، فلا يتوقّف على إثبات الخصوصيّة وإن توقّف عليها في الوجود الخارجي.

وقد يوجّه تفريع المسألة على الوجهين المذكورين بقاعدة ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه ، فإن قلنا بتمايز المطلق والمقيّد في الخارج أمكن إرجاعه إليها والتمسّك في وجوب المطلق بعد تعذّر القيد بتلك القاعدة وإلّا فلا.

وفيه : أنّ رجوعه إلى ذلك بالتحليل العقلي على فرضه لا يجدي شيئا ، بل المدار على الفهم العرفي كما عرفت ، وسيأتي التنبيه على مدلوله إن شاء الله تعالى.

هذا كلّه فيما إذا تعلّق الأمر بنفس المقيّد بالوقت. أمّا إذا تعلّق بالفعل ثمّ أمر بإتيانه في الوقت المخصوص فإن دلّ الثاني ولو بضميمة القرائن على تقييد الأوّل رجع إلى الأوّل ، وإلّا خرج عن محلّ المسألة ، فيلزم التمسّك بالإطلاق حتّى يثبت التقييد فيدلّ مع عدم ثبوته على تعدّد الطلب والمطلوب سواء اقترن الخطابان أو افترقا.

ولا يخفى أنّ أكثر المطلقات المجامعة مع الخطابات المقيّدة ببعض الخصوصيّات من قبيل الأوّل ، وحينئذ فقد يحمل المشكوك فيه على الأعمّ الأغلب فيحمل المطلق على المقيّد ، إلّا مع قيام القرينة الدالّة على تعدّد الطلب والمطلوب.

ولا فرق فيما ذكر بين التقييد بالوقت وغيره من القيود ـ إلّا أنّ الكلام هنا إنّما وقع في الأوّل ـ ولا بين الإيجاب والندب.

وربما يقال بجريان مثله في النهي أيضا سواء ورد على وجه التحريم أو الكراهة ، بل وغيره من الخطابات المشتملة على تعليق بعض الأحكام على الوقت أو غيره ، كتعليق الخيار وحقّ الشفعة وغيرهما على الزمان المخصوص أو الحالة

٦٥٩

الخاصّة أو غيرهما ، كما في خيار المجلس والحيوان والشرط وغيرها ، إذ لو صحّ استصحاب حكم المطلق بعد زوال الخصوصيّة بناء على تميّزه عنها لجرى في الجميع على حدّ سواء.

وحيث إنّه في تلك الموارد واضح الضعف كان شاهدا على ضعف المبنى المذكور.

ولا فرق أيضا بين كون الدالّ على الطلب لفظا أو غيره ، ولا في اللفظ بين صيغة الأمر وغيره ، ولا في الزمان بين الوقت المحدود وغيره كزمان الفور مثلا سواء قلنا بدلالة الأمر بنفسه على الفور أو ثبت التقييد به في نفس الخطاب ، إلّا أنّهم ذكروا في الأوّل كلاما تقدّم التنبيه عليه في مسألة الفور والتراخي ، فالوجه خروجه عن محلّ الكلام في المقام. فمحلّ المسألة أنّ الطلب المتعلّق بالفعل المقيّد بزمان مخصوص هل يدلّ على ثبوته فيما بعده على تقدير الإخلال به أو بشيء من شرائطه والامور المعتبرة فيه عمدا أو سهوا وخطأ أو لغير ذلك من المعاذير فيكون القضاء ثابتا بنفس الأمر ولو بضميمة الاستصحاب ، أو لا يدلّ على ذلك حتّى يقوم عليه دليل آخر مع القطع بعدم دلالته على نفيه فحكمه حينئذ مسكوت عنه حتّى يقوم شاهد آخر على النفي أو الإثبات؟ فالمعروف بينهم هو الثاني ، بل لا نعرف فيه مخالفا من أصحابنا.

وعزي القول به إلى المحقّقين من المعتزلة والأشاعرة ، وعن جماعة من العامّة اختيار الأوّل وحكاه الآمدي عن الحنابلة وكثير من الفقهاء. وحكي عن أبي زيد الديوسي أنّه قال بوجوب القضاء بقياس الشرع.

ويظهر من بعض أصحابنا القول بثبوته بالغلبة ، ومرجعهما إلى الثاني ، لتوافقهما على عدم دلالة الأمر بنفسه ، ويدلّ عليه وجوه :

منها : الأصل فإنّ ذلك أمر زائد على القدر المعلوم من مدلول اللفظ فالأصل عدمه ، إذ الكلام إنّما هو في إثبات الدلالة ونفيها ، إذ لا مجال لتوهّم الدلالة على نفي القضاء كما عرفت.

وأيضا فالأصل البراءة من التكليف بالقضاء حتّى يثبت.

٦٦٠