هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٨٣

ومستند القائل بالمفهوم من ظهور الكلام في إناطة الحكم بالوصف أو لزوم خلوّه عن الفائدة أو نحو ذلك جار في المقامين على نهج واحد ، ولذا لم يفرّق أحد في مدلول الروايات المشتملة على بيان الأحكام الشرعيّة بين التعبيرين.

غاية الأمر انتفاء الدلالة على المفهوم في الإخبار في جملة من المقامات ، كما يجري مثله في الإنشاءات ، وذلك أمر آخر لا يمنع من ثبوت المفهوم في غيرها ، فلا فرق بين قولك : «يجب إكرام الرجل العالم» وقولك : «أكرم الرجل العالم» في إفادة المفهوم وعدمها ، كما لا يخفى.

والقول بأنّ الإنشاء حيث لا خارج له يطابقه أو لا يطابقه لا يمكن تعلّقه بغير المذكور فينتفي عن غيره بخلاف الأخبار مدفوع :

أوّلا : بجريانه في مطلق القيود من الألقاب وغيرها.

وثانيا : باشتراكهما في اختصاص موردهما الشخصي بالمذكور وإمكان تعلّق نوعه بغيره.

وثالثا : بما مرّ بيانه في مفهوم الشرط ، ويأتي توضيحه في مفهوم الغاية أيضا.

ومنها : التفصيل بين التوصيف بوصف الغير وما يؤدّي مؤدّاه ، كقولك : «أكرم الناس غير الكفّار وسوى الفسّاق» وغير ذلك ، فيدلّ على انتفاء الحكم بانتفاء الأوّل دون غيره ، ذهب إليه بعض المتأخّرين ، وهو خروج عن محلّ الكلام ، إذ الأوّل يجري مجرى الاستثناء ويفيد معناه ، ولا كلام عندنا في دلالته إذا على المعنى المذكور ، وأين ذلك ممّا نحن فيه من دلالة التعليق على الوصف من حيث هو على ذلك؟

ومنها : التفصيل بين الوصف الصريح والوصف المفهوم من الكلام ، أو بضميمة قرائن المقام ، كالوصف المستفاد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لئن يمتلئ جوف الرجل قيحا خير من أن يمتلئ شعرا» (١) لدلالته على الشعر الموصوف بالكثرة ، وظاهر الأكثر

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٧٩ ص ٢٩٢.

٥٠١

عدم الفرق بين المقامين ، ولذا احتجّوا بقول أبي عبيدة في المثال المذكور ونحوه ، إلّا أنّ ظاهر العنوان لا يتناوله.

ومنها : التفصيل بين الوصف الظاهر في المدح أو الذمّ أو التأكيد أو الجواب عن السؤال المخصوص ، أو غيرها من الفوائد وما لا يظهر منه سوى إناطة الحكم به ، فإنّ الأوّل يفيد التوضيح ، ونحوه لو ظهر هناك مانع من عذر أو جهالة من بيان الحكم في غير مورد الوصف. والثاني ظاهر في الاحتراز ، والظاهر خروج الأوّل عن محلّ المسألة كما مرّت الإشارة إليه في محلّ النزاع. وكذا الوصف المساوي للموصوف أو الأعمّ مطلقا ، كما في قولك : «أشتهي العسل الحلو» لتمحّضه للتوضيح وإن أمكن إشعاره بإناطة الحكم بمطلق الحلاوة ، لكنّه ضعيف جدّا.

ومنها : التفصيل بين التوصيف بالوصف الوارد في مورد الغالب ، كما في قوله تعالى : (وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) وغيره ، فلا دلالة في الأوّل على المفهوم ، لظهوره في إرادة التوضيح تنزيلا للأفراد النادرة منزلة المعدوم ، فلا يظهر منه إرادة الانتفاء عند الانتفاء ، ولا أقلّ من الشكّ ، فلا يمكن الاحتجاج به. ويمكن التفصيل في ذلك بين غلبة الوجود وغلبة الإطلاق ، ويقابل الأوّل ندرة الوجود ، والثاني ندرة الإطلاق. كما فرّقوا بذلك في شمول المطلقات للأفراد النادرة وعدمه. فعلى الثاني لا يكون الموصوف شاملا للفرد النادر من أصله ، فيكون الوصف توضيحيّا كما في الأوصاف اللازمة ، ولا يكون هناك تخصيص بعد التعميم ليفيد حكم المفهوم ، بخلاف الأوّل لشموله للأفراد النادرة ، فيظهر من التخصيص بغيرها إرادة المفهوم كما في غيرها.

وينبغي التنبيه على امور :

الأوّل : أنّ ما اشتهر بينهم من تعليل مفهوم الوصف بلزوم خلوّه عن الفائدة يجري في مطلق القيد الواقع في الكلام بعد اللفظ المطلق أو العامّ وإن كان من الألقاب أو أسماء العدد أو الزمان أو المكان أو غيرها ، فمقتضاه دلالتها أيضا على المفهوم سواء وقعت قيودا للحكم المنطوق به أو لموضوعه المذكور فيه.

٥٠٢

ويؤيّده : ملاحظة الحال في عدّة من الأمثلة الّتي ذكروها في بيان المسألة والاحتجاج عليها ، كتمثيل البصري بحديث التحالف والشاهدين ، واحتجاج بعضهم بما جاء في تقييد الاستغفار بالسبعين في الآية الشريفة ، وبقوله عليه‌السلام : «الماء من الماء» حيث جعلوه منسوخا بحديث التقاء الختانين ، وتمسّك ابن عبّاس بقوله تعالى : (لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ)(١) إلى غير ذلك.

والظاهر من كلمات أكثر القائلين بمفهوم الوصف الفرق بين الأوصاف وغيرها من القيود ، ففي التقييد بالوصف عندهم خصوصيّة اخرى قاضية بالدلالة على ذلك ، فكأنّ المعوّل عليه عندهم دعوى ظهور التعليق على الوصف في إناطة الحكم به القاضية بانتفائه عند انتفائه ، ولذا لم يفرّقوا في ذلك بين الوصف الواقع قيدا في الكلام أو موضوعا للحكم مستقلّا كما مرّ التنبيه عليه.

فالنسبة بين مقتضى التعليلين المذكورين من قبيل العموم من وجه ، لتحقّق الأوّل في التقييد بغير الوصف ، والثاني في غير القيود. والحقّ ما عرفت من أنّ في كلّ من الأمرين إشعارا لا يبلغ بمجرّده حدّ الدلالة المعتبرة إلّا إذا انضمّ إليه من خصوصيّات المقام ما يفيد ذلك المعنى ويدلّ عليه بحسب العرف ، كما في القيود والأوصاف الواقعة في مقام البيان ، وفي مقام العمل الظاهر في الحصر ، أو حيث يحصل الظنّ المعتبر بانحصار فائدتها في ذلك ، أو عند ظهور عدم تعلّق الغرض بسائر الفوائد المتصوّرة.

الثاني : أنّه ذكر جماعة من العامّة : أنّ مفهوم المشتقّ الدالّ على الجنس مثل قولهعليه‌السلام : «لا تبيعوا الطعام بالطعام» راجع إلى مفهوم الصفة ، معلّلين بأنّ المراد بها ما هو أعمّ من النعت النحوي ، قاله التفتازاني والباغنوني ، وعدّه العلّامة والآمدي قريبا من اللقب ، وكان الغرض من ذلك جهة اشتقاقه من الطعم الراجع إلى الوصف ، أي المطعوم دون اشتقاق المزيد من المجرّد وإن لم يفد معنى الوصفيّة كما يظهر

__________________

(١) النساء : ١٧٦.

٥٠٣

من العنوان ، إذ ليس له مدخليّة في إفادة المفهوم وإن كان الأوّل أيضا كذلك ، لعدم ملاحظة المعنى الأصلي في استعماله ، كما في الألقاب الدالّة بحسب الأصل على ما يوجب المدح أو الذمّ ، لزوال المعنى الوصفي بالتسمية ، فينتفي عنه تلك الخصوصيّة ، ولذا عبّروا باللقب عن مطلق الاسم ، كما سنشير إليه إن شاء الله تعالى. فالمثال المذكور وغيره من الأسماء المشتقّة الدالّة على المعنى الجنسي مندرج في اللقب بعينه ، إذ لا فرق فيه بين الأعلام بأقسامها وأسماء الأجناس ، فيجري فيه الكلام في مفهوم اللقب لغيره.

نعم ، في جملة من الأسماء والقيود الواقعة في الكلام خصوصيّات تشعر بإرادة المفهوم وتدلّ عليه على حسب اختلاف المقامات ولأجلها وقع فيها خلاف آخر يأتي التنبيه عليه إن شاء الله ، وذلك كأسماء الأعداد المعيّنة والمقادير المشخّصة ، وسائر الهيئات التركيبيّة ، وخصوصيّات الأحوال الخاصّة ، والأزمنة والأمكنة المخصوصة ، ونحوها فإنّ تعليق الحكم عليها يشعر بإناطته بها وتوقّفه عليها ، فإذا انضمّ إليها من خصوصيّات المقام ما يوجب بلوغه حدّ الدلالة أو يقضي بظهور انحصار الفائدة في إفادة المفهوم دلّ على الانتفاء عند الانتفاء ، وليس في لفظ «الطعام» شيء من تلك الخصوصيّات ، فلا مجال لتوهّم الفرق بينه وبين غيره من الألقاب كما لا يخفى.

نعم ، حكي عن الإمام في البرهان : أنّ جميع جهات التخصيص راجعة إلى الصفة ، فإنّ المحدود والمعدود موصوفان بحدّهما وعدّهما ، وقس عليهما البواقي ، وهذا وإن كان يشعر به كلام جماعة منهم في الأمثلة والاحتجاجات إلّا أنّه مخالف لكلماتهم في عنوان المسألة ، لتوقّفه على استفادة المعنى الوصفي ولو ضمنا كما هو ظاهر ، ولذا أطلقوا عدم العبرة بمفهوم اللقب.

الثالث : أنّ تعليق الحكم على الوصف في بعض الأجناس على القول بإثبات المفهوم فيه إنّما يدلّ على انتفاء الحكم بانتفائه في ذلك الجنس دون غيره ، وأمّا تعليقه على ذلك الجنس فمن اللقب ، فلو فرض إثبات المفهوم في مثله دلّ على

٥٠٤

انتفاء الحكم في غيره ، سواء كان موصوفا بالوصف المفروض أو بضدّه ، فلا مجال لتوهّم الدلالة على انتفاء الحكم بانتفاء الوصف المفروض في سائر الأجناس ، إذ المفهوم إنّما يتبع المنطوق ، ومحصّله انتفاء الحكم المذكور فيه عن موضوعه بانتفاء وصفه.

وربّما يسبق إلى بعض الأوهام أنّ تعليق وجوب الزكاة على سائمة الغنم يقتضي نفي الزكاة عن المعلوفة في جميع الأجناس ، وحكى الرازي عن بعض الفقهاء من أصحابه القول بذلك ، معلّلا بأنّ السوم يجري مجرى العلّة في وجوب الزكاة ، فيلزم من انتفاء العلّة انتفاء الحكم ، وهو وهم فاحش ، إذ فساده يلحق بالضروريّات ، بل العلّة سوم الغنم دون مطلق السوم ، إذ لم يتعرّض فيه لحكم سائر الأجناس بنفي ولا إثبات. ومن البيّن أنّ النفي في ذلك تابع للإثبات ، وهو من الوضوح بمكان.

الرابع : أنّه قال العلّامة : الوصفان المتضادّان إذا علّق الحكم على أحدهما اقتضى نفيه عن الآخر عند القائل بدليل الخطاب ، وهل يقتضي نفيه عن النقيض؟ إشكال.

وأنت خبير بأنّ مقتضى المفهوم انتفاء الحكم بانتفاء الوصف على نفي انتفائه بانتفاء علّته ، سواء تحقّق هناك ضدّ الوصف المفروض أو لا ، فمع الشكّ في حصول الوصف المفروض يصحّ نفيه بالأصل فيبنى على انتفاء الحكم فيه ، فتأمّل.

الخامس : أنّه ذهب بعضهم إلى أنّ مفهوم الوصف على القول به يخالف المنطوق في الكلّية والجزئيّة ، فإذا قلت : «كلّ غنم سائمة فيها الزكاة» كان مفهومه ليس كلّ غنم معلوفة كذلك. وإن قلت : «بعض السائمة فيها الزكاة» كان مفهومه لا شيء من المعلوفة كذلك.

ويظهر من بعضهم خلاف ذلك ، حيث قال : مفهوم قولنا : «كلّ حيوان مأكول اللحم يتوضّأ من سؤره ويشرب» أنّه لا شيء ممّا لا يؤكل لحمه كذلك. وقد تقدّم في مفهوم الشرط ما يغني عن إطالة الكلام في ذلك.

* * *

٥٠٥
٥٠٦

معالم الدين :

أصل

والأصحّ أنّ التقييد بالغاية يدلّ على مخالفة ما بعدها لما قبلها ، وفاقا لأكثر المحقّقين. وخالف في ذلك السيّد رضى الله عنه فقال : «تعليق الحكم بغاية ، إنّما يدلّ على ثبوته إلى تلك الغاية ، وما بعدها يعلم انتفاؤه أو إثباته بدليل». ووافقه على هذا بعض العامّة.

لنا : أنّ قول القائل : «صوموا إلى الليل» معناه : آخر وجوب الصوم مجيء الليل. فلو فرض ثبوت الوجوب بعد مجيئه ، لم يكن الليل آخرا ، وهو خلاف المنطوق.

واحتجّ السيّد رضى الله عنه بنحو ما سبق في الاحتجاج على نفي دلالة التخصيص بالوصف ، حتّى أنّه قال : «من فرّق بين تعليق الحكم بصفة وتعليقه بغاية ، ليس معه إلّا الدعوى. وهو كالمناقض ؛ لفرقه بين أمرين لا فرق بينهما ؛ فإن قال : فأيّ معنى لقوله تعالى: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) إذا كان ما بعد الليل يجوز أن يكون فيه صوم؟ قلنا : وأيّ معنى لقوله عليه‌السلام : «في سائمة الغنم زكاة» والمعلوفة مثلها. فإن قيل : لا يمتنع أن تكون المصلحة في أن يعلم ثبوت الزكاة في السائمة بهذا النصّ ،

٥٠٧

ويعلم ثبوتها في المعلوفة بدليل آخر. قلنا : لا يمتنع فيما علّق بغاية ، حرفا بحرف».

والجواب : المنع من مساواته للتعليق بالصفة ؛ فإنّ اللزوم هنا ظاهر ؛ إذ لا ينفكّ تصوّر الصوم المقيّد بكون آخره الليل ، مثلا ، عن عدمه في الليل ، بخلافه هناك ، كما علمت. ومبالغة السيّد رحمه‌الله في التسوية بينهما لا وجه لها.

والتحقيق ما ذكره بعض الأفاضل ، من أنّه أقوى دلالة من التعليق بالشرط. ولهذا قال بدلالته كلّ من قال بدلالة الشرط وبعض من لم يقل بها.

٥٠٨

قوله : (والأصحّ أنّ التقييد بالغاية يدلّ على مخالفة ما بعدها لما قبلها).

من جملة المفاهيم : مفهوم الغاية ، وهو ثالث أقسام مفهوم المخالفة الّذي يعبّر عنه بدليل الخطاب ، وهو أقوى من الأوّلين كما يأتي ، ولابدّ من تحرير محلّ النزاع فيه.

فنقول : إنّ الغاية قد يطلق ويراد بها فائدة الشيء وثمرته ، كما يقال في أوائل العلوم بعد تعريف العلم وبيان موضوعه : إنّ غايته كذا.

وقد يطلق ويراد بها تمام المسافة زمانا أو مكانا ، كما في قولهم : «من» لابتداء الغاية ، و «إلى» لانتهائها. وتوجيهه بأنّ المراد أنّها لإفادة كون مدخولها غاية ونهاية كما ترى ، وكان منه قوله عليه‌السلام : هو قبل القبل بلا غاية ولا منتهى غاية ، وقوله : انقطعت عنه الغايات.

وقد يطلق على ما دخلت عليه أداة الغاية ، ولذا يعبّر عن دخوله في المغيّا أو خروجه بدخول الغاية وخروجها.

وقد يطلق على نهاية الشيء بمعنى الجزء الأخير منه الّذي يمتدّ ذلك الشيء إليه بنفسه، أو بحسب محلّه ، أو زمانه ، أو مكانه ، فيدخل فيه وإن قلنا بخروج ما بعد الأداة ، كما تقول : غاية مرامي ومنتهى مقصدي كذا ، وغاية ما في الباب كذا مع احتمالها للمعنى الثاني.

وقد يطلق على حدّه الخارج عنه المتّصل بآخره وإن قلنا بدخول ما بعد الأداة ، كما قد يقال : غايات الدار لنهاياتها ، ويراد بها حدودها ، وكان منه قوله عليه‌السلام : «هو غاية كلّ غاية». ومثله قولك : «يا غاية أمل الآملين ، ورجاء الراجين ، ورغبة الراغبين ، ومطلب الطالبين ، ومنى المحبّين ، وما أشبه ذلك يريد بذلك انتهاءها إليه ، وكان الأوّل مأخوذ من أحد الأخيرين ، فإنّ فائدة الشيء وثمرته هي غايته الّتي ينتهي ذلك الشيء إليها وينقطع دونها فكأنّها نهايته وحدّه. إمّا بادّعاء دخولها فيه ووقوعها في آخره لأنّها المقصودة منه فلا يطلب وراءها أمر ، أو وعلى أنّها خارجة عن ذلك الشيء فكأنّها حدّه الّذي يتّصل به.

٥٠٩

وأمّا الثاني فيمكن أن يكون إطلاق الغاية عليه من باب إطلاق اسم الجزء على الكلّ، لعدم تبادر المجموع من إطلاق الغاية ، وإنّما يطلق عليه أحيانا لقيام القرينة عليه ، كما قد يطلق المنتهى على تمام الشيء لا خصوص جزئه الأخير ، كما يقال : منتهى المطلب والكلام ، وغاية المأمول والمرام ، وفي الدعاء : «أسألك بمنتهى الرحمة من كتابك» أي برحمتك كلّها ، إذ الوصول إلى الغاية وصول إلى الجميع.

والثالث يرجع إلى أحد الأخيرين على اختلاف القولين ، وهل هي مشتركة بينهما لفظا أو معنى ، أو حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر؟ وجوه مبنيّة على أنّ الأصل دخول الغاية في المغيّا أو خروجها عنه ، أو هي قابلة للمعنيين صالحة لكلّ من الوجهين حتّى يقوم قرينة على إحدى الخصوصيّتين.

والوجه أن يقال : إنّ هذا الكلام ان اريد به تحقيق معنى الغاية كان أحرى بالبناء على الأوّل والتفرّع عليه ، لوضوح أنّ الأصل حمل اللفظ على حقيقته إلى أن يقوم هناك قرينة أو شاهد على الخروج عنها ، وهو ظاهر ، وإن رجع إلى تحقيق معنى الأداة ففيه الخلاف المعروف بين النحاة والاصوليّين ، وهو : أنّ مدخول «إلى» وما يؤدّي مؤدّاها هل يندرج في المغيّا بها ، أو لا؟

وعلى الثاني فهل فيه دلالة على خروجه عنه ، أو لا يدلّ على شيء من الأمرين إلّا بقرينة من الخارج؟ وهذا الخلاف لا يبتني على تحقيق معنى الغاية ، ولا هو ممّا يتفرّع على الخلاف المذكور ، فيمكن القول بدخول الغاية وخروج ما بعد الأداة ، فيكون وضعها لانتهاء الغاية ، بمعنى انقطاعها عندها فلا يكون ما بعدها غاية. ويمكن العكس أيضا فيكون انتهاؤها بانتهاء مدخولها ، إذ الغاية هنا بمعنى المسافة فتكون الغاية بالمعنى المذكور خارجة عنها ، إلّا أنّ الظاهر من كلماتهم والمعروف في إطلاقاتهم أن يكون ما بعد الأداة غاية ، فيكون قولك : «صم إلى الليل» في معنى صم صياما غايته الليل ، وذلك يعطي توافقهما في المدلول.

وزعم بعضهم أنّ خروج غاية الشيء ونهايته عنه ضروريّ وإنّما يتردّد لفظ الآخر بين المعنيين لإطلاقه عليهما ، وهو كما ترى.

٥١٠

والّذي يقتضيه التحقيق والنظر الدقيق : أنّ معنى الغاية والآخر والنهاية بحسب أصلها وحقيقتها إنّما يقع فيما بين الجزءين المذكورين الداخلي والخارجي ، فليس شيء منهما بحقيقته غاية الشيء المستمرّ وآخره ومنتهاه. وكذا الحال في المبدأ فإنّه يقابل المنتهى ، فحقيقتهما حينئذ أمران موهومان اعتباريّان منتزعان من طرفي الشيء الممتدّ ، كالسطح المتوهّم بين الجسمين ، فيدخل ما بعد الأداة فيما بعد الغاية بالمعنى المذكور على القول بخروجه عن المغيّا ، وفيما قبلها على القول بدخوله. وحيث إنّ الأمر الاعتباري المذكور بعيد عن فهم العرف ولا يترتّب عليه بنفسه كثير فائدة فلا جرم كان المنساق من لفظ «الغاية» ومن أداتها أحد الجزءين المتّصلين به ، وعليه جرت الاستعمالات الشائعة ، لكونه أقرب المجازات إلى الحقيقة، ويتساوى نسبتهما إليه من حيث نفسه ، إلّا أنّه قد يغلب الاستعمال في أحدهما فيحمل المطلق عليه ، ومنه نشأ الخلاف في الدخول والخروج ، فليس الاستعمال في شيء منهما بحسب الأصل واقعا على حقيقته ، كيف؟ وهما مركّبان من أجزاء غالبا ، ومن البيّن خروج ما سوى الجزء الأخير من الأوّل ، والأوّل من الثاني عن معناها فكذا الجزءان ، فإطلاقه عليهما لاتّصالهما به وقربهما إليه ، أو باعتبار تركّبهما من الآخر وما قبله أو ما بعده ، للقطع بأنّ ما قبل الآخر ليس من الآخر ، وكذا ما بعده ، فإطلاقه على أحدهما بالإضافة إلى ما تقدّمه أو تأخّر عنه فهو آخر إضافي لا حقيقي ، ولذا لا يطلق على الجزء البعيد عنه كالنصف الأخير في النهاية والأوّل في البداية إلّا بطريق الإضافة ، وكلّما قرب إلى الطرفين كان أقرب وألصق بحقيقة المبدأ والمنتهى والأوّل والآخر.

نعم ، قد يقال بصيرورة اللفظ حقيقة في أحدهما لكثرة الاستعمال فيه وشيوعه ، كما هو الظاهر من لفظي «الأوّل» و «الآخر» فيمكن الجمع بين هذا الوجه وكلّ واحد من الأقوال والوجوه الآتية ، فقد يقال بصيرورته حقيقة في الجزء الخارج ـ مثلا ـ نظرا إلى كثرة الاستعمال فيه خاصّة ، فلا يحمل على الداخل إلّا بقرينة ، أو فيهما مع تقابلهما ، إلّا أنّه ينصرف إلى الخارج ، لكون الاستعمال فيه

٥١١

أكثر ، كما علّله جماعة من النحاة بذلك ، وإلّا فالأصل تساوي نسبة الأمرين إلى المعنى الأصلي في البداية والنهاية ، وإنّما يختلفان بالعوارض ، فلا استبعاد في التفصيلات الآتية ، كالتفصيل بين الطرفين أو بين المتجانسين وغيرهما ، أو بين لفظي «حتّى» و «إلى» ، أو بين الاقتران ب «من» وعدمه ، إلى غير ذلك ، مع غاية بعد اعتبار تلك الخصوصيّات في الوضع ، وندرة اشتراك اللفظ بين المتقابلين حتّى ظنّ امتناعه ، إذ بعد إناطة الأمر بشيوع الاستعمال يراعى في كلّ مقام على حسبه وإن اتّحدت الحقيقة ، فتأمّل هذا.

وربّما يسبق إلى بعض الأوهام أنّ الخلاف في مفهوم الغاية إنّما وقع في نفس الغاية ، وأمّا ما بعد الغاية فلا خلاف في مخالفته لما قبلها في الحكم.

قال العضدي وقد يقال الكلام في الآخر نفسه ففي قوله : إلى المرافق آخر المرافق ، وليس النزاع في دخول ما بعد المرافق. وذكر شارح الشرح في توضيحه : أنّ النزاع لم يقع فيما بعد الغاية ، إذ لم يقل أحد بدخول ما بعد المرافق في الغسل ، وإنّما النزاع في نفس الغاية ، كزمان غيبوبة الشمس ونفس المرفق هل يلزم انتفاء الحكم فيه؟ ولا معنى لمفهوم الغاية سوى أنّها لا تدخل في الحكم ، بل ينتفي الحكم عند تحقّقها.

وربّما يرشد إلى هذا الكلام ما ذكره العلّامة في غير موضع من كتبه والرازي من التفصيل في محلّ المسألة بين صورة انفصال الغاية عن المغيّا بمفصّل محسوس وغيرها ، فإنّه إنّما يناسب الكلام في نفس الغاية ، أمّا فيما بعدها فلا يعقل الفرق بين الصورتين ، ولا يخفى عليك ما فيه ، فإنّ بين المسألتين بونا بعيدا ، إذ النزاع في أحدهما في دلالة المنطوق ، وفي الاخرى في المفهوم ، والخلاف في الاولى إنّما هو في دلالة الكلام على موافقة الغاية للمغيّا في الحكم ودخولها فيه وعدمها ، وفي الثانية في دلالته على مخالفة ما بعدها لا قبلها فيه وعدمها بعد القطع بعدم دلالته على توافقهما في الحكم ، فنفي الخلاف عن مخالفته لما قبلها في الحكم كما عن بعضهم ممنوع جدّا بل فاسد قطعا ، إذ الخلاف في ذلك بين الخاصّة

٥١٢

والعامّة ظاهر مشهور وينادي به عباراتهم وأدلّتهم ، وعبارة المصنّف رحمه‌الله وغيره من الاصوليّين كالسيّد والفاضلين والعميدي والآمدي والرازي وغيرهم في عنوان المسألة وبيان أدلّة الفريقين صريحة في ذلك.

نعم ، ما ذكر من أنّه لم يقل أحد بمشاركة ما بعدها لما قبلها في الحكم ظاهر ، ولا ربط له بما هو المقصود من إفادة المعنى المفهومي.

نعم ، يأتي الخلاف المذكور في نفس الغاية أيضا على القول بخروجها عن المغيّا ، فيقال حينئذ : إنّ التقييد بالغاية هل يدلّ على انتفاء الحكم عن نفس الغاية وما بعدها ، أم لا؟ وأمّا على القول بدخولها في المغيّا فلابدّ من تخصيص الخلاف المذكور بما بعدها ، كما هو المعروف في عنوان المسألة ، وكذا على القول بنفي الدلالة على كلا الأمرين أو التوقّف في ترجيح أحد القولين.

وأمّا الغاية بالمعنى الّذي ذكرناه فليس واسطة بين ما قبلها وما بعدها إلّا بالاعتبار فلا يقع فيها الكلام ، ولفظ «الغاية» في كلام المصنّف يحتمل المعنى المذكور فلا يكون بين ما قبلها وما بعدها واسطة ، ويحتمل إرادة مدخول الأداة فيكون ساكنا عن حكمه بنفسه ، وقد يحمل على نفس الأداة ليختصّ بمدخولها ، بناء على ما احتمله العضدي ومن تبعه في المسألة ، وهو مع ما عرفت من محلّ المسألة بعيد عن معنى الغاية ، إذ لم يظهر استعمالها في الأداة نفسها ، وليست هي من معانيها ، فلا تغفل.

وتأتي المسألتان في مدخول «من» وما قبله أيضا ، فمن قال بثبوت مفهوم الغاية ينبغي أن يقول بمثله في البداية ، والنافي يلزمه القول بنفي الدلالة هناك أيضا ، لجريان أدلّة الفريقين في كلّ من المقامين على مثال الآخر.

وكذلك من قال بدخول ما بعد «إلى» في المغيّا بها ينبغي أن يقول بدخول ما بعد «من» فيه أيضا ، إذ الحكم فيه إن لم يكن أظهر فليس بأخفى من الأوّل.

وقد يتوهّم من كلام نجم الأئمّة اختصاص الخلاف بالأوّل ونفي الخلاف عن خروج الثاني ، وهو وهم.

٥١٣

نعم ، لا يلزم العكس ، لإمكان القول بالتفصيل بينهما في ذلك ، كما يأتي إن شاء الله تعالى ، وإن كان خلاف المشهور.

ثمّ الظاهر أنّه لا فرق في محلّ المسألة بين أدوات الابتداء والانتهاء ك «من» و «إلى» و «حتّى» وغيرها ، وهل يأتي الكلام في لفظ «الأوّل» و «الآخر» و «البداية» و «النهاية» و «الابتداء» و «الانتهاء» وأمثالها؟ يحتمل ذلك ، إذ الأدوات المذكورة مفيدة لتلك المعاني ، ولا فرق بين الدالّ والمدلول في إفادة المعنى المفهومي.

وفيه : أنّ دلالتها على انتفاء المحدود بها سابقا أو لاحقا ظاهرة ، وأمّا الأدوات فيمكن إرجاع الخلاف فيها إلى الخلاف في تعيين الأمر المحدود ، وأنّه الحكم أو الموضوع ، والكلّي أو الفرد ، لبعد الخلاف في إفادتها لتلك المعاني ، ولا في استلزام تلك المعاني للانتفاء المذكور ، فتأمّل.

وأمّا المسألة الاخرى فيمكن اختصاصها ب «من» و «إلى». وأمّا كلمة «حتّى» فإن كانت عاطفة فلا شكّ في دخول ما بعدها في الحكم ، لأنّها بمنزلة الواو.

وأمّا الخافضة فيظهر من بعضهم نفي الخلاف أيضا في دخول ما بعدها فيما قبلها ، حكي ذلك عن الشيخ شهاب الدين القرافي ، وأنكره ابن هشام قائلا : إنّ الخلاف في ذلك مشهور ، وإنّما الاتّفاق في العاطفة. لكنّ المستفاد من كلام جماعة منهم الجزم بالدخول ، قائلين : إنّ من حقّها أن يدخل ما بعدها في الحكم ، نصّ على ذلك الزمخشري في المفصّل وشارحه ، وابن هشام ، وابن الحاجب. وجوّز ابن مالك الدخول وعدمه ، سواء كان مدخولها جزءا أو ملاقيا لآخر جزء.

قال نجم الأئمّة : ومذهب ابن مالك قريب ، لكنّ الدخول مطلقا أكثر وأغلب ، قال: والأظهر دخول ما بعد «حتّى» في حكم ما قبلها ، بخلاف «إلى».

وعن جماعة منهم الشيخ عبد القاهر والرمّاني والأندلسي وغيرهم : أنّ الجزء داخل في حكم الكلّ ، كما في العاطفة ، والملاقي غير داخل ، والأظهر الأوّل ، وكذا الحال في الابتدائيّة.

٥١٤

نعم ، لا شكّ في استفادة الخروج من أمثال قوله تعالى : (حَتَّى يَطْهُرْنَ)(١) و (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ)(٢) و (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ)(٣) و (حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ)(٤) و (حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى)(٥) و (حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا)(٦) و (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ)(٧)(حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)(٨) ... إلى غير ذلك ، فلا تغفل.

وجملة القول في المسألة : أنّ المحكيّ عن الأكثر في كلام جماعة منهم خروج حدّي الابتداء والانتهاء عن المحدود بهما ، وعزاه التفتازاني في الثاني إلى أكثر النحويّين ، حتّى قال : إنّ القول بالدخول مطلقا شاذّ لا يعرف قائله. ونسبه الشهيد الثاني إلى أكثر المحقّقين. وفي المغني : أنّه الصحيح. وقال نجم الأئمّة : إنّ الأكثر عدم دخول حدّي الابتداء والانتهاء في المحدود ، فإذا قلت : «اشتريت من هذا الموضع إلى هذا الموضع» فالموضعان لا يدخلان. ثمّ ذكر بعد الأقوال : إنّ المذهب هو الأوّل. وعلّله في المغني أيضا بأنّ الأكثر مع القرينة عدم الدخول.

وقيل بدخولهما جميعا حكاه جماعة. وربّما يقال بدخول الأوّل دون الثاني.

وفصّل غير واحد منهم بين المجانس وغيره ، فإن كانا من جنس المغيّا حكم بدخولهما فيه ، كما صرّح به الشهيد في الذكرى حيث قال بدخول الحدّ المجانس في الابتداء [والانتهاء](٩) ، مثل : بعت الثوب من هذا الطرف إلى هذا الطرف. وعزاه جماعة في الثاني إلى المبرّد ، وحكاه ابن هشام ونجم الأئمّة قولا. وفصّل آخرون بين ما إذا كان أحدهما منفصلا عن المغيّا بمفصّل محسوس فيخرج عن الحكم ، وما إذا لم يكن كذلك فيدخل ، قاله السيوري في التنقيح فيهما معا ، وبه صرّح الشهيد الثاني في الانتهاء ، وعليه يحمل كلام العلّامة في غير موضع من كتبه ، والرازي كما يأتي إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) البقرة : ٢٢٢.

(٢) التوبة : ٢٩.

(٣) البقرة : ٢٣٠.

(٤) الحجرات : ٩.

(٥) طه : ٩١.

(٦) الأنعام : ٣٤.

(٧) الأعراف : ٤٠.

(٨) القدر : ٥.

(٩) أضفناه من الذكرى.

٥١٥

وأنت خبير بأنّ اختلاف الجنس يلازم الانفصال ، إذ لا يطلب وراءه فاصل آخر ، فيظهر الفرق بين التفصيلين في المجانس ، لإمكان الفاصل المحسوس فيه. وقد يعقل اختلاف الجنس في غير المحسوس فيظهر الفرق فيه أيضا ، ويكون النسبة بينهما من قبيل العموم من وجه.

ولا يخفى بعده ، فإنّ تقييد الفاصل بالمحسوس إنّما يراد به فيما يكون المغيّا محسوسا ، ففي مثل الملكات النفسانيّة وغيرها إنّما يتحقّق الفصل باختلاف الجنس ، ومنهم من جمع بين التفصيلين ، فاكتفى في الدخول بأحد الوصفين ، كما يظهر من الذكرى حيث علّل الحكم بدخول المرفق في الغسل بكلّ من الوجهين. وحكى في التمهيد قولا بدخول الغاية ، إلّا أن تقترن ب «من» نحو : بعتك من هذه الشجرة إلى هذا ، فلا تدخل الغاية حينئذ وتوقف آخرون بين الدخول والخروج (١) ، فلا يحمل اللفظ على أحدهما إلّا بدليل من خارج، ويتصوّر ذلك على وجوه :

أحدها : التردّد بين القولين أو الأقوال وعدم الجزم بصحّة أحدهما أو فساده ، فيتوقّف حينئذ في تعيين المعنى الموضوع له أو المعنى المراد من اللفظ.

الثاني : الجزم باشتراكه لفظا بين المعنيين ، فيكون التردّد في الثاني دون الأوّل ، فيتوقّف حمله على أحدهما على القرينة المعيّنة.

الثالث : الجزم بعدم الدلالة على شيء منهما وصلاحيّته لكلّ منهما إلى أن يقوم دليل على أحدهما ، فيكون موضوعا للقدر المشترك بين الأمرين ، وهذا هو الظاهر من كلام جماعة منهم صاحب الكشّاف ، حيث قال : إنّ «إلى» للغاية ، وأمّا دخولها

__________________

(١) في هامش المطبوع ما يلي :

قال جمال الدين الخوانساري رحمه‌الله تعالى : لا ريب أنّ «إلى» قد استعمل فيما كان بعده خارجا ، نحو : (أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ). والظاهر أنّه كثيرا ما يستعمل أيضا فيما كان بعد الغاية داخلا ، كما يقال : سرت من البصرة إلى الكوفة ، والمراد : أنّ الكوفة آخر جزء سار فيه.

ومنه : آية المرافق ، لإجماع أصحابنا على دخول المرفقين ، وحينئذ فيحتمل أن تكون الغاية بمعنى الطرف ، وتكون في الآخر مجازا ، وأن تكون الغاية بمعنى الجزء الأخير ، وتكون في الآخر مجازا والحكم بأحدهما لا يخلو من إشكال ، وللتوقّف فيه مجال. انتهى (منه دام ظلّه العالي).

٥١٦

وخروجها فيدور مع الدليل ، إلى أن قال : وقوله تعالى : (إِلَى الْمَرافِقِ) لا دليل فيه على أحد الأمرين ، وبه قال في مشرق الشمسين وغاية المأمول وغيرهما ، وليس ذلك من باب الاشتراك بين المتناقضين حتّى يناقش في جوازه ، نظرا إلى انتفاء الفائدة في وضعه على الاشتراك اللفظي ، وفقدان القدر الجامع بين الوجود والعدم على المعنوي ، وإنّما يكون اللفظ على الوجه المذكور موضوعا للقدر المشترك بين طرفي المغيّا وحدّيه الخارجين المتّصلين بهما ، بمعنى عدم كونه بحسب الوضع اللغوي منافيا لإرادة شيء من الأمرين ، بل يجتمع مع إرادة كلّ منهما ، فتكون الخصوصيّة موقوفة على قيام قرينة عليها ، إلّا أنّه يكفي في قرينة الخروج عدم قيام قرينة على إرادة الدخول ، لصدق الغاية حينئذ على أقرب الأمرين ، ولأنّه المتيّقن من إرادة المتكلّم ، فيرجع القول المذكور إلى القول الأوّل ، إلّا أنّ الفرق بينهما يظهر في إثبات المفهوم في نفس الغاية وعدمه. فعلى الأوّل يلحق الغاية بما بعدها ، ويحكم بمخالفتها في الحكم لما قبلها ، ومثلها الحال في حدّ الابتداء فيلحق حينئذ بما قبله ، بخلاف الوجه المذكور ، لجواز مشاركة الحدّين للمحدود في الحكم ، وإنّما لا يحكم بها ، للزوم الاقتصار في القدر الداخل على المتيقّن ، فيرجع في نفس الحدّين إلى مقتضى الأصل ، فإن اقتضى مشاركتهما للمحدود أو لما قبله أو بعده حكم بأحدهما ، وإلّا لزم نفي الحكمين عنهما وإن كان مخالفتهما مع الجانبين في الحكم الواقعي مستبعدا ، إلّا أنّ العلم الإجمالي بأحد الحكمين قد لا يمنع من نفيهما جميعا بالأصل ، وذلك ممّا يختلف بحسب اختلاف المقامات. هذا إذا لم يكن هناك عموم أو إطلاق يدلّ على إثبات الحكم المفروض في نفس الحدّين أو نفيه عنهما ، وإلّا تعيّن الأخذ به على كلّ من الوجوه الثلاثة.

غاية الأمر الجزم بعدم المعارض على الأخير بخلاف الأوّلين ، لاحتمال معارضة الإطلاق بمدلول الحدّين ، إلّا أنّ الاحتمال لا يجدي في ذلك شيئا ، إذ لا يجوز رفع اليد عن الدليل الشرعي بمجرّد الاحتمال.

وهناك احتمال رابع مبنيّ على ما ذكرناه من كون حقيقة الغاية أمرا اعتباريّا ،

٥١٧

وإنّما شاع استعمالها واستعمال أداتها فيما يقرب منه من أحد الطرفين ، فالتوقّف في تعيين أحد المجازين. كما أنّ سائر الأقوال حينئذ مبنيّة على ترجيح أحدهما بالشهرة وكثرة الاستعمال.

وقد ظهر بما ذكر : أنّ القول بالخروج مطلقا أو في بعض الصور أيضا يتصوّر على وجهين :

أحدهما : القول بدلالة اللفظ على خروج الغاية عن المغيّا كما بعدها. وينبغي أن تكون الدلالة حينئذ قائمة بأداة الغاية ، فتكون موضوعة لانقطاع الحكم دونها ، أو دالّة عليه بغير الوضع. ومثله الحال في حدّ الابتداء.

والآخر : القول بعدم الدلالة على الدخول ، فلا يمكن الحكم بدخول الحدّين ، نظرا إلى انتفاء الشاهد عليه ، فيبنى على خروجهما من باب الاقتصار على القدر المتيقّن. وكلام أكثر القائلين بالخروج لا يأبى عن إرادة هذا المعنى ، فيمكن الجمع بينه وبين القول بالوقف بالمعنى الأخير كما عرفت ، بل قد يوجد في كلماتهم ما يشهد بذلك.

والقول بالتفصيل أيضا بأقسامه يتصوّر على وجهين :

أحدهما : القول باختلاف الوضع في ذلك بحسب اختلاف المقامات ، فتكون الدلالة على كلا الوجهين مستندة إلى الوضع.

والآخر : القول بكون الخصوصيّة في إحدى الصورتين قرينة على أحد الأمرين مع اتّحاد الوضع اللغوي فيهما ، وهو الظاهر ، لبعد الاختلاف في الوضع اللغوي على الوجه المذكور مع مخالفته للأصل.

والقول بالوقف أيضا يتصوّر على وجهين :

أحدهما : الجزم بالدلالة على أحد الأمرين من الدخول أو الخروج ، والتوقّف في التعيين استبعادا للسكوت عن حكم الحدّين مع بيان حكم الطرفين منطوقا ومفهوما ، فينبغي اندراجه في أحد المدلولين.

والآخر : التردّد بين الدلالة وعدمها أيضا. ثمّ إنّ الدلالة على أحد القولين

٥١٨

الأوّلين أيضا يمكن أن تكون وضعيّة فتكون مستندة إلى وضع الأداة لما يفيد ذلك ، لوضوح أنّه لا تأثير لوضع مدخولها في الدلالة على ذلك. ويمكن أن تكون مبنيّة على دعوى انصراف اللفظ إلى أحد المعنيين ، أو ظهوره فيه من غير أن تكون مستندة إلى نفس الوضع اللغوي.

هذا ، وفي المسألة احتمال آخر ، وهو التفصيل بين الجزء والكلّ ، فيقال بالدلالة على دخول البعض دون الكلّ ، حيث يكون أحد الحدّين مركّبا قابلا للتجزئة ، وإلّا فيدخل.

ولا يخفى أنّ القول بدخول البعض يتوجّه في مقامين :

أحدهما : فيما إذا توقّف العلم باستيعاب ما بين الحدّين على إدخال البعض من باب المقدّمة ، كالسعي في ما بين الصفا والمروة ، فيرجع إلى القول بالخروج ، لوضوح أنّ المقدّمة خارجة عن ذي المقدّمة.

والآخر : فيما إذا كان مدخول الحرفين مشتركا بين الكلّ والبعض ، فيصدق بإدخال البعض ويرجع إلى القول بالدخول.

حجّة القول بالخروج مطلقا وجوه :

منها : أنّه المتبادر من إطلاق اللفظ حيث لا يكون هناك قرينة على أحد الأمرين ، ويصحّ سلبه عن المعنى الآخر ، فإنّ السير في الكوفة ليس سيرا إلى الكوفة قطعا ، وكذلك الصوم في الليل ليس صوما إلى الليل قطعا ، ويرشد إليه صدق الامتثال للأمر المحدود مع الاقتصار على ما بين الحدّين.

وفيه : أنّ صدق الامتثال يمكن أن يكون من جهة كونه القدر المتيقّن من الخطاب ، لا من جهة الدلالة على خصوص ما يفيد الخروج.

ومنها : أنّ ذلك مختار أكثر النحاة والاصوليّين ، فإنّ حكاية الشهرة عليه مستفيضة في كلمات الفريقين ، ولا ريب أنّه يفيد الظنّ بالوضع ، أو المراد من اللفظ سيّما مع شذوذ القول بالدخول كما نصّ عليه بعضهم.

وفيه ما عرفت من أنّ كلمات القوم لا تأبى عن إرادة الاقتصار على المتيقّن في الحكم، فلا تدلّ على إرادة خصوص المعنى المذكور.

٥١٩

ومنها : أنّه الأكثر في الاستعمالات الواقعة في كلمات العرب ولو مع القرينة ، كما نصّ عليه نجم الأئمّة وابن هشام وغيرهما ، فيجب الحمل عليه عند التردّد ، إذ الظنّ يلحق المشكوك فيه بالأعمّ الأغلب.

وفيه : أنّ كثرة الاستعمال مع القرينة لا يدلّ على الحقيقة ما لم يتبادر المعنى من نفس اللفظ ، ألا ترى أنّ الاستعمالات المجازيّة في كلام العرب أكثر من الحقائق ، حتّى قيل : إنّ أكثر اللغات مجازات ؛ وذلك لأنّ المجازات أبلغ من الحقائق ، والعرب إنّما تقصد المعاني البليغة في تعبيراتهم.

ويرد عليه :

أوّلا : أنّ المقصود من الاحتجاج بكثرة الاستعمال تشخيص المراد من اللفظ ، ولا ريب في حصول الظنّ به من ذلك ، سواء كان ذلك مستندا إلى الوضع أو غيره ، وإنّما المقصود من إثبات الوضع أيضا تشخيص المراد.

نعم ، إن ثبت كونه مجازا في ذلك كان الأصل عدمه ، وأمّا مع خروج الخصوصيّة عن الوضع وغلبة وقوع الاستعمال في المقام المخصوص فيحصل الظنّ بإرادته ، ولا يلزم التجوّز.

وثانيا : أنّ الغالب وإن كان هو الاستعمال المجازي المبنيّ على ملاحظة العلاقة لكنّ ذلك حيث يتعيّن المعنى الحقيقي ، أمّا مع الشكّ فيه والعلم بغلبة الاستعمال في المعنى المخصوص وندرة وقوعه في غيره فيمكن الاستناد إليه في كونه حقيقة في ذلك ، إذ الظاهر عدم ملاحظة العلاقة في تلك الاستعمالات الشائعة وعدم ابتنائها على القرينة ، فتأمّل.

وأنت خبير بأنّ الوجه المذكور إن تمّ فلا يدلّ أيضا على وضع الأداة لخصوص المعنى المذكور حتّى يكون مجازا في غيره ، فيمكن وضعه لما يعمّ الأمرين ، فلا تغفل.

ومنها : أنّ الغاية إنّما تطلق على نهاية الشيء وهي الّتي ينتهي ذلك الشيء إليها ، فتكون خارجة عن المغيّا ، فكذا كلّ ما يدلّ عليها ، حتّى قال الباغنوي :

٥٢٠