هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٣

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٣٢

١
٢

معالم الدين :

البحث الثاني في النواهي

أصل

اختلف الناس في مدلول صيغة النهي حقيقة ، على نحو اختلافهم في الأمر. والحقّ أنّها حقيقة في التحريم ، مجاز في غيره ؛ لأنّه المتبادر منها في العرف العامّ عند الإطلاق ؛ ولهذا يذمّ العبد على فعل ما نهاه المولى عنه بقوله : لا تفعله ، والأصل عدم النقل ؛ ولقوله تعالى : (وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) ، أوجب سبحانه الانتهاء عمّا نهى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، عنه ؛ لما ثبت من أنّ الأمر حقيقة في الوجوب ، وما وجب الانتهاء عنه حرم فعله.

وما يقال : من أن هذا مختصّ بمناهي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وموضع النزاع هو الأعمّ ؛ فيمكن الجواب عنه : بأنّ تحريم ما نهى عنه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يدلّ بالفحوى على تحريم ما نهى الله تعالى عنه. مع ما في احتمال الفصل من البعد ، هذا. واستعمال النهي في الكراهة شايع في أخبارنا المرويّة عن الأئمّة عليهم‌السلام ، على نحو ما قلناه في الأمر.

٣

بسم الله الرّحمن الرّحيم

وبه نستعين

قوله : (في النواهي).

لفظ النهي قد يكون مصدرا لقولك : «نهى» كما أنّ لفظ الأمر يكون مصدرا ل «أمر» وحينئذ قد يراد مطلق طلب الترك على النحو الخاصّ كما تقول : «أنهاك عن كذا» أي : أطلب منك تركه ، وحينئذ يصدق النهي على طلب الترك بالإشارة والكتابة أيضا ، وقد يراد به خصوص طلب الترك بالقول المخصوص ، وقد يراد قول القائل «لا تفعل» على الوجه المخصوص ، وقد يكون اسما يراد به القول المخصوص الدالّ على طلب الترك.

والظاهر أنّه حقيقة في الأمرين كما هو الحال في لفظ الأمر ، وظاهر حكمهم بجريان ما مرّ في الأمر دعوى على كون النهي حقيقة في الصيغة المذكورة حسب ما مرّ من دعوى الاتّفاق عليه في الأمر. هذا.

والتعاريف المذكورة له في كلام الاصوليّين مختلفة على حسب اختلاف الوجوه المذكورة فيوافق كلّ منها بعض الوجوه المذكورة ، ففي المعارج أنّه قول القائل لغيره : «لا تفعل» أو ما جرى مجراه على سبيل الاستعلاء مع كراهة المنهيّ عنه ، وقريب منه ما في العدّة وفي النهاية : أنّه طلب الترك بالقول على جهة الاستعلاء ، وفي منية اللبيب : أنّ النهي القول الدالّ على طلب الترك على جهة الاستعلاء ، وفي غاية المأمول : أنّه طلب كفّ عن فعل بالقول استعلاءا ، إلى غير ذلك من حدودهم المذكورة في الكتب الاصوليّة ، وقد يطلق على الصيغة المعروفة

٤

سواء استعمل في الطلب أو غيره ، وهو من اصطلاح بعض أهل العربيّة ولا ربط له بالمقام.

ثمّ إنّه قد وقع الكلام في كونها حقيقة في خصوص الطلب الواقع على وجه التحريم أو الصيغة المستعملة فيه ، أو أنّها موضوعة لمطلق طلب الترك أو الصيغة المستعملة فيه ، على نحو ما مرّ في الأمر.

والحقّ أنّها تفيد مطلق طلب الترك سواء كان على وجه التحريم أو الكراهة مع ظهوره في التحريم وانصراف الإطلاق إليه ، حسب ما مرّ الكلام فيه في الأمر من غير فرق بينهما في ذلك.

نعم يأتي لفظ الأمر اسما بمعنى الشيء والشأن ـ كما عرفت ـ سواء كان مجازا فيه كما هو المعروف أو حقيقة أيضا كما هو المختار ولا يأتي له لفظ النهي أصلا وفيه إشارة إلى ما اخترناه ، إذ لو كان استعماله فيه من جهة العلاقة بينه وبين الصيغة أو الطلب لجرى في النهي أيضا ، والكلام في اعتبار العلوّ في معناه أو الاستعلاء أو هما معا أو أحدهما وعدم اعتباره مطلقا نظير ما مرّ في الأمر ، والمختار منها ما اخترناه هناك من غير فرق بينهما في ذلك ، وبذلك يحصل الفرق بينه وبين الدعاء والالتماس نظير ما مرّ في الأمر ، والدليل الدليل ، فلا حاجة إلى التطويل.

قوله : (اختلف الناس ... الخ.)

قد استعملت صيغة النهي كالأمر في معاني عديدة : أنهاها في النهاية إلى سبعة : التحريم والكراهة والتحقير نحو (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ...) الخ (١) وبيان العاقبة نحو (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ)(٢) والدعاء والالتماس نحو (لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ)(٣) والإرشاد نحو (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ)(٤) ويجيء أيضا لمعان اخر منها : طلب الترك الجامع بين التحريم والكراهة ومنها :

__________________

(١) الحجر : ٨٨.

(٢) إبراهيم : ٤٢.

(٣) التحريم : ٧.

(٤) المائدة : ١٠١.

٥

رفع الحرج عن الترك فيفيد الإذن في الفعل ، كالنهي الوارد عقيب الإيجاب ومنها الإلتماس ومنها : التهديد ، كقول المولى لعبده لا تطعني فيما آمرك به ومنها : الإنذار ، كقولك لمن يريد أن يصنع شيئا يترتّب عليه بعض المعايب : «لا تقع في هذه البليّة ولا تسع في هتك عرضك وسفك دمك» ومنها : التشفّي كما تقول لمن حذرته عن شيء وقد أبى عن تركه فتواردت عليه الأهوال «لا تتعرّض لهذه الأهوال» ومنها : السخريّة والاستهزاء ، كما تقول لمن يدّعيك بألف وأنت تنكره «لا تأخذه منّي إلّا بسكّة واحدة» ومنها : التسلية ، كقولك للمصاب «لا تحزن» ومنها : الامتنان ، كما تقول لمن أجرته في مقام إظهار النعمة «لا تخف في داري ولا تتعب ولا تستعن بأحد ولا تخسر درهما ولا دينارا» إلى غير ذلك من المعاني المناسبة له ، وملخّصها يرجع إلى الاستعمال في الطلب مطلقا أو في خصوص أحد قسميه أو في صورة الطلب لإفادة أحد الامور المذكورة ، من الإذن أو الإرشاد أو التهديد أو التحقير أو غيرها ، على حسب ما يفهم منها بملاحظة المقام حسب ما مرّت الإشارة إليه ، ولا خلاف في عدم كونها حقيقة في جميع تلك المعاني.

قال في الغنية بعد ذكر عدّة من المعاني المذكورة : ليست حقيقة في الجميع إجماعا ، وإنّما وقع الخلاف في عدّة منها ، نظير ما ذكرناه في الأمر.

وقد أطلق جماعة منهم المصنّف أنّ الحال هنا في الخلاف كالحال في اختلافهم في الأمر وهو كذلك إلّا أنّه لم ينقل جميع الأقوال المنقولة هناك في المقام ، بل ذكر بعض الأفاضل أنّه لم يقل بوضع النهي للتهديد أحد. وكيف كان فالأقوال المنقولة هنا أيضا عديدة.

أحدها : أنّه حقيقة في التحريم مجاز في غيره ، وهو المعروف وعزي إلى الأكثر وقد اختاره الشيخ والمحقّق والعلّامة في التهذيب والمبادئ والسيّد العميدي وشيخنا البهائي وتلميذه الجواد والمصنّف وغيرهم.

ثانيها : أنّها حقيقة في الكراهة وعزاه في غاية المأمول وغيره إلى بعض.

ثالثها : أنّها مشتركة لفظا بين التحريم وغيره وعزي القول به إلى ظاهر

٦

الذريعة والغنية ، وذكر أنّه يظهر من الأخير أنّها مشتركة بين التحريم والتهديد والتوبيخ.

قلت : الّذي يظهر من السيّد في الذريعة أنّ صيغة لا تفعل ليست مخصوصة بالنهي لورودها في التهديد أيضا كقول المولى لعبده «لا تطعني ولا تفعل ما آمرك به» فليس عنده للنهي صيغة تخصّه ، فظاهره كون الصيغة حقيقة في صورة إرادة التحريم وغيره ، بل وفي التهديد أيضا ، وقد نصّ هناك باشتراك الصيغة بين الأمر والإباحة وقد نصّ في المقام أيضا بأنّ الكلام في أنّه لا صيغة للنهي تخصّه كالأمر ، فلا وجه لإعادته ، وذهب في مبحث الأمر إلى أنّ صيغة الأمر يفيد كون الآمر مريدا لفعل المأمور به.

وظاهر كلامه دلالتها على ذلك بالوضع فقد يراد به الوجوب وقد يراد به الندب إمّا بالاشتراك اللفظي أو المعنوي ، وقد نصّ هنا أيضا بدلالة النهي على كون الناهي كارها للمنهي عنه ، فيكون صيغة النهي دالّة عليه وضعا ، على حسب ما ذكر في الأمر ، لتنظيره بين المقامين فيفترق الحال عند السيّد بين مطلق افعل ولا تفعل وبين صيغة الأمر والنهي ، والأوّلان لا يخصّان طلب الفعل أو الترك ، والأخيرتان تخصّان به إمّا على سبيل الاشتراك اللفظي أو المعنوي بين الوجوب والندب والتحريم والكراهة ، حسب ما مرّ الكلام فيه في الأوامر ، لكنه نصّ في المقام بأنّ نهيه تعالى يفيد وجوب الترك وإنّ لم يكن أمره مفيدا لوجوب الفعل ، لأجل أنّه يقتضي قبح الفعل ، والقبيح يجب أن لا يفعل.

وظاهر كلامه هذا يفيد دلالة نواهي الشرع على التحريم ، مع قطع النظر عمّا ذكر لحمل أوامر الشرع على الوجوب من جهة حمل الصحابة والتابعين وإجماع الشيعة عليه ، حسب ما ذكره فهو أيضا يقول بتعيّن حمل نواهي الشرع على التحريم ، بل حملها على ذلك أولى من حمل أوامره على الوجوب ، لاستناده في ذلك إلى قيام الدليل عليه من الخارج بخلاف المقام كما عرفت.

فالظاهر أنّ مختار السيّد في المقام كمختاره في الأمر إلّا أنّه يقول بكون

٧

نواهي الشرع للتحريم ولو مع الغضّ عمّا ذكره في الأمر. وقريب منه ما ذكره السيّد ابن زهرة في الغنية ، والظاهر موافقته للسيّد في المقام في جميع ما قرّره كما هو شأنه في معظم المسائل.

رابعها : أنّها للقدر المشترك بين التحريم والكراهة. ففي النهاية : أنّ من جعل الأمر للقدر المشترك بين الوجوب والندب جعل النهي مشتركا بين التحريم والكراهة. والظاهر أنّه أراد وضعه للقدر المشترك بينهما.

خامسها : القول بذلك مع حمل نواهي الشريعة مع الإطلاق على التحريم لقيام قرائن عامّة عليه ، وهو مختار صاحب الوافية نظير ما ذكره في الأمر.

سادسها : القول بذلك أيضا مع القول بانصراف الطلب مطلقا إلى التحريم كما هو المختار في المقام نظير ما مرّ في الأمر.

سابعها : القول بالتوقّف كما يظهر من جماعة حكاية القول به حيث جعلوا القول بالتوقّف هنا نظير ما ذكروه في الأمر. هذا وحجّة المختار هنا نظير ما مرّ في الأمر من غير فرق فلا حاجة إلى الإعادة ، ويظهر حجج سائر الأقوال بالمقايسة فلا حاجة إلى الإعادة.

قوله : (ولهذا يذمّ العبد ... الخ.)

هذا تقرير وتوضيح لكون المفهوم والمنساق من النهي عند الإطلاق هو التحريم ، لملاحظة استحقاق الذمّ عند كون الآمر ممّن يجب إطاعته على المأمور ، إذ لو لا مفاده التحتيم والإلزام لما تفرّع عليه استحقاق الذمّ ، وربما يعدّ ذلك دليلا آخر سوى التبادر ، ولا وجه له. ثمّ إنّ الكلام على الدليل المذكور نظير ما مرّ ذكره في الأمر فلا حاجة إلى إعادته.

قوله : (وما وجب الانتهاء عنه حرم فعله.)

فإنّ الانتهاء عن الشيء هو تركه والاجتناب عنه ، ووجوب الاجتناب عن الفعل ولزوم تركه هو مفاد حرمته.

وقد يورد على الاحتجاج المذكور بامور :

٨

أحدها : ما أشار إليه المصنّف من أنّه مختصّ بمناهي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا يثبت به الحال في مناهيه تعالى ومناهي الأئمّة عليهم‌السلام فضلا عن مفاد النهي بحسب اللغة كما هو المدّعى.

ثانيها : أنّ أقصى ما يفيده الآية حمل نواهيه على التحريم ولا يفيد وضع النهي لذلك، غاية الأمر أن يكون ذلك قرينة عامّة على استعمال النهي في التحريم كما هو مختار البعض ولا تفيد وضعه لذلك.

ثالثها : أنّها ظاهرة في عدم وضع الصيغة للتحريم ، إذ لو كانت موضوعة لما احتيج إلى بيانه تعالى ، إذ ليس من شأنه تعالى بيان الأوضاع اللفظيّة ، للرجوع فيها إلى أهل اللسان.

فالظاهر من بيانه ذلك عدم دلالة الصيغة عليه ، ليكون حكمه بوجوب الانتهاء قاضيا به ، فهي بالدلالة على خلاف المدّعى أولى.

رابعها : أنّها إنّما تفيد كون لفظ النهي مفيدا للتحريم أي موضوعا للصيغة المستعملة في التحريم ، سواء كان استعمال الصيغة فيه من جهة وضعها له أو على سبيل المجاز أو الاشتراك ، فأقصى ما يفيده كون لفظ النهي موضوعا للصيغة المستعملة في التحريم وهو غير المدّعى.

خامسها : المنع من استعمال قوله «فانتهوا» في الوجوب وإن سلّمنا وضع الأمر للوجوب ، وذلك لأنّ جملة من مناهي الرسول يراد بها الكراهة قطعا ، فإن اريد الوجوب من الأمر المذكور لزم التخصيص في قوله وما نهاكم عنه فانتهوا ، إذ لا يتصوّر وجوب الانتهاء من المكروه ، فلابدّ إذن من حمله على الأعمّ من الوجوب والاستحباب فلا يفيد المدّعى ، أو يقال بالتوقّف من التزام المجاز المذكور ، أو التخصيص فلا ينهض أيضا بإثبات المطلوب.

سادسها : المنع من دلالته على عموم الحكم لمناهي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّ الأمر المذكور من الخطاب الشفاهي فلا مانع من أن يكون إشارة إلى مناهي معهودة صدرت من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنسبة إليهم.

٩

سابعها : أنّ المراد بالانتهاء قبول النهي والتديّن به والأخذ بمقتضاه ، إن تحريما فتحريم وإن كراهة فكراهة ، فالمقصود وجوب تلقّيهم أوامره ونواهيه بالقبول ، وأين ذلك من الدلالة على استعمال نواهيه في التحريم فضلا عن وضعها له ولا أقلّ من احتمال حمله على ذلك ومعه لا يتمّ الاستدلال.

ثامنها : أنّ لفظ الإيتاء ظاهر في الإعطاء وهو ظاهر في التعلّق بالأعيان كما هو الظاهر من لفظ الأخذ أيضا فيكون المراد بالنهي في مقابلته بمعنى المنع منه كما في قوله : ولقد أتيتك اكماء وعساقلا ولقد نهيتك عن بنات الأوبر. والآية إنّما وردت بعد ذكر الغنائم ، فالمراد على هذا : أنّ ما أعطاكم الرسول من الغنيمة وعيّن لكم من السهم فخذوه ، وما ذاد عنكم ومنعكم منه فانتهوا عنه ، ولا تزاحموه في القسمة ولا تطلبوا منه زيادة عمّا عيّنه لكم ، كما ورد نظيره في غيره من الآيات ولا ريب في لزوم اتّباعه في ذلك ، فلا ربط للآية بالخطابات الشرعيّة.

تاسعها : أنّ أقصى ما تفيده الآية بعد الغضّ عن جميع ما ذكر دلالة صيغة النهي مجرّدة عن القرائن على التحريم ، ولا يستلزم ذلك وضع الصيغة له ، إذ قد يكون ذلك من جهة انصراف الإطلاق إليه على نحو ما مرّ في الأمر حسب ما اخترناه في المقامين.

ويمكن الجواب عن الأوّل : أنّه إذا ثبت كون نواهيه للتحريم ثبت ذلك بالنسبة إلى العرف واللغة بأصالة عدم النقل. وأجاب عنه المصنّف بوجهين :

أحدهما : أنّ تحريم ما نهى عنه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدلّ بالفحوى على تحريم ما نهى الله سبحانه عنه ، وكان الوجه فيه : أنّه إذا دلّ ذلك على وجوب طاعة الرسول في نواهيه أفاد وجوب طاعته تعالى بالأولى ، لظهور أنّ وجوب طاعة الرسول إنّما يأتي من وجوب طاعته تعالى.

وأنت خبير بوهن التعليل فإنّ وجوب الطاعة إنّما يقضي بوجوب ترك ما أراد تركه على سبيل الحتم ، دون ما كان على سبيل الكراهة ، فإن كان مفاد الآية مجرّد وجوب الطاعة لم يرتبط بالمقصود ، وإلّا كان الاحتجاج بما دلّ على وجوب

١٠

طاعته تعالى وطاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام من الآيات والأخبار أولى ، وربما استدلّ به بعضهم إلّا أنّه موهون جدّا كما مرّت الإشارة إليه في بحث الأوامر. فغاية الأمر حمل دلالة الآية حسب ما ادّعاه المستدلّ على كون النهي موضوعا في لسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للتحريم ، ولذا يجب الاجتناب عن الفعل بمجرّد نهيه فأيّ أولويّة لكون النهي في كلامه تعالى أيضا موضوعا لذلك ، كيف! والأوضاع امور اصطلاحيّة تتبع وضع الواضع ، ولا وجه لأولويّة ثبوته في مقام من ثبوته في مقام آخر.

نعم ، لو قيل : إنّ مفاد الآية حمل نواهي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع الإطلاق على التحريم فربما يدّعى أنّ دلالتها بالفحوى على حمل نواهيه تعالى على ذلك أيضا. بل قد يقال بدلالته على حمل نواهي الشريعة مطلقا عليه. لكن ذلك مخالف لما هو بصدده من إثبات الوضع ، ولو لوحظ حينئذ مع ظهور ذلك في ثبوت الوضع اندفعت به الأولويّة المدّعاة ، إذ لو كان الحمل من جهة لم يتّجه الأولويّة كما عرفت.

ثانيهما : أنّ احتمال القول بالفصل بعيد مخالف للظاهر فبعد ثبوته بالنسبة إلى كلامهعليه‌السلام يثبت إلى غيره من جهة بعد التفصيل. وكأنّه أراد بذلك بعد التفصيل في ذلك بين كلام الله تعالى إذ لم نر أحدا ذهب إليه.

وفيه : أنّه أقصى ما يفيده القول بعدم الفصل هو ثبوت ذلك بالنسبة إلى نواهيه تعالى بل نواهي الأئمّة عليهم‌السلام ولا يفيد ذلك ثبوت الحكم في اللغة إلّا أن يستند حينئذ إلى أصالة عدم النقل ، وحينئذ فالأولى الاستناد إليه من أوّل الأمر حسب ما ذكرنا. وقد ينزّل كلامه على إرادة ذلك فاستبعاده التفصيل من جهة مخالفته للأصل ، ولا يخلو عن بعد.

وعن الثاني : أنّ تعليق وجوب الانتهاء على مجرّد النهي يفيد كون النهي بنفسه مفيدا للتحريم ، إذ لو لا ذلك لم يحسن تعليقه على مجرّد ذلك.

وفيه أنّه لو علّق استفادة التحريم على مجرّد النهي تمّ ما ذكر في الجواب ، وليس كذلك ، بل إنّما علّق أمره بالانتهاء على مجرّد نهيه ، ولا دلالة في ذلك على

١١

كون النهي بنفسه مفيدا للتحريم ، بل أقصى الأمر أن يراد منه التحريم ولو كان استفادته منه بعد ضمّ الأمر المذكور إليه ، والفرق بين الوجهين المذكورين واضح ، فتكون الآية المذكورة قرينة عامّة لإفادة نواهيه التحريم. ولذا استدلّ بها صاحب الوافية على مذهبه.

فالأولى الجواب عنه : بأنّ ذلك بيان للازم الوضع فإنّه إذا دلّ ذلك على حمل نواهيه المطلقة على التحريم أفاد عرفا حصول الوضع له ـ كما إذا قال القائل : متى وجدت اللفظ الفلاني خاليا عن القرينة في العرف فاحمله على كذا أفاد كونه موضوعا بإزائه ـ واحتمال كون ذلك قرينة عامّة لحمل النهي عليه وبيانا للمراد منه بعيد في المقام ، وليس ذلك من شأنه تعالى.

وعن الثالث : أنّه ليس المقصود بالآية الشريفة بيان مقصود النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من نواهيه ولا بيان وضعه لذلك ، بل المراد به الحثّ على طاعته والاجتناب عن مخالفته كسائر الآيات الدالّة عليه ، إلّا أنّ التعبير بلزوم الاجتناب عند نهيه دليل على كون نهيه للتحريم ، حيث إنّ الاجتناب عن مخالفته لترك مناهيه المطلقة يفيد كون نواهيه المطلقة مفيدا للتحريم ، إذ لو كان نهيه لمطلق الكراهة أو الأعمّ منها لم يلزم من الإتيان بالمنهيّ عنه مخالفته.

وعن الرابع : أنّ الصيغة المطلقة الصادرة من العالي نهي قطعا ، كما هو ظاهر من ملاحظة العرف ، فمقتضى الآية الشريفة حينئذ وجوب الاجتناب وهو قاض بكون الصيغة للتحريم.

وعن الخامس : انّ وجوب الانتهاء إنّما علّق على ما تعلّق به النهي على سبيل الحقيقة، وعند القائل بكون النهي للتحريم لا يكون المكروه منهيّا عنه ، نعم لو كان لفظ النهي موضوعا للأعمّ صحّ الإيراد المذكور ، إلّا أنّ المستدلّ لا يقول به وإنّما يرد ذلك على من يلتزم به ، وهو وجه ضعيف بعد القول بكون الصيغة حقيقة في التحريم ، ومع الغضّ عنه يفيد الدوران بين التخصيص والمجاز تقدّم التخصيص عليه ، ودعوى كونه من قبيل التخصيص بالأكثر فعلى فرض جوازه يقدّم المجاز عليه ، ممنوع.

١٢

وعن السادس : أنّ الظاهر من الآية كون الخطاب للامّة لا لخصوص الحاضرين في المجلس ، وسيأتي تفصيل الكلام فيه في محلّه ، وعلى فرض اختصاصه بهم فالظاهر عموم الحكم لجميع نواهيه المتعلّقة بهم ، وكون اللام فيه للعهد بعيد عن الظاهر.

وعن السابع : أنّه بعيد عن الظاهر إن صحّ الحمل عليه ، والاحتجاج مبني على الظاهر.

وعن الثامن : أنّ حمله على خصوص ذلك خلاف الظاهر وإن ذكر بعض المفسّرين وظاهر غيره عمومه للنهي وغيره ، والعبرة بعموم اللفظ ، فيعمّ ما منعهم منه من الغنائم أو غيرها ، وفيه تأمّل.

نعم في الأخبار الخاصّة دلالة على ورودها في الأوامر والنواهي وقد استمرّت الطريقة بين الاصوليّين على الاحتجاج بها في المقام.

وعن التاسع : أنّه إذا دلّت الآية على كون مفاد النهي عند الإطلاق هو التحريم كان قضيّة الأصل وضعه بإزائه ، إلّا أن يدلّ دليل على خلافه. وفيه : أنّه إنّما يتمّ إذا قلنا بكون الأصل في التبادر أن يكون مستندا إلى الوضع ، وهو على إطلاقه محلّ منع ، ومع الغضّ عنه ففي بعض الشواهد دلالة على استناد الانصراف إلى غير الوضع ، فالوجه المذكور دافع للاحتجاج بالآية وقد مرّ توضيح القول في ذلك.

ثمّ إنّه قد يحتجّ للقول بكون النهي للتحريم بوجوه اخر :

منها : أنّ فاعل المنهيّ عنه عاص ، وكلّ عاص مستحقّ للعقوبة ـ كما دلّت عليه الآية الشريفة ـ ويمكن الإيراد عليه تارة بمنع المقدّمة الاولى ، إذ هي في مرتبة الدعوى. وفيه : أنّ العرف شاهد على صدق العصيان بذلك. واخرى بأنّ أقصى ما يثبت بذلك حمل النواهي الشرعيّة على التحريم ، وهو أعمّ من وضعها له شرعا فضلا عن الوضع له لغة. وفيه : أنّ قبح العصيان عند أيّ آمر كان معلوم في العرف ، غاية الأمر دلالة الآية على خصوص قبحه عند الشارع فيستفاد منه دلالته على التحريم عند الإطلاق والخلوّ عن القرينة فيفيد وضعه له. فالأولى في الإيراد عليه

١٣

أن يقال : إنّ أقصى ما ثبت من ذلك ظهور النهي المجرّد عن القرائن في التحريم ، ونحن نقول به ـ حسب ما عرفت ـ ولا دلالة فيه على المدّعى.

ومنها : أنّ الأمر للوجوب فيكون النهي للتحريم ، لعدم القول بالفصل أو للقطع باتّحاد مفادهما في العرف ، سوى أنّ الأوّل متعلّق بالفعل والثاني بالترك أو الكفّ.

ويضعّفه ما عرفت من عدم ثبوت وضع الأمر للوجوب.

ومنها : أنّ الصحابة والتابعين كانوا يستدلّون بالنواهي على التحريم كما كانوا يستدلّون بالأوامر على الوجوب ، حسب ما مرّ من تصريح جماعة به هناك ، وقد نصّ عليه هنا أيضا غير واحد من العامّة. وربما يمنع ذلك في المقام إذ لا يوجد ذلك في كلام من يوثق به عندنا ، لكنّ الإنصاف أنّه لا فرق في ذلك بين الصيغتين. فالأولى في الجواب أن يقال : إنّ أقصى ما يفيده ذلك ظهور النهي في التحريم ، وهو أعمّ من وضعه له كما عرفت.

قوله : (واستعمال النهي في الكراهة شائع ... الخ.)

قد عرفت ما يرد مفصّلا في بحث الأوامر فلا حاجة إلى إعادته.

* * *

١٤

معالم الدين :

أصل

واختلفوا في أنّ المطلوب بالنهي ما هو؟ فذهب الأكثرون إلى أنّه هو الكف عن الفعل المنهيّ عنه ، ومنهم العلّامة رحمه‌الله في تهذيبه. وقال في النهاية : المطلوب بالنهي نفس أن لا تفعل. وحكى : أنّه قول جماعة كثيرة. وهذا هو الأقوى.

لنا : أنّ تارك المنهيّ عنه كالزنا ، مثلا ، يعدّ في العرف ممتثلا ، ويمدحه العقلاء على انّه لم يفعل ، من دون نظر إلى تحقّق الكفّ عنه ، بل لا يكاد يخطر الكفّ ببال أكثرهم. وذلك دليل على أنّ متعلّق التكليف ليس هو الكفّ ، وإلّا لم يصدق الامتثال ، ولا يحسن المدح على مجرّد الترك.

احتجّوا : بأنّ النهي تكليف ، ولا تكليف إلّا بمقدور للمكلّف. ونفي الفعل يمتنع أن يكون مقدورا له ، لكونه عدما أصليّا ، والعدم الأصليّ سابق على القدرة وحاصل قبلها ، وتحصيل الحاصل محال.

والجواب : المنع من أنّه غير مقدور ، لأنّ نسبة القدرة إلى طرفي الوجود والعدم متساوية. فلو لم يكن نفي الفعل مقدورا ، لم يكن إيجاده مقدورا ، اذ تأثير صفة القدرة في الوجود فقط ، وجوب ، لا قدرة.

١٥

فان قيل : لابدّ للقدرة من أثر عقلا ، والعدم لا يصلح أثرا ، لأنّه نفي محض. وأيضا فالأثر لابدّ أن يستند الى المؤثّر ويتجدّد ، والعدم سابق مستمرّ ، فلا يصلح أثرا للقدرة المتأخّرة.

قلنا : العدم إنّما يجعل أثرا للقدرة باعتبار استمراره. وعدم الصلاحية بهذا الاعتبار في حيّز المنع ؛ وذلك لأنّ القادر يمكنه أن لا يفعل فيستمرّ ، وأن يفعل فلا يستمرّ. فأثر القدرة إنّما هو الاستمرار المقارن لها ، وهو مستند إليها ، ومتجدّد بها.

١٦

قوله : (فذهب الأكثرون إلى أنّه هو الكفّ.)

وقد اختار ذلك الحاجبي والعضدي ، وكأنّه المراد بما عزى إلى الأشاعرة من كون المطلوب فعل ضدّ المنهي عنه. ثمّ قد يتخيّل أنّ المراد بالكفّ هو زجر النفس عن فعل الشيء عند حصول الشوق إليه وقيام الداعي إلى فعله ، بملاحظة ما يقاوم ذلك أو يغلب عليه فيمنع من حصول مقتضاه ، وحينئذ فهو أخصّ مطلقا بحسب الوجود من الترك الّذي هو عدم الإتيان بالفعل ، فإنّ الكفّ بالمعنى المذكور يستلزم الترك بخلاف الترك ، فإنّه لا يستلزم حصول الكفّ ، إذ قد لا يكون له شوق إلى الفعل من أوّل الأمر ، فلا يصدق معه اسم الكفّ مع حصول الترك ، فعلى القول المذكور يكون المطلوب بالنهي خصوص ذلك ، فلو لم يكن للمكلّف شوق إلى الفعل ولم يقم له داع إليه لم يكن الترك الحاصل منه مطلوبا للناهي عند القائل المذكور ولا يتعلّق النهي به. والظاهر أنّه يقول حينئذ بسقوط النهي تنجيزا وإن تعلّق به معلّقا على حصول الشوق ، فعلى هذا يكون النواهي المتعلّقة بالمكلّفين مشروطة بشوقهم إلى الفعل ورغبتهم فيه لا مطلقا ، إذ لا مجال للقول بوجوب الكفّ على الوجه المذكور مطلقا حتّى يجب عليه تحصيل الشوق إلى الفعل ليتصوّر منه حصول ما وجب من الكفّ. ويمكن توجيه القول بسقوط التكليف مع انتفاء الشوق إلى الفعل وعدم الداعي إليه بأنّه لمّا كان مقصود الشارع من تحريم الفعل عدم حصوله في حيّز الوجود كان ميل المكلّف عن الفعل وعدم شوقه إليه مغنيا عن التكليف بتركه ، للاكتفاء به في الصرف عن الفعل ، والمنع عن إدخاله في الوجود ، فلا حاجة إلى تكليفه به ، وإنّما الحاجة إلى التكليف المفروض فيما إذا كان مائلا إلى الفعل راغبا فيه ليتعلّق التكليف إذا بالكفّ. ويرد عليه أنّ فيه خروجا عن ظاهر الإطلاق من غير جهة باعثة عليه ، وما ذكر من الوجه يتمّ مع إمكان ورود التكليف على الوجه المذكور لا وقوعه ، كيف ولم يعتبره الشارع في جانب الأمر ، إذ لم يقل أحد بعدم شمول الأوامر لمن يريد المأمور به ويرغب إليه ويأتي به ، مع قطع النظر عن أمر الشارع به ، وحينئذ فالتزام القائل المذكور بذلك في

١٧

جانب النهي بعيد جدّا ، سيّما وقد ذهب جماعة من الأجلّة إلى إطلاقه على نحو الأمر ، كما هو الظاهر المفهوم من النهي في العرف. بل الظاهر أنّه لا مجال لتوهّم عدم تحريم المحرّمات على غير الراغب فيها ، فيظهر من ذلك وهن القول المذكور جدّا إن حمل على ظاهره. ويمكن أن يقال في توجيهه : إنّ المراد بالكفّ هو الميل عن الفعل والانصراف عنه عند تصوّر الطرفين ، سواء حصل له الرغبة إلى الفعل أو لا ، فإنّ العاقل المتصوّر للفعل والترك لابدّ من ميله إلى أحد الجانبين ، فالمراد بالكفّ هو ميله إلى جانب الترك ويجعل متعلّق الطلب الحاصل في النهي هو ذلك الميل ، نظرا إلى ما يتوهّم من عدم قابليّة نفس الترك لأن يتعلّق الطلب به بخلاف الإيجاد ، إذ لا مانع من تعلّق الطلب به فيكون الميل المذكور من جملة مقدّماته ، وحينئذ فلا فرق بين القولين المذكورين إلّا بالاعتبار ، حيث يقول القائل بتعلّق الطلب بالكفّ بكون المطلوب هو ميل النفس عن الفعل وانصرافه عنه. ويقول القائل بتعلّقه بالترك : بكون المكلّف به نفس الترك المسبّب من ذلك المتفرّع عليه ، وكأنّه الى ذلك نظر بعض شرّاح المنهاج حيث عزّي إليه القول بعدم الفرق بين القولين المذكورين ، ويشير إليه ما ذكره التفتازاني في المطوّل من تقارب القولين وكيف كان فالمختار ما اختاره المصنّف من كون متعلّق الطلب في النهي هو الترك ، إذ هو المتبادر من الصيغة بعد ملاحظة العرف والتأمّل في الاستعمالات ، ولأنّ الذمّ والعقوبة إنّما يترتّب على مخالفة المأمور لما طلب منه ، فإن كان المطلوب بالنهي هو الكفّ لزم أن لا يتعلّق الذمّ أو العقوبة لفعل المنهي عنه ، بل على ترك الكفّ عنه ، ومن الواضح خلافه ، وعلى القول بكون المطلوب هو الترك يصحّ وقوع الذمّ والعقوبة على الفعل ، إذ هو في مقابلة الترك ، ويشهد له أيضا أنّ مفاد المادّة هو الطبيعة المطلقة ، كما مرّ في الأمر وحرف النهي الواردة عليها إنّما يفيد نفيها ومفاد الهيئة الطارئة على تلك المادّة هو إنشاء الطلب ، فالمتحصّل من المجموع هو طلب عدم ذلك الفعل ـ أعني طلب الترك ـ ويعضده أيضا أنّ الأمر طلب لإيجاد الفعل فيكون النهي المقابل له طلبا لتركه. وما يتخيّل في دفع ذلك ولزوم صرف الطلب

١٨

إلى الكفّ بدعوى عدم مقدوريّة العدم فلا يمكن تعلّق التكليف به واه جدّا ، كما سيجيء الإشارة إليه إن شاء الله تعالى.

قوله : (يعدّ في العرف ممتثلا [ويمدحه العقلاء] على انّه لم يفعل.)

لا يخفى أنّ صدق الامتثال موقوف على كون الترك لأجل النهي لا لجهة اخرى ، وحينئذ يمدح على ترك الفعل من جهة قصده الترك لأجل النهي ، وهو مفاد الكفّ عن الفعل ، فلا دلالة في ذلك على كون المطلوب نفس الترك. وفيه : أنّ حيثيّة الكفّ مغايرة للجهة المذكورة وإن كان صادقا ، له فحصول المدح على الجهة المذكورة شاهد على كون المطلوب نفس الترك حتّى عدّ الترك الحاصل من جهة النهي امتثالا ، فإنّ حقيقة الامتثال هو الإتيان بما كلّف به من جهة كونه مكلّفا به ، فلو كان المكلّف به هنا هو الكفّ لكان الامتثال حاصلا به من الجهة المذكورة لا من جهة الترك ، فلمّا وجدنا حصول الامتثال بمجرّد الترك الحاصل على الوجه المذكور دلّ على كونه هو المكلّف به في النهي هذا ، ومرجع الدليل المذكور إلى ما ذكرناه من التبادر.

وقد يستدلّ عليه أيضا بأنّه كثيرا ما يترك الحرام مع إرادة الفعل على وجه لو حصل له القدرة عليه لأتى به أو من دون إرادة أصلا ، وعلى الوجهين لا يحصل الكفّ ، فلو كان المكلّف به هو الكفّ لزم حينئذ فواته ويلزمه ترتّب العقاب.

واورد عليه : بالتزام ترتّب العقاب في المقام ، لكون العزم على ترك الحرام من أحكام الإيمان والمفروض انتفاؤه في الصورتين ، فيترتّب العقاب عليه. وضعفه ظاهر ، فإنّ العصيان حينئذ ـ على فرض تسليمه ـ إنّما يترتّب على مخالفة تكليف آخر ، دون ترك المكلّف به بالتكليف المفروض ، إذ لا يصدق مخالفته للنهي المذكور قطعا ، وإن حصل عزمه على المخالفة في الصورة الاولى وترك العزم على الطاعة في الثانية ، فلو كان المطلوب بالنهي الكفّ لصدق مخالفته لنفس النهي المذكور أيضا ، لانتفاء مطلوبه الّذي هو الكفّ ، ومن الواضح خلافه.

١٩

قوله : (احتجّوا بأنّ النهي تكليف ... الخ.)

محصّله أنّ النهي تكليف ، ولا شيء من التكليف متعلّقا بغير المقدور ، فلا شيء من النهي يتعلّق بغير المقدور ، وكلّ عدم غير مقدور ، فلا شيء من النهي متعلّقا بالعدم. والمقدّمات المأخوذة في الاحتجاج المذكور مسلّمة ، إلّا الكبرى الأخيرة فبيّنه بقوله : «لكونه عدما أصليّا ... الخ».

هذا وقد يستدلّ أيضا على ذلك بوجه آخر أشار إليه في غاية المأمول وحاصله : أنّ الامتثال إنّما يتحقّق بالكفّ عن الفعل ، والثواب إنّما يترتّب عليه دون مجرّد الترك ، فما تعلّق الطلب به هو الّذي ترتّب الامتثال والثواب عليه.

وأجاب عنه بالمنع من ترتّب الثواب على الكفّ ، بل إنّما يترتّب الثواب على الترك من دون مدخليّة الكفّ.

وأنت خبير : بأنّ حصول الامتثال وترتّب الثواب إنّما يتصوّر فيما إذا ترك المنهيّ عنه لأجل نهيه عنه ، وأمّا إذا تركه لأجل أمر آخر مع علمه بالنهي أو عدمه فليس ذلك قاضيا بصدق الامتثال ولا باعثا على ترتّب الثواب ، حسب ما مرّ بيانه ، لكن لا يقضي ذلك بعدم حصول المطلوب بالترك المفروض ، لما عرفت من الفرق بين أداء الواجب وترك المحرّم وحصول الامتثال. فقوله : إنّ تحقّق الامتثال وترتّب الثواب إنّما هو في صورة الكفّ ـ على فرض تسليمه ـ لا يقضي بتعلّق النهي بالكفّ ، إذ تعلّق النهي بالترك لا يستدعي حصول الامتثال بمجرّد الترك ، كما أنّ تعلّق الأمر بالفعل لا يقضي بحصول الامتثال بمجرّد الإتيان به ، بل يتوقّف أيضا على كون أدائه من جهة أمر الآمر به ، وبدونه يكون أداءا للواجب من غير أن يكون امتثالا كما مرّ تفصيل القول فيه. فما زعمه المستدلّ من الملازمة ممنوعة ، ولو سلّم ذلك نقول : إنّ حصول الامتثال وترتّب الثواب حينئذ إنّما هو من أجل الترك دون الكفّ وإن كان مجامعا له ، إذ مجرّد حصول الكفّ حينئذ لا يستدعي كون الامتثال من جهته ، لما عرفت من الفرق بين الأمرين. وكون الامتثال حاصلا من جهة الترك ، فإن أراد المجيب بترتّب الامتثال على الترك ترتّبه عليه في

٢٠