هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٨٣

إذ لا وجود لغير المتعيّن واقعا في الخارج ، فكيف يعقل تعلّق الوجوب به في الخارج؟ كيف! ويصحّ سلب التكليف حينئذ عن خصوص كلّ من تلك الآحاد ، فيصحّ السلب الكلّي المناقض للإيجاب الجزئي ، بل ربّما لا يصحّ القول بتعلّقه بالمبهم على الوجه المذكور في الواجب المخيّر مع تعلّقه به في الذمّة ، حسب ما مرّ الكلام فيه.

وإن أراد تعلّقه بأحدهم بملاحظة المفهوم الكلّي الصادق على كلّ منهم ـ نظير ما ذكرناه في المخيّر ـ فهو حقّ ولا مانع منه ، فإنّ الكلّي المذكور أمر متعيّن في الخارج في ضمن مصاديقه ، وتعلّق التكليف به قاض بتعلّق الوجوب بكلّ من مصاديقه على سبيل البدليّة ، كوجوب الأفراد كذلك عند تعلّق الأمر بالطبيعة ، إذ ليس وجوبها كذلك من باب المقدّمة ، بل هي واجبة كذلك بعين وجوب الطبيعة ، كما سيأتي الكلام فيه إن شاء الله ، إلّا أنّ هناك فرقا بين المقامين سنشير إليه إن شاء الله.

فإيجاب الفعل على أحدهم بالوجه المذكور عين إيجابه على الجميع بالوجه المذكور حسب ما قرّرنا. كما أنّ إيجاب أحد الفعلين في المخيّر عين إيجاب الجميع على وجه التخيير حسب ما مرّ ، وقد عرفت عود النزاع حينئذ لفظيّا ، لكن لا يذهب عليك الفرق بين أحد الأفراد الملحوظ في الكفائي ، وأحدها الملحوظ في المخيّر ، فإنّه لا يمكن أن يلحظ الأحد في الأوّل إلّا عنوانا للجزئيّات المندرجة تحته ، ويكون الحكم متعلّقا بتلك الجزئيّات ابتداء وإن لوحظت بذلك العنوان الواحد ، إذ لا يعقل أن يكون نفس مفهوم الأحد من حيث هو متعلّقا للتكليف ، إذ هو كذلك أمر كلّي منهم يستحيل وجوده في الخارج فلا يعقل أن يتعلّق به التكليف الّذي هو أمر خارجي ، والأحد في الثاني يمكن أن يلحظ عنوانا ، فلا يكون متعلّق التكليف إلّا خصوص الأفعال المندرجة تحته حسب ما قرّرناه في المخيّر ، وأن يكون نفس مفهوم الأحد متعلّقا للتكليف مرادا من المكلّف ، من دون ملاحظة خصوصيّة الفعل الّذي يصدق عليه ، فيكون كلّ من

٣٨١

الفعلين مقصودا من حيث انطباق مفهوم الأحد عليه لا بخصوصه ، لما عرفت من كون ذلك المفهوم أمرا متعيّنا في الذمّة يمكن تعلّق التكليف به.

إلّا أنّ هذا الاحتمال مدفوع في المخيّر بجهة اخرى مرّ تقريرها ثمّة ، لا من جهة عدم إمكانه كما في المقام.

وبما ذكرنا يظهر فرق آخر بين الكفائي والتخييري في ذلك ، فإنّ المطلوب في المخيّر هو خصوص الأفعال المفروضة من غير أن يكون لانطباق مفهوم الأحد عليها مدخليّة في تعلّق الأمر بها ، فليس المفهوم المفروض إلّا عنوانا محضا ، والمطلوب هو خصوص تلك الأفعال على وجه التخيير.

وأمّا في المقام فيمكن القول بمثل ذلك أيضا ، إلّا أنّ الظاهر تعلّق التكليف هنا بخصوص كلّ من الأشخاص من حيث انطباق مفهوم الأحد عليه ، إذ لا يلحظ فيه الطلب إلّا من أحدهم ، ولا ربط لخصوص كلّ منهم في تعلّق التكليف به ، فليس الطلب هنا متعلّقا بمفهوم الأحد من حيث هو ، ولا بخصوص كلّ من الأشخاص من حيث خصوصه ، لما عرفت من استحالة الأوّل ، وعدم ملاحظة خصوصيّة المكلّف في المقام ، بل إنّما المقصود حصول الفعل من واحد منهم ، فكلّ منهم إنّما يتعلّق به التكليف من حيث كونه واحدا منهم ، فمفهوم الأحد في المقام كلّي طبيعي يتعلّق به الأمر لا من حيث هو ، بل من حيث حصوله في ضمن أفراده واتّحاده بها ، فيتعلّق الأمر ابتداء بكلّ من آحاد الأشخاص من حيث انطباق المفهوم المذكور عليه لا لخصوصه ، ويكون ذلك المفهوم عنوانا لها ومرآة لتصوّرها ، فبذلك يصحّ التعبير بتعلّق التكليف بجميع تلك الأشخاص على سبيل البدليّة وتعلّقه بمفهوم أحدها أيضا.

الثالث : أنّ الواجب ما يستحقّ تاركه الذمّ والعقاب ، ومن البيّن أنّ الباقين لا ذمّ يتوجّه عليهم ولا عقوبة مع فعل البعض ، فلا يتحقّق وجوب بالنسبة إليهم.

والجواب عنه : أنّ الواجب ما يستحقّ تاركه الذمّ والعقاب في الجملة لا مطلقا ، وإلّا لانتقض بالمخيّر والموسّع كما مرّ ، وهو هنا حاصل لاستحقاقهم الذمّ والعقوبة على تقدير ترك الكلّ.

٣٨٢

وربّما يجاب عنه أيضا : بأنّ عدم استحقاق الباقين للذمّ والعقوبة حينئذ إنّما هو لسقوط الواجب عنهم نظرا إلى فوات موضوعه بفعل الغير ، لا لعدم وجوبه عليهم من أوّل الأمر.

وفيه : ما عرفت من أنّ سقوط الواجب حينئذ إنّما هو بأدائه وحصول مطلوب الآمر بفعله ، لا بمجرّد سقوطه بانتفاء موضوعه ، فأداء الواجب بفعل البعض شاهد على وجوبه على البعض.

ويدفعه : أنّ أداء الواجب بفعل البعض لا يقضي بوجوبه على البعض ، لصحّة تعلّق الوجوب بالكلّ على وجه يؤدّى الواجب بفعل البعض ، حسب ما مرّ توضيح القول فيه.

فالحقّ أن يقال : إنّه مع ترك الكلّ يتوجّه استحقاق الذمّ والعقوبة إلى الكلّ ، فهو شاهد على وجوبه على الكلّ ، وأداء الواجب بفعل البعض وسقوط الذمّ والعقوبة على الباقين يفيد حينئذ كون الوجوب على الكلّ على سبيل البدليّة دون الاجتماع ، كما مرّ الكلام فيه.

الرابع : قوله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ ...)(١) فإنّ ظاهر الآية الشريفة إيجاب النفر على الطائفة المبهمة من جهة تنكير الطائفة ، ولو كان واجبا على الجميع لما خصّ الطائفة بالذكر في مقام بيان التكليف.

وأجاب عنه العضدي وغيره : بأنّ الظاهر مؤوّل بعد قيام الدليل على خلافه ، وقد عرفت قيام الدليل على وجوبه على الجميع ، فيؤوّل ذلك بأنّ فعل الطائفة مسقط للوجوب عن الجميع.

قلت : ويمكن أن يقال : إنّه لمّا كان فعل الطائفة مسقطا للوجوب في المقام خصّهم بالذكر وإن لم يختصّ الوجوب بهم.

والتحقيق في الجواب : ما عرفت من أنّ التعبير بإيجاب الفعل على الطائفة المطلقة الصادقة على كلّ من الآحاد لا ينافي القول بوجوبه على الجميع بدلا ،

__________________

(١) التوبة : ١٢٢.

٣٨٣

حسب ما قرّرناه ، فلا فرق إذا بين التعبير بوجوبه على الطائفة تعيينا ووجوبه على الجميع بدلا ، نظير ما قرّرناه في المخيّر ، ولذا عبّر في كثير من الكفائيّات بذلك ، كما في قوله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)(١) وقوله تعالى : (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(٢).

الخامس : ما حكي عن بعض المحقّقين من : أنّه لو كان واجبا على الكلّ لكان إسقاطه عنهم بعد فعل البعض نسخا للوجوب ، لأنّه رفع له ، ولا نسخ اتّفاقا.

وردّ ذلك بمنع الملازمة ، إذ ليس كلّ رفع للطلب نسخا ، فقد يكون ذلك بسبب انتفاء علّة الوجوب ، كصلاة الجنازة فانّ المقصود بها احترام الميّت وقد حصل بفعل البعض ، فسقط عن الباقين لزوال علّة الوجوب.

والفائدة في إيجابه على الجميع كون المقصود حينئذ أقرب إلى الحصول ، فظهر بذلك أنّه ليس فعل البعض حينئذ قاضيا بالسقوط حقيقة ، بل استنادا إليه على وجه المجاز ، والسبب المسقط إنّما هو زوال علّة الوجوب.

وأنت خبير بأنّ الجواب المذكور إنّما يوافق القول بكون السقوط عن الباقين من جهة فوات الموضوع ، لا لأداء ما هو الواجب ، وقد عرفت وهنه.

فالحقّ في الجواب : أنّ ارتفاع التكليف في المقام إنّما هو لأدائه ، ومن الواضح أنّ ارتفاع التكليف بذلك لا يكون نسخا ، وأداء الواجب في المقام وإن لم يتحقّق بفعل الكلّ إلّا أنّ وجوبه على الكلّ إنّما كان على وجه يحصل أداؤه بفعل أيّ منهم ، حسب ما مرّ الكلام فيه.

ثمّ إنّه ذكر بعض الأفاضل هذا الوجه حجّة للقول الثالث ، قائلا : بأنّه لو تعيّن على كلّ واحد كان إسقاطه عن الباقين رفعا للطلب بعد تحقّقه فيكون نسخا ، فيفتقر إلى خطاب جديد ، ولا خطاب فلا نسخ ، فلا يسقط ، بخلاف ما إذا قلنا بوجوبه على المجموع فإنّه لا يستلزم الإيجاب على كلّ واحد ، ويكون التأثيم للجميع بالذات ، ولكلّ واحد بالعرض.

__________________

(١) آل عمران : ١٠٤.

(٢) النور : ٢.

٣٨٤

قلت : لا يخفى أنّ جعل هذا التقرير حجّة للقول المذكور لا يخلو عن خفاء ، والأولى في تقريرها حينئذ أن يقال : إنّه لو تعيّن الواجب على كلّ واحد منهم كان سقوطه عن الباقين بعد فعل البعض رفعا للطلب قبل الفعل بالنسبة إليهم فيكون نسخا ، وهو باطل اتّفاقا. وأيضا يتوقّف حصوله على خطاب جديد ، ولا خطاب فلا نسخ. وإنّه لو لم يتعلّق الوجوب بكلّ واحد منهم لم يصحّ قصد الوجوب من كلّ منهم ، ولم يجز تأثيم الجميع بتركهم ، فلابدّ من تصوير ذلك على وجه يجمع بين ما ذكر ، وليس ذلك إلّا بالقول بتعلّقه بالمجموع على أن يراد وقوع الفعل من المجموع في الجملة ، بحيث إنّه لو أتى به البعض صدق معه حصول الفعل من مجموع الجماعة ، فيصحّ من كلّ منهم قصد الوجوب ، ولا يحصل ترك الفعل من المجموع إلّا عند ترك الجميع ، فيتعلّق الإثم إذا بالمجموع بالذات ، وبكلّ منهم بالعرض.

وحينئذ فالجواب عنه : أنّ طريق الجمع بين الأمرين المذكورين لا ينحصر في ما ذكر ، بل يصحّ على ما قلناه من تعلّق الوجوب بكلّ منهم على سبيل البدليّة ، حسب ما فصّلنا القول فيه ، بل لا يصحّ ذلك على القول بوجوبه على المجموع إلّا بإرجاعه إلى ما قلناه ، حسب ما أشرنا إليه.

هذا ، وقد ظهر ممّا قرّرناه سابقا. حجّة القول الرابع المحكيّ عن بعض المعاصرين وغيره ، والوجه في وهنه ، فلا حاجة إلى إعادته. وقد اتّضح من التأمّل في جميع ما ذكرناه حجّة القول المختار ، ودفع ما ربّما يتوهّم من الإيراد في المقام ، فلا حاجة إلى تطويل الكلام.

ولنتمّم الكلام في المرام بذكر امور :

أحدها (١) : أنّه لا ريب أنّه لو ترك الواجب الكفائي جميع المكلّفين الواجدين لشرائط التكليف به عصى الكل على ما هو قضيّة التكليف في المتعلّق بهم كما عرفت ، ولا خلاف فيه على شيء من الأقوال المذكورة.

__________________

(١) لا يخفى أنّه لم يأت فيما بعد بقايا هذه الامور ، وسيأتي بعد أسطر : وإنّما وقع الكلام في امور : الأوّل ...

٣٨٥

نعم ، قد يتوهّم على القول بتعلّق التكليف بالمجموع إن لم يفسّر بما يرجع إلى المختار توزيع العقاب حينئذ على الجميع ، وليس كذلك ، إذ ليس الواجب عليهم عند القائل المذكور توزيع العمل على الجميع حتّى يترتّب عليه توزيع العقاب عليهم ، فهو أيضا يقول بتحقّق العصيان بالنسبة إلى كلّ منهم.

وكذا لا ريب في سقوط التكليف عن الجميع بفعل البعض ، وكذا عدم استحقاق غير الفاعل للثواب وإن كان سقوط الواجب عن الباقين بأدائه ، وذلك لحصول الأداء من غيره فلا داعي لاستحقاقه الثواب بفعل غيره ، وإنّما يقع الكلام في المقام في امور :

الأوّل : أنّه هل يجوز للجميع التلبّس بالفعل؟ فإن قلنا بوجوب الفعل على الجميع على نحو سائر الواجبات إلّا أنّه يسقط عن الباقين بعد أداء البعض فلا ينبغي الريب في الجواز ، بل ووجوبه عليهم قبل حصول الفعل من البعض.

وإن قلنا بوجوبه على الكلّ بدلا ـ كما هو المختار ـ فقد يشكل ذلك ، نظرا إلى أنّ الواجب فعل واحد ، فالإتيان بما يزيد عليه ممّا لا دليل على شرعيّته. وفيه منع ظاهر ، لتعلّق الأمر في الكفائي بمطلق الطبيعة كغيره من الواجبات ، فالقول بأنّ الواجب هو المرّة ممّا لا وجه له.

نعم ، لو قام الدليل على كون المطلوب هو الفعل الواحد كتغسيل الميّت ، حيث إنّ المطلوب هناك غسل واحد لا أزيد لم يشرع التلبّس بأغسال عديدة ، وإنّما يشرع الإتيان بفعل واحد منها وإن وجب ذلك على الكلّ ، ولا مانع من تعدّد المباشر مع اتّحاد الفعل ، لما عرفت من كون وجوبه عليهم على سبيل البدل.

وكذا الحال في الفعل المحرّم إذا صار واجبا كفائيّا لأجل التقيّة أو غيرها ، إذ لا يجوز الإتيان إلّا بواحد مع اندفاع الضرورة وإن وجب الإتيان به كذلك على الجميع ، وهذا بخلاف ما لو كان المطلوب مطلق الطبيعة وإن لزمه اتّصاف الواحد بالوجوب وأداء الواجب ، ولذا لا يتعيّن على الجميع التلبّس فإنّ ذلك لا ينافي اتّصاف الجميع بالوجوب لو أتى به دفعة ، نظرا إلى حصول الطبيعة به أيضا.

٣٨٦

فإن قلت : إنّه مع حصول الطبيعة بالواحد كحصولها بالمتعدّد لم لا يكون أداء الواجب هنا بالواحد دون المتعدّد لحصول الواجب به؟ فلا حاجة إلى ما يزيد عليه ، بل لا يشرع الزيادة عليه على ما يقتضيه الأصل.

وأيضا قضيّة حصول الطبيعة في ضمن الجميع أداء الواجب الّذي هو الإتيان بالطبيعة بذلك ، لحصول الطبيعة بالمتعدّد كحصولها بالواحد ، وهو خلاف المفروض في المقام ، إذ كلّ منهم إنّما يقصد أداء الواجب بفعله ، وليس المقصود أداء الواجب بالمجموع.

قلت : يمكن دفع الأوّل : بأنّه مع صدق الطبيعة على الواحد والمتعدّد لابدّ من اتّصاف الكلّ بالوجوب قبل سقوط الواجب ، نظرا إلى صدق الطبيعة الواجبة عليه فلا وجه للقول بأدائها لخصوص الواحد.

والثاني (١) : بأنّه ليس المقصود من صدق الطبيعة على المتعدّد حصول الامتثال هنا بالمجموع ليكون الإتيان به امتثالا واحدا وأداء واحدا للواجب وإن كان المؤدّى متعدّدا ، نظرا إلى حصول الطبيعة الواجبة بالمتعدّد على نحو حصولها بالواحد. بل المقصود اتّصاف كلّ منهما بالوجوب ، نظرا إلى حصول الطبيعة به ، فيتعدّد أداء الواجب بتعدّدها ، ولا مانع منه بعد تعلّق الأمر بمطلق الطبيعة ، وجواز الاقتصار حينئذ على البعض لا ينافي وجوب الكلّ ، إذ الأمر بأداء الطبيعة المطلقة يعمّ الواحد والمتعدّد ويحصل المطلوب بكلّ من الوجهين ، فله الاقتصار على أداء واحد ، وله الإتيان بالمتعدّد قبل سقوط الواجب ، لبقاء الأمر وصدق الطبيعة عليه ، فليس الواجب إلّا مطلق الطبيعة الحاصلة بتلك الحصولات ، فيتّصف الجميع بالوجوب من جهة حصولها لكلّ منها ، فلا وجوب لشيء منها بالخصوص ، وإنّما يتّصف بالوجوب من جهة حصول الواجب ، أعني الطبيعة المطلقة بها ، وقد مرّ الكلام في ذلك في بحث المرّة والتكرار.

__________________

(١) أي ويمكن دفع الثاني.

٣٨٧

ويشكل الحال في المقام : بأنّ ذلك إن تمّ فإنّما يتمّ في الواجبات العينية ، وأمّا في المقام فلا يصحّ ذلك ، إذ المفروض كون الوجوب هنا على الجميع بدلا ، فكيف يصحّ القول باتّصاف الكلّ بالوجوب معا؟

ويدفعه : أنّ مفاد الوجوب عليهم بدلا هو أداء الواجب بفعل أيّ منهم حسب ما مرّ بيانه ، لا تعلّق الوجوب بالواحد على وجه ينافي حصول الواجب من المتعدّد ، وذلك يقضي بسقوطه عن الباقين بعد فعل الواحد. وأمّا إذا اقترنت أفعالهم فالكلّ متّصف بالوجوب لأداء كلّ منهم ما وجب عليه قبل سقوط الواجب مع قبول الواجب المتعدّد لتعلّقه بالطبيعة ، فهو نظير اتّصاف الأفراد المتعدّدة الحاصلة من مكلّف واحد قبل سقوط الوجوب عنه عند تعلّق الأمر بالطبيعة حسب ما مرّ بيانه ، فتأمّل.

الثاني : أنّه هل يسقط الوجوب عن الباقين بشروع البعض فيه ، أو أنّه إنّما يسقط بإتمام الفعل؟ وجهان ، وظاهر جماعة منهم بقاء الوجوب ما لم يحصل الإتمام ، وهو الّذي يقتضيه الأصل وإطلاق الأمر ، وهو المختار.

ولا فرق بين الإتيان بمعظم الفعل وعدمه ، فيجوز إتيان الغير به على وجه الوجوب ، لكن لو كان المطلوب فعلا واحدا ـ كما مرّ ـ أشكل إقدام الباقين عليه حينئذ ، فالظاهر السقوط عنهم حينئذ سقوطا مراعى بإتمام المباشر.

وأمّا لو كان المطلوب مطلق الطبيعة فلا مانع من مباشرة الباقين أيضا ، ويكون متّصفا بالوجوب قبل إتمام العمل ولو من البعض. نعم ، لو لم يكن أجزاء الفعل مرتّبا بعضها بالبعض وشرع فيه بعضهم سقط ذلك البعض عن الباقين ، وكان الإتيان بالباقي واجبا على الكفاية.

الثالث : لو أتمّ البعض فعله قبل الباقين في ما يصحّ تلبّس المتعدّد به خرج فعل الباقين من الوجوب ، لسقوط التكليف به ، وحينئذ فإن كان الفعل ممّا ثبت مشروعيّته جاز إتمامه ، ولو كان ممّا يحرم قطعه وجب الإتمام من تلك الجهة ولا إشكال فيه حينئذ ، وإلّا اشكل الحال فيه ، والظاهر الرجوع فيه إلى مقتضى الأصل ،

٣٨٨

فإن كانت عبادة لم يجز الإتمام ، لأنّ سقوط ذلك التكليف حينئذ قاض بانتفاء الأمر ، إذ المفروض عدم حصول أمر قاض بمشروعيّة ذلك الفعل ، وإلّا جاز الإتمام. ولو علم في الأوّل عدم إمكان إتمامه قبل الآخر بعد شروعه فيه ففي وجوب تلبّسه به حينئذ وجهان ، أوجههما ذلك ، لإمكان طروء مانع للآخر عن الإتمام. ويحتمل البناء على ظاهر الحال ، فيسقط عنه الوجوب في الظاهر سقوطا مراعى بالإتمام ، وحينئذ فلو كان ممّا لا يشرع فعله على تقدير سقوط الوجوب لم يجز الشروع فيه.

الرابع : لو أتى البعض بالفعل فقد سقط عن الباقين ، فإذا تلبّسوا بالفعل بعد ذلك كان نفلا على ما حكي من البعض. وحكي قول بكونه فرضا أيضا كالأوّل ، لما فيه من ترغيب الفاعل ، لأنّ ثواب الفرض يزيد على النفل ، وقد كان الفرض متعلّقا بالجميع ، فالسقوط إنّما هو من باب التخفيف ، ولا يخفى وهنه جدّا لو اريد به ظاهره. ولو اريد ثبوت ثواب الفرض فهو أيضا ممّا لا دليل عليه كذلك.

نعم ، لو قام إطلاق في بعض المقامات فلا مانع من القول به ، ومن الظاهر وهن الأوّل أيضا إذا لم يقم هناك أمر آخر قاض برجحان ذلك الفعل ، إذ سقوط الوجوب بأداء الفعل قاض بسقوط مطلق الرجحان ، لما تقرّر من عدم بقاء الجنس بعد ارتفاع الفصل ، فالحقّ في ذلك بعد الحكم بالسقوط الرجوع إلى حكم الأصل جوازا أو منعا. نعم ، لو قام دليل خاصّ في خصوص بعض المقامات كان متّبعا.

الخامس : لو أتى بالفعل الكفائي من لم يجب عليه لم يقض ذلك بسقوط الواجب عمّن وجب عليه. فلو سلّم المسلّم على الجماعة وردّ عليه غير المسلّم عليه لم يسقط الجواب عمّن وجب عليه. نعم لو كان صدور الفعل من الغير رافعا لموضوع التكليف سقط عنهم من تلك الجهة ، وهو غير السقوط الحاصل بفعل البعض ، لما عرفت من كون ذلك السقوط حاصلا بأداء الواجب ، بخلاف المفروض في المقام.

السادس : لا ريب أنّه إنّما يحكم بسقوط الواجب بفعل البعض إذا كان ذلك الفعل محكوما بصحّته ، فإذا كان فاسدا كان في حكم العدم ، وهل يبنى فيه على

٣٨٩

أصالة صحّة فعل المسلم ليحكم بالسقوط بمجرّد فعله وإن فعله لم يعلم أداؤه على الوجه المقرّر ، أو أنّه يشترط العلم بصحّته؟ المتّجه هو الأوّل ، لعدم إمكان العلم بالصحّة الواقعيّة في الغالب ، وجريان السيرة القاطعة بالحكم بالسقوط عند إتيان الغير به حملا لفعله على الصحيح ، كما هو مقتضى الأصل.

وهل يعتبر الظنّ بالصحّة ، أو يكتفي بمجرّد احتمالها ولو كان بعيدا ، أو يعتبر عدم الظنّ بالفساد؟ وجوه ، أقواها الثاني ، إذ أصالة حمل فعل المسلم على الصحّة مبنيّة على التعبّد ولا يدور مدار الظنّ ، فلابدّ من الحكم بمقتضاها ، ومعه لا وجه لعدم الحكم بالسقوط عن الباقين. والظاهر جريان السيرة عليه أيضا مضافا إلى لزوم الحرج لولاه.

والقول بأنّ القدر الثابت من السقوط بالإجماع إنّما هو مع حصول الظنّ بالصحّة ، فمع عدمه لابدّ من البناء على حكم الأصل من عدم سقوطه مدفوع بما عرفت. وقد يقال بأنّ الأصل المذكور معارض بأصالة عدم تعلّق الوجوب به فيما لو علم بالواقعة بعد قيام ذلك البعض به ، ولا قائل بالفصل بين الصورتين ، فيتساقطان.

وفيه : أنّ قضيّة اليقين بالاشتغال هو الحكم بمقتضاه بعد حصوله وعدم حصول اليقين بالبراءة منه ، وقضيّة أصالة البراءة هو الحكم بها في صورة عدم ثبوت الاشتغال شرعا ، فلابدّ من الأخذ بمقتضى كلّ من الأصلين في محلّه ، وقيام الإجماع على عدم الفصل بين الأمرين بحسب الواقع لا ينافي الأخذ بالتفصيل في مقام العمل ، عملا بمقتضى الأصل في كلّ من الصورتين ، فالّذي يقتضيه الأصل هو البناء على التفصيل ، إلّا أنّك قد عرفت قيام الدليل على السقوط مطلقا.

السابع : لا فرق في الحكم بالسقوط بفعل البعض بين كونه عدلا أو فاسقا ، لما عرفت من أصالة حمل فعل المسلم على الصحّة مطلقا ، لا خصوص العدل ، وعدم اعتبار الظنّ بالصحّة ، بل ولا عدم الظنّ بالفساد ، على أنّه قد يحصل الظنّ بالصحّة في الفاسق أيضا ، وقد حكي الشهرة عليه ، بل لم يظهر فيه خلاف ، سوى أنّه

٣٩٠

استشكل فيه الفاضل الجواد وتبعه الفاضل الصالح ، معلّلين بأنّ الفاسق لا يقبل خبره لو أخبر بإيقاع فعله ، ولا عبرة بفعله أيضا ، وهو كما ترى قياس فاسد ، وكأنّه اريد بذلك أنّه لو أخبر بصحّة فعله لم يقبل خبره ، لما دلّ على وجوب التثبّت عند خبره ، فمع عدمه أولى.

ويدفعه : أنّ عدم القبول بالصحّة من جهة قوله لا يقضي بعدم الحكم بها من جهة الأصل المذكور ، ألا ترى أنّه لو أخبر بأمر موافق للأصل لم يقبل خبره مع العمل بمقتضى الأصل ، وهو ظاهر.

وزاد الفاضل الجواد : أنّ قيام الظنّ مقام العلم إنّما هو بنصّ خاصّ أو لدلالة العقل عليه ، وهما منتفيان في المقام ، فلا عبرة به ، لأنّ وجوبه على المكلّف معلوم ، والسقوط عنه بذلك مظنون ، والعلم لا يسقط بالظنّ ، وضعفها ظاهر بعد ما عرفت.

ثمّ إنّ قضيّة ما ذكر من التعليل جريان الإشكال في مجهول الحال أيضا ، والحكم بالاكتفاء به أظهر من الاكتفاء بفعل الفاسق ، والظاهر قيام السيرة عليه في المقامين ، سيّما في الثاني ، بل لا يبعد دعوى القطع بالنسبة إليه.

الثامن : أنّه إذا علم بقيام الغير بالكفائي سقط عنه ، سواء كان ذلك بمشاهدته ، أو بالتواتر ، أو بالآحاد المحفوفة بقرائن القطع ، أو بالعادة المفضية إلى العلم ، كما هو ظاهر في الأموات الّتي لهم أقارب وأرحام وأصدقاء في بلد موتهم متوجّهين للامور المتعلّقة بهم كمال التوجّه ، معتنين بشأنهم غاية الاعتناء ، فمن المقطوع به في العادة أنّه لا يتركون نعشه من غير غسل ودفن وكفن ، بل وكذا الحال في غيرهم إذا كان موتهم بين أظهر المسلمين الصالحين المعتنين بأوامر الشرع إذا لم يكن هناك حادثة توجب الذهول عنه ، أو تقضي بسقوط التكليف في شأنهم ، لحصول العلم العادي بذلك أيضا.

وأمّا إذا ظنّ قيام الغير به فإن كان حاصلا من الطريق الخاصّ ـ كشهادة العدلين ـ فالظاهر أنّه لا إشكال في جواز الأخذ به ، بناء على قيامها مقام العلم مطلقا ، وفي الاكتفاء بخبر العدل الواحد وجه قويّ.

٣٩١

وبعضهم منع من الأخذ به ، ونصّ بعضهم بعدم الاكتفاء بإخبار العادل بفعله ، وألحق بعضهم بشهادة العدلين الشياع ، ولا يخلو عن وجه ، سيّما إذا حصل به ظنّ قويّ يقارب العلم. وهل يكتفي فيه بمطلق الظنّ؟ وجهان ، والمقطوع به في كلام الفاضل الجواد وغيره عدم العبرة به ، لكونه موضوعا صرفا لابدّ فيه من العلم ، أو ظنّ قام دليل على حجّيته ، ولا دليل على حجّية مطلق الظنّ في خصوص هذا المقام.

وظاهر كلام جماعة منهم المحقّق في المعارج والعلّامة في النهاية وغيرهما الاكتفاء في ذلك بمطلق الظنّ ، وكأنّه للزوم الحرج لولاه ، لحصول العلم غالبا بالتكاليف الكفائيّة ، واعتبار العلم بأداء الغير لها في سقوط التكليف بها في الظاهر يفضي إلى المشقّة ، مع قيام السيرة المستمرّة على خلافه ، فإنّ الميّت إذا كان بين أظهر المسلمين من غير حصول عائق من التوجّه لتجهيزه فإنّ الظاهر قيامهم بأمره ، وقد جرت الطريقة على عدم التزام غيرهم بالتجسّس عن حاله وبنائهم على قيام غيرهم بأمره.

وفيه : أنّ دعوى الحرج في المقام ممّا لا وجه له ، كيف! وإذا لم يكن عليهم حرج في أصل تعلّق التكليف بهم كيف يتوهّم ثبوت الحرج عليهم في تحصيل العلم بسقوطه عنهم!

ودعوى قيام السيرة على الاعتماد على الظنّ القويّ الحاصل من العادة في الصورة المذكورة إن تمّت فإنّما تفيد جواز الاعتماد على ذلك الظنّ الخاصّ فيلحق بغيره من الظنون الخاصّة ممّا دلّ الدليل على جواز الاعتماد عليها ، وأين ذلك من الدلالة على الاكتفاء بمطلق الظنّ؟

ودعوى عدم القول بالفصل مجازفة لا شاهد عليها ، وقد يفصّل في المقام بين ما إذا حصل العلم بالواجب الكفائي وقارنه الظنّ بقيام الغير به فيكتفى حينئذ بمطلق الظنّ إذا كان الدليل على وجوبه منحصرا في الإجماع لأصالة براءة ذمّته عن ذلك وعدم قيام الإجماع على تعلّق الوجوب به حينئذ ، وما إذا كان بخلاف

٣٩٢

ذلك بأن كان الدليل عليه إطلاق النصّ ، أو كان العلم به حاصلا قبل الظنّ المفروض. وإن كان الدليل عليه حينئذ هو الإجماع فلابدّ حينئذ من العلم أو الظنّ الخاصّ ، نظرا إلى ثبوت اشتغال ذمّته بالعمل المفروض ، فلابدّ من العلم بتفريغه الحاصل بأحد الوجهين المذكورين.

ويضعّفه : أنّ مقارنة الظنّ للعلم لا ينافي الإجماع القائم على اشتغال ذمّته بالعمل المفروض ، فإنّه قاض بالعلم باشتغال ذمّته بالعمل المفروض كما هو الحال في صورة تقدّم علمه بذلك ، فالمقصود الحكم بسقوط ذلك التكليف عنه بالظنّ المفروض ، ولا يتمّ ذلك إلّا بعد قيام الدليل عليه ، ومجرّد الشكّ في اشتغال ذمّته فعلا بالفعل المذكور لا يدرجه في مسألة الشكّ بأصل الاشتغال ليدفع بأصل البراءة ، للقطع بوجوب ذلك الفعل على سبيل الكفاية ، وإنّما الشكّ في المقام من جهة الشكّ في حصول المسقط.

فإن قلت : إذا وقع الشكّ في كون الظنّ مسقطا فقد وقع الشكّ في تعلّق التكليف بالفعل ، ولا إجماع في المقام على وجوب ذلك على المكلّف حينئذ حتّى لا يصحّ دفعه بالأصل ، غاية الأمر القطع بحصول المقتضي في الجملة ، ولا يثبت به التكليف مع احتمال عروض المانع إلّا أن يكون هناك إطلاق قاض بثبوت الحكم مع حصوله ، فيدفع المانع بالأصل عملا بإطلاق الدليل. وأمّا إذا كان المستند هو الإجماع فلا وجه للاستناد إليه مع الشكّ المفروض ، لأصالة عدم تعلّق التكليف به.

والحاصل : أنّه لا فرق حينئذ في رفع التكليف بالأصل بين ما إذا حصل الشكّ في حصول المقتضي أو وجود الشرط أو علم بهما وشكّ في حصول المانع ، لعدم العلم بتعلّق التكليف به في الصورتين.

فالقول بأنّ قضيّة الأصل حينئذ عدم حصول المانع فيعمل المقتضي عمله مدفوع : بأنّه على فرض تسليم جريان الأصل فيه لا يثبت به تعلّق التكليف بالمكلّف ، فإنّ الأصل أيضا عدم التكليف ، ومجرّد وجود المقتضي المحتمل مقارنته للمانع لا يثبته إلّا أن يكون هناك إطلاق لفظي يقضي بثبوت الحكم مع

٣٩٣

ثبوت ذلك المقتضي ، فيكون ذلك دليلا شرعيّا على ثبوت الحكم حينئذ ، وأمّا مع انتفائه كما هو المفروض في المقام فلا دليل على ثبوت الحكم حينئذ ، ومجرّد الأصل المذكور لا يكون دليلا على الثبوت ، كيف! وعدم المانع أيضا من جملة الشروط ، فيرجع الشكّ فيه إلى الشكّ في الشرط.

وتوضيح المقام : أنّ الشكّ في التكليف قد يكون من جهة الشكّ في المقتضي ، أو الشكّ في الشرط ، أو المانع ، وعلى كلّ حال فقد يكون الشكّ من جهة الشكّ في اعتبار كلّ من المذكورات في ثبوت التكليف ، أو الشكّ في حصوله بعد العلم باعتباره.

وعلى كلّ حال فإمّا أن يكون الدليل على ثبوت الحكم إطلاق النصّ أو مجرّد الإجماع فلو كان الدليل عليه هو الإطلاق وشكّ في نفس الاعتبار فالإطلاق محكّم ، والشكّ المفروض مدفوع بالإطلاق. وإن كان الشكّ في حصوله حكم فيه بمقتضى البراءة في الجميع عند الشكّ في الأوّلين ، وأمّا في الثالث فقد يقال فيه بمثل ذلك لأصالة براءة الذمّة ، ويحتمل القول بثبوت التكليف لأصالة عدم حصول المانع. هذا إذا لم يعلم حصوله أوّلا ، وإلّا فيستصحب.

كما أنّه لو علم حصول المقتضي أو الشرط أوّلا ثمّ شكّ في ارتفاعه فإنّه يبني على بقائه عملا بالاستصحاب ، وكان ذلك هو المتّجه. وإن كان الدليل عليه هو الإجماع وشكّ في أصل اعتباره حكم بالبراءة ، لعدم تحقّق الإجماع إلّا مع حصوله ، وأمّا لو شكّ في حصوله بعد العلم باعتباره فالحال فيه نظير ما إذا دلّ عليه الإطلاق من غير فرق.

إذا تقرّر ذلك فنقول : إذا حصل الشكّ في كون الظنّ المذكور مانعا من تعلّق التكليف في المقام فإن كان الدليل عليه هو الإطلاق أخذ بمقتضاه ودفع ذلك بالأصل ، لكون الإطلاق محكّما حتّى يقوم دليل على التقييد. وأمّا إذا كان الدليل عليه هو الإجماع فحصول التكليف في المقام غير ظاهر ، لعدم تحقّق الإجماع في مورد الشكّ ، فيدفع التكليف بالأصل ، حسب ما ذكر.

٣٩٤

قلت : لا يخفى أنّ الظنّ المذكور لو احتمل كونه مانعا من تعلّق التكليف بالمكلّف على حسب ما ذكر كان قضية الأصل فيه هو التفصيل المذكور ، لكنّ الحال ليس كذلك ، فإنّ ثبوت التكليف بالفعل ممّا لا مجال للشكّ فيه ، إنّما الكلام في أداء المكلّف به والحكم بأدائه ، فالشكّ الحاصل في التكليف في المقام إنّما هو من جهة الشكّ في أدائه ، لا الشكّ في تعلّق التكليف به ، فهو نظير ما إذا علم بالكفائي وشكّ في قيام غيره به ، فإنّ ذلك الشكّ لا يقضي بصحّة جريان أصالة البراءة فيه وإن قارن الشكّ المفروض المذكور العلم به ، نظرا إلى الشكّ في تعلّق التكليف به بملاحظة ذلك ، فكما أنّه لا يجري الأصل في صورة الشكّ فكذا الحال في صورة الظنّ به مع عدم قيام دليل على حجّية الظنّ.

والحاصل : أنّ الكلام في المقام في كون الظنّ المذكور طريقا إلى ثبوت حصول المأمور به من غيره ليكون قاضيا بأدائه ، فيسقط الواجب من جهة أدائه ، فإذا لم يقم دليل على حجّية الظنّ في المقام كان قضيّة الأصل عدم الأداء ، فلا بدّ من الحكم ببقاء التكليف به ، ومجرّد الاحتمال لا يقضي بالسقوط ، فدعوى جريان أصالة البراءة فيه كما ترى.

التاسع : قد يتراءى من بعض العبارات الحكم بسقوط الكفائي مع الظنّ بقيام الغير به في المستقبل ، وقد يستفاد ذلك من إطلاق جماعة ، ومن الظاهر أنّ ذلك ممّا لا مساغ للمصير إليه ، بل المتعيّن عدم السقوط ولو مع العلم بأداء الغير له في المستقبل ، وكان مرادهم من ذلك سقوط التعيين ثمّة لظنّ قيام الغير به في المستقبل ، فلا يعاقب على تركه لو اتّفق عدم أداء الآخر له ، لعروض مانع ونحوه ، لا أنّه لا يجب عليه ذلك حينئذ على سبيل الكفاية ، حتّى أنّه إذا تصدّى لأدائه حينئذ لم يكن مؤدّيا للواجب الكفائي ، لوضوح فساد القول به ، لكنّ الإشكال في الاكتفاء بالظنّ المذكور في ما ذكرناه ، وقضيّة الأصل عدم الاكتفاء به.

نعم ، لو حصل الظنّ القوي على حسب مجاري العادات بقيام المطّلعين عليه بذلك الواجب احتمل الاكتفاء به ، نظرا إلى قيام السيرة عليه حسب ما ذكر في

٣٩٥

المسألة السابقة ، إلّا أنّ التعدّي من الواجبات الّتي قامت السيرة فيها إلى غيرها بعيد ، بل وفي ثبوت السيرة في صورة حصول الظنّ القوي تأمّل ، حسب ما أشرنا إليه في ما مرّ ، إذ لا يبعد كون السيرة في صورة حصول العلم العادي بقيام المسلمين به كما في غسل الأموات وكفنهم والصلاة عليهم ودفنهم إذا كان ذلك بين أظهر المسلمين.

العاشر : إذا علم أو ظنّ كلّ منهم ظنّا معتبرا في الشريعة سواء كان ظنّا خاصّا أو مطلقا بناء على الاكتفاء به في المقام بأداء الآخر للواجب سقط عنهم أجمع ، وقد نصّ عليه جماعة وتنظّر فيه الفاضل الجواد ، نظرا إلى أنّه يلزم منه ارتفاع الوجوب قبل أدائه ودفعه بأنّه لا مانع منه ، كما في صورة ارتفاع الموضوع ، كما إذا احرق الميّت أو أخذه السيل.

وأنت خبير بوهن الإيراد المذكور جدّا ، إذ ليس السقوط في المقام سقوطا واقعيا ، وإنّما يسقط عنه بحسب ظاهر التكليف نظرا إلى الطريق المقرّر ، كيف؟ وهو بعينه جار في الواجب العيني أيضا إذا اعتقد الإتيان به ثمّ ظهر خلافه.

وما ذكره في الجواب من عدم المانع من سقوط الواجب بغير فعله نظرا إلى سقوطه بانتفاء موضوعه حسب ما ذكره من المثال لا يدفع الإيراد ، إذ ليس الملحوظ في الإشكال مجرّد سقوط الواجب من غير فعله ، إذ لا يعقل إشكال في ذلك بمجرّده ، لوضوح سقوطه بانتفاء التمكّن منه ، وبسقوط موضوعه كما في المثال ، وإنّما إشكاله من جهة سقوط الواجب مع حصول الشرائط المقرّرة لذلك التكليف من دون فعله ، فإنّه لا يكون ذلك إلّا بنسخ الوجوب. وجوابه حينئذ ما ذكرناه ، ولا ربط له بما ذكر من التنظير.

ثمّ إنّهم إن بقوا على ذلك الظنّ أو العلم حتّى فات عنهم الفعل فلا كلام. وإن ظهر لهم أو لبعضهم الخلاف مع عدم فوات محلّ الفعل فهل يبقى السقوط على حاله ، أو لا بدّ من الإتيان به؟

استشكل فيه بعض الأفاضل ، ثمّ ذكر : أنّ التحقيق فيه التفصيل : بأنّه إن كان

٣٩٦

هناك عموم أو إطلاق يقضيان بلزوم الإتيان بذلك في جميع الأحوال تعيّن العمل به ، وإلّا فلا ، عملا بالاستصحاب.

والصواب أن يقال : أنّه لا تأمّل في وجوب الإتيان بالفعل مطلقا ، فإنّ سقوط الواجب بالعلم بأداء الآخر أو الظنّ به إنّما هو من جهة الحكم بأداء ذلك الواجب ، لا لكونه مسقطا له في نفسه ، وليس ذلك إلّا نظير ما إذا علم أو ظنّ بناء على اعتبار ظنّه بأدائه للعمل الواجب عليه عينا فتبيّن له الخلاف مع عدم فوات وقت الواجب ، فإنّ وجوب الإتيان بالفعل حينئذ يعدّ من الضروريّات ، ولا فرق بينه وبين المفروض في المقام أصلا.

بل نقول : إنّه لو شكّ بعد علمه أو ظنّه بأداء الآخر لفعله تعيّن عليه الإتيان به ولا وجه لاستصحاب السقوط في المقام ، لما عرفت من أنّ السقوط المذكور إنّما كان من جهة ثبوت أداء الواجب لا على وجه التعبّد ، فهو نظير استصحاب النجاسة في من تيقّن نجاسة ثوبه ثمّ شكّ فيها من أصلها فإنّه لا وجه لاستصحاب النجاسة كما قد يتوهّم.

الحادي عشر : لو شرع بعضهم في الفعل فالظاهر سقوطه عن الباقين ، بمعنى سقوط تعيّن الإتيان به أخذا بظاهر الحال ، وأمّا أصل الوجوب فالظاهر عدم سقوطه إلّا بالإتمام حسب ما مرّت الإشارة إليه. نعم ، لو كان المراد هو الفعل الواحد اتّجه القول بسقوطه عنهم سقوطا مراعى بالإتمام ، كما مرّت الإشارة إليه.

ثاني عشرها : لو كان المؤدّي للفعل مجتهدا مخالفا له في المسألة أو مقلّدا لمن يخالفه فأتى بالفعل على وفق مذهبه فهل يقضى ذلك بسقوط الواجب عن غيره ممّن يخالفه في الرأي ، أو يقلّد من يخالفه؟ وجهان :

من الحكم بصحّة ما يأتي به على الوجه المذكور ، لكونه مأمورا به في ظاهر الشريعة قاضيا ببراءة ذمّة عامله ، حتّى أنّه لا يجب عليه القضاء ولو عدل عن اجتهاده أو عدل المقلّد عن تقليده بناء على جوازه ، ولذا يعدّ ذلك الفتوى من حكم الله تعالى ، ويندرج العلم به في الفقه حسب ما مرّ بيانه.

٣٩٧

ومن أنّ أقصى ما دلّ عليه الدليل هو الصحّة في شأن العامل ، فإنّ حجّية ظنّ المجتهد إنّما هي في شأنه وشأن من يقلّده ، وإنّما يعدّ من حكم الله بالنسبة إليهما دون غيرهما ، ولذا لا يحكم بصحّته لو أتى به من عداهما ، فسقوط التكليف الثابت في شأنه بالفعل المفروض الفاسد واقعا بحسب معتقده وإن حكم بصحّته في شأن عامله يتوقّف على قيام دليل عليه كذلك.

وبتقرير آخر : المكلّف به في شأنه هو الفعل الواقع على وفق معتقده ، فلا وجه لحصول البراءة عنه بالفعل الواقع على الوجه الآخر إلّا أن يقوم دليل عليه ، وأيضا فعل كلّ من المكلّفين في الكفائي يقوم مقام فعل الآخر وينوب مناب فعله ، والمفروض أنّ الفعل الواقع على الوجه المذكور غير مبرئ للذمّة بالنسبة إلى غير ذلك العامل ، ولا يمكن أن يقوم مقام فعله ، إذ قيامه مقامه قاض بفساده ، لكون المفروض فساد ذلك العمل لو فرض وقوعه منه.

وفيه : أنّ المكلّف به في المقام ليس إلّا شيئا واحدا وكلّ من ظنون المجتهدين طريق إليه شرعا ، فإذا حصل الإتيان به على ما يقتضيه ظنّ أحدهم حصل أداء الواجب على الوجه المعتبر شرعا ، وهو قاض بسقوط التكليف به عن الجميع وإن لم يكن ذلك طريقا بالنسبة إلى المجتهد الآخر ومقلّده لو أراد العمل بنفسه ، وهو لا ينافي كونه طريقا مقرّرا لو عمل به غيره ، فالقائم مقام فعله هو الفعل المحكوم بصحّته شرعا الواقع على النحو المعتبر في الشريعة ولو عند المجتهد المخالف له ، وفساده على تقدير وقوعه من غيره لا ينافي قيام فعله مقام فعل ذلك الغير ، فإنّ القائم مقام فعل ذلك الغير هو الفعل الصحيح الواقع على وفق الشريعة ، مضافا إلى حصول البراءة به بالنسبة إلى العامل ومن يوافقه ، وسقوط التكليف بذلك الفعل عنهم قطعا ، فلا بدّ من الحكم بسقوطه عن الباقين ، إذ المسقط للكفائي عن البعض مسقط عن الجميع ، إذ ليس المطلوب إلّا أداء ذلك الفعل في الجملة ، فالمتّجه إذا هو السقوط.

نعم ، لو اختلف الفعلان في النوع أشكل الحال في السقوط ، كما إذا وجب

٣٩٨

عند أحدهما تغسيل الميّت وعند الآخر تيمّمه فأتى الآخر بالتيمّم ، وقضيّة الأصل في ذلك عدم السقوط. ومجرّد كون ما يأتي أحدهما به أداء لما هو الواجب شرعا لا يقضي بسقوط ما هو الواجب عليه مع عدم أداء الآخر له رأسا ، وأمّا لو حكم أحدهما بنفي الوجوب رأسا والآخر بوجوبه عليه فلا تأمّل في عدم سقوطه عمّن يعتقد الاشتغال به ، وكون ترك الآخر له من الجهة المذكورة لا يقضي بقيام ذلك مقام فعله.

غاية الأمر حينئذ عدم تعلّق الوجوب بالآخر في الظاهر ، لأداء اجتهاده أو اجتهاد من يقلّده إلى ذلك ، وهو لا ينافي اشتغال الآخر به وهو ظاهر ، ولو كان ما يأتي به المجتهد الآخر خطأ في اعتقاد الآخر ـ كما إذا كان مخالفا للدليل القاطع في نظره كالإجماع ـ فلا عبرة بعمله وعمل مقلّده بالنسبة إليه ، بل يحكم بفساده ، وإن كان معذورا في ذلك فلا يحكم بسقوطه من المجتهد الثاني ومقلّديه ، حسب ما فصّل القول في ذلك في مباحث الاجتهاد والتقليد.

ولو قلّد في العمل غير المجتهد فإن لم يكن موافقا للواقع لم يحكم بصحّته ، ولو كان مع اعتقاده اجتهاد المفتي ولو بعد بذل وسعه فيه في وجه قويّ ، وإن وافق الواقع في اعتقاده فإن لم يكن عبادة حكم بالسقوط مطلقا ، وإن كان عبادة فإن كان مع بذل وسعه في كونه مجتهدا أو كان غافلا قاصرا فالظاهر الصحّة والسقوط ، وإن كان مقصّرا لم يحكم بصحّته ، كما هو الحال في عبادات العوامّ على ما سيأتي الكلام فيه. وإن شكّ في تقليده المجتهد وعدمه بنى على السقوط وأصالة الصحّة ، وكذا لو شكّ في كون من يقلّده مجتهدا لأصالة الصحّة.

ولو علم عدم تقليده المجتهد الجامع لشرائط الفتوى لكن شكّ في كونه غافلا قاصرا أو مقصّرا مع مطابقة العمل لفتوى الآخر ، أو شكّ في كون ما أتى به موافقا للواقع على حسب معتقده فهل يحكم بصحّة العبادة وسقوط الواجب عن الباقين؟ إشكال من أصالة الصحّة والعلم بعدم وقوع الفعل على الوجه المقرّر في الشريعة وجريان أصالة الصحّة في مثل ذلك والحكم بوقوع الصحيح على سبيل الاتّفاق أو من جهة الغفلة محلّ تأمّل.

٣٩٩

ولو وقع العمل بفتوى غير المجتهد الحيّ من جهة الضرورة ، كما إذا لم يكن متمكّنا من الرجوع إليه فأخذ بقول الميّت فإن كان موافقا لقول الحيّ فلا إشكال ظاهرا في الصحّة والسقوط ولو بعد حضور المجتهد الحيّ مع بقاء الوقت ، وإن خالفه ففي الحكم بالسقوط من غيره مطلقا ، أو أنّه إنّما يسقط عن مثله ، وأمّا عن المجتهد ومقلّديه إذا حضروا بعد ذلك، أو كانوا حاضرين ولا يعلم العامل باجتهاده أو علمهم بقول الحيّ ، أو جواز أخذه بنقله لجهالة حالهم عنده إشكال ، والقول بالسقوط لا يخلو عن وجه ، والأحوط فيه عدم السقوط.

ثالث عشرها : لو كان الاشتباه من العامل في الموضوع مع الإتيان به على الوجه المقرّر في ظاهر الشريعة ، كما إذا غسل الميّت بماء مستصحب الطهارة وعلم الآخر بملاقاته النجاسة فهل يسقط عنه الواجب بذلك؟ وجهان : السقوط لحصول الفعل على الوجه المعتبر في الشريعة ، وهو يقضي بالسقوط والإجزاء ، وأيضا لا كلام في سقوطه حينئذ عن العامل فيحكم بسقوطه عن الباقين ، إذ الإتيان بالكفائي على الوجه الّذي يسقط به التكليف عن البعض فهو مسقط عن الكلّ ، إذ ليس المقصود في الكفائي إلّا إيجاد الفعل في الجملة ، وعدمه لعلمه بعدم أداء المأمور به على وجهه ، ولذا لو تفطّن له مع بقاء الوقت لزمه الإعادة وإيقاعه للفعل على الوجه المشروع بملاحظة الطريق المقرّر إنّما يقضي بالإجزاء مع عدم انكشاف الخلاف حسب ما قرّر في محلّه.

وإسقاط التكليف عن العامل ، إنّما هو في ظاهر الشريعة من جهة كونه معذورا ، وذلك لا يقضي بالسقوط بالنسبة إلى غير المعذور ، ولذا لو علم العامل بالحال لزمه الإعادة كما عرفت ، وهذا هو المتّجه. نعم ، لو كان ذلك ممّا لا يوجب الإعادة على العامل بعد تذكّره كما إذا صلّى في ثوب مجهول النجاسة أو نسي غير أركان الصلاة ونحو ذلك فالظاهر السقوط ، وإن كان الآخر متفطّنا له حين الفعل لأداء العمل على الوجه الصحيح ، وإن اشتمل على نقص في الأجزاء أو الكيفيّات.

رابع عشرها : قيل : إنّ الواجب الكفائي أفضل من العيني ، وعزي القول به إلى

٤٠٠