هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٨٣

إلى العدول عنه ، فالاحتجاج المذكور إنّما يتمّ بعد ضمّ المقدّمة المشتملة على إبطال ما ذكره الخصم من لزوم اختصاص الوجوب ببعض أجزاء الوقت من أوّله وآخره ، وإلّا فمجرّد ظهور الأمر في الشريعة في التوسعة ومساواة أجزاء الوقت في تأدية الواجب ممّا لا مجال للخصم في إنكاره ؛ فلابدّ من ضمّ ما يبطل به ما ادّعاه الخصم من الباعث على الاختصاص إلى ذلك حتّى يتمّ الاحتجاج ، بل هو العمدة في المقام.

وأنت خبير بأنّ الحجة المذكورة إنّما تفيد ما اخترناه ، فإنّ أقصى ما تفيده العبارة هو وجوب الإتيان بالطبيعة في المدّة المفروضة من غير إشعار بحصول التخيير وتعلّق الأمر أصالة بالفعل المفروض في خصوص كلّ جزء جزء من الزمان المفروض على سبيل التخيير بينها حسب ما اختاره ، ويجري ذلك في غير هذا الوجه من الوجوه الّتي احتجّوا بها حسب ما نشير إليها.

قوله : (وليس في الأمر تعرض لتخصيصه ... الخ).

يريد بذلك دفع اختصاصه ببعض أجزائه المعيّنة ، فإنّه إذا لم يكن في اللفظ دلالة عليه ـ كما هو معلوم بالوجدان وبالاتّفاق ـ كان قضيّة الأمر المعلّق على الوقت المفروض بعد ظهور بطلان الوجهين المتقدّمين حصول الامتثال بأدائه في أيّ جزء شاء.

قوله : (بل ظاهره ينفي التخصيص ... الخ).

ترقّى عن دعوى عدم دلالته على التخصيص إلى دلالته على عدمه ، فيتمّ الاحتجاج حينئذ من وجهين.

قوله : (فيكون القول بالتخصيص بالأوّل والآخر تحكّما باطلا).

لعدم قيام دليل عليه في ظاهر اللفظ ، ولا من الخارج ، بل مخالفا لظاهر ما يفيده اللفظ من مساواة الأجزاء حسب ما ادّعاه أخيرا ، ويمكن تعميم الحكم للصورتين كما هو ظاهر البيان.

قوله : (وأيضا لو كان الوجوب مختصّا ... الخ).

٣٤١

قد أشار إلى هذه الحجّة في النهاية.

ويرد عليه : أنّ ما ذكره من الملازمة على تقدير اختصاص الوقت بالآخر ممنوع ، لإمكان كونه نفلا يسقط به الفرض ، كما ذهب إليه القائل به. وما ذكر من لزوم كونه عاصيا على تقدير اختصاصه بالأوّل غير واضح الفساد أيضا. ودعوى الإجماع على فساده ممنوع ، كيف! والقائل به قد يلتزم بذلك ، إلّا أنّه يقول بالعفو ، فيكون ذلك هو الفارق بينه وبين غيره من المضيّقات.

وقد يجاب عن ذلك بجعل ما ذكره بعضا من الدليل الأوّل ، فيكون قوله : «وأيضا ... الخ» وجها آخر لإبطال دلالة اللفظ على الاختصاص بالأوّل أو الأخير ، فيكون قد استند في إبطاله أوّلا إلى دعوى الظهور وكون التخصيص بأحدهما تحكّما باطلا وثانيا إلى الدليل المذكور ، فإنّه لو كان في اللفظ دلالة على اختصاصه بأحد الوقتين لزم أحد الأمرين : من التقديم القاضي بعدم الامتثال وبقاء الاشتغال ، وكون الفعل قضاء باعثا على ترتّب العصيان لكونه قضاء عمديّا أخذا بظاهر ما يقتضيه اللفظ من تعيّن الإتيان به في وقته وعدم حصول الامتثال به. نعم ، لو قام دليل على الإجزاء بأحد الأمرين صحّ البناء عليه ، وقضى بالخروج عما يقتضيه ظاهر اللفظ ، لكنّه غير متحقّق في المقام ، كما ذكره الفاضل المدقّق في تعليقاته على الكتاب.

وأنت خبير بما فيه. أمّا أوّلا فلبعده جدّا عن العبارة ، إذ ليس فيها ما يفيد كون المقصود إبطال دلالة اللفظ عليه ، وظاهر العبارة بل صريحها هو دفع اختصاص الوجوب واقعا بجزء معيّن ، حسب ما يذهب إليه أحد الخصوم ويشير إليه : أنّ العلّامة رحمه‌الله جعل ذلك في النهاية حجّة مستقلّة على المقصود بحيث لا مجال في كلامه للاحتمال المذكور.

وأمّا ثانيا فبأنّ عدم دلالة اللفظ على اختصاص الوجوب بالأوّل أو الآخر واضح لا مجال لتوهّم دلالة اللفظ عليه ، ولذا قطع به في الحجّة من غير أن يستدلّ عليه ، وفرّع عليه كون الحكم بالاختصاص حينئذ تحكّما باطلا فليس استناده

٣٤٢

في إبطال دلالة اللفظ عليه إلى دعوى الظهور وكون التخصيص بأحدهما تحكّما كما ذكره المدقّق المذكور ، بل الأمر بالعكس ، كيف! وإثبات عدم دلالة اللفظ عليه بكونه تحكّما غير معقول ، فإنّه إنّما يكون تحكّما إذا لم يكن في اللفظ دلالة عليه.

ومن الغريب أنّ الفاضل المذكور قد ادّعى في تقرير الاحتجاج كون انتفاء تقييد الأمر بجزء مخصوص أمرا ظاهرا ، وحكى الاتّفاق على عدم قيام دليل نقليّ من الخارج على الاختصاص ، ومعه كيف يعقل تنزيل العبارة على الوجه المذكور؟

وأمّا ثالثا فبأنّ الإيراد المتقدّم جار بالنسبة إلى التقرير المذكور أيضا ، فإن اريد بقوله : «وهما خلاف الإجماع» أنّ عدم صحّة التقديم واقتضاءه العصيان خلاف الإجماع فالملازمة في الأوّل وبطلان التالي في الثاني ممنوع. وإن اريد به أنّ اقتضاء ظاهر الأمر ذلك خلاف الإجماع فالملازمة في المقامين مسلّمة ، لكنّ بطلان التالي ممنوع ، إذ لا مانع من القول باقتضاء ظاهره ذلك ، إلّا أنّه قد قضى الدليل الشرعي من الإجماع أو النصّ بخلافه ، إذ لا يستريب أحد في جواز التقديم وعدم ثبوت العقاب في التأخير.

هذا وقد استدلّ أيضا للقول المذكور بوجوه اخر :

منها : حصول العلم الضروري بجواز قول السيّد لعبده : «خط هذا الثوب في هذا الشهر ولا تؤخّره عن ذلك الوقت ، وفي أيّ وقت أتيت به من ذلك الشهر فقد امتثلت أمري ، ولو أخّرته عنه عصيتني». وهذا هو معنى الواجب الموسّع ، إذ لا يعقل حينئذ كون الإيجاب مضيّقا ، ولا عدم إيجابه على العبد شيئا.

وقد يقال : إنّ التكليف المذكور ينحلّ إلى أمرين : وجوب الفعل على سبيل التضييق في آخر أوقات الإمكان ، واستحباب الإتيان به في أوّله بحيث يكون مسقطا للتكليف به في الآخر. غاية الأمر أنّه خلاف ظاهر الإطلاق ، ولا كلام للخصم في الخروج عن ظاهر الإطلاق ، وإنّما التزمه لما زعمه من حكم العقل ، ومع الغضّ عن ذلك فمرجع الوجه المذكور إلى الدليل المتقدّم ، لرجوعه إلى التمسّك بالظاهر وإن اختلفا في ظاهر التقرير.

٣٤٣

ومنها : أنّه يمكن تساوي أجزاء الزمان في المصلحة الداعية إلى الفعل ، بأن تكون المصلحة قاضية بحصول الفعل من غير أن تختصّ تلك المصلحة بجزء من الزمان دون آخر ، ففي أيّ جزء أتى به المكلّف فقد حصل تلك المصلحة ، فلو أخرج الفعل عن تمام الوقت فاتت تلك المصلحة. فهذا الفعل لا يجوز أن يحكم الشارع بتضييقه وإيجابه في جزء معيّن من أجزاء الوقت ، لتساوي الأجزاء في المصلحة الداعية إلى الفعل ، ولا أن يترك الأمر به ، لما فيه من تفويت المصلحة اللازمة ، فلا مناص في إيجابه على المكلّف على وفق المصلحة المفروضة ، فيكون الأمر به على سبيل التوسعة.

ويمكن أن يقال : إنّه لا كلام في ورود التكليف على النحو المفروض في الواجبات الشرعيّة ـ ممّا يكون الشأن فيه ذلك قطعا بحيث لا مجال لإنكاره ـ وإنّما الكلام في أنّه إذا ورد التكليف على الوجه المذكور ، فهل يتّصف الفعل بالوجوب من أوّل الوقت إلى آخره ، أو أنّه يختصّ الوجوب بالأوّل أو الآخر؟ ويكون إتيانه في الباقي قائما مقامه مثمرا لثمرته ، لما تخيّلوه من الوجوه الدالّة عليه. فمجرّد تساوي أجزاء الوقت في المصلحة الداعية إلى الفعل ـ بمعنى إحراز تلك المصلحة بأداء الفعل فيه ـ لا يقضي باتّصاف الفعل في تمام الوقت بالوجوب. فاللازم في الوجه المذكور كسابقه من ضمّ ما ذكرناه في الوجه الأوّل من المقدّمة القاضية ببطلان ما زعمه الخصم من الوجه القاضي باختصاص الوجوب ببعض أجزاء ذلك الوقت.

ومنها : أنّ مرجع الواجب الموسّع إلى الواجب المخيّر ، وقد ثبت جواز تعلّق الوجوب بكلّ من الأبدال على سبيل التخيير ، وقد أشار إلى ذلك جماعة منهم : السيّد والشيخ ، والعلّامة في عدّة من كتبه ، والسيّد العميدي والفاضل الجواد ، ويستفاد ذلك من كلام المصنّف في جوابه عن حجّة الخصم ، لكنّ ظاهر كلامه يفيد تعلّق الوجوب بخصوص كلّ زمان من تلك الأزمنة تخييرا على وجه الأصالة ، وقد عرفت ما فيه. ولا يتوقّف تتميم الاستدلال على ذلك ، بل يكتفي فيه بحصول التخيير على وجه التبعية.

٣٤٤

ويمكن تنزيل كلام الجماعة عليه ، ومحصّل الكلام حينئذ : أنّه إن لوحظ الوجوب بالنسبة إلى الطبيعة المطلقة المقيّدة بإيقاعها بين الحدّين فلا ريب أنّه لا يجوز تركها في الحدّ المفروض من الزمان مطلقا من غير توقّف قيام بدل مقامه ، فلا شبهة في تحقّق معنى الوجوب بالنسبة إليه. وإن لوحظ ما يتبع ذلك من وجوبها في خصوص كلّ جزء من ذلك الزمان أفاد التخيير بين ذلك الأفراد الواقعة في تلك الأزمنة ليرجع إلى ما مرّ من الواجب المخيّر ، ويأتي في دفعه ما ذكر هناك.

ومنها : أنّه مقتضى ظاهر اللفظ ، فإنّ تناول الأمر للفعل في أوّل الوقت كتناوله للفعل في وسطه وآخره من غير فرق أصلا ، فالترجيح بينها بجعل بعضها وقتا للوجوب دون الآخر تكلّف.

وأنت خبير بأنّ مرجع الوجه المذكور إلى الوجه الأوّل المذكور في كلام المصنّف.

ويرد عليه : ما مرّت الإشارة إليه ، فإنّ الخصم إنّما يصرفه عن ذلك ، لدعواه قيام الدليل على خلافه ، فالشأن حينئذ في دفع المانع ، لا في إثبات المقتضي حتى يستند فيه إلى الوجه المذكور.

ومنها : أنّه لو أتى به في أيّ جزء من أجزاء الوقت لكان مجزيا إجماعا محصّلا للامتثال من غير أن يترتّب عليه عقاب ، وإنّما يكون كذلك لو حصلت به المصلحة اللازمة ، وكان إيقاعه في أيّ جزء منه قائما مقام إيقاعه في غيره ، وهو معنى الموسّع.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ جميع ما ذكر من الوجوه ـ على فرض صحّتها ـ إنّما تفيد جواز التوسعة في الواجب ، وأمّا كون التوسعة على الوجه الّذي ادّعاه المصنّف من الرجوع إلى الواجب المخيّر ـ حسب ما مرّ الكلام فيه ـ فلا دلالة فيها عليه أصلا.

قوله : (إنّ الأمر ورد بالفعل ... الخ).

يتلخّص من كلامه وجهان :

٣٤٥

أحدهما : الاستناد إلى ظاهر الأمر ، حيث إنّه ظاهر في الوجوب العيني دون التخييري ، حسب ما عرفت الوجه فيه في محلّه.

وثانيهما : أنّه لا إشكال لأحد في عدم دلالة صيغة الأمر على وجوب العزم ، ولم يقم على وجوبه دليل آخر من الخارج ، كما سيظهر عند إبطال دليل الخصم ، فالأصل يقتضي عدم وجوبه.

هذا وقد يستدل لذلك بوجوه اخر :

الأوّل : أنّ البدليّة قاضية بمساواته للمبدل في الحكم وقيامه مقامه ، ومن البيّن أنّه لو أتى بمبدله ـ أعني الفعل ـ قضى بسقوط التكليف بالمرّة ، فيلزم أن يكون العزم أيضا كذلك، ولا قائل به.

واورد عليه بوجوه :

أحدها : أنّه إنّما يكون بدلا عن الفعل في أوّل الوقت ـ مثلا ـ فيكون قائما مقام الفعل الواقع فيه ، لا في جميع الأوقات.

ويدفعه : أنّه إذا قام مقام الفعل في الأوّل قضى بسقوط التكليف به في باقي الوقت ، إذ لا تكرار في التكليف ، ولا يجب الإتيان بالفعل زائدا على المرّة ، والمفروض الإتيان ببدل الواجب ، فلابدّ من سقوط التكليف بالمرّة.

وقد اختار شيخنا البهائي ذلك في الجواب عن الحجّة المذكورة ، حيث قال : إنّ العزم بدل من الفعل في كلّ جزء لا مطلقا ، وقد عرفت ما فيه. ويمكن تنزيل كلامه على الجواب المختار ، كما ستجيء الإشارة إليه ، لكنّه بعيد عن كلامه.

ثانيها : أنّا لا نقول بكون مجرّد العزم بدلا عن الفعل في الأوّل ، بل العزم عليه والفعل في الثاني بدل عنه والعزم عليه ، والفعل في الثالث بدل عن الفعل في الثاني ، وهكذا ، فلا يكون العزم وحده بدلا عن الفعل في الأوّل حتّى يكون الإتيان به قائما مقامه ، حسب ما مرّت الإشارة اليه.

وفيه : ما مرّ بيانه من مخالفته لكلام القوم ، ومن الاكتفاء حينئذ ببدليّة الفعل اللاحق من غير حاجة إلى ضمّ العزم ، فإنّه إذا صحّ جعله جزءا من البدل صحّ كونه تمام البدل.

٣٤٦

ثالثها : ما ذكره السيّد من منع كون الإتيان بالبدل مسقطا لوجوب المبدل ، وقد عرفت ما فيه.

رابعها : أنّه ليس العزم بدلا من نفس الفعل ، وإنّما هو بدل من تقديمه ، لتخييره بين تقديمه وبين العزم على إتيانه فيما بعد ، أشار إلى ذلك العلّامة في النهاية.

وفيه : أنّ المفروض وجوب الفعل على سبيل التوسعة ، فلا يجب التقديم حتّى يجب العزم بدلا عنه.

ويدفعه : أنّ مرجع ما ذكره إلى ما قرّرناه من ثبوت تكليفين في المقام عند القائل المذكور ، أعني نفس الفعل ووجوب المبادرة إليه على حسب الإمكان ، والعزم إنّما يكون بدلا عن وجوب المبادرة فيقوم مقامه إلى أن يتضيّق الوقت فيتعيّن الفعل ، وغاية ما يسلّم من جواز التأخير في الموسّع إنّما هو مع العزم على الفعل ، لا مطلقا ، كيف ومن البيّن أنّ هؤلاء الجماعة لا يجوّزون التأخير من دونه.

الثاني : أنّ القائل ببدليّة العزم يقول بوجوب العزم في الوسط كما يقول بوجوبه في الأوّل ، فيلزم حينئذ تعدّد البدل مع اتّحاد المبدل ، وهو خروج عن مقتضى البدليّة ، فإنّ البدل إنّما يجب على نحو المبدل فإذا كان البدل واجبا مرّة وكان العزم الأوّل بدلا عنه لم يعقل ثبوت بدل آخر عنه بعد ذلك.

واجيب عنه : بأنّ العزم أوّلا إنّما يكون بدلا عن الفعل في الأوّل ويسقط به مبدله ، والعزم ثانيا بدل عن الفعل في الثاني ويسقط به ، وهكذا.

ويدفعه : ما عرفت من أنّه لا تكرار هنا في وجوب الفعل ، فإذا كان العزم أوّلا قائما مقام الفعل أوّلا قضى بسقوط التكليف رأسا ، فالحقّ في الجواب ما عرفت من التزام القائل المذكور بتكليفين ، وينحلّ التكليف الثاني منهما إلى تكاليف عديدة ما بقي التكليف الأوّل ، ويقوم العزم مقام كلّ واحد منها ، وينتفي موضوع ذلك التكليف عند تضيّق وقت الفعل فيسقط التكليف به ، وينحصر الأمر في التكليف الأوّل ، أعني إيجاد الفعل.

وقد يشكل ذلك : بأنّ العزم إذا كان بدلا عن الفور المذكور يبقى أصل الفعل إذا

٣٤٧

خاليا من البدل فيجوز تركه قبل الزمان الأخير بلا بدل ، ووجوب الفور على الوجه المذكور لا يدرجه في حدّ الواجب. نعم ، لو لم يكن هناك بدل عن الفور وكان الإقدام عليه أوّلا واجبا اكتفى به في ذلك حسب ما مرّت الإشارة إليه ، لكنّ المفروض قيام العزم مقام الفور ، فحينئذ يجوز ترك الطبيعة أوّلا ، وثانيا إلى الزمان الآخر بلا بدل عنها ، فالإشكال على حاله.

ويمكن دفعه : بأنّ مفاد وجوب الفور هو وجوب أداء الفعل فورا ، ومفاد بدليّة العزم عن الفور هو تخيير المكلّف بين أداء الفعل فورا والعزم على أدائه في الثاني والثالث ، فيكون أداء الفعل في الأوّل واجبا على سبيل التخيير ، وهو الّذي رامه القائل ، فلا ينافيه عدم كون العزم بدلا عن مطلق الفعل ، إذ ليس مقصود القائل المذكور إلّا دفع الشبهة من عدم اتّصاف الفعل الواقع أوّلا وثانيا ـ مثلا ـ بالوجوب ، نظرا إلى جواز تركه حينئذ بلا بدل (١). وهذا القدر كاف في ما هو ملحوظ في المقام ، ومع الغضّ عن ذلك فالمقصود بذلك إدراج الفعل حينئذ في الواجب ، لصدق عدم جواز ترك مطلق الفعل حينئذ على تقدير العزم، وهو كاف في إدراجه في حدّ الواجب وانفصاله عن المندوب ، إذ الواجب ما لا يجوز تركه في الجملة ، والعزم وإن كان بدلا عن تعجيل الإتيان به في الأوّل إلّا أنّه لا يجوز ترك مطلق الفعل حينئذ مع ترك العزم ، لوجوب التعجيل على سبيل التخيير بينه وبين العزم ، ووجوب نفس الفعل حينئذ من جهة المنع من تركه على تقدير عدم العزم على الإتيان به في ما بعده ، فهو أيضا ممّا لا يجوز تركه في الجملة. هذا.

ثمّ إنّه يمكن أن يقال : أنّه لا تعدّد في المقام في الأبدال ، ولا في الواجب المبدل ، فإنّ وجوب المبادرة إلى الفعل أمر واحد مستمر إلى أن يأتي المكلّف بالفعل ، وكذلك العزم على أداء ذلك الفعل واجب واحد يقوم مقام الواجب المذكور عندهم يستمرّ باستمرارها ، حتّى أنّه لا يجب عليه تجديد العزم في كلّ آن ،

__________________

(١) في (ف) : والمفروض أنّ جواز تركه إلى بدل بلا بدل.

٣٤٨

بل عزمه أوّلا على أداء الفعل كاف بالنسبة إلى الأزمنة اللاحقة ما لم يتردّد فيه ، أو ينوي خلافه ، كما هو الحال في النيّة بالنسبة إلى العبادات الطويلة.

وقد أشار إلى ذلك في البرهان حيث قال : الّذي أراه أنّهم لا يوجبون تجديد العزم في الجزء الثاني ، بل يحكمون بأنّ العزم الأوّل ينسحب على جميع الأزمنة المستقبلة كانسحاب النيّة على العبادات الطويلة مع عزمها. هذا.

وقد ذكر المصنّف في الحاشية بعد ما أشار إلى الحجّتين المذكورتين : أنّه إنّما عدل عنهما لما هو التحقيق من أنّ القائلين ببدليّة العزم لم يجعلوه بدلا عن نفس الفعل ، بل عن إيقاعه ، فالمبدل منه هو إيقاعات الفعل في أجزاء الوقت ، والبدل هو إيقاعات العزم فيها إلّا في الجزء الأخير ، فكلّ واحد منهما متعدّد ، وكلّ مبدل يتأتّى به ببدله.

وأنت خبير بما فيه ، كما مرت الإشارة إليه. وأيضا إيقاع الفعل في الأوّل قاض بسقوط التكليف فكيف يعقل القول بحصول البدليّة وبقاء التكليف مع الإتيان بالبدل؟

والحاصل : أنّ إيقاعات الفعل وإن كانت متعدّدة لكن لا يجب الإتيان بها أجمع ، بل يكفي إيقاع واحد منها ، فكيف! يقال بوجوب المتعدّد فيما هو بدل عنه.

ويمكن تنزيل كلامه على ما ذكرناه من وجوب التقديم وقيام العزم مقامه ، فما ذكره من تعدّد الواجبات والأبدال لا يلزم أن يكون على سبيل الحقيقة ، بل يكفي أن يكون ذلك في تحليل العقل حسب ما قدّمنا الإشارة إليه.

الثالث : أنّه لو كان العزم بدلا لم يجز فعله مع القدرة على المبدل كسائر الأبدال مع القدرة على مبدلاتها.

وضعفه ظاهر ، لمنع كون ذلك من أحكام البدل ، لوضوح انقسام الأبدال إلى الاختياريّة والاضطراريّة ، وقد أشار إلى ذلك جماعة ، منهم السيّد في الذريعة ، والعلّامة في النهاية.

الرابع : أنّ العزم من أفعال القلوب ، ولم يعهد من الشرع إقامة أفعال القلوب مقام أفعال الجوارح ، ووهنه ظاهر ، إذ لا حجّة في مجرّد ذلك.

٣٤٩

قوله : (لم ينفصل عن المندوب).

قد عرفت أنّ المتّصف بالوجوب الموسّع إنّما هو مطلق الفعل الواقع في الزمان المضروب له ، وتركه (١) إنّما يتحقّق بتركه في جميع الزمان المضروب له ، وليس تركه في أوّل الوقت ووسطه تركا للواجب ، بل يكون ذلك تأخيرا له.

والمعتبر في الواجب إنّما هو المنع من الترك دون المنع من التأخير ، وأمّا خصوص الأفعال الواقعة في أجزاء ذلك الزمان فإنّما يتّصف بالوجوب من حيث انطباق الواجب عليه ، وكونه فردا منه ، لا من حيث الخصوصيّة الحاصلة فيه ، كما هو الشأن في سائر أفراد الواجبات فإنّها إنّما تكون واجبة من حيث انطباق الطبيعة الواجبة عليها ، لا من جهة الخصوصيّة المأخوذة معها ، ولذا يجوز ترك كلّ من الأفراد واختيار الآخر.

إذا عرفت اختلاف الجهتين المذكورتين فلا ينافي وجوب الفرد من جهة حصول الماهيّة في ضمنه جواز تركه بالنظر إلى الخصوصيّة الحاصلة معه ، وإنّما ينافيه جواز ترك الماهيّة إذا لوحظت على الوجه الّذي تعلّق الطلب بها ، فإنّ جواز تركها بالملاحظة المذكورة قاض بعدم انفصالها عن المندوب ، وأمّا إذا لم يجز تركها على الوجه المذكور فالانفصال عن المندوب واضح وإن جاز تركها بملاحظة اخرى. وليس ذلك من اجتماع وجوب الفعل وجواز تركه في محلّ واحد ، إذ جواز ترك الفعل من جهة لا يستلزم جواز تركه بحسب الواقع مطلقا ، فالحاصل في المقام هو اجتماع الجهتين ، لا اجتماع الحكمين ، ولا مانع منه أصلا ، كما لا يخفى.

والحاصل : أنّ الوجوب المتعلّق بالطبيعة متعلّق بأفرادها من حيث كون الأفراد نفس الطبيعة ، ووجوب الفرد بذلك الأمر عين وجوب الطبيعة ، وإذا كانت الطبيعة المفروضة ممّا لا يجوز تركها ـ كما قرّرناه ـ لم يعقل عدم انفصال الواجب في المقام عن المندوب ، وجواز ترك الفرد نظرا إلى الخصوصيّة الملحوظة معه

__________________

(١) في (ف) : المضروب أو تركه.

٣٥٠

لا ينافي وجوبه بالاعتبار الأوّل ، فغاية الأمر جواز ترك أداء الطبيعة به ، وذلك لا ينافي وجوبها أصلا ، وقد مرّ توضيح القول في ذلك.

ثمّ إنّ الطبيعة المفروضة من حيث إطلاقها متعلّقة للأمر بالأصالة متّصفة بالوجوب التعييني أصالة ، وهي بتلك الاعتبار ممّا لا يجوز تركه مطلقا ، ومن حيث تقييدها بخصوصيّات الأفراد متصفة بالوجوب التخييري التبعي الّذي هو عين الوجوب التعييني المذكور المغاير له بحسب الاعتبار ، حسب ما مرّ بيانه ، والانفصال عن المندوب بالملاحظة المذكورة ظاهر أيضا.

قوله : (وهو أنّه لو أتى بأحدهما أجزأ ... الخ).

لا يخفى أنّ حصول الإجزاء بمجرد الإتيان بأحد الفعلين والعصيان بالإخلال بهما لا يقضي بتعلّق الوجوب بكلّ من الأمرين على سبيل التخيير ، لإمكان أن يكون الأمر بالثاني مرتّبا على ترك الأوّل ، فلا وجوب للثاني لا عينا ولا تخييرا مع الإتيان بالأوّل ، ويجب عينا مع ترك الأوّل ، أو يكون سقوط الثاني مترتّبا على فعل الأوّل فيجب الثاني عينا مع ترك الأوّل ، ولا وجوب أصلا مع الإتيان به ، ألا ترى أنّه لو ترك الزوج طلاق زوجته والإنفاق عليها عصى ، ولو أتى بأحد الأمرين أجزأه؟ وكذا الحال في تخييره بين السفر في شهر رمضان والمقام وأداء الصيام.

هذا إذا اريد بالإجزاء ارتفاع الإثم وانتفاء العصيان. ولو اريد به تحقّق الطاعة وحصول الامتثال على الوجهين فليفرض ذلك فيما إذا وجب عليه السفر ، فإنّه لو ترك الأمرين حينئذ عصى ، ولو أتى بأحدهما اكتفى به في حصول الامتثال ، ومن الواضح عدم كونه من الوجوب التخييري في شيء.

والحاصل : أنّ الأمر المذكور من لوازم الوجوب التخييري ، واللازم قد يكون أعمّ من الملزوم ، فلا يلزم من ثبوته في المقام ثبوت الوجوب التخييري.

قوله : (أنّا نقطع بأنّ الفاعل للصلاة ... الخ).

يمكن تقرير الجواب المذكور بتمامه معارضة ، فأراد بذلك إثبات أنّ الوجوب في ذلك ليس على سبيل التخيير ، إذ لو كان كذلك لزم أن يكون حصول الامتثال

٣٥١

بالفعل من جهة كونه أحد الواجبين المخيّرين ، وليس كذلك كما يعرف من ملاحظة الشرع، وأن يكون العصيان المترتّب على ترك العزم لا من جهة تركه بخصوصه ، بل لكونه تركا لأحد الأمرين اللذين وجبا عليه على سبيل التخيير ، حسب ما مرّت الإشارة إليه.

ويمكن أن يقرّر كلّ من الوجهين معارضة مستقلّة ، فيكون كلّ منهما جوابا مستقلّا على سبيل المعارضة ، وقد يومئ إليه قوله : وأيضا.

ويمكن أن يقرّر ذلك منعا ، ويكون كلّ من الوجه الأوّل والثاني سندا للمنع.

وقد يقرّر الأوّل معارضة والثاني منعا ، وهو أبعد الوجوه ، وقد يستظهر ذلك من قوله : ليس لكون المكلّف الخ لإشعاره بمنع حصول التخيير بين الأمرين ، وهو كما ترى لعدم ظهور ذلك في المنع أصلا ، بل مقصوده نفي ذلك ليدفع به ما توهّم من ثبوت حكم الخصال في المقام.

قوله : (حكم من أحكام الإيمان ... الخ).

إن اريد به أنّه لازم من لوازم الإيمان وتابع لحصوله فضعفه ظاهر ، لوضوح أنّ نفس الإتيان بالواجبات وترك المحرّمات ليس من لوازم الإيمان فكيف العزم عليهما؟ كيف! ولو كان ذلك من لوازم الإيمان لما صحّ تعلّق التكليف بها بعد حصول الإيمان ، فلا يتفرّع عليه ما ذكره من وجوب ذلك مستمرّا عند الالتفات إلى الواجبات.

وإن اريد به أنّ وجوبه من الأحكام التابعة للإيمان فليس هناك وجوب للعزم قبل حصول الإيمان ، وإنّما يجب ذلك بعد حصوله ففيه : أنّه لا وجه حينئذ للتفصيل ، فإنّه إن قلنا بكون الكفّار مكلّفين بالفروع كان العزم المذكور واجبا على الكفّار أيضا كغيره من الواجبات ، وإن لم نقل بكونهم مكلّفين بالفروع لم يتحقّق التكليف به ولا بغيره.

وقد يقال : إنّ العزم على الواجبات ليس واجبا في نفسه ، بل لأنّ قضيّة وجوب الطاعة على المكلّف أن يعزم على كلّ فعل يعتقد أمر المولى به ، وإلّا لم

٣٥٢

يكن مطيعا له في حكم العقل مطلقا ، أو مع قصد عدم الامتثال ، وهو لازم ، لعدم قصد الامتثال بعد التفطّن على ما ظنّ ، وهذا المعنى إنّما يثبت بعد اعتقاد وجوب الشيء وأمّا قبله كما هو الحال في الكفّار فلا ، وهو كما ترى لا يتمّ في جميع أقسام الكفر.

قوله : (وهو كما ترى).

كأنّه أراد بذلك منع كلّ من المقدّمتين المذكورتين ، لإمكان خلوّ المكلّف عن العزمين مع شعوره بالفعل كما في المتردّد ، ومع تسليمه فحرمة العزم على الحرام ممنوعة أيضا. وقد يخصّ القول بوجوب العزم بما بعد دخول الوقت ، نظرا إلى أنّه إذا أمر المولى عبده بشيء ولم يأت العبد ولا كان عازما على فعله عدّ عاصيا في العرف وذمّه العقلاء ولو قبل مضيّ آخر الوقت ، ولذا لو مات حينئذ فجأة صحّت عقوبته ، فيفيد ذلك وجوب العزم ، إذ لا عصيان في ترك الفعل قبل تضيّق الوقت.

وفيه أيضا ما عرفت ، واستحقاقه العقوبة في الفرض المذكور إن تمّ فإنّما هو لصدق كونه تاركا للواجب عمدا ، لا لمجرّد ترك العزم. هذا.

وقد يستدلّ أيضا على بدليّة العزم بوجه آخر ، وهو : أنّه لو لم يجب البدل لزم تساوي حال الفعل قبل دخول الوقت وبعده ، والتالي واضح الفساد.

أمّا الملازمة فلجواز تركه قبل دخول الوقت ، لا إلى بدل ، وجواز تركه كذلك بعد دخوله فيتساويان.

وقد أشار إلى ذلك في الزبدة وشرحها ، وضعفه ظاهر ، فإنّه إن اريد تساويهما من كلّ وجه فهو واضح الفساد ، ضرورة أنّ الإتيان به قبل دخول الوقت بدعة ، ولو من جهة قصده به امتثال التكليف المفروض ، بخلاف ما بعد دخول الوقت.

وإن اريد به عدم الفرق بينه وبين ما لا يجب الإتيان به فلا ينفصل عن المندوب ، فيرجع إلى الوجه الأوّل ، فلا وجه لعدّه دليلا آخر. وحينئذ يرد عليه ما يرد على الوجه المذكور.

وقد يدّعى الإجماع على المسألة ، لما عرفت من عبارة السيّد ، وهو موهون

٣٥٣

جدّا ، إذ لا دلالة فيها على ذلك ، وعلى فرض دلالتها فالخلاف في المسألة كما هو مشهور، بل الشهرة المتأخّرة قائمة على خلافه ، فدعوى الإجماع في مثلها موهونة جدّا غير صالحة للاعتماد عليها.

قوله : (لأدائها إلى جواز ترك الواجب ... الخ).

يمكن تقرير الاحتجاج بكلّ من الوجهين المتقدّمين لقضاء التوسعة في الوقت بجواز ترك الفعل في أوّل الوقت ووسطه ، وهو ينافي الوجوب ، ولقضاء جواز التأخير بانتفاء الإثم مع الموت فجأة في أثناء الوقت ، فيلزم من ذلك جواز ترك الفعل مطلقا المنافي لوجوبه ، وكان هذا الوجه أوفق بظاهر العبارة.

وأنت خبير بأنّ الوجه المذكور لو تمّ في الجملة فلا يتمّ على القول ببدليّة العزم ، فهو على فرض صحّته إنّما يفيد عدم جواز الفضيلة في الوقت مع انتفاء بدليّة العزم ، فلو قيل ببدليّة العزم اندفع ما توهّم من المفسدة ، فلا يصحّ الاستناد إلى الوجه المذكور في إثبات كلّ من الأمرين المذكورين إلّا بعد إبطال الآخر.

قوله : (لما خرج عن العهدة ... الخ).

إن أراد به عدم حصول الإتيان بما هو الواجب وعدم تحقّق الامتثال بأدائه في الأوّل فمسلّم ، لكنّ عدم الخروج بذلك عن عهدة التكليف ممنوع ، لإمكان أن يكون ما تقدّم على وقت الوجوب نفلا يسقط به الفرض حسب ما مرّ بيانه ، فلا يتعلّق الوجوب بالفعل حين مجيء وقت الوجوب ، فغاية الأمر حينئذ حصول التوسعة في وقت الأداء لا في وقت الوجوب ، وهو ممّا لا مانع منه أصلا ، ولا يرد الشبهة المذكورة بالنسبة إليها مطلقا.

وإن اراد به عدم الخروج عن عهدة التكليف بأدائه في الأوّل مطلقا فهو ممنوع ، والسند ظاهر مما مرّ.

قوله : (وهو باطل أيضا).

كما تقدّمت الإشارة إليه في الاحتجاج على المختار ، حيث ادّعي الإجماع على عدم كونه عاصيا بالتأخير ، لكن قد عرفت أنّ القدر المسلّم انتفاء العقوبة مع

٣٥٤

التأخير ولو من جهة عقوبة الآمر. وأمّا عدم جواز التأخير في الجملة فبطلانه غير مسلّم عند الخصم.

قوله : (لعصى بتأخيره ... الخ).

إن أراد بالعصيان مجرّد مخالفة الأمر الإيجابي وإن لم يترتّب عليه عقوبة فقيام الإجماع على بطلان التالي ممنوع ، لذهاب الخصم. وإن اريد به العصيان الّذي يترتّب عليه العقاب فالملازمة ممنوعة ، فإنّ ذلك من لوازم الواجب المضيّق بمعناه المعروف ، وأمّا الواجب الموسّع فلا يترتّب على تأخيره عقوبة وإن كان على حسب ما يعتقده القائل المذكور ، فإنّ الفرق بينه وبين سائر الواجبات عنده في حصول العفو هنا مع التأخير إلى مدّة معيّنة ، بخلاف غيره من الواجبات.

قوله : (وجوابه منع الملازمة).

لمّا توهّم المستدلّ كون جواز الترك منافيا للوجوب مطلقا زعم أنّ وجوب الفعل في أوّل الوقت قاض بعدم جواز تركه فيه ، أعني تأخيره عنه ، وإلّا لزم خروج الواجب عن كونه واجبا حسب ما مرّ في كلام القائل بالاختصاص بالأوّل في بيان منع الفضلة في الوقت ، فإذا لم يكن واجبا في الأوّل تعيّن وجوبه في الآخر ، فأجاب عنه : بأنّه لا منافاة بين وجوب الفعل وجواز تركه في الجملة ولو إلى بدل ، كما في المخيّر على ما هو الحال في المقام. نعم ، لو جاز تركه مطلقا لنافى الوجوب.

قوله : (وينبغي أن يعلم أنّ بين التخيير ... الخ).

هذا كالصريح في ما ظهر من عبارته السابقة من كون الواجب الموسّع في الحقيقة واجبا تخييريّا ، وقد عرفت بعده ، وأنّه لا قاضي بالتزامه.

وينبغي في المقام بيان امور :

أحدها : أنّه لا ريب في أنّ الواجبات الموسّعة تتضيّق بظنّ الفوات مع التأخير ، بمعنى أنّه لا يتعيّن الإتيان بها حينئذ ، ولا يجوز للمكلّف تأخيرها عن ذلك الوقت ، وقد نصّ عليه جماعة من الخاصّة والعامّة من دون ظهور خلاف فيه ، بل نصّ

٣٥٥

بالاتّفاق عليه جماعة ، منهم الفاضل الجواد ، والفاضل الصالح ، والآمدي ، والحاجبي ، واحتجّ عليه بعد الاتّفاق عليه حسب ما ذكر بامور :

الأوّل : أنّه لو لا ذلك لزم خروج الواجب عن كونه واجبا ، إذ مع جواز التأخير حينئذ يلزم جواز ترك الواجب في الغالب ، وهو ما ذكر من اللازم.

وفيه : أنّه إنّما يلزم خروج الواجب عن الوجوب لو جاز تركه مطلقا ، ومن البيّن خلافه ، لعدم جواز تركه على تقدير القطع بالفوات ، وفي صورة تضيّق الوقت ، وذلك كاف في حصول معنى الوجوب والفرق بينه وبين الندب ، لما عرفت من أنّ الواجب ما لا يجوز تركه في الجملة.

الثاني : أنّ التكليف بالفروع دائر مدار الظنّ ، فإنّ المرء متعبّد بظنّه ، فيكون الظنّ في المقام قائما مقام العلم.

وفيه منع حجّية الظنّ في الفروع مطلقا ، سيّما في المقام حيث إنّه من قبيل الموضوع الصرف ، وما ورد من أنّ المرء متعبّد بظنّه لم يثبت وروده عن صاحب الشريعة ، فلا وجه للاتّكال عليه.

الثالث : أنّه مع ظنّ الفوات بالتأخير لا يمكن أن يتحقّق منه العزم على الفعل في الآخر ، فإذا ترك الفعل حينئذ كان تاركا للفعل والعزم معا فيكون عاصيا ، فيتعيّن عليه الإتيان بالفعل.

وفيه بعد تسليم امتناع حصول العزم منه حينئذ : أنّه مبنيّ على القول ببدليّة العزم ، وهو ضعيف حسب ما مرّ.

الرابع : أنّا نجد حكم العقل حينئذ حكما قطعيّا بعدم جواز التأخير ووجوب المبادرة إلى الفعل ، فيجب الأخذ به.

وفيه : أنّه ليس ذلك من الفطريّات ، ولا من الوجدانيّات ونحوهما حتّى يدّعى الضرورة فيه ، فلا بدّ من بيان الوجه في قطع العقل به حتّى ينظر فيه.

قلت : ويمكن الاحتجاج عليه بوجهين :

أحدهما : أنّ ذلك قضيّة وجوب الامتثال بحسب العرف ، فإنّ وجوب الفعل

٣٥٦

على المكلّف وإلزام المكلّف إيّاه قاض عرفا بتعيّن الإتيان به حينئذ ، وإلّا عدّ عاصيا مخالفا للأمر مع التأخير وحصول الترك ، بل متهاونا في أداء مطلوب الآمر ، معرّضا نفسه للمخالفة ولو مع خطاء ظنّه ، ألا ترى أنّه لو أمر المولى عبده بشراء اللحم كذلك واتّفق أنّه ظنّ العبد فوات الشراء مع التأخير فتعمّد التأخير فلم يتمكّن من الإتيان به عدّ عاصيا مفوّتا لمطلوب مولاه؟!

ثانيهما : أنّه مع وجوب الفعل وإلزام الشارع إيّاه وعدم إذنه في الترك لاشتماله على المصلحة الّتي لا يجوز للمكلّف تفويتها يحكم العقل بتعيّن الإتيان به حينئذ ، احتياطا لتحصيل المطلوب بعد العلم باشتغال الذمّة به ، ودفعا للضرر المظنون بسبب التأخير.

وكما أنّ اليقين بالاشتغال يستدعي تحصيل اليقين بالفراغ وأداء ما يعلم معه بتفريغ الذمّة كذا يقضي بتحصيل اليقين بالخروج عن عهدة ذلك التكليف ، وعدم حصول الترك له ، ولا يكون ذلك إلّا بالإتيان به عند ذلك وعدم تأخيره عنه.

بل قد يشكل جواز التأخير في صورة الشكّ في الأداء مع التأخير ، كما سنشير إليه ، إذ قضيّة ما ذكرناه مراعاة الاحتياط في التعجيل عند حصول التردّد ، إلّا أن يقوم دليل قاطع لعذر المكلّف يفيد جواز التأخير حينئذ ، كما قام الدليل عليه في صورة ظنّ البقاء.

والحاصل : أنّ الإذن المستفاد من الشارع في التأخير لا يعمّ صورة ظنّ الفوات ، وكذا حكم العقل بجواز التأخير للفعل. وقضيّة حكم العقل بملاحظة ثانيهما هو لزوم التعجيل ، ولا فرق حينئذ بين الواجبات الموسّعة الموقّتة وغيرها من الموسّعات المطلقة ، بل الحال في الأخيرة أظهر. والظاهر أنّه ممّا لا خلاف فيه في المقامين ، ولو كان ظنّ الفوات بسبب ظنّه تضيّق الوقت وفواته مع التأخير ، فالظاهر وجوب التعجيل حينئذ أيضا لعين ما ذكر. ويحتمل عدمه استصحابا لبقاء الوقت ، سيّما إذا لم يمكن استعلام الحال لظهور الفوات مع التأخير ، ولو أخّر حينئذ فلم يعلم فوات الوقت بنى على الأداء ، لما ذكر من الاستصحاب، فلا عبرة بالظنّ

٣٥٧

في الفوات مطلقا وإن اكتفى به في الحكم بدخول الوقت في بعض الصور ، وحينئذ فيمكن الحكم بأدائيّة الظهرين مع جواز أداء العشاءين أيضا ، ولا يخلو عن بعد ، وقد يقال بقضاء ما دلّ على الاكتفاء بالظنّ في الدخول بقضائه به في الحكم بالخروج أيضا ، وفيه تأمّل وإن لم يخل عن قرب.

ثانيها : أنّه لا إشكال في حصول العصيان لو أخّر الواجب حينئذ فلم يتمكّن من فعله فهو كتعمّد الترك ، وأمّا إذا أخّره وانكشف فساد ظنّه فأتى بالفعل بعد ذلك فلا عصيان بالنسبة إلى الأمر المتعلّق بالفعل ، لإتيانه به. وهل يكون عاصيا بالتأخير؟ الظاهر ذلك ، بل هو ممّا لا ينبغي التأمّل فيه ، لما عرفت من وجوب إقدامه إذا على الفعل ، فيكون مخالفته عصيانا ، وقد نصّ عليه جماعة.

وعن القاضي أبي بكر في المسألة الآتية دعوى الإجماع عليه ، كما هو الظاهر ، إذ لم يظهر فيه مخالف سوى ما يظهر من شيخنا البهائي من التوقّف فيه.

وقد يستفاد من العلّامة في النهاية منعه لذلك في دفعه حجّة القاضي في المسألة الآتية بعد نقله عنه حكاية الإجماع على العصيان ، حيث منع من تحقّق العصيان بعد ظهور بطلان الظنّ ، إذ بعد تسليم تحقّق التضيّق وتعيّن الإتيان بالفعل حينئذ كيف يعقل انتفاء العصيان مع المخالفة؟ وكأنّه أراد به عدم حصول العصيان بالنسبة إلى أصل الواجب ، أو عدم ترتّب العقوبة على تلك المعصية.

وكيف كان فما يستفاد من ظاهره ضعيف جدّا ، وكأنّه ذكر ذلك إيرادا في مقام الردّ ، لا اعتقادا ، وإلّا بالمنصوص به في كلامه في موضع آخر تحقّق العصيان.

واختار بعض أفاضل المتأخّرين عدم العصيان ، معلّلا بأن وجوب العمل بالظنّ ليس وجوبا أصليّا كوجوب الصلاة ، بل هو وجوب توصّلي من باب المقدّمة ، كالصلاة إلى الجوانب الأربعة ، وترك وطء الزوجة عند اشتباهها بالأجنبيّة.

ولا عقاب على ترك المقدّمات ، وإنّما يترتّب العقاب على ترك نفس الواجب ، وهو كما ترى ، إذ لو أراد بذلك المنع من وجوب التعجيل لمنعه وجوب المقدّمة

٣٥٨

فلا عصيان حينئذ من جهتها فهو فاسد ، إذ المفروض تسليمه الوجوب في المقام وتضيّق الواجب عنده من جهة الظنّ المفروض.

وإن أراد به عدم تحقّق العقوبة على ترك المقدّمة نفسها ففيه : أنّ حصول العصيان غير متقوّم بترتب العقوبة ، ولو سلّم ملازمته لاستحقاق العقوبة ، فليس استحقاق العقوبة المترتّبة على ترك المقدّمة إلّا من جهة ترك نفس الواجب ، نظرا إلى أداء تركها إلى تركه كما مرّ الكلام فيه ، وهو كاف في حصول العصيان في المقام.

فإن قلت : إنّ المفروض في المقام عدم أداء تركها إلى ترك الواجب لانكشاف الخلاف ، فلا يترتّب عليه العقوبة من جهة الأداء أيضا.

قلت : من البيّن أنّ وجوب التعجيل في الفعل حينئذ ليس من جهة توقّف الفعل عليه واقعا ، وإلّا لما أمكن حصوله من دونه ، ضرورة عدم إمكان حصول الواجب من دون مقدّمته ، وإلّا لم يكن مقدّمة له ، بل إنّما يجب ذلك من جهة كونه مقدّمة للعلم بالخروج عن عهدة التكليف حينئذ ، حيث إنّ الواجب عليه العلم بعدم الإقدام على ترك الواجب المتوقّف على الإقدام على الفعل حينئذ حسب ما قرّرناه ، فالعصيان من الجهة المذكورة حاصل في المقام قطعا ، سواء انكشف الخلاف أو لا ، وترك الإتيان بالفعل حينئذ مؤدّ إليه يقينا.

والحاصل : أنّ التجرّي على ترك الواجب أو فعل الحرام محرّم ، ويتوقّف الاحتراز عنه على التعجيل في الفعل في المقام ، كما أنّه يتوقّف على الصلاة إلى الجواب الأربعة ، وترك وطبع المرأتين عند الاشتباه ، فلو قصّر في ذلك بتأخير الفعل في المقام أو الاقتصار على الصلاة إلى الجهة الواحدة أو وطئ واحدة منهما فقد تجرّى على العصيان ، وعصى من تلك الجهة قطعا ، وإن انكشف خلاف ظنّه في المقام ، أو تبيّن بعد ذلك مصادفة ما فعله للجهة اتّفاقا ، أو كون الموطوءة هي زوجته ، إذ قضيّة ذلك عدم تحقّق العصيان بالنسبة إلى التكليف المتعلّق بنفس الفعل.

٣٥٩

وأمّا بالنسبة إلى تكليفه بتحصيل اليقين بتفريغ الذمّة بعد تيقّن الاشتغال ، ووجوب تحصيل الاطمئنان حينئذ بعدم الإقدام على ترك الواجب وفعل الحرام فلا ، إذ من البيّن عدم حصول الواجب المذكور ، واستحقاقه العقوبة إنّما هو من تلك الجهة ، لا من جهة ترك المقدّمة نفسها.

كيف؟ ومن البيّن أنّ تكرار الفعل في اشتباه القبلة والاجتناب عنهما في اشتباه الزوجة إنّما هو من قبيل مقدّمة العلم دون مقدّمة نفس الواجب ، وترتّب العقاب على ترك المقدّمة المفروضة ، إنّما هو من جهة عدم حصول الواجب الّذي هو العلم ، فكذا الحال في المقام ، وانكشاف التمكّن من أداء الواجب بعد ذلك غير قاض بانتفاء الإثم ، كما هو الحال في المثالين ، سواء قلنا بوجوب المقدّمة أو لم نقل به ، فترتّب العقاب على ترك المقدّمة في المقام إنّما هو من جهة أدائه إلى ترك الواجب المذكور والإقدام على التجرّي على ترك الواجب دون ترك نفس الفعل ، وذلك ظاهر.

ثالثها : أنّه لو ظهر كذب ظنّه فأتى بالفعل في الوقت المفروض فهل يكون مؤدّيا أو قاضيا؟ فيه خلاف ، والمعروف هو الأوّل ، بل الظاهر إطباق علمائنا عليه ، إذ لم ينقل منهم خلاف في ذلك ، والخلاف فيه محكيّ عن القاضي أبي بكر من العامّة ، فقد اختار كونه قاضيا ، والحقّ هو الأوّل ، والوجه فيه واضح ، نظرا إلى وقوعه في الوقت المقدّر له شرعا ، ووجوب التعجيل فيه عند ظنّ الفوات إنّما كان من جهة الاطمئنان بعدم تفويت الواجب حسب ما مرّ ، لا من جهة كون ذلك هو وقته الموظّف له.

وتوضيح ذلك : أنّ وقت الموسّع محدود واقعا بأحد الأمرين من الحدّ المعيّن من الوقت وما ينتهي إليه التمكّن من الفعل ، فيدور تحديده في الواقع بين الأمرين ، ويكون السابق منهما هو حدّه الّذي ينتهي الوجوب إليه ، وإنّما تعيّن عليه الفعل عند حصول الظنّ المفروض لظنّه كون الحدّ بالنسبة إليه هو الثاني ، فلمّا تبيّن الخلاف ظهر له كون الحدّ هو الأوّل فكان أداء هذا.

٣٦٠