هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٨٣

إذ من الواجب أنّه ليس المعلّق هناك على الشرط المذكور إلّا عدم تنجّسه بشيء من النجاسات ، أعني السلب الكلّي ، وقد عرفت أنّه لا دلالة في انتفاء الشرط حينئذ إلّا على انتفاء ذلك الحكم الحاصل بالإيجاب الجزئي ، ولا دلالة في ذلك على حصول التعليق بالنسبة إلى آحاد النجاسة أصلا ، فمن أين يمكن استفادة الحكم منه على سبيل الإيجاب الكلّي؟ كيف؟ ولو صحّ ما ذكره لكان مفهوم قولك : «إذا أهانك زيد فلا تعطه شيئا من مالي» الحكم بجواز إعطاء جميع ماله له مع انتفاء الإهانة ، وقولك : «إن لم يقدم أبي من السفر فلا أتصدّق بشيء على الفقراء» الحكم بالتصدّق بجميع الأشياء عليهم مع قدومه ، إلى غير ذلك من الأمثلة ، مع أنّ الضرورة قاضية بخلافه كما هو في غاية الوضوح عند ملاحظة العرف ، والظاهر أنّ ما ذكره في المقام إنّما نشأ من الخلط بين ما فصّلناه من الأقسام.

خامسها (١) : أنّه لو كان المنطوق مقيّدا بقيد اعتبر ذلك القيد في المفهوم أيضا ، فإن كان ذلك القيد مأخوذا في الشرط كما في قولك : «إن جاءك زيد وقت الصبح فأكرمه» دلّ على نفي الحكم على تقدير عدم مجيئه في ذلك الوقت ، سواء جاءه في وقت آخر أو لا. وإن أخذ في الجزاء دلّ على انتفاء ذلك المقيّد عند فوات شرطه ، فإذا قال : «إن جاءك زيد فأكرم العلماء الطوال» دلّ الاشتراط على عدم وجوب إكرام خصوص العلماء الطوال عند عدم مجيئه دون مطلق العلماء ، فالحكم في غير الطوال مسكوت عنه إثباتا ونفيا في المنطوق والمفهوم.

نعم ، لو قلنا بحجّية مفهوم الوصف دلّ على عدم وجوب إكرامهم في صورة المجيء ، وفي صورة عدم مجيئه يكون الحكم فيهم مسكوتا عنه بتلك الملاحظة أيضا ، فإنّ التقييد بالصفة إنّما هو في صورة المجيء خاصّة. وربّما يعزى إلى البعض دلالة مفهوم الشرط على انتفاء الحكم عنهم مطلقا مع انتفاء الشرط ، فإن ثبت القول به فهو موهون جدّا.

هذا إذا كان التقييد بالمتّصل ، وأمّا إذا كان بالمنفصل فهل يقضي ذلك باعتبار التقييد في المفهوم أيضا؟ وجهان :

__________________

(١) أي خامس الامور.

٤٦١

من إطلاق ظاهر اللفظ ، فيكون المفهوم أيضا مطلقا ، غاية الأمر قيام الدليل على تقييد المنطوق فيقتصر عليه أخذا بمقتضى الإطلاق في غير ما قام الدليل على التقييد.

ومن أنّ المفهوم تابع للمنطوق ، فإذا كان المنطوق مقيّدا في الواقع تبعه المفهوم في ذلك ، وكان هذا هو الأظهر ، ولو خصّ العامّ في المنطوق قضى ذلك بتخصيص المفهوم أيضا ، إلّا أنّه يثبت في المنطوق للمستثنى خلاف حكم المستثنى منه ، وفي المفهوم لا يثبت له خلاف حكمه ، بل المستثنى هناك مسكوت عنه ، إذ الاشتراط المذكور إنّما يثبت للمستثنى منه ، فيفيد نفي ذلك الحكم الثابت للباقي عند فقدان الشرط المفروض ، ولا يسري الاشتراط إلى المستثنى حتّى يفيد نفي الحكم الثابت له عند فوات ذلك الشرط وهو ظاهر ، ويجري في التخصيص بالمنفصل ما ذكرناه في التقييد به.

سادسها : أنّه ذكر بعضهم لحجّية مفهوم الشرط وغيره شروطا :

الأوّل : أن لا يكون ثبوت الحكم في غير محلّ النطق أولى أو مساويا لمحلّ النطق ، كما في قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ)(١) وقولك : إن ضربك أبوك فلا تؤذه.

الثاني أن لا يكون الحكم واردا مورد الغالب ، كما في قوله تعالى : (وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ)(٢). وقول الصادق عليه‌السلام في الصحيح : «يجوز شهادة الرجل لامرأته والمرأة لزوجها إذا كان معها غيرها». وفي الإحكام : أنّه اتّفق القائلون بالمفهوم على أنّ كلّ خطاب خصّص محلّ النطق بالذكر فخروجه مخرج الأعمّ الأغلب لا مفهوم له.

وقريب منه ما في المستصفى. عن بعض شروح المبادئ حكاية الاتّفاق عليه. وذكر في النهاية في مفهوم الوصف : أنّه إذا خرج التقييد مخرج الأغلب فإنّه لا يدلّ على النفي اتّفاقا ، كما في قتل الأولاد فإنّه غالبا لخشية الإملاق. ويظهر من نهاية

__________________

(١) الإسراء : ٣١.

(٢) النساء : ٢٣.

٤٦٢

المسؤول وجود الخلاف فيه فإنّه بعد ما ذكر : أنّ ذلك هو المعروف قال : ونقله إمام الحرمين في البرهان عن الشافعي ، ثمّ خالفه.

وكيف كان فكأنّ الوجه فيه : أنّه لمّا كان الإطلاق منصرفا إلى الغالب وكان ذلك الشرط أو الوصف حاصلا له في الغالب كان الشرط أو الصفة مساويا للمشروط والموصوف، وحينئذ فلا يراد بهما إفادة التخصيص ، وإنّما يراد بهما نكتة اخرى غير الانتفاء بالانتفاء. وعلّله بعض الأفاضل : بأنّ النادر هو المحتاج إلى التنبيه ، والأفراد الشائعة حاضرة في الأذهان عند إطلاق اللفظ المعرّى ، فلو حصل احتياج في الانفهام من اللفظ فإنّما يحصل في النادر ، فالنكتة في الذكر لا بدّ أن تكون شيئا آخر ، لا تخصيص الحكم بالغالب.

وأنت خبير بأنّ مجرّد ما ذكره لا إشعار فيه إلى دفع المفهوم وعدم إرادة الانتفاء بالانتفاء ، وليس المقصود بالتقييد المفروض بيان دلالته على ثبوت الحكم في محلّ القيد حتّى يقال بعدم الاحتياج إليه مع ورود القيد مورد الغالب ، نظرا إلى الاكتفاء فيه بالإطلاق. بل المقصود بناء على اعتبار المفهوم انتفاء الحكم عن غير مورد القيد ، أعني الفرد النادر ، ولا السكوت عنه ، ولا إشعار في الوجه المذكور بخلافه حتّى يلزم أن يكون النكتة في الذكر شيئا آخر ، كما لا يخفى.

الثالث أن لا يكون التقييد لأجل وقوع السؤال عنه ، كما إذا قيل : أكرم زيدا إن جاءني» فتقول : «أكرمه إن جاءك» أو «هل في الغنم السائمة زكاة؟» فتقول : «في الغنم السائمة زكاة». وبمنزلة تقدّم السؤال ما إذا ورد ذلك عند وقوع الواقعة الخاصّة ، أو نحو ذلك من الأسباب الباعثة على تخصيص الذكر ، إذ لا دلالة إذا في ذلك على انتفاء الحكم بانتفائه.

وأنت خبير بأنّ مرجع هذه الشروط إلى أمر واحد ، وهو : عدم قيام شاهد على عدم إرادة الانتفاء بالانتفاء بحيث يخرج العبارة بملاحظته عن ظهورها في ذلك ، سواء ظهر منه خلافه أو تساوى الأمران ، لخروجه بذلك عن إفادة الانتفاء بالانتفاء ، وهو بناء على ما استظهرناه من ظهور التعليق في ذلك من غير أن يكون اللفظ موضوعا لخصوص ما ذكر ظاهر ، إذ ليس الظهور المذكور إلّا من جهة

٤٦٣

الإطلاق فإذا رجّح عليه الظهور الحاصل من ذلك زال الأوّل ولزم الأخذ بالثاني ، ولو تعادلا لزم الوقف بينهما لانتفاء الظهور.

وأمّا على قول من يجعل الدلالة وضعيّة فتلك قرينة صارفة له عمّا وضع له إن كان صرفه عنها على سبيل الظهور ، لما عرفت من الاكتفاء به في الصرف. وأمّا مع التساوي فلا تكون صارفة عن الحمل عليه ، إلّا أنّها تجعله دائرا بين الوجهين محتملا للأمرين فلا يمكن الحكم بإرادة الحقيقة.

وقد عرفت في ما مرّ أنّ قرينة المجاز قد تعادل ظهور اللفظ في الحقيقة فيتوقّف في الحمل ، كما هو الحال في المجاز المشهور عند قوم. وكيف كان فلا حاجة في المقام إلى اعتبار الشرط المذكور ، إذ المقصود ظهور اللفظ في إفادة المفهوم مع انتفاء القرينة ، وهو لا ينافي انتفاء الظهور ، لقيام القرينة على خلافه.

سابعها : أنّه لو علّق امورا على الشرط فإن كانت تلك الامور مذكورة بلفظ واحد فالظاهر إناطة المجموع بذلك الشرط ، فيكون مقتضى المفهوم انتفاء المجموع بانتفائه الحاصل برفع البعض إلّا أن يظهر من اللفظ أو الخارج إناطة الحكم في كلّ منها بالشرط ، كما في قولك : «إن جاءك زيد فأكرم العلماء» فإنّ الظاهر كون المفهوم منه عدم وجوب إكرام العلماء عند انتفاء المجيء ، وهو ظاهر في عدم وجوب إكرام أحد منهم. وإن كان رفع الإيجاب الكلّي حاصلا بالسلب الجزئي فالظاهر من اللفظ في المقام حصوله بالسلب الكلّي. والوجه فيه ما قرّرناه من ظهوره في إناطة الحكم في كلّ من الآحاد بالشرط المذكور.

وإن كانت مذكورة بألفاظ متعدّدة فالظاهر إناطة كلّ منها بالشرط المذكور ، فينتفي كلّ منها بانتفائه ، إلّا أن تقوم في المقام قرينة على إناطة المجموع به ، فلا يفيد مفهومه حينئذ ما يزيد على انتفاء البعض.

ثامنها : أنّه لو علّق الأمر بشيء على كلّ من شرطين فإن صحّ فيه التكرار فالظاهر من تكرار الأمر تعدّد المطلوب ، فينتفي كلّ منها بانتفاء شرطه. وإن لم يصحّ فيه التكرار أو قام الدليل على كون المطلوب شيئا واحدا احتمل القول بتوقّف حصوله على الشرطين معا ، لدلالة كلّ من التعليقين على توقّف الأمر على

٤٦٤

حصول ذلك الشرط ، فإذا أخذ بهما لزم القول بتوقّفه على حصولهما ، فيكون كلّ منهما مقيّدا لإطلاق الأمر ، وفيه ما لا يخفى.

والحقّ أن يقال : إنّ قضيّة الجمع فيهما هو البناء على توقّف الأمر على أحد ذينك الشرطين ، فيحصل التكليف بحصول أيّ منهما ، وقضيّة منطوق كلّ منهما حصوله بحصول ذلك الشرط ، وقضيّة مفهومه انتفاؤه بانتفائه ، فيكون منطوق كلّ منافيا لمفهوم الآخر فيقيّده تقديما لجانب المنطوق على المفهوم.

تاسعها : أنّه ذكر صاحب الوافية : أنّ ثمرة الخلاف في المفهوم إنّما تظهر فيما إذا كان مخالفا للأصل ، كما إذا قيل : «ليس في الغنم زكاة إذا كانت معلوفة» فإنّه يفيد حينئذ وجوب الزكاة في السائمة ، ولا يقول بمقتضاه من لا يقول بحجّية مفهوم الشرط ، بخلاف من يقول بحجّيته. وأمّا إذا قيل : «في الغنم زكاة إذا كانت سائمة» أفاد نفي الزكاة في المعلوفة ، ويقول به حينئذ من يقول بحجّية المفهوم ومن لا يقول به ، غاية الأمر استناد المثبت في ذلك إلى ظاهر المفهوم المعتضد بالأصل والنافي إلى مجرّد الأصل ، وذلك لا يثمر في أصل المسألة ، إذ هما موافقان فيه.

قال : ودعوى حجّية المفهوم من القائل به إنّما نشأ عن غفلة من ذلك ، فإنّه لمّا كان حكم الأصل في ذلك مرتكزا في العقول اختلط الأمر عليه بين مقتضى الأصل ومدلول اللفظ ، فتوهّم كون ذلك مدلولا للّفظ. هذا كلامه مشروحا.

وأورد عليه غير واحد من أفاضل المتأخّرين بما توضيحه : أنّه وإن كان الحال كذلك في الصورة الثانية فيتطابق الأصل والنصّ على القول بالحجّية ، وينفرد الأصل على القول بالنفي، ويشترك الوجهان في ثبوت الحكم الّذي هو ملحوظ نظر الأصولي ، إلّا أنّ هناك فرقا بيّنا بين الثبوتين : فإنّه إن ثبت الحكم حينئذ بالأصل لم يقاوم شيئا من الأدلّة الدالّة على خلافه ، فإنّ حجّية الأصل مغيّاة بقيام الدليل على خلافه فبعد قيامه لا يقوم حجّة في المقام حتّى تعارض الدليل المذكور.

وأمّا إذا كان الثبوت بالنصّ ودلالة المفهوم فهو يعارض ما يدلّ على خلافه ، ولا بدّ حينئذ من ملاحظة الترجيح ، ومجرّد كون هذا مفهوما لا يقضي بترجيح

٤٦٥

الآخر عليه ، إذ ربّ مفهوم يترجّح على المنطوق ، ومع الغضّ عنه فقد يكون الدليل من ذلك الجانب أيضا مفهوما ، فلا بدّ من ملاحظة المرجّح بينهما على القول بحجّيته ، بخلاف ما لو قلنا بسقوط المفهوم.

وزاد بعض الأفاضل في المقام : أنّه إذا كان المفهوم حجّة كان الحكم المستفاد منه مأخوذا من قول الشارع فلا حاجة في إثباته إلى الاجتهاد ، بخلاف ما لو بنى على الرجوع إلى مجرّد الأصل ، فإنّ الأخذ بمقتضاه يتوقّف على الاجتهاد واستفراغ الوسع في البحث عن الدليل المخرج عنه ، ولا يجوز الأخذ بمقتضاه قبل الفحص عن الدليل ، فإنّ الأصل عامّ ، والعمل بالعامّ قبل الفحص عن المخصّص غير جائز.

وأنت خبير بوهن هذه ، فإنّ كلّا من العمل بالأصل والنصّ عندنا يتوقّف على الاجتهاد وبذل الوسع ، ولا ينهض شيء منهما حجّة قبل الاجتهاد وبذل الوسع ، فلا فرق بينهما في ذلك بالنسبة إلينا ، غاية الأمر حصول الفرق بينهما كذلك في أوّل الأمر بالنسبة إلى المشافهين ومن بحكمهم ، حيث إنّه لا حاجة بعد السماع من المعصوم إلى بذل الوسع في ملاحظة المعارضات وغيرها في العمل بقوله عليه‌السلام ، بخلاف الأخذ بالأصل المذكور ونحوه ، ولا يجري ذلك بالنسبة إلينا حسب ما فصّل القول فيه في محلّه.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ ما تقدّم من الإيراد بإثبات الثمرة في الصورة الثانية أيضا غير جيّد ، فإنّه إنّما يترتّب تلك الثمرة في مواضع نادرة ، ومقصود صاحب الوافية كون معظم الثمرة في صورة المخالفة للأصل ، كما أشار إليه في كلامه ، لا انحصار الفائدة فيه مطلقا حتّى يورد عليه بإمكان ترتّب ثمرة اخرى من تلك الجهة.

نعم ، ما ذكره من بيان منشأ الغفلة في المقام فهو موهون جدّا ، لوضوح الفرق بين استفادة الحكم من اللفظ أو الأصل ، وظهور عدم الفرق في الفهم المذكور بين كون الحكم موافقا للأصل أو مخالفا ، فإنّ فهم توقّف الجزاء على الشرط وانتفاءه بانتفائه حاصل في الصورتين.

* * *

٤٦٦

معالم الدين :

أصل

واختلفوا في اقتضاء التعليق على الصفة نفي الحكم عند انتفائها. فأثبته قوم ، وهو الظاهر من كلام الشيخ. وجنح إليه الشهيد في الذكرى. ونفاه السيّد ، والمحقّق ، والعلّامة ، وكثير من الناس ، وهو الأقرب.

لنا : أنّه لو دلّ ، لكانت إحدى الثلاث. وهي بأسرها منتفية. أمّا الملازمة فبيّنة. وأمّا انتفاء اللازم فظاهر بالنسبة إلى المطابقة والتضمّن ، إذ نفي الحكم عن غير محلّ الوصف ليس عين إثباته فيه ولا جزءه ؛ ولأنّه لو كان كذلك ، لكانت الدلالة بالمنطوق لا بالمفهوم ، والخصم معترف بفساده. وأمّا بالنسبة إلى الالتزام ، فلأنّه لا ملازمة في الذهن ولا في العرف، بين ثبوت الحكم عند صفة ، كوجوب الزكاة في السائمة مثلا ، وانتفائه عند اخرى ، كعدم وجوبها في المعلوفة.

احتجّوا : بأنّه ، لو ثبت الحكم مع انتفاء الصفة ؛ لعرى تعليقه عليها عن الفائدة ، وجرى مجرى قولك : «الإنسان الأبيض لا يعلم الغيوب ، والأسود إذا نام لا يبصر».

والجواب : المنع من الملازمة ؛ فإنّ الفائدة غير منحصرة فيما ذكرتموه ، بل هي كثيرة :

٤٦٧

منها : شدّة الاهتمام ببيان حكم محلّ الوصف ، إمّا لاحتياج السامع إلى بيانه ، كأن يكون مالكا للسائمة مثلا دون غيرها ، أو لدفع توهّم عدم تناول الحكم له ، كما في قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) فإنّه لو لا التصريح بالخشية لأمكن أن يتوهّم جواز القتل معها ؛ فدلّ بذكرها على ثبوت التحريم عندها أيضا.

ومنها : أن تكون المصلحة مقتضية لإعلامه حكم الصفة بالنصّ وما عداها بالبحث والفحص.

ومنها : وقوع السؤال عن محلّ الوصف دون غيره ، فيجاب على طبقه ، أو تقدّم بيان حكم الغير لنحو هذا من قبل.

واعترض : بأنّ الخصم إنّما يقول باقتضاء التخصيص بالوصف نفي الحكم عن غير محلّه ، إذا لم يظهر للتخصيص فائدة سواه ؛ فحيث يتحقّق ما ذكرتموه من الفوائد ، لا يبقى من محلّ النزاع في شيء.

وجوابه : أنّ المدّعى عدم وجدان صورة لا تحتمل فائدة من تلك الفوائد ، وذلك كاف في الاستغناء عن اقتضاء النفي الّذي صرتم إليه ، صونا لكلام البلغاء عن التخصيص لا لفائدة ؛ إذ مع احتمال فائدة منها يحصل الصون ويتأدّى ما لا بدّ في الحكمة منه ؛ فيحتاج إثبات ما سواه إلى دليل. وأمّا تمثيلهم في الحجّة بالأبيض والأسود ، فلا نسلّم أنّ المقتضي لاستهجانه هو عدم انتفاء الحكم فيه عند عدم الوصف ، وإنّما هو كونه بيانا للواضحات.

٤٦٨

قوله : (اختلفوا في اقتضاء التعليق على الصفة).

هذا هو مفهوم الوصف ـ أحد أقسام مفهوم المخالفة ـ وهو على فرض ثبوته أضعف من مفهوم الشرط ، ولذا كان القائلون بمفهوم الشرط أكثر من القائلين به ، وقد أنكره جماعة ممّن يقول به ، ومنهم المصنّف رحمه‌الله ، والمراد بالصفة ما يعمّ النعت النحوي وغيره.

والأوّل يعمّ ما كان من الأوصاف ، كأكرم رجلا عالما أو غيرها ، كما إذا كان النعت جملة اسميّة أو فعليّة ، كأكرم رجلا أبوه عالم ، وأكرم رجلا أكرمك. أو من الظروف ، كأطعم رجلا من الفقراء. أو من النسب كائتني برجل بغدادي.

وقد يعمّ الحكم للصلات وسائر الأوصاف المأخوذة قيدا في الموضوع أو الحكم كالحال ، كأكرم عالما ، وانصر مظلوما ، وتواضع لأفضل الناس. والثاني يعمّ ما كان وصفا صريحا ، كأسماء الفاعلين والمفعولين وأفعل التفضيل ونحوها ، وما دلّ على الوصف وإن لم يندرج في الصفات كالمنسوبات ، نحو بغداديّ وروميّ ، ونحو كثرة الشعر يعاد له الوضوء فإنّ مفاده الشعر الكثير ، وعدّ من ذلك : «لئن يمتلئ بطن أحدكم قيحا خير من أن يمتلئ شعرا» فإنّ مؤدّاه الشعر الكثير.

وظاهر الغزّالي في المستصفى : كون المنسوبات من الألقاب ، وقد يخصّ النزاع في المقام بخصوص الحكم المعلّق على الوصف ، سواء كان نعتا نحويّا أو غيره ، بناء على كون الدلالة على الانتفاء بالانتفاء هنا من جهة التعليق على خصوص الوصف الظاهر في إناطة الحكم به ، وكان هذا هو الأوفق بعنوان المسألة. ويمكن أن يجعل ذلك أحد الوجهين في البحث ، والآخر من جهة ملاحظة التقييد ، نظرا إلى استظهار كون القيد احترازيّا دليلا على انتفاء الحكم بانتفائه ، وحينئذ يعمّ المسألة سائر القيود المتعلّقة (١) بالكلام ولو من غير الأوصاف ، وبعض تعليلاتهم الآتية يومئ إلى الوجه الأخير فيندرج فيه التقييد بالزمان والمكان، والعدد في وجه.

__________________

(١) في (ق) : الملحقة.

٤٦٩

وكيف كان فالظاهر أنّ محلّ الخلاف في الاقتضاء المذكور ليس من جهة الدلالة الوضعيّة ، ضرورة عدم اندراج ذلك في وضع شيء من الألفاظ المفردة المستعملة في المقام ، لا في الوضع العامّ المتعلّق بالتراكيب الخاصّة على الوجه الّذي مرّ في محلّه ، إذ ذلك الوضع لا يعتبر فيه خصوص تعليق الحكم على الوصف ، ولا كون الوصف المذكور متعلّقا للحكم المفروض حتّى يتصوّر فيه أخذ المعنى المذكور ، وليس هناك وضع خاصّ يتعلّق بالهيئة المجموعيّة حتّى يقال بكونها موضوعة لذلك ، ولو قيل به فالقول بوضعها لذلك بعيد جدّا ، وليس في كلماتهم ما يفيد الدعوى المذكورة ، فالظاهر أنّ استفادة ذلك منه على القول به ليس إلّا من جهة استظهار ذلك من تعليق الحكم عليه ، فهو إذا مدلول عرفيّ حاصل في المقام : إمّا من جهة تعليق الحكم على الوصف ، أو من جهة التقييد وذكر الخاصّ مع أولويّة تركه ، أو لاختصاص الحكم ، فلا يلزم هناك تجوّز في اللفظ ولا في الهيئة لو قام دليل على عدم إرادة المفهوم ، وإنّما يلزم هناك الخروج عن الظاهر المذكور على القول به. فالبحث في المقام إنّما هو في الدلالة الالتزاميّة العرفيّة ، وكان الأظهر في تقريرها على القول بها أن يقال فيها على نحو ما قدّمناه بظهور التعليق على الوصف ، أو التقييد بالقيد في إناطة الحكم به وتوقّفه عليه ، ويستلزم ذلك عقلا انتفاء الحكم بانتفائه.

ويؤيّد ما ذكرناه : أنّه لا مجال لتوهّم ثبوت المفهوم في عدّة من المقامات الّتي قيّد فيها الحكم بالوصف كما إذا قلت : رأيت عالما ، أو : أكرم الأمير رجلا عالما ، أو : مات اليوم فاضل ، أو : اهين فاسق ، إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة ، إذ لا إشعار في تلك العبارات بالدلالة على الانحصار وانتفاء الحكم في غير المقيّد ، ولو كان ذلك من جهة الوضع لاطّرد في المقامات ، إلّا أن تقوم قرينة على خلافه فتقضي بالصرف عنه بعد فهمه. فتبيّن أنّ ذلك إنّما هو من جهة الاستظهار المذكور ، حيث إنّه يتبع الموارد الّتي يجري فيها ذلك دون غيرها ، كما في الأمثلة المذكورة ونحوها. فالظاهر عدم تعميم محلّ البحث لسائر ما قيّد فيه الحكم بالوصف ، وإن

٤٧٠

كان ظاهر إطلاق كلماتهم يعمّ الجميع إلّا أنّه لابدّ من التقييد ، إذ لا مجال لتوهّم جريان البحث في نحو ما ذكر من الأمثلة ولو مع الخلوّ عن القرائن.

والأظهر في بيان ذلك على ما يطابق كلامهم أن يقال : إنّ محلّ البحث ما إذا ورد التقييد في مقام لا يظهر هناك فائدة اخرى للتقييد سوى انتفاء الحكم ، وإن احتمل هناك فوائد اخرى. وأمّا مع ظهور فائدة كما في قولك : رأيت رجلا عالما ونحوه من الأمثلة المتقدّمة، حيث إنّه لا يؤدّي مفاد رؤيته للعالم إلّا بذكر القيد فلا مجال إذا لدلالته على انتفاء الحكم بانتفاء القيد ، فليس الدلالة في المقام إلّا من جهة كون الفائدة المذكورة أظهر الفوائد حينئذ في فهم العرف ، أو من جهة تعليق الحكم على الوصف المشعر بإناطة الحكم به حسب ما أشرنا إليه ، ففي ذلك أقوى دلالة على ما قلناه.

ثمّ إنّ هاهنا امورا ربّما يتوهّم منافاتها للخلاف المذكور في المقام ، وقضاؤها باعتبار هذا المفهوم من دون تأمّل منهم فيه ، لابدّ من الإشارة إليها وبيان الحال فيها :

أحدها : ما اشتهر في الألسنة من أنّ الأصل في القيد أن يكون احترازيّا ، ولا تزال تراهم يلاحظون ذلك في الحدود والتعريفات ، ويناقشون في ذكر قيد لا يكون مخرجا لشيء ، وكذا لا يعرف الخلاف بين الفقهاء في الأغلب إلّا من جهة التقييدات المذكورة في كلامهم وعدمها ، حيث إنّه يعرف اختلافهم في المسائل من جهة اختلافهم في القيود المأخوذة في فتاواهم ، أو اختلافهم في الإطلاق والتقييد ، وليس ذلك إلّا من جهة ظهور التقييد في كونه احترازيّا ، وإلّا لما أفاد ذلك أصلا.

وفيه أوّلا : أنّ ذلك أمر جرت عليه الطريقة في المقامات المذكورة ، فإنّ المتداول بينهم في الحدود والتعريفات هو ذلك ، وقد بنوا على ملاحظة الاحتراز في التقييدات ، وكذا الحال في بيان الأحكام المدوّنة في الكتب الفقهيّة ، بل وفي سائر العلوم المدوّنة أيضا ، فجريان طريقتهم على ذلك كاف في إفادته له في كلامهم ، وكان مقصودهم من الأصل المذكور هو ذلك ، نظرا إلى ما عرفت من

٤٧١

بنائهم عليه ، ولا يقضي ذلك بكونه الأصل في الاستعمالات العرفيّة والمحاورات الدائرة في ألسنة العامّة.

وثانيا : أنّ المراد بكون القيد احترازيّا : أن يكون مخرجا لما لا يندرج فيه عمّا يشمله من الإطلاق ، أو العموم الثابت لما انضمّ إليه ذلك القيد ، فأقصى ما يفيده ذلك هو الخروج عن مدلول تلك العبارة ، وما هو المراد منها في ذلك المقام لا عدم شمول ذلك الحكم له بحسب الواقع.

وبعبارة اخرى : أنّ ما يفيده اختصاص الحكم الواقع بتلك الصورة وخروج المخرج من شمول ذلك الحكم له ، لا تخصيص المحكوم به بذلك حتّى يفيد ثبوت خلافه للمخرج بحسب الواقع. فالقيد التوضيحي المتروك في الحدود غالبا هو ما لا يفيد اخراج شيء من الحدّ ، وإنّما ثمرته مجرّد الإيضاح والبيان ، فأقصى ما يفيده القيد الاحترازي في مقابلة التوضيحي هو ما ذكرناه ، وهذا ممّا لا مدخل له بدلالة المفهوم ، حيث إنّ المقصود دلالته على نفي الحكم عند انتفاء الوصف أو القيد بحسب الواقع ، لكن لمّا كان المعتبر في الحدود مساواة الحدّ للمحدود ومطابقة المحدود للحدّ بحسب الواقع كان اللازم من ذلك انتفاء صدق المحذور على فاقد القيد ، فلزوم الانتفاء واقعا مع انتفاء القيد إنّما هو من تلك الجهة ، لا من مجرّد كون القيد احترازيّا حتّى يفيد حجّية المفهوم ، حسب ما عرفت من عدم إفادته زيادة على ما بيّنّاه في مقابلة القيد التوضيحي ، واعتباره كذلك في بيان الأحكام وإن لم يكن مخلّا بالمرام إلّا أنّه لا يناسب مقام تدوين الأحكام ، سواء كانت شرعيّة أو غيرها من سائر العلوم المدوّنة ، إذ لا داعي هناك غالبا على الاختصاص إلّا من جهة عدم حكم ذلك الحاكم بما عداه (١). فاذا ملاحظة المقام في تدوين الأحكام قاضية بذلك دون مجرّد التقييد ، فظهر بما قررنا أنّ أصالة كون القيد احترازيّا لا تنافي القول بنفي المفهوم أصلا ، وأنّ دلالته على الانتفاء بالانتفاء في المقامين المذكورين إنّما هي من الجهة الّتي ذكرناها دون مجرّد الأصل المذكور.

__________________

(١) في (ق) : بما قالوه.

٤٧٢

ثانيها : عدّهم الصفات من المخصّصات المتّصلة للعمومات ، ولا خلاف لهم في ذلك في مباحث التخصيص ، وهذا بظاهره مناف لما ذكر من انتفاء الدلالة في المقام.

وفيه ما عرفت من الفرق الظاهر بين تخصيص اللفظ بمورد الصفة وتخصيص الحكم به بحسب الواقع ، بأن يدلّ على ثبوت الحكم لغيره بحسب الواقع ، والّذي يدلّ عليه التقييد المذكور هو الأوّل خاصّة ، وهو مرادهم في مقام عدّه من المخصّصات ، والملحوظ في المقام هو الأمر الثاني ، وهو يمكن اجتماعه مع الأوّل وعدمه.

فإن قلت : إنّهم عدّوا ذلك في عداد سائر المخصّصات المتّصلة ، كالاستثناء والشرط والغاية ، وهي تدلّ على انتفاء الحكم في المستثنى ، ومع انتفاء الشرط ، وفي ما بعد الغاية ، وليس مفادها مقصورا على مجرّد رفع الحكم المدلول عليه بالعبارة حسب ما ذكر والظاهر كون الجميع من قبيل واحد ، أو أنّ ذلك هو المراد بكونه من المخصّصات.

قلت : ليس المراد من عدّ المذكورات من المخصّصات إلّا ما ذكرناه ، وأمّا دلالتها على انتفاء الحكم المذكور بحسب الواقع بالنسبة إلى المخرج فهو أمر آخر لا دخل له بذلك ، ولذا وقع الخلاف فيها بالنسبة إلى كلّ منها مع اتّفاقهم على كونها من المخصّصات ، فإنّه قد خالف أبو حنيفة (١) ومن تبعه في الاستثناء من المنفيّ ، والخلاف في مفهوم الشرط والغاية معروف.

ثالثها : ما اتّفقوا عليه من لزوم حمل المطلق على المقيّد مع اتّحاد الموجب ، كما إذا قيل : «إن ظاهرت فأعتق رقبة» ، و «إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة» فإنّه لا إشكال عندهم حينئذ في وجوب حمل المطلق على المقيّد مع أنّه لا معارضة بينهما ليفتقر إلى الحمل إلّا مع البناء على دلالة المقيّد على انتفاء الحكم بانتفاء

__________________

(١) في (ق) : أبو عبيدة.

٤٧٣

القيد ليقع المعارضة بينه وبين إطلاق منطوق الآخر ، وإلّا فأيّ منافاة بين ثبوت الحكم في المقيّد وثبوته في سائر أفراد المطلق أيضا؟ غاية الأمر أن يكون الدليل على ثبوته في المقيّد من وجهين ، والدليل على ثبوته في المطلق من وجه واحد ، فالاتّفاق على ذلك في المقام المذكور ينافي الخلاف الواقع في المقام ، مع ذهاب كثير من المحقّقين في المقام إلى نفي الدلالة.

ويدفعه : أنّه ليس ما بنوا عليه من وجوب الحمل من جهة المعارضة بين منطوق الأوّل ومفهوم الثاني ، فرجّحوا المفهوم الخاصّ على إطلاق المنطوق ، كيف! ولو كان كذلك لما جرى في الألقاب ، لاتّفاقهم على المنع من مفهوم اللقب ، مع أنّه لا كلام أيضا في وجوب الحمل ، كما إذا قال لعبده : «إن قدم أبي فأطعم الفقراء ، ثمّ قال : إن قدم أبي فأطعم الفقراء الخبز واللحم» فإنّه يجب أيضا حمل المطلق على المقيّد من غير فرق بينه وبين غيره اتّفاقا ، مع أنّه لا مفهوم له عند المحقّقين ، بل إنّما ذلك من جهة المعارضة بين المنطوقين ، فإنّ الظاهر من الأمر بالمطلق هو الاكتفاء في الامتثال بأيّ فرد منه ولو كان من غير أفراد المقيّد ، وظاهر الأمر بالمقيّد هو تعيّن الإتيان به وعدم الاكتفاء بغيره ، نظرا إلى ظهور الأمر في الوجوب التعييني فلذا حكموا بحمل المطلق على المقيّد جمعا بينهما عملا بهما ، لا لما توهّم من دلالة الأمر بالمقيّد على انتفاء الحكم مع انتفاء القيد.

فإن قلت : على هذا لا ينحصر الأمر في الجمع بينهما في حمل المطلق على المقيّد ، لجواز حمل الأمر بالمقيّد على إرادة الوجوب التخييري.

قلت : أمّا على القول بكون الأمر مجازا فيه فترجيح الأوّل ظاهر ، إذ لا يستلزم حمل المطلق على المقيّد تجوّزا في المطلق ، ومع تسليمه فشيوع التقييد كاف في ترجيحه. وأمّا على القول بعدم كونه مجازا فلا ريب في كونه خلاف الظاهر منه. كما أنّ التقييد مخالف للظاهر أيضا ، إلّا أنّ فهم العرف قاضيا بترجيح الثاني عليه ، وكفى به مرجّحا ، وهو الباعث على اتّفاقهم عليه ، بل ملاحظة الاتّفاق عليه كاف فيه من غير حاجة إلى التمسّك بغيرها ، ولتفصيل الكلام فيه مقام آخر.

٤٧٤

وممّا قرّرنا ظهر ضعف ما ذكره شيخنا البهائي رحمه‌الله في الجواب عن الإشكال المذكور من التزام التقييد بالقول بعدم حجّية المفهوم المذكور ، قال : «فقد أجمع أصحابنا على أنّ مفهوم الصفة فيه حجّة ، كما نقله العلّامة ـ طاب ثراه ـ في نهاية الأصول ، فالقائلون بعدم حجّية مفهوم الصفة يخصّون كلامهم بما إذا لم يكن في مقابلتها مطلق ، لموافقتهم في حجّية ما إذا كان في المقابل مطلق ترجيحا للتأسيس على التأكيد». انتهى.

وما حكاه من إجماع أصحابنا على حجّية مفهوم الصفة فيه ليس بمتّجه ، وحكاية ذلك عن العلّامة سهو ، بل الّذي حكاه هو الإجماع على حمل المطلق على المقيّد ، وأين ذلك من الإجماع على حجّية المفهوم؟ وكأنّه رحمه‌الله رأى انحصار الوجه في حمل المطلق على المقيّد على ثبوت المفهوم المذكور ، فجعل الإجماع على الحمل إجماعا على ثبوت المفهوم من جهة الملازمة ، وقد عرفت ما فيه ، فإنّ الوجه فيه هو ما ذكرناه حسب ما قرّرناه ، ولا ربط له بالمفهوم ، وما علّل به البناء على ثبوت المفهوم حينئذ من ترجيح التأسيس على التأكيد لو تمّ جرى في غيره ، كما إذا قال : «أكرم كلّ عالم» وقال أيضا : «أكرم كلّ فقيه» أو «كلّ عالم صالح». ولا يقول أحد بتخصيص الثاني للأوّل إلّا أن يقول بثبوت المفهوم المذكور وكونه قابلا لتخصيص العامّ ، ومع الغضّ عنه فالتأكيد إنّما يلزم في المقام لو كان المطلق متقدّما على المقيّد ، أمّا لو كان بالعكس فلا تأكيد. وأيضا لو تمّ فإنّما يتمّ لو صدر القولان عن معصوم واحد وبالنسبة إلى مخاطب واحد. أمّا لو كانا صادرين عن معصومين أو تغاير المخاطبون من دون حكايته للأوّل عند ذكر الثاني فلا تأكيد ، كما في الأخبار المتكرّرة الواردة عن المعصومين بالنسبة إلى المخاطبين المتعدّدين ، سيّما إذا كان كلّ منهما بعد سؤال المخاطب ، ومع ذلك فالإجماع على حمل المطلق على المقيّد يعمّ الجميع.

قوله : (وجنح إليه الشهيد في الذكرى).

حيث نفى البأس عن القول بحجّيته ، بل جعل مفهوم الغاية ـ الّذي هو أقوى

٤٧٥

من مفهوم الشرط ـ راجعا إلى مفهوم الوصف ، وقد حكى القول به عن المفيد ، وعن جماعة من العامّة ، منهم : الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل والأشعري وإمام الحرمين والبيضاوي والعضدي ، وجماعة من الفقهاء والمتكلّمين ، وحكاه في النهاية والإحكام عن أبي عبيدة وجماعة من أهل العربية ، وعزي القول به إلى كثير من العلماء ، وعزاه الغزّالي إلى الأكثرين من أصحاب الشافعي ومالك.

قوله : (ونفاه السيّد).

والمحقّق والعلّامة. قد وافقهم في ذلك كثير من أصحابنا ، منهم ابن زهرة والشهيد الثاني ، بل عزي ذلك إلى أكثر الإماميّة.

قوله : (وكثير من الناس).

قد اختاره الغزّالي والآمدي ، وقد حكى القول به عن أبي حنيفة والقاضي أبي بكر وأبي علي وأبي هاشم وأبي بكر الفارسي وابن شريح والجويني والشافعي والقفّال والمروزي وابن داود والرازي وجماهير المعتزلة ، وأسنده الغزّالي إلى جماعة من حذّاق الفقهاء ، والآمدي إلى أصحاب أبي حنيفة.

هناك قولان آخران بالتفصيل ، بل أحدهما : ما تقدّم من التفصيل الّذي ذكره شيخنا البهائي ، إذ لا أقلّ من ذهابه إليه.

ثانيهما : ما حكاه في النهاية والإحكام عن أبي عبد الله البصري من التفصيل بين ما إذا ورد في مقام البيان أو في مقام التعليم ، أو كان ما عدا الصفة داخلا تحت الصفة ، كالحكم بالشاهدين لدخول الشاهد الواحد في الشاهدين ، وما إذا ورد في غير هذه الصورة ، ففي الوجوه الثلاثة المتقدّمة يفيد نفي الحكم عن غير ما بالصفة ، بخلاف الوجه الرابع ، وهذا القول في الحقيقة راجع إلى القول بنفي المفهوم ، وإنّما يستفاد المفهوم في تلك الصورة لانضمام شهادة المقام.

وقد يزاد قول خامس ، وهو البناء على الوقف إن عدّ قولا ، وعليه الحاجبي في مختصره ، ويميل إليه كلام بعض أفاضل المتأخّرين.

ثمّ إنّ الأظهر عندي هو القول بعدم دلالة مجرّد التعليق المفروض على

٤٧٦

الانتفاء بالانتفاء. ويدلّ عليه : أنّ من الظاهر عدم كون ذلك معنى مطابقيّا لتعليق الحكم على الوصف ، ولا تضمّنيا له ، لما أشرنا إليه من أنّ وضع مفردات تلك الألفاظ لا ربط له بإفادة ذلك ، والوضع النوعي المتعلّق بها هو ما تعلّق بغيرها من الوضع الكلّي المتعلّق بالمبتدأ والخبر والفعل والفاعل وغيرها على وجه عامّ جار في جميع الموارد ، من جملتها : ما إذا كان مورده وصفا ، وليس من جزء الموضوع له بتلك الأوضاع حصول الانتفاء بالانتفاء قطعا ، وإلّا لجرى في الألقاب ونحوها.

ودعوى حصول وضع خاصّ لها بالنسبة إلى الأوصاف ممّا لا دليل عليه. فهو مدفوع بالأصل ، بل الظاهر خلافه ، لاستكمال الكلام بالوضعين المذكورين وزيادة وضع آخر بعد ذلك خلاف الظاهر.

وكذا القول باختصاص الوضع العامّ بغير ما إذا كان معروضه وصفا ونحوه ، وحصول وضع آخر للهيئة بالنسبة إلى ما يعرض من الأوصاف ، فيكون مفاده عين ما أفاده الوضع العامّ إلّا أنّه يزيد عليه ، ما ذكره من الدلالة على الانتفاء بالانتفاء خلاف الظاهر جدّا ، إذ لا داعي إلى الالتزام به مع عدم قيام الدليل عليه ، بل الظاهر حصول وضع واحد عامّ جار في الجميع. كيف؟ ولو التزم بذلك لم يجر في جميع المقامات ، لما عرفت من عدم إشعار التقييد بالوصف بذلك في كثير من المقامات حسب ما أشرنا إليه. والتزام حصول الوضع الخاصّ المتعلّق بخصوص بعض الصور بعيد جدّا عن ملاحظة أوضاع الهيئات بحيث لا مجال للالتزام به ، مضافا إلى ما عرفت من عدم قيام شاهد واضح عليه حتّى يلتزم من جهته بالتعسّف المذكور. ومن ذلك يظهر أيضا عدم اعتبار معنى فيه يستلزم الانتفاء بالانتفاء عقلا ، فإنّ اعتبار ذلك أيضا يتوقّف على التزام أحد الوجهين المذكورين ، بل لا يبعد خروج ذلك كلّه عن موضع النزاع حسب ما أشرنا إليه.

بقي الكلام في حصول الالتزام العرفي بعد دلالة اللفظ بحسب الوضع على تعليق الحكم على الوصف ، أو تقييد الإطلاق بالقيد بأن يكون ذلك مفهما عرفا لارادة الانتفاء بالانتفاء ، نظرا إلى ظهور التعليق على الوصف والتقييد المذكور في

٤٧٧

إناطة الحكم بالوصف أو القيد الظاهر في انتفاء الحكم بانتفائه وكون التقييد لفائدة ، وأظهرها عند الإطلاق هو إناطة الحكم بالقيد ليقضى بانتفائه عند انتفائه.

لكنّك خبير بأنّ دلالة مجرّد التعليق على الوصف على ذلك غير ظاهر ، وكذا التقييد بالقيد ، كما هو ظاهر بعد إمعان النظر في العرف وملاحظة التعليقات والتقييدات الواردة في الاستعمالات. نعم ، فيها إشعار بذلك في كثير من صوره ، وبلوغه إلى حدّ يجعله مدلولا للعبارة على حسب ما يلحظ في المحاورات العرفيّة غير ظاهر ، بل الظاهر خلافه ، لكن لو قام في المقام شاهد عليه اندرج في مدلول العبارة ، ولا شكّ إذا في حجّيته لما دلّ على حجّية مداليل الألفاظ ، ويختلف الحال في ذلك بحسب اختلاف الأوصاف والقيود بحسب اختلاف المقامات ، فربّ وصف يفهم منه ذلك بقيام أدنى شاهد عليه ، وقد لا يكتفى بما يزيد عليه بالنسبة إلى وصف آخر ، ويختلف الحال وضوحا وخفاء بحسب تقييد المطلق بالوصف وتقييده بغيره وتعليق الحكم أوّلا على الوصف من غير حصول تقييد ، نظرا إلى حصول جهتين لإفادة المفهوم عند حصول التقييد بالوصف ، بخلاف كلّ من الوجهين الآخرين ، فلابدّ من ملاحظة المقامات واعتبار الخصوصيّات ، فإنّ الإشعار يكون مدلولا بقيام أدنى شاهد عليه. وليس كلامنا في المقام في ذلك ، وإنّما البحث في دلالة مجرّد التعليق والتقييد على ذلك وعدمها.

والظاهر بعد التأمّل في العرف هو الثاني ، كيف؟ والتقييد بالوصف مع كونه أظهر ما وقع فيه الكلام في إفادة المفهوم لا يبلغ حدّ الدلالة عليه ، ولا يزيد إفادته لذلك بملاحظة نفسه على مجرّد الإشعار ، وإنّما يدلّ عليه في بعض المقامات بانضمام ملاحظة المقام ممّا يشهد بإدراج المفهوم ، فكيف يسلّم ذلك في الوجهين الأخرين؟

قوله : (إذ نفي الحكم عن غير محلّ الوصف ... الخ).

لا يخفى أنّه لو قيل بكون الدلالة في المقام تضمّنية فليس ذلك من جهة ادّعاء كون ذلك جزءا من المفهوم المذكور لوضوح خلافه ، بل إنّما يدّعى دلالة العبارة

٤٧٨

على إثبات الحكم في محلّ الوصف وإناطته بالوصف المذكور معا ، فليس مدلول اللفظ عنده خصوص المعنى الأوّل حتّى يدفع بظهور عدم اندراج نفي الحكم عن غير محلّ الوصف فيه ، فاللازم نفي وضعه للمعنى المذكور ، ولا ربط لما ذكره بدفعه إلّا مع ادّعاء عدم إفادة اللفظ وضعا لما يزيد على ذلك وهو أوّل الكلام ، فلابدّ من الاستناد فيه إلى ما ذكرناه ، وبه يثبت المقصود.

قوله : (لكانت الدلالة عليه بالمنطوق لا بالمفهوم ... الخ).

قد عرفت ممّا مرّ في تحديد المنطوق والمفهوم عدم لزوم اعتبار كون الدلالة في المفهوم التزاميّة حتّى يلزم من كون الدلالة في المقام تضمّنية أن تكون الدلالة خارجة عن حدّ المفهوم مندرجة في المنطوق ، وقد عرفت ما هو مناط الفرق بين المنطوق والمفهوم ، وهو لا ينافي كون الدلالة عليه بالتضمّن ، فتأمّل.

قوله : (فلأنّه لا ملازمة في الذهن ولا في العرف ... الخ).

لا يخفى أنّ من يقول بثبوت المفهوم المذكور لا يسلّم كون مدلول المنطوق مجرّد وجوب الزكاة عند حصول الوصف المذكور حتّى يقال بعدم ملازمته لانتفاء الحكم عند انتفائه ، كيف؟ ولو كان كذلك لجرى بعينه في مفهوم الشرط ، إذ مجرّد الحكم بوجود الجزاء عند حصول الشرط لا يستلزم عقلا ولا عرفا انتفاءه عند انتفائه ، بل قد عرفت أنّ من يقول هناك بالدلالة اللفظيّة فإنّما يقول بدلالته على ثبوت الحكم عند حصول الشرط أو الوصف على وجه الإناطة والتوقّف عليه ، وهذا المعنى يستلزم الانتفاء بالانتفاء ، حسب ما مرّ الكلام فيه. فما ذكره من انتفاء الملازمة بين الأمرين غير مفيد في المقام إلّا بعد إثبات كون مدلول اللفظ هو ما ذكرنا ، دون ما يزيد عليه ، وهو أوّل الكلام.

هذا ، وقد ذكر للقول المذكور حجج اخرى لا بأس بالإشارة إليها وإلى وهنها :

منها : ما اختاره الآمدي من : أنّه لو كان تعليق الحكم على الصفة قاضيا بنفي الحكم مع انتفائها لما كان ثابتا مع عدمها لما يلزمه من مخالفة الدليل ، وهو على خلاف الأصل ، وقد ثبت الحكم مع عدمها ، كما هو الحال في آيات عديدة

٤٧٩

وغيرها. وحاصل هذا الوجه : لزوم التزام المعارضة بين الأدلّة في موارد كثيرة ، وعدم المناص عن التزام الخروج عن الظاهر في التعليق المفروض ، وهو على خلاف الأصل ، بخلاف ما لو قيل بانتفاء الدلالة في ذلك.

ومنها : ما اختاره في الاحكام أيضا ، وهو : أنّه لو كان ممّا يستفاد منه ذلك لم يخلو : إمّا أن يكون مستفادا من صريح الخطاب ، أو من جهة ملاحظة أنّ تعليق الحكم عليه يستدعي فائدة ، ولا فائدة سوى نفي الحكم بانتفائه ، أو من جهة اخرى.

والأوّل ظاهر البطلان ، لوضوح أنّه لا دلالة في صريح الخطاب عليه ، كيف ولا قائل به؟

والثاني أيضا باطل ، لعدم انحصار الفوائد.

والثالث مدفوع بالأصل.

ويدفعه : أنّه يمكن أن يكون الدالّ عليه ظاهر اللفظ ، نظرا إلى ظهور التعليق فيه حسب ما يدّعى في المقام ، أو من جهة كون ذلك أظهر الفوائد في نظر العرف ، وعدم انحصار الفوائد فيه لا ينافي أظهريّتها في المقام.

ومنها : أنّه لو دلّ على ذلك لعرف ذلك إمّا بالعقل أو بالنقل ، والعقل لا مجال له في اللغات ، والنقل إمّا متواتر أو آحاد ، ولا سبيل إلى الأوّل ، وإلّا لما وقع الخلاف فيه ، والثاني لا يفيد القطع.

وضعفه ظاهر ، وقد مرّت الإشارة إلى دفع مثله في حجّة المتوقّفين.

ومنها : أنّه لو كان تعليق الأمر أو النهي على الصفة دالّا على ذلك لكان كذلك في الخبر أيضا ، ضرورة اشتراك الجميع في التخصيص بالصفة ، واللازم باطل ، ضرورة أنّه لو قال: «رأيت رجلا عالما ورأيت غنما سائمة» لم يفد نفي الرؤية عن غير ما ذكر.

ويدفعه : أنّه قياس في اللغة ، ومع الغضّ عنه فالقول بالفرق أيضا غير متّجه ، بل الظاهر أنّ القائل بالمفهوم المذكور لا يفرّق بين الخبر والأمر ، والاستفادة منه عرفا

٤٨٠