هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٨٣

قوله : (وأمّا إذا كان ذلك جائزا).

فلا ضرورة كون الواجب نفس الفعل متى أتى به من تقديم أو تأخير ، فلا تكليف بالمحال من جهة تعلّق التكليف بنفس الفعل ، لتمكّنه قطعا من الإتيان به في أوّل الأزمنة ، وتجويز التأخير ليس تكليفا ليلزم التكليف بالمحال من جهته.

نعم إن توهّم مفسدة في المقام فهو لزوم خروج الواجب عن الوجوب لا لزوم التكليف بالمحال ، إذ مع تجويز التأخير لو اتّفق له الموت لم يكن عاصيا ، لتجويزه له ذلك.

وهو أيضا مدفوع بما مرّ من أنّ عدم ترتّب العصيان على ترك الواجب في بعض الأحيان لا يقضي بخروجه عن الوجوب ، وما ذكر من عدم ترتّب الإثم على تركه إنّما يتّفق في بعض الفروض ، وإلّا ففي كثير من الأحيان يحصل الظنّ بالفوات مع التأخير ، وحينئذ فلا يجوز الإقدام عليه من تلك الجهة حسب ما عرفت.

وقد يورد في المقام بأنّ ما علّل به انتفاء التكليف بالمحال من تمكنه من المسارعة التزام بوجوب الفور في العمل لتحصيل براءة الذمّة ، حيث إنّ جواز التأخير مشروط بمعرفته ، ولا يتمكّن منه المكلّف ، فينحصر الامتثال في الفور.

ويدفعه : أنّ مراد المستدلّ بذلك إيضاح القول في إبداء تمكّنه من الفعل ، ليظهر فساد ما توهّم من لزوم التكليف بالمحال ، وليس في كلامه ما يفيد كون جواز التأخير مشروطا بمعرفة لا يتمكّن منه المكلّف ليرد عليه ما ذكر من الالتزام بالفور ولا وجه له ، فإنّ عدم العلم بآخر أزمنة الإمكان لا يستلزم المنع من التأخير ليكون جواز التأخير مشروطا بالعلم بعدم كونه آخر الأزمنة ، لكفاية الظنّ في مثله ، بل الشكّ أيضا في وجه ، نظرا إلى أصالة البقاء.

قوله : (لأنّها فعل الله سبحانه).

أراد بذلك أنّ المسارع إنّما يتسارع إلى فعله بمبادرته إليه دون فعل غيره ، إذ لا يعقل تسارعه إليه ، وإنّما يتسارع إليه الّذي يأتي به ، فلابدّ من أن يراد بالمغفرة سببها الّذي هو فعل المكلّف ليكون من قبيل إقامة السبب مقام المسبّب ؛ لكنّك خبير بأنّ

٦١

مجرد كون المغفرة فعل الله لا يقضي بامتناع المسارعة إليها ، إذ لا مانع من المسارعة إلى فعل الغير بأن يجعل نفسه مشمولا لفعله كما تقول : «سارعوا إلى ضيافة السلطان» و «إلى كرامته» و «إلى إنعامه» ونحوها.

نعم يمتنع المسارعة إلى أداء فعل الغير ولا قاضي بإرادته في المقام وحينئذ يكون المسارعة إليه حاصلة بالمسارعة إلى أسباب شموله من غير أن يراد بالمغفرة سببها ، بل من جهة أنّ المقدور بالواسطة مقدور للمكلّف ، فظهر بذلك أنّ هذا الوجه يشارك الوجه المذكور فيما هو المدّعى من غير التزام التجوّز في المغفرة.

ثمّ إنّه قد يورد في المقام أنّه لا دليل على كون فعل المأمور به سببا للمغفرة ، وإنّما هو باعث على ترتّب الثواب والباعث على الغفران هو التوبة ، فإنّها السبب لغفران الذنب ؛ نعم لا يبعد القول باندراج الكفّارات في ذلك حيث إنّها تكفر الذنب ، فأقصى الأمر أن يفيد الآية كونها مطلوبة على سبيل الفور وأين ذلك عن المدعى؟ والقول بكون مجرّد فعل المأمور به قاضيا بتكفير الذنب مبنيّ على مذهب الحبط والتكفير ولا نقول به.

ويمكن دفعه بأنّه قد ورد سقوط الذنب بأداء بعض الواجبات ، كالصلاة والحجّ ونحوها ، فلا اختصاص لها بالتوبة ونحوها ، وحينئذ يمكن تتميم الدليل بعدم القول بالفصل.

وفيه : أنّ مفاد الآية حينئذ هو وجوب الفور في تحصيل غفران الذنب بعد ثبوته ، وهو أمر ظاهر بملاحظة العقل أيضا ، والظاهر أنّه ممّا لا كلام فيه وحينئذ فالقول بعدم الفصل بين ما يقع مكفّرا للذنب وغيره ، كما ترى.

ويمكن القول بحصول التكفير بالنسبة إلى كلّ من الطاعات ، كما يستفاد من قوله تعالى : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) (١) ويشير إليه بعض الأخبار فيصحّ القول بإرادة مطلق المأمور به من المغفرة.

__________________

(١) هود : ١١٤.

٦٢

وذلك أيضا غير مقالة القائلين بالحبط والتكفير ، فإنّهم يقولون بموازنة الحسنات والسيّئات في الدنيا ويثبت للعامل أو عليه التفضيل بينهما ، فعلى هذا يكون ميزان الأعمال في الدنيا قبل الآخرة ، وهذا ليس بمرضيّ ، وسببيّة الطاعة للغفران لا دخل له بهذا المذهب.

ومع الغضّ عن ذلك ففي قوله تعالى : (وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ)(١) كفاية في المقام ، فإنّ المراد بالمسارعة إلى الجنّة هي المسارعة إلى الأعمال والطاعات الموصلة إليها ، وذلك كاف في تقرير الاستدلال من غير حاجة إلى ملاحظة كون أداء المأمور به باعثا على الغفران كلّيّا أو جزئيّا.

ويندفع به أيضا ما قد يورد في المقام أنّه إنّما يتمّ في الأوامر المتعلّقة بالعصاة لتكون مكفّرة لذنوبهم ، ولا يجري فيمن لم يتحقّق منه ذنب ، كمن هو في أوّل البلوغ إلّا أن يتمّ ذلك بعدم القول بالفصل على ما ذكرنا ، إذ يعمّ العبادة جميع تلك الصور من غير حاجة إلى ضمّ عدم القول بالفصل لو (٢) تمّ القول به.

ثمّ إنّه قد يورد أيضا في المقام بأنّه ليس في الآية دلالة على العموم ليفيد وجوب المسارعة في جميع الأوامر ، كما هو المدّعى ، فغاية الأمر أن يفيد وجوب الفور في البعض ؛ فيمكن تنزيله حينئذ على التوبة ونحوها ممّا ثبت وجوب الفور فيه.

ويمكن دفعه بكفاية الإطلاق في المقام فإنّ المطلق يرجع إلى العامّ في مقام البيان سيّما مع توصيف النكرة بصفة الجنس ، فإنّه يفيد العموم كما نصّوا عليه في قوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) (٣).

وفيه : ـ مع وضوح المناقشة في توصيف النكرة هنا بصفة الجنس ، ضرورة أنّ المغفرة قد تكون من فعل غيره سبحانه ـ أنّ إرادة العموم في المقام يخلّ بالمقصود ، إذ كما يكون الواجبات سببا للغفران كذا الحال في المندوبات ، لشمول

__________________

(١) الحديد : ٢١.

(٢) في نسخة فى بدل «لو» : أو.

(٣) الأنعام : ٣٨.

٦٣

الآية المذكورة للواجبات والمستحبّات ، وورود ذلك في كثير من المندوبات بالخصوص حتّى أنّه ورد في زيارة سيّدنا الحسين عليه‌السلام والبكاء عليه ما ورد من حبط (١) السيّئات وغفران الذنوب والخطيئات (٢) ، وكذا ما ورد في الصدقة والبكاء في جوف الليل (٣) وغيرها.

ومع حمل الآية على العموم يلزم حمل الأمر بالمسارعة على الأعمّ من الوجوب والند ، إذ لا معنى لوجوب المسارعة إلى المندوبات ، وكذا الحال في الواجبات الموسّعة ، فلا دلالة فيها على وجوب الفور.

والقول بحمله على الوجوب والتزام التخصيص بالنسبة إلى المندوبات والموسّعات ـ نظرا إلى ترجيح التخصيص على المجاز ـ مدفوع بأنّ التخصيص المذكور لا يترجّح على المجاز وإن قلنا بترجيح التخصيص عليه في الجملة ، لكونه من قبيل التخصيص بالأكثر ، لوضوح كون المستحبّات أضعاف الواجبات ؛ مضافا إلى أنّ استعمال الأمر في الندب أو الأعمّ منه والوجوب أمر شائع في الاستعمالات ، وليس أبعد في فهم العرف من التخصيص حتّى يترجّح التخصيص عليه في أوامر الشريعة.

ولذا ذهب بعضهم إلى ذلك مستدلّا بهاتين الآيتين وغيرها ، كيف ولو دلّ عليها الصيغة لم يكن حاجة إلى بيانها؟ إذ ليس بيان مفاد الألفاظ العرفيّة واللغويّة من وظيفة الشارع ، ولو كانت مسوقة لذلك لكان تأكيدا لما يفيده اللفظ ، والتأسيس أولى منه.

قوله : قوله تعالى : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ)(٤).

يرد على هذه الآية أيضا امور :

منها : ما أشرنا إليه في الآية السابقة من عدم دلالتها على إفادة الصيغة للفور.

__________________

(١) كذا ، والظاهر : حطّ.

(٢) وسائل الشيعة : ج ١٠ ب ٦٦ من أبواب المزار ص ٣٩٤ ح ٨.

(٣) وسائل الشيعة : ج ٦ ب ١٤ من أبواب الصدقة ص ٢٧٨ ، وج ١١ ب ١٥ من أبواب جهاد النفس ح ١٤ ص ١٧٩.

(٤) البقرة : ١٤٨.

٦٤

ومنها : نظير ما مرّ في الآية المتقدّمة أيضا ، فإنّ الخيرات جمع محلّى يفيد العموم ، وهي شاملة للواجبات والمندوبات إلى آخر ما ذكرنا.

ومنها : أنّ مفاد الاستباق هو مسابقة البعض الآخر في أداء الخيرات والتسابق عليها دون مطلق الإسراع إلى الفعل ليراد به الفور ، فلا يوافق المدّعى ؛ ولابدّ إذن من حملها على الندب ، إذ لا قائل بوجوب المسابقة على الطاعات على الوجه المذكور ، وقد يذبّ عنه بأنّه لمّا كان ظاهر الآية الوجوب ولم يكن الاستباق على الوجه المذكور واجبا قطعا فيصير ذلك قرينة بحمل الاستباق على مطلق المسارعة ، وهو كما ترى.

قوله : (فإنّهما يتصوّران في الموسّع دون المضيّق).

لا يخفى أنّه قد يؤخذ الزمان في الفعل على وجه لا يتصوّر الإتيان بذلك الفعل في غير ذلك الزمان ، كما في «صم يوم الجمعة» إذ لا يعقل إيقاع ذلك الواجب في غير ذلك الزمان.

وقد يؤخذ الزمان شرطا لصحّة إيقاع الفعل من غير أن يؤخذ مقوّما لمفهومه ، فيمكن تأخّر الفعل عن ذلك الزمان إلّا أنّه لا يتّصف بالصحّة.

وقد يكون إيقاعه فيه واجبا ويكون التأخير عنه حراما إلّا أنّه لا يفوت الواجب بفوات ذلك الوقت ، فيكون نفس الفعل واجبا مطلقا وجعل إيقاعه في ذلك الوقت واجبا.

وقد يكون على وجه الرجحان.

وقد لا يكون خصوص الزمان مأخوذا فيه فيتساوى نسبته إلى الأزمنة.

وما لا يتحقّق فيه المسارعة والاستباق إنّما هو القسم الأوّل خاصّة ، وأمّا الأقسام الأربعة الباقية فلا مانع من صدق المسارعة بالنسبة إليها ، وإن وجب الإقدام على الفعل حينئذ ولم يجز التأخير عنه في الصورتين الأوليين منها ، بل لم يصحّ مع التأخير في الاولى منها ، ألا ترى أنّه يصحّ أن يقال : إنّه «سارع إلى الحجّ» إذا حجّ في السنة الاولى من وجوبه عليه ويقال : «إنّه سارع إلى أداء دينه» إذا أدّاه

٦٥

وقت حلوله مع مطالبة الديان بل يقال : «إنّه سارع إلى أداء الصلاة» إذا أدّاها في الوقت المختصّ بها مع تضيّقها ، كما في صلاة الكسوف مع كون زمان الآية بقدر زمان الفعل.

فما قرّره المجيب من المنافاة بين وجوب الفور وصدق المسارعة والاستباق فاسد جدّا ، والاستشهاد بالمثال المذكور بيّن الفساد ، لكونه من قبيل القسم الأوّل وهو غير محلّ الكلام.

قوله : (والحاصل أنّ العرف قاض).

قد عرفت : أنّ حكم العرف إنّما هو في الصورة الاولى ، كما قرّرنا ، وأمّا في غيرها فمن الظاهر ـ بعد ملاحظة العرف ـ صدق المسارعة والاستباق من غير إشكال ؛ فما فى كلام الفاضل المحشّي ـ من تسليم ما ذكره المجيب بالنسبة إلى ما لا يصحّ فعله في الزمان المتراخى ـ ليس على ما ينبغي وإنّما يتمّ ذلك في الصورة المتقدّمة.

قوله : (وإلّا لكان مفاد الصيغة فيهما منافيا لما يقتضيه المادّة).

لا يخفى أنّه لو سلّم ما ذكره فإنّما يسلّم لو قلنا بدلالة نفس الأمر على وجوب الفور ، وأمّا إذا قلنا باستفادة الفور من الآيتين المذكورتين فأيّ منافاة بين مفاد الصيغة والمادّة؟ إذ لو لا الأمر المذكور صحّ تأخير الفعل وتعجيله بالنظر إلى الأمر المتعلّق به ، وإنّما يجب المسارعة والتعجيل من جهة الأمر المذكور ، فما يقتضيه المادّة هو جواز تأخير الفعل في نفسه ، مع قطع النظر عن إيجاب الفور بالأمر المذكور ، وما يقتضيه الصيغة هو المنع منه بالأمر المذكور ، ولا منافاة بينهما.

والحاصل أنّ هناك فرقا بين وجوب التعجيل مع قطع النظر عن الأمر بالتعجيل ووجوبه بهذا الأمر ؛ والمنافاة المدّعاة لو تمّت فإنّما يتمّ في الصورة الاولى خاصّة.

والقول باعتبار جواز التأخير مطلقا في صدق المسارعة ممنوع بل فاسد جدّا ، كيف ولو كان كذلك لما أمكن إيجاب المسارعة عرفا في فعل من الأفعال؟ وهو واضح الفساد.

٦٦

قوله : (فتأمّل).

إشارة إلى إيراد وجواب ، أمّا الأوّل فبأنّ ما ذكر إنّما يتمّ لو ابقيت المادّة على ظاهرها ، وأمّا لو اريد بها المسارعة إلى الامتثال فلا مانع من إرادة الوجوب من الصيغة ؛ فكما يندفع المنافاة بما ذكر كذا يندفع بما ذكرنا. وأمّا الثاني فبأنّ ذلك غير مصحّح للاستدلال ، لدوران الأمر إذن بين الوجهين ، وإنّما يتمّ الاحتجاج على الثاني ولا مرجّح له ، فبمجرّد الاحتمال لا يتمّ الاستدلال ، ولا يبعد ترجيح الأوّل بأصالة عدم وجوب الفور ، كذا يستفاد من المصنّف في الحاشية.

قلت في الفرق بين المسارعة والمبادرة بما ذكر تأمّل.

قوله : (كلّ مخبر كالقائل).

ظاهر الاستدلال هو التمسّك بالاستقراء ، فإنّ سائر الإخبارات والإنشاءات يراد بها الحال فكذا الأمر ، إلحاقا للمشكوك بالشائع الأغلب.

وأنت خبير بأنّه إن أراد بكون كلّ خبر وإنشاء غير الأمر للحال أنّ الإخبار والإنشاء إنّما يقعان في الحال فهو أمر ظاهر غني عن البيان وكذا الأمر ، فإنّ الطلب إنّما يقع في الحال ولا كلام لأحد فيه ، وإن أراد بكونها للحال أنّ متعلّق النسبة الخبريّة والإنشائيّة فيها للحال فهو ممنوع ، كيف ونحو : «زيد ضرب» و «عمرو يضرب» من الأخبار ليس للحال وقولك : «فلان حرّ بعد وفاتي» إنشاء ولا حرّيّة في الحال؟ وكذا قولك : «فلانة طالق إن دخلت الدار وفعلت كذا» على مذهب من يصحّ الطلاق به ، وكذا الحال في التمنّي والترجّي والاستفهام وغيرها ، فإنّ كلّا منها كالطلب لا يقع إلّا في الحال ، لكن المتمنّي والمترجّي والمستفهم منه قد يكون في الحال وقد يكون في الاستقبال ، وما عدا الطلب منها يمكن أن يكون في الماضي أيضا.

قوله : (قياس في اللغة).

قد عرفت أنّ ما ذكره المستدلّ ليس من باب القياس وإنّما تمسّك بالاستقراء كما يدلّ عليه قوله فكذا الأمر ، إلحاقا بالأعمّ الأغلب وحجّية الاستقراء في

٦٧

مباحث الألفاظ ممّا لا كلام فيه وهو عمدة الأدلّة في إثبات الأوضاع التركيبيّة وجرت على الرجوع إليه طريقة أهل العربيّة ؛ فالحقّ في الجواب ما قدّمناه.

نعم استدلّ في المقام أيضا تارة بحمل الأمر على النهي ، فإنّه للفور فكذا الأمر قياسا عليه ، واخرى بأنّ الطلب إنشاء كالإيقاعات من العتق والطلاق وكذا العقود مثل «بعت» و «اشتريت» فكما أنّ معاني تلك تقع على الفور فليكن هنا كذلك ، قياسا عليها بجامع الإنشائيّة ، وهذا الجواب يوافق أحد التقريرين المذكورين دون ما ذكر.

قوله : (وبطلانه بخصوصه ظاهر).

أي : عدم حجّية القياس في إثبات الأوضاع بخصوصه ظاهر ، كما ذهب إليه المعظم واتفق عليه المحقّقون ، حسبما قرّر في محلّه ، وإنّما ذلك بعد حصول الظنّ منه في المقام ، وإلّا فبعد حصول الظن منه فالظاهر حجّيّته في المقام إن قلنا بعدم حجّيّته في الأحكام ، لابتناء الأمر في مباحث الألفاظ على مطلق الظنّ ، بخلاف الأحكام الشرعيّة ، ولقيام الدليل عندنا على عدم جواز الرجوع اليه في الأحكام وعدم قيام دليل على المنع من الأخذ بالظنّ الحاصل منه في مباحث الألفاظ.

قوله : (فبالفرق بينهما).

محصّل البيان المذكور انّ المنشأ بإنشاء الأمر يعني الطلب الحاصل به لا يمكن تعلّقه بالحال ، لما مرّ من لزوم تحصيل الحاصل ، بخلاف غيره ممّا تعلّق به الأخبار وسائر الإنشاءات ، إذ يمكن تعلّقه بالحال ، فإذا كان الثاني موضوعا للحال لا يمكن أن يقاس عليه الأوّل مع عدم إمكان إرادة الحال.

وهذا الفرق وإن كان متّجها إلّا أنّه مبنيّ على كون مراد المستدلّ أنّ ما تعلّق به الإخبار أو شيء تعلّق به المنشأ بذلك الإنشاء للحال ، وليس كذلك لتعقلّه كثيرا بغير الحال أيضا ، وبه يبطل الاستدلال من أصله حسب ما قرّرناه.

قوله : (بأنّ الأمر قد يرد في القرآن).

ظاهر الاحتجاج المذكور إفادة الاشتراك اللفظي كما مرّ نظيره في كلام السيّد ، لكن عرفت أنّه يمكن حمل كلامه هنا على إثبات الاشتراك المعنوي بحمل

٦٨

استعماله في الأمرين على إطلاقه على الطلب الحاصل بكلّ من الوجهين ، وظاهر الإطلاقات كما يقتضي الحمل على الحقيقة في صورة استعماله في خصوص كلّ من المعنيين كذا يقتضي الحمل على الحقيقة في صورة إطلاقه عليهما.

والأوّل وإن لم يكن مرضيّا عند الجمهور وإنّما اختاره السيّد ومن وافقه إلّا أنّ الظاهر أنّ الثاني مرضي عند السيّد وعند غيره ، فحمل كلامه هنا على الثاني غير بعيد بملاحظة أوّل كلامه حسب ما أشرنا إليه وينطبق عليه دليله الثاني أيضا.

قوله : (إنّ الّذي يتبادر من إطلاق الأمر).

كأنّه أراد بذلك أنّ ظاهر الاستعمال إنّما يقتضي الحقيقة إذا لم يقم دليل على كون اللفظ مجازا فيه ، وهاهنا قد قام الدليل على كونه حقيقة في المعنى الأعمّ ـ أعني طلب الفعل مجازا في غيره أعني كلّا من الخصوصيّتين ـ نظرا إلى تبادر الأوّل وعدم تبادر شيء من الخصوصيّتين لتوقّف إيقاعهما على قيام القرينة ، أو أنّه أراد بذلك منع استعمال الأمر في الخصوصيّتين ، وإنّما المستعمل فيه بحكم التبادر هو القدر الجامع بينهما ، وكلّ من الخصوصيّتين إنّما يفهم من القرينة الخارجيّة.

وهذا الوجه هو الّذي استظهرناه في كلام السيّد ، وحينئذ فكلامه هذا موافق لما اخترناه ، كما هو الحال في دليله الثاني.

وجواب المصنّف مبنيّ على ما فهمه من كونه احتجاجا على الاشتراك اللفظي.

قوله : (ولهذا يحسن فيما نحن فيه).

لا يخفى أنّ جوابه بالتخيير بين الأمرين جواب بإرادة التراخي ، فإنّ المراد به كما عرفت جواز التراخي ، فليس ذلك معنى آخر حتّى يكون الجواب به على فرض كونه موضوعا لكلّ من الفور والتراخي ، خروجا عن ظاهر اللفظ وارتكابا للتجوّز كما زعمه.

نعم لو قال باشتراكه بين وجوب الفور ووجوب التراخي أمكن الإيراد عليه بذلك ، وليس كذلك.

* * *

٦٩
٧٠

معالم الدين :

فائدة

إذا قلنا : بأنّ الأمر للفور ، ولم يأت المكلّف بالمأمور به في أوّل أوقات الإمكان ؛ فهل يجب عليه الإتيان به في الثاني أم لا؟ ذهب إلى كلّ فريق.

احتجّوا للأوّل : بأنّ الأمر يقتضي كون المأمور فاعلا على الإطلاق ، وذلك يوجب استمرار الأمر. وللثاني : بأنّ قوله : إفعل يجري مجرى قوله : إفعل في الآن الثاني من الأمر ، ولو صرّح بذلك ، لما وجب الإتيان به فيما بعد. هكذا نقل المحقّق والعلّامة الاحتجاج ، ولم يرجّحا شيئا.

وبنى العلّامة الخلاف على أنّ قول القائل : إفعل ، هل معناه : إفعل في الوقت الثاني، فإن عصيت ففي الثالث؟ ، وهكذا. أو معناه : إفعل في الزمن الثاني ، من غير بيان حال الزمن الثالث وما بعده؟. فإن قلنا بالأوّل اقتضى الأمر الفعل في جميع الأزمان ، وإن قلنا بالثاني لم يقتضه ، فالمسألة لغويّة. وقد سبقه إلى مثل هذا الكلام بعض العامّة.

وهو وإن كان صحيحا ، إلّا أنّه قليل الجدوى ، إذ الإشكال إنّما هو في مدرك الوجهين اللذين بنى عليهما الحكم ، لا فيهما. فكان الواجب أن يبحث عنه.

٧١

والتحقيق في ذلك : أنّ الأدلّة الّتي استدلّوا بها على أنّ الأمر للفور ليس مفادها ، على تقدير تسليمها ، متّحدا. بل منها ما يدلّ على أنّ الصيغة بنفسها تقتضيه ، وهو أكثرها. ومنها ما لا يدلّ على ذلك ، وإنّما يدلّ على وجوب المبادرة إلى امتثال الأمر ، وهو الآيات المأمور فيها بالمسارعة والاستباق.

فمن اعتمد في استدلاله على الاولى ، ليس له عن القول بسقوط الوجوب حيث يمضي أوّل أوقات الإمكان مفرّ ، لأنّ إرادة الوقت الأوّل على ذلك التقدير بعض مدلول صيغة الأمر ، فكان بمنزلة أن يقول : «أوجبت عليك الأمر الفلاني في أوّل أوقات الإمكان» ويصير من قبيل الموقت. ولا ريب في فواته بفوات وقته.

ومن اعتمد على الأخيرة ، فله أن يقول بوجوب الإتيان بالفعل في الثاني ؛ لأنّ الأمر اقتضى بإطلاقه وجوب الإتيان بالمأمور به في أيّ وقت كان ، وإيجاب المسارعة والاستباق لم يصيّره موقّتا وإنّما اقتضى وجوب المبادرة ، فحيث يعصي المكلّف بمخالفته ، يبقى مفاد الأمر الأوّل بحاله. هذا.

والذي يظهر من مساق كلامهم : إرادة المعنى الأوّل : فينبغي حينئذ القول بسقوط الوجوب.

٧٢

قوله : (ذهب إلى كلّ فريق).

فقد حكي الأوّل من أبي بكر الرازي وأبي الحسين البصري تفريعا على القول بالفور وكذا القاضي عبد الجبّار ، وحكى الثاني عن الكرخي وأبي عبد الله البصري.

قوله : (إنّ الأمر يقتضي كون المأمور فاعلا على الإطلاق).

يمكن أن يقال : إنّ ما ذكره مناف لما اختاره من الدلالة على الفور ، إذ القائل المذكور إنّما يقول : باقتضائه كون المأمور فاعلا على سبيل الفور لا على الإطلاق.

ويمكن أن يقال : إنّ القائل المذكور قد جعل مقتضى الأمر شيئين :

كون الفعل حاصلا من المأمور به مطلوبا إيجاده حيث أسند الفعل إليه من الجهة المذكورة حسب ما مرّ توضيح القول فيه.

والثاني : كون ذلك الفعل حاصلا منه على الفور سواء قلنا بكون الثاني أيضا مدلولا ابتدائيا للأمر أو قلنا بكون ذلك من مقتضيات الوجوب ، لظهور الوجوب في الفور ، فيقتضي الأمر بالفعل الأمرين المذكورين فلابدّ أوّلا من الجمع بين مقتضييه فإن عصى وخالف الأوّل بقى الثاني.

والمصنّف اختصر البيان المذكور والمذكور في النهاية يقارب ما قرّرناه ، حيث قال في بيان الحجّة المذكورة : إنّ لفظة «إفعل» يقتضي كون المأمور فاعلا ، وهو يوجب بقاء الأمر ما لم يصر المأمور فاعلا ، ويقتضي أيضا وجوب المأمور به ، ووجوبه يقتضي كونه على الفور وإذا أمكن الجمع بين موجبيهما لم يكن لنا إبطال أحدهما ، وقد أمكن الجمع بأن يوجب الفعل في أوّل أوقات الإمكان ، لئلّا ينتقض وجوبه فإن لم يفعله أوجبناه في الثاني ، لأنّ مقتضى الأمر كون المأمور فاعلا ولم يحصل بعد.

وتوضيح المقام : أنّ الفور إمّا أن يلحظ قيدا للطلب ، فإنّ الطلب للفعل يمكن أن يكون على وجه الفور وأن يكون على وجه التراخي ، أو يلحظ قيدا للمطلوب والوجهان اعتباران لحقيقة واحدة ، إذ ليس هناك إلّا طلب الفعل على سبيل الفور فصحّ أن يلحظ قيدا للطلب وقيدا للمطلوب.

٧٣

والظاهر الأوّل ، إذ الفوريّة إنّما تستفاد من الهيئة ، ووضعها من قبيل أوضاع الحروف ؛ فإنّ الهيئات موضوعة للمعاني الناقصة الآليّة الرابطيّة ، فكما أنّ الوجوب الّذي يستفاد من الصيغة معنى حرفي حسب ما مرّ بيانه فكذا الفور على القول به ، فيكون قيدا ملحوظا في الطلب ويجعل معه مرآتا ، لملاحظة حال الحدث مع فاعله المنسوب إليه ، فالحدث إنّما يحمل على فاعله من حيث كونه على وجه الفور.

فيحصل بالطلب المفروض المستفاد من هيئة الأمر أمران : طلب للفعل وطلب للفور ، فالفوريّة بالملاحظة الاولى من حيث دلالة الهيئة عليه ملحوظة آلة ومرآتا ، إلّا أنّه بالملاحظة الثانية ملحوظة استقلالا ، كما هو الحال في نفس الطلب اللازم من ذلك تقييد المطلوب أيضا ولو اخذت أوّلا قيدا للمطلوب كانت ملحوظة على وجه الاستقلال من أوّل الأمر ، كما هو الحال في المطلوب المتقيّد به ، ويلزم ذلك من تعلّق الطلب بها أيضا ، إلّا أنّ ذلك لا يلائم وضع الهيئة.

وكيف كان فعلى كلّ من الوجهين فإمّا أن ينحل ذلك إلى طلبين أو مطلوبين أو يكون هناك طلب ، أو مطلوب واحد متقيّد بذلك من غير أن ينحل ذلك إلى طلبين أو مطلوبين ، فلا بقاء لمطلق طلب الفعل مع انتفاء ذلك القيد.

والظاهر : أنّ ذلك مبنى النزاع في المقام.

فالمختار عند جماعة هو عدم ارتباط طلب الفور بطلب الفعل ، نظرا إلى المنساق من الأمر في المقام هو كون الفعل مطلوبا مطلقا ، غاية الأمر أن يفيد الأمر وجوب الفور أيضا ، وعليه مبنى الاستدلال المذكور.

والمختار عند آخرين تقييده ، لكون الطلب والمطلوب هنا شيئا واحدا حتّى أنّه لو قيّد به لفظا عدّ مجموع القيد والمقيد شيئا واحدا ، فينتفي المقيّد بفوات قيده على ما هو التحقيق.

والأوضح في المقام هو الوجه الأوّل ، وإن كان المنساق من تقييده به في اللفظ هو الاتحاد والانتفاء بانتفاء القيد ، نظرا إلى أنّ ما ذكر هو المفهوم من الأمر

٧٤

عرفا لو قلنا بدلالة الأمر على الفور ، فالمنساق منه بحسب فهم العرف هو انحلال المطلوب إلى أمرين من مطلق الفعل وخصوصيّته الفور ، إذ مع عدم امتثاله للفور لا يسقط مطلق طلب الفعل في فهم العرف ، فالمفهوم منه عرفا مطلق الفعل مطلوبا للأمر على كلّ حال وإن كانت الفوريّة أيضا مطلوبة ، سيّما إذا فسّرنا الفور بالتعجيل في حصول المأمور به مطلقا بأن يفيد مطلوبيّة الفور متدرّجا ولو بالنسبة إلى الأزمنة المتأخّرة ، إذ حينئذ يتعيّن فيه الوجه المذكور من غير مجال للاحتمال الآخر.

وما ذكره في الحجّة المذكورة من أنّ الأمر يقتضي كون المأمور فاعلا على الإطلاق ، يعني : أنّ مفاد الأمر بحسب أهل العرف هو كون الفعل مطلوبا من المأمور به مطلقا ، مرادا منه إيقاعه سواء أتى به فورا ليحصل به مطلوبه الآخر ـ أعني الفور ـ أو أتى به متراخيا فمطلوب الأمر لا يفوت بفوات الفوريّة في فهم العرف.

فيظهر من ذلك انحلال الطلب المذكور إلى أمرين ، وعدم كون المطلوب شيئا واحدا ليفوت بفوات القيد حسب ما هو الظاهر فيما إذا ذكر القيد ، كما في الموقّت ، وكان الوجه فيه ما أشرنا إليه من كون الفور في المقام معنى حرفيّا غير مأخوذ قيدا على نحو قولك : «صم غدا» فلا يتبادر منه في المقام ما يتبادر من تلك اللفظة وكيف كان فالمتّبع فهم العرف ، وهو الفارق بين المقامين.

فظهر أن ما ذكره المصنّف ـ من لزوم اختيار القول بفوات مطلوبيّة الفعل بفوات القيد على القول بدلالة الصيغة على الفور ـ ليس على ما ينبغي ، وقد عرفت شهادة العرف بخلافه.

قوله : (إفعل في الآن الثاني من الأمر).

ظاهر ذلك تفسير الفور بالزمان المتعقّب للأمر مطلقا ، كما مرّت الإشارة إليه وما ذكره ـ من جريان الأمر المطلق حينئذ مجرى التصريح بذلك ـ ممنوع بعد ظهور الاختلاف منها في فهم العرف ؛ مضافا إلى ما عرفت من الوجه في الفرق بينهما.

قوله : (وبنى العلّامة رحمه‌الله الخلاف).

ما ذكروه راجع إلى ما ذكرناه من الوجهين ، وقد اعتبر الفوريّة مطلوبة بحسب

٧٥

مراتبها ، فينحلّ الأمر المطلق المتعلّق بالفعل إلى ما ذكره من التفصيل ، وإلّا فلا وجه لدعوى كون التفصيل المذكور ممّا وضعت الصيغة بإزائه ، فمقصوده بذلك ابتناء المسألة على معرفة مفاد الصيغة في فهم العرف من الوجهين المذكورين ، ولا ابتناء له على غيره من الرجوع إلى الاستصحاب أو غيره ، ولذا فرّع على ذلك قوله : (فالمسألة لغويّة).

قوله : (وهو وإن كان صحيحا ، إلّا أنّه قليل الجدوى).

أراد بذلك أنّ ابتناء القولين المذكورين على المعنيين صحيح لا غبار عليه ، لكن لا ثمرة في ذلك ، إذ المقصود في المقام تعيين أحد الوجهين وإلّا فتحصيل مفهومين ملزومين لطرفي الخلاف ممّا يمكن في كلّ خلاف ، ولا ثمرة فيه بعد خفاء المبنى على نحو خلاف الأصل.

وأورد عليه المدقّق المحشّي بأنّ ما سلّمه من صحّة البناء ممنوع ، واستلزام المعنى الأوّل لما بنى عليه وإن كان ظاهرا إلّا أنّ تفريع الثاني على الثاني غير ظاهر ، لاحتمال أن يقال بالأوّل ، بناءا على الوجه الثاني أيضا ، حسب ما قيل في الموقّت من عدم توقّف القضاء على الأمر الجديد وإذا احتمل القول الأوّل على الوجه الثاني بطل ما ذكر من المبنى ، إذ لا يبتنى القول الأوّل على الوجه الأوّل ولا يستلزم الوجه الثاني للقول بالثاني.

ويمكن دفعه : بأنّ مقصود العلّامة رحمه‌الله كون الخلاف في المقام في مدلول الصيغة بحسب اللغة أنّها هل تفيد لفظا بقاء المطلوب بعد فوات الفور أو أنّها لا تفيد إلّا وجوب الفعل فورا ولا دلالة فيها كذلك على وجوب الفعل بعد ذلك؟ ولذا قال : «إن المسألة لغويّة» وحينئذ فالقول ببقاء الوجوب من جهة الاستصحاب ـ كما هو مقتضى الاحتمال المذكور ـ ممّا لا ربط له بمدلول الصيغة حسب ما جعله محلّ الكلام.

وأنت بعد التأمّل فيما ذكرنا تعرف اندفاع ما أورده المصنّف عليه من قلّة الجدوى ، فإنّ مقصود العلّامة بذلك بيان كون النزاع في ذلك مبنيّا على تعيين معناه اللغوي من الوجهين المذكورين ، فيرجع في التعيين إلى العرف واللغة كما نصّ

٧٦

بقوله : «فالمسألة لغويّة» مريدا بذلك بيان كون المرجع فيه العرف واللغة دون غيرهما من الوجوه العقليّة ، وليس مقصوده بذلك بيان الحقّ في المقام ليرد عليه أنّه لا يتمّ ذلك بمجرّد ما ذكره ، بل لابدّ من بيان مدرك الوجهين ليتّضح به الوجه فيما هو الحقّ في المقام.

قوله : (ليس له عن القول بسقوط الوجوب).

قد عرفت عدم لزوم التزام القائل المذكور به وقياسه على التقييد الصريح فاسد بعد ملاحظة فهم العرف.

فإنّ وجوب الفعل والفور بلفظ واحد لا يقتضي تقييد أحدهما بالآخر ، سيّما بعد ما عرفت من كون الفوريّة كالوجوب معنى حرفيّا رابطيّا ، وخصوصا إذا قلنا بكون الفور المفهوم من الصيغة هو لزوم التعجيل فيه مطلقا ، فإنّه يلزم بقاء طلب الفعل.

فكون مدلول الصيغة على القول بالفور بمنزلة أن يقال : «أوجبت عليك الشيء الفلاني» في أوّل أوقات الإمكان محلّ منع ، كيف ولو كان كذلك لزم على القول ببقاء التكليف بعد فوات الفور سقوط اعتبار الفوريّة في بقيّة المدّة؟ وهو خلاف المعروف بين هؤلاء في ظاهر كلامهم ، وإنّما حكي ذلك قولا للبعض.

وقد عرفت توضيح القول بما ذكره المدقّق المحشّي من أنّه لا شكّ أنّ الفور لو كان مدلولا للصيغة لكان قيدا للفعل ، إذ لا يرتكب أحد أنّ مدلول الأمر شيئان منفصلان أحدهما عن الآخر ، فكان معنى الصيغة حينئذ : أن «إفعل الفعل في الوقت الفلاني» أي: الوقت المتعقّب لزمان التكلّم.

ومن البيّن أيضا أنّه لا فرق بين التقييد بزمان وزمان ، فما يترتّب على التوقيت محلّ نظر ، إذ فيه :

أوّلا ما عرفت من الفرق بين تقييد المطلق بقيد مصرّح به وبين دلالة الصيغة على لزوم الخصوصيّة لاحتمال دلالته عليه على وجه لا يتقيّد به ذلك المطلق فإنّ ذلك إنّما يتبع وضع الواضع ، فإذا كان فهم العرف مساعدا عليه فأيّ مانع منه؟ وقياسه على الآخر فاسد لا وجه له.

٧٧

وثانيا : أنّ ما ذكره إنّما يتمّ لو كان مفاد الصيغة هو خصوص الفعل في أوّل أزمنة الإمكان حتّى أنّه لو فات الفعل في أوّل الأزمنة منه فات الفوريّة.

وأمّا إن قيل بوجوب الفور بمعنى لزوم التعجيل فيه على حسب الإمكان فيتدرّج الفور على حسب مراتب التأخير ، فلا يعقل كون تقييد المطلق به قاضيا بسقوط الواجب حينئذ ، لفوات الفعل في أوّل أزمنة الإمكان ، بل هو قاض بخلافه.

فما ذكره المصنّف من المبنى غير ظاهر ، والتحقيق فيه ما ذكره العلّامة كما أشرنا إليه ، وحيث إنّ المسألة لغويّة فلابدّ من ترجيح أحد الوجهين اللذين ذكرهما بالرجوع إلى اللغة أو فهم أهل العرف ، ليستكشف به الوضع اللغوي حسب ما قرّرنا.

قوله : (ولا ريب في فواته بفوات وقته).

يريد بذلك بيان الحقّ في المسألة وأنّه بناء على الوجه المذكور يفيد التوقيت ، ومع إفادته التوقيت لا ريب في فواته بفوات وقته ، بناءا على ما هو الحقّ في تلك المسألة وإن خالف فيه من خالف فإنّ مجرّد وجود الخلاف في المسألة لا يجعلها ظنيّة فضلا عن كونها مجهولة.

فتبيّن بذلك أنّه على القول بدلالة صيغة الأمر على الفور يكون الصواب هو القول بفوات الوجوب عند فوات الفور ، ولا ينافي وجود القول بعدم فوات الموقّت بفوات وقته وكونه محلّا للخلاف.

نعم لو أراد بذلك بيان عدم الخلاف في الفوات على القول المذكور تمّ ذلك وليس بصدده ، بل هو فاسد قطعا. فالإيراد بكون ذلك معركة للآراء وقد قال جمّ غفير بكون القضاء بالأمر الأوّل فمجرّد كون الفور مدلول الصيغة لا يكفي في تحقيق المقام كما ترى ، إذ ليس مقصود المصنّف تحقيق المقام بمجرّد كون مدلول الصيغة ذلك ، بل بعد ما قرّر من كون مفاد الصيغة هو التوقيت بما تقرّر عنده واتّضح من فوات الموقّت بفوات وقته ولا ينافي ذلك وقوع الخلاف فيه.

قوله : (فحيث يعصي المكلّف بمخالفته).

أورد عليه : بأنّ طلب الفور والسرعة إن لم يقتض تقييد الطلب بالزمان المعيّن

٧٨

لم يكن قاضيا به في الصورة الاولى أيضا ، وإن اقتضى التقييد به فلا يصرفه عن ذلك كون الدالّ عليه خارجا ، كما إذا دلّ دليل من خارج على كون الواجب موقّتا ، فإنّ ذلك الواجب أيضا يفوت بفوات وقته من غير فرق بينه وبين ما دلّ الخطاب الأوّل على توقيته ، فلا فرق في ذلك بين الصورتين حسب ما قرّره.

وضعفه ظاهر ، إذ ليس مناط كلام المصنّف الفرق بين التوقيتين ، بل غرضه أنّه لو دلّ نفس الصيغة على إرادة إيقاعه في الزمان الأوّل كان ذلك لا محالة مقيّدا للطلب المذكور ، وحيث إنّه طلب واحد يلزم منه التوقيت ، إذ ليس مفاد التوقيت إلّا طلب الفعل في الوقت ، وأمّا لو دلّ الخارج على وجوب المسارعة فلا يلزم منه التوقيت وتقييد الطلب الأوّل به حتّى يكون المطلوب مقيّدا بالوقت المفروض ، إذ لا دلالة في ذلك على اتحاد المطلوب ، بل الظاهر من إطلاق الدليلين تعدّد المطلوب ، فنفس الفعل على إطلاقه مطلوب والمسارعة إليه مطلوب آخر فلا باعث للحكم بفوات الفعل عند فوات الفور.

نعم لو دلّ الدليل الخارجي على توقيت ذلك الواجب بالفور ـ كما هو الحال في الموقّت الّذي ثبت التوقيت فيه من الخارج ـ كان الأمر على ما ذكره ، لأنّ ما دلّ على وجوب المسارعة والاستباق من الآيتين لا دلالة فيه على ذلك.

فدعوى أنّ مجرّد الأمر بالمسارعة والاستباق قاض بتوقيت الفعل بذلك حقيقة خالية عن الدليل ، بل الأصل وظاهر الإطلاق قاضيان بخلافه.

قوله : (والّذي يظهر من سياق كلامهم).

لا يخفى أنّ كلامهم كالصريح في ذلك ، فإنّ الكلام في مفاد الصيغة ومقتضاه على ما هو الحال في دلالته على الوجوب ، فالترديد الّذي ذكره المصنّف في المقام غير متّجه.

نعم هناك قول لبعض المتأخّرين بوجوب الفور من الخارج بدلالة الشرع عليه ، وهو قول شاذّ ليس التفريع المذكور مبنيا عليه كما لا يخفى.

* * *

٧٩
٨٠