هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٨٣

وإنّما يسقط الوجوب بفعل البعض ، لقيام الإجماع على عدم بقاء التكليف مع الإتيان بالبعض.

ويدفعه : أنّا نقول بقيام الوجوب بكلّ منها ؛ لكن لا على سبيل التعيين ، بل على التخيير حسب ما قرّرنا. فإن أراد به ذلك فحقّ ، ولا يثبت به ما ادّعاه. وإن أراد به الوجه الأوّل فلا ينهض ذلك بإثباته.

وإن شئت قلت : إنّه لا مانع من تعلّق الوجوب بأحد الشيئين أو الأشياء ، فإنّه أيضا معنى متعيّن بحسب الواقع يصحّ تعلّق الوجوب به. ألا ترى أنّه يصحّ أن يوجب المولى على عبده أحد الشيئين فيتحقّق امتثاله بأيّ منهما؟! وقد عرفت أنّ هذا المعنى يتصوّر على وجهين :

أحدهما : أن يكون المطلوب نفس مفهوم أحدهما دون خصوصية كلّ من الأمرين ، وإنّما يتعلّق الطلب بكلّ منهما من حيث اتّحاده بالمفهوم المذكور. لكن قد عرفت أنّ ذلك غير حاصل في المقام ، إذ لا مطلوبيّة للمفهوم المذكور أصلا ، وإنّما المطلوب خصوص كلّ من الفعلين أو الأفعال.

ثانيهما : بأن يكون مرآة لملاحظة كلّ من الأمرين على وجه البدليّة ، فيتعلّق الوجوب بكلّ منهما تخييرا ، وحينئذ فتعلّق الأمر بالمفهوم المفروض إنّما هو في مجرّد اللحاظ والاعتبار ، وقيام الوجوب حقيقة بكلّ من الفعلين أو الأفعال على الوجه الّذي قرّرناه ، فيرجع ذلك إلى التقرير الأوّل.

وهناك وجه ثالث ، وهو : أن يكون أحدهما ملحوظا على جهة الإبهام فلا يتعلّق الوجوب بالأمر الكلّي الشامل للأمرين الحاصل بحصول أيّ منهما. وهذا الوجه هو الّذي أبطله المستدلّ ، وهو فاسد كما زعمه ، إلّا أنّه لا ينحصر الأمر فيه.

واحتجّ على كون الواجب واحدا معيّنا في الواقع ـ على ما قيل به في كلّ من القولين الأخيرين من كون الواجب واحدا معيّنا ـ بأنّه لو فعل الجميع فالمقتضي لسقوط المفروض : إمّا الجميع ، وإمّا كلّ واحد ، وإمّا واحد مبهم أو معيّن. لا سبيل إلى الأوّل وإلّا لزم وجوب الجميع ، ولا الثاني للزوم توارد العلل المستقلّة على

٣٠١

المعلول الواحد ، ولا الثالث لعدم جواز استناد الأمر المعيّن إلى المؤثّر المبهم ، فتعيّن الرابع. وأما سقوط الواجب بالإتيان به وبالآخر فبقيام الإجماع إذن على السقوط.

ويمكن تقرير مثل ذلك بالنسبة إلى قيام الوجوب حينئذ ، فيقال : لو فعل الجميع فالوجوب حينئذ : إمّا قائم بالمجموع ، أو بكلّ منها ... إلى آخره. وكذا بالنسبة إلى استحقاق الثواب بأن يقال : إنّ استحقاق ثواب الواجب إمّا بفعل الجميع أو بكلّ منها ... إلى آخره. وبالنسبة إلى استحقاق العقاب لو أخلّ بها أجمع فيقال : إنّ استحقاق العقاب حينئذ : إمّا لترك الجميع ، أو لترك كلّ منها ... إلى آخره فهذه وجوه عديدة قد ذكر الاحتجاج بها لذلك.

إذا تقرّر ذلك فيمكن أن يحتجّ لأوّل القولين المذكورين بحصول ذمّة (١) المكلّف إجماعا بكلّ من الفعلين أو الأفعال ، فله اختيار أيّ منهما شاء ، فيتعيّن القول بسقوط الواجب بذلك المعيّن وببدله ، كما هو المدّعى.

ولثانيهما بأنّه لا وجه لأداء الواجب بفعل غيره ، ومن المعلوم أداء الواجب في المقام بكلّ من الفعلين ، فلا بدّ من التزام اختلاف المكلّف به بحسب اختلاف المكلّفين.

وأنت خبير بوهن جميع الوجوه المذكورة ، إذ لا مانع من كون أحد تلك الأفعال قاضيا بسقوط الواجب ، إذ هو معنى معيّن بحسب الواقع يصدق على كلّ منها على سبيل البدليّة، ويصحّ تفرّع الأحكام عليه ، ألا ترى أنّه لو كان له في ذمّة غيره دينار فدفع إليه دينارين على أن يكون أحدهما وفاء لدينه مسقطا لما في ذمّته ، والآخر قرضا عليه مشتغلا لذمّته صحّ ذلك قطعا مع عدم تعيين الخصوصيّة ، ومع الغضّ عنه نقول : إنّه إمّا أن يأتي بالجميع تدريجا ، أو دفعة.

فعلى الأوّل إنّما يقضي الأوّل بالبراءة دون غيره مما يأتي به بعده. وعلى الثاني فالبراءة حاصلة بكلّ منهما ، نظرا إلى تقارنهما ، ولا مانع من توارد العلل

__________________

(١) في (ف) : اشتغال ذمّة.

٣٠٢

الشرعيّة فإنّها معرّفات ، وفيه تأمّل. وممّا قرّرنا يظهر الجواب عن الوجوه الأخر فلا حاجة إلى التفصيل ، فظهر بذلك ضعف كلّ من القولين المذكورين.

قوله : (يعلم أنّ ما يختاره المكلّف هو ذلك المعيّن).

يعني أنّه إذا أتى المكلّف بأحد تلك الأفعال فإنّما يأتي بما هو الواجب عليه في علم الله سبحانه ، فإنّما أوجب الله عليه خصوص ما علم أنّه يختاره من تلك الأفعال فيميّز الواجب عند المكلّف أيضا.

هذا إذا أتى بواحد من تلك الأفعال. وأمّا إذا تركها أجمع أو أتى بالجميع دفعة فلا يتعيّن عندنا ، ولو أتى بما يزيد على الواحد دفعة انكشف عدم وجوب الباقي عليه ، إلّا أنّه يدور ما هو الواجب عليه في علم الله تعالى بين ما أتى به من تلك الأفعال.

قوله : (ولقد أحسن المحقّق ... الخ).

ما ذكره ظاهر ، لكن لو فسّر مختار الأشاعرة بتعلّق الوجوب بمفهوم أحدها الصادق على كلّ منها ـ كما اختاره بعض الأفاضل في تفسيره ويستفاد من كلام العلّامة رحمه‌الله ـ أمكن تفريع ثمرة مهمّة عليه ، بناء على القول بجواز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد من جهتين ، فإنّه لا مانع حينئذ من تعلّق الوجوب بأحدهما ، ولو اختصّ أحد تلك الأفعال بالتحريم لاختلاف محلّ الوجوب والحرمة بحسب الحقيقة وإن اجتمعا في شيء واحد بسوء اختيار المكلّف حسب ما قرّروه بالنسبة إلى سائر الكلّيّات فاعتراف الفاضل المذكور بقلّة الثمرة بين القولين المذكورين مع ذهابه إلى جواز اجتماع الأمر والنهي من جهتين ليس على ما ينبغي.

وينبغي التنبيه في المقام على امور :

أحدها : أنّ قضيّة الوجوب التخييريّ ـ حسب ما قرّرناه ـ حصول الامتثال بفعل واحد منها ، فإذا أتى بأحدها سقط التكليف بالباقي سقوط الواجب بأدائه ولم يشرع له الإتيان بالباقي ، لا على جهة الوجوب ولا الاستحباب ، إلّا أن يقوم دليل من الخارج على الرجحان ، ولا ربط له بالمقام. وتعلّق الأمر بكلّ من تلك الأفعال

٣٠٣

لا يقضي بمشروعيّة الإتيان بها مطلقا ، لما عرفت من أنّ قضيّة تلك الأوامر تحصيل أداء واحد لا أزيد.

وقد يجيء على قول من يقول بتحقّق الامتثال بالتكرار بعد الإتيان بالمرّة فيما إذا تعلّق الأمر بالطبيعة ـ كما اختاره المصنّف ـ حينئذ مشروعيّة الفعل هنا أيضا بعد الإتيان بالبعض ، بناء على القول بتعلّق الأمر هنا بمفهوم أحدها الصادق على كلّ منها.

وفيه : أنّ هناك فرقا بين المفهوم المذكور وسائر المفاهيم ، حيث إنّه إنّما يصدق على كلّ منها انفرادا على سبيل البدليّة ـ كالنكرة ـ من غير أن يصدق عليهما معا ، بخلاف سائر الطبائع فإنّ وحدتها النوعيّة لا تنافي الكثرة فرديّة ، فهي صادقة على الأفراد المتكثّرة كصدقها على الفرد الواحد ، فيمكن القول بحصول الامتثال بأداء الأفراد المتكثّرة من حيث حصول الطبيعة في ضمنها ، بخلاف المفهوم المذكور إذ لا يمكن صدقه على المتعدّد ، فلا يصحّ فيه تحقّق الامتثال بالمتعدّد.

والقول بتحقّق الامتثال ثانيا بالإتيان بالآخر مدفوع : بأنّ الأمر الواحد إنّما يقتضي امتثالا واحدا ، وليس المقصود من تحقّق الامتثال هناك بالمتعدّد تعدّد الامتثال أيضا ، إذ لا وجه له مع اتّحاد الأمر ، وعدم دلالته على التكرار ، بل المراد أنّه كما يحصل الامتثال بالإتيان بالفرد الواحد لحصول الطبيعة به كذا يحصل بالأفراد المتعدّدة من حيث حصول الطبيعة في ضمنها ، فيكون الإتيان بالأفراد المتعدّدة امتثالا واحدا كالإتيان بالفرد الواحد ، حسب ما مرّ تفصيل القول فيه.

ثانيها : أنّه لو أتى بتلك الأفعال دفعة لم يكن أداء المكلّف به إلّا بواحد منها حسب ما يقتضيه التكليف المذكور على ما قرّرناه ، فلا يتّصف بالوجوب إلّا واحد منها. ويحتمل القول باتّصاف جميع ما يأتى به من تلك الأفعال بالوجوب على نحو اتّصاف نفس تلك الأفعال ، فكما أنّ كلّا من الأفعال المفروضة واجبة على المكلّف بالوجوب التخييريّ بالمعنى المتقدّم فكذا كلّ ما أتى به منها دفعة متّصف

٣٠٤

بالوجوب بالمعنى المذكور ، فيكون كلّ واحد ممّا أتى به مطلوبا صحيحا واجبا بالوجوب التخييري.

ويحتمل أيضا أن يقال بوجوب الجميع من حيث أداء الواجب به بناء على أنّ الواجب هو القدر الجامع من تلك الأفعال ، وهو كما يحصل بالإتيان بكلّ واحد منها كذا يحصل بالإتيان بالمجموع على نحو سائر الطبائع الحاصلة في ضمن الواحد والمتعدّد.

ويستفاد من العلّامة رحمه‌الله اختيار الاحتمال الأوّل ، حيث ذكر في النهاية في جواب ما قرّره الخصم فيما إذا أتى بالجميع دفعة : أنّه هل يستحقّ الثواب على الجميع؟ وأنّه هل ينوي الوجوب بفعل الجميع؟ وأنّه لو أخلّ بها أجمع هل يستحقّ العقاب على ترك كلّ واحد منها؟

فقال : إنّه يستحقّ على فعل كلّ منها ثواب المخيّر لا المضيّق ، بمعنى أنّه يستحقّ على فعل امور كان يجوز له ترك كلّ واحد بشرط الإتيان بصاحبه ، لا ثواب فعل امور كان يجب عليه إتيان كلّ واحد منها بعينه.

ثمّ ذكر : أنّ الحال كذلك في الثاني. وقال في الثالث : إنّه يستحقّ العقاب على ترك امور كان مخيّرا في الإتيان بأيّها كان وترك أيّها كان بشرط إتيان صاحبه.

فإنّ الظاهر ممّا ذكره صحّة الإتيان بالجميع ، ووقوع تلك الأفعال واجبا ، لكن بالوجوب التخييري مستحقّا عليها أجر الواجب المخيّر ، أعني المشتمل على جواز الترك إلى بدل.

وقال في التهذيب في جواب احتجاج من زعم أنّ الواجب واحد معيّن : بأنّه إذا فعل الجميع فإمّا أن يسقط الفرض بالجميع فيلزم القول بوجوب الجميع ، وهو خلف ، أو يسقط بكلّ واحد منها فيلزم اجتماع العلل على المعلول الواحد ، إلى آخر ما ذكر.

والجواب : أنّ هذه معرّفات ، فظاهرها اختيار اتّصاف الجميع بالوجوب التخييري وسقوط الواجب بكلّ منها على نحو ما يستفاد من النهاية.

٣٠٥

وقد ذكر السيّد العميدي في المنية هذا الجواب من دون إيراد عليه ، فظاهره القول به أيضا. إلّا أنّه قال : ويمكن الجواب باختيار القسم الأوّل ، والمنع من لزوم وجوب الجميع على سبيل الجمع على تقديره ، وإنّما يلزم ذلك لو لم يسقط الفرض إلّا بالجميع ، لكن لا يلزم من سقوط الفرض به عدم سقوطه بغيره ، والحقّ أنّ المسقط للفرض شيء واحد وهو الأمر الكلّي الصادق على كلّ واحد من الأفراد ، وكون المجموع أو كلّ واحد من أفراده مسقطا إنّما هو لاشتماله على ذلك الأمر الكلّي ، لا بخصوصه.

وظاهر ذلك بل صريحه اختيار الاحتمال الثاني. وأنت خبير بوهن الوجهين. أما الأوّل فبأنّه وإن اتّصف كلّ من الأفعال المفروضة بالوجوب التخييري على الوجه المذكور إلّا أنّ الخروج عن عهدة ذلك التكليف إنّما يكون بفعل واحد منها ـ حسب ما عرفت ـ فكيف يصحّ القول باتّصاف الجميع بالوجوب مع عدم حصول الامتثال وأداء الواجب إلّا بواحد منها؟ وغاية ما يلزم من وجوب الجميع على الوجه المفروض صلوح كلّ من تلك الأفعال أداء للواجب ، وذلك لا يقضي بحصول الامتثال بكلّ منها على ما هو الشأن في الواجبات التعيينيّة.

وأمّا الثاني فبأنّ الأمر الكلّي الملحوظ في المقام ليس إلّا مفهوم أحدها ، وقد عرفت أنّه لا يصدق على المجموع قطعا ، وإنّما يصدق على الآحاد على سبيل البدليّة ، فكيف يجعل الجميع مصداقا له كالآحاد؟ ومجرّد كونه كلّيا لا يقضي بصدقه على الكثير كصدقه على البعض ، حسب ما قرّر ذلك في الأوامر المتعلّقة بالطبائع الكلّية.

والحاصل : أنّ المفهوم المذكور ملحوظ على وجه لا يصدق إلّا على فعل واحد ، لكنّ ذلك الفعل يدور بين تلك الأفعال ، فبملاحظة ذلك ينطبق المفهوم المذكور على كلّ من تلك الأفعال ، فإذا أتى بأيّ منها قضى بالإجزاء ، ولا يعقل صدقه على المتعدّد أصلا ، ولو سلّمنا أنّه كسائر الطبائع الكلّية يصدق على الواحد والكثير فالقول بحصول الامتثال هناك بالكثير محلّ نظر ، مرّت الإشارة إليه في بحث المرّة والتكرار.

٣٠٦

ثالثها : أنّه إذا أتى بما يزيد على الواحد : فإن أتى به تدريجا فلا إشكال في صحّة الأوّل وحصول الإجزاء به ، وكان إتيانه بالثاني على وجه امتثال الأمر المفروض بدعة محرّمة كما مرّ بيانه ، وعلى غير تلك الجهة لا مانع منه ، كما إذا ثبت هناك رجحان لذلك الفعل من الخارج ، أو لم يكن الرجحان ملحوظا فيه إذا لم يكن من العبادات.

وأمّا إذا أتى بها دفعة : فإن كان إتيانه بالزائد سائغا مشروعا فلا إشكال ظاهرا في الصحّة وحصول الامتثال ، ويكون الواجب حينئذ أحدها الدائر بينها على سبيل البدليّة.

فإن قلت : إنّ نسبة أحدها على الوجه المفروض إلى كلّ واحد منها على وجه واحد ، فإمّا أن يجب الكلّ ويكون كلّ منها أداء للواجب وقد عرفت فساده. وإمّا أن لا يجب الكلّ فالواجب منها حينئذ : إمّا واحد معيّن ولا وجه له أيضا ، لانتفاء المرجّح للتعيين وبطلان الترجيح بلا مرجّح. أو واحد غير معيّن ، وهو غير ممكن أيضا ، لوضوح عدم اتّصاف غير المعيّن بالوجوب مع سلبه عن كلّ واحد واحد بالخصوص ، فكيف يصحّ القول باتّصاف أحدها بالوجوب مع بطلان الوجوه الثلاثة.

قلت : قد اختار بعضهم في المقام حصول الامتثال بأكثرها ثوابا ، حيث حكم باستحقاقه ثواب أعلاها وأكثرها ثوابا. واختاره السيّد في الذريعة.

وقال الشيخ في العدّة بعد ما حكم بعدم لزوم بيان ذلك : إنّ ما يعلمه الله أنّه لا يتغيّر عن كونه واجبا إذا فعله مع غيره يثيبه عليه ثواب الواجب واستحقّ العقاب بترك ذلك بعينه ، ومحصّله كون المثاب عليه والمعاقب عليه متعيّنا حينئذ في الواقع ، وفي علمه تعالى ، غير معيّن عندنا ، فيكون الواجب المبرئ للذمّة أيضا كذلك.

وهو غريب بعد اختياره وجوب الجميع وقوله بعدم الفرق بين تلك الأفعال في الوجوب والمصلحة القاضية به.

٣٠٧

وقد عرفت ممّا حكيناه عن العلّامة رحمه‌الله والسيّد العميدي ظهوره في اتّصاف الجميع بالوجوب ، بل كلام الأخير صريح في أداء الواجب حينئذ بالكلّ ، وهذه الوجوه كلّها ضعيفة ، وقد ظهر الوجه في ضعفها ممّا قرّرناه ، ولا حاجة إلى التفصيل.

والّذي تقتضيه القاعدة في المقام هو القول بأداء الواجب بواحد منها ، لما عرفت من أنّ قضيّة التكليف المفروض حصول الواجب بفعل واحد من تلك الأفعال ، ولا اقتضاء فيه لتأدّي ما يزيد على الواحد ، فلا وجه للقول بحصول الامتثال بالجميع ، غاية الأمر أن يدور ذلك الواحد بين تلك الأفعال الصادرة من المكلّف ، لصلوح كلّ منها أداء للواجب من غير فرق بينها ، فيكون تأدّي الواجب في المقام بواحد منها من غير أن يتعيّن ذلك بواحد معيّن منها ، نظرا إلى انتفاء ما يفيد تعيينه بحسب الواقع ، ولا يمنع ذلك من حصول البراءة به ، إذ لا يتوقّف أداء الواجب على تعيين ما يحصل به ، لوضوح الامتثال بحكم العرف ، بل العقل بأدائه على الوجه المفروض قطعا ، فإنّ مقصود الآمر حصول واحد من تلك الأفعال ، وقد حصل ذلك فلا وجه لعدم سقوط التكليف به.

فإن قلت : كما أنّ كلّا من الأفعال المفروضة متّصف بالوجوب التخييري وإن كان ما يمنع من تركه بالمرّة هو أحدها ـ كما مرّ ـ فكذا ينبغي أن يكون كلّ واحد من تلك الأفعال أداء للواجب التخييري ، ويكون كلّ منها متّصفا بالوجوب على الوجه المذكور ، وإن كان ما يمنع من تركه هو أحدها أيضا ، وهذا هو مقصود العلّامة رحمه‌الله من اتّصاف الجميع بالوجوب.

قلت : اتّصاف أفعال عديدة بالوجوب التخييري نظرا إلى تعلّق الخطاب بها على سبيل التخيير بينها ممّا لا مانع منه حسب ما عرفت. وأمّا اتّصاف أفعال متعدّدة بكونها أداء للواجب على وجه التخيير بينها فممّا لا يمكن تصويره ، إذ لا يتصوّر التخيير بين الامور الواقعة ، غاية الأمر أن يعتبر الترديد بدلا عن التخيير ، ومع ترديد الواجب بينها لا يمكن الحكم إلّا بوجوب أحدها ، إذ لا معنى لوجوب الكلّ على وجه الترديد.

٣٠٨

والحاصل أن يقال : إيجاب أفعال عديدة على سبيل التخيير بينها إنّما يقضي بحصول ذلك التكليف بأداء واحد منها لا غير ، فلا وجه للحكم بوجوب ما يزيد عليه ، بل ولا الحكم بمشروعيّة ما يزيد على ذلك حسب ما عرفت ، فلا وجه للقول باتّصاف الجميع بالوجوب على الوجه المذكور ، بل ليس أداء الواجب إلّا بأحدها الدائر بينها. ولو عبّر عن مجرّد صلوح كلّ واحد منها لأداء الواجب باتّصافه بالوجوب فذلك مع كونه بحثا لفظيّا لا محصّل له ممّا لا يساعده الاصطلاح والإطلاقات هذا.

ويمكن أن يقال : إنّه مع أفضليّة بعض تلك الأفعال وزيادة ثوابه يستحقّ تلك الزيادة ، نظرا إلى إتيانه بما يوجبه ، ومع استحقاقه أجر الأكثر يكون أداء الواجب به أيضا ، إذ لولاه لما استحقّ أجره ، وكان هذا هو الوجه فيما ذكره السيّد.

ويشكل : بأنّه كما أتى بالأكثر ثوابا فقد أتى بالأقلّ ثوابا ، ونسبة الواجب إليهما على نحو سواء ، ومجرّد زيادة الثواب لا يقضي بالترجيح حتّى ينصرف أداء الواجب إليه.

ويمكن دفعه : بأنّه لمّا قرّر الشارع مزيد الأجر على بعض تلك الأفعال وقد أتى المكلّف به قضى ذلك باستحقاقه تلك الزيادة ، وليس الإتيان بالأقلّ ثوابا نافيا لاستحقاقه الأكثر ، غاية الأمر أنّه لا يقضي باستحقاق الزائد فلا معارضة بين الأمرين.

وفيه : أنّه لا يستحقّ ثواب الأكثر إلّا مع حصول الامتثال به وكونه أداء للواجب ، وقد عرفت أن نسبة ذلك إلى الفعلين على وجه واحد فكيف يحكم بأداء الواجب بخصوص الأوّل دون الثاني حتّى يثبت له ثوابه؟

نعم ، لو قيل بحصول الامتثال بالجميع مع ترتّب ثواب واحد على تلك الأفعال ، كما أنّه يقال بترتّب عقاب واحد على ترك الجميع أمكن القول بذلك لحصول الامتثال بما ثوابه أكثر ، فلابدّ من ترتّب تلك الزيادة عليه ، إلّا أنّك قد عرفت أنّ القول به بعيد.

٣٠٩

هذا إذا كان إتيانه بالجميع سائغا ، وأمّا إذا لم يكن سائغا فإمّا أن يكون الواجب المفروض عبادة ، أو غيرها ، فإن كان عبادة ولم تفد مشروعيّتها سوى الأمر المفروض ليكون الإتيان بما يزيد على واحد منها بدعة محرّمة ، أو دلّ الدليل على مشروعيّتها مطلقا لكن اريد من الإتيان بالجميع امتثال الأمر المفروض ليندرج في البدعة من تلك الجهة ـ حسب ما عرفت ـ فهل يحكم إذن بصحّة أحدها وفساد الباقي لقيام مقتضى الصحّة بالنسبة إليه دون غيره ، أو أنّه يحكم بفساد الجميع من جهة النهي المتعلّق به على الوجه المذكور القاضي بفساد العبادة ، ولا يمكن قصد التقرّب بشيء منها حينئذ؟ الظاهر الأخير ، سيّما إذا نوى الامتثال بالمجموع. وإن كان من غير العبادات جرى أيضا فيه الوجهان ، واحتمال الصحّة هنا متّجه ، إذ التحريم يتعلّق بالنيّة ، وما يزيد على الواحد من الأفعال المفروضة فلا مانع من أداء الواجب لواحد منها ، وفيه إشكال. وأمّا سقوط الواجب فيما يكون المقصود مجرّد حصول الفعل كإزالة النجاسات فممّا لا ينبغي الريب فيه.

رابعها : أنّه هل يتعيّن الواجب التخييري بالشروع في أحدهما وجهان :

أحدهما : أنّه لا يتعيّن ذلك ، بل التخيير على حاله حتّى يسقط التكليف المفروض ، فلو شرع في أحدهما جاز له العدول إلى الآخر استصحابا لما ثبت إلى أن يسقط التكليف بأدائه.

ثانيهما : التعيين بذلك ، حيث إنّه مخيّر في اختيار أيّهما شاء ، فإذا اختار أحدهما زال التخيير ، ولأنّ جواز العدول بعد الشروع في الفعل يتوقّف على قيام الدليل عليه ، ولا دليل عليه في المقام.

ويرد على الأوّل : أنّه كان مخيّرا في الإتيان بأيّهما شاء فما لم يأت فالتخيير على حاله، كما هو ظاهر اللفظ ولو سلّم احتماله ودوران الحال فيه بين الوجهين فاستصحاب بقاء التخيير الثابت قاض بالأوّل.

وعلى الثاني : أنّ ما عرفت من الدليل كاف في الدلالة على الجواز.

٣١٠

وهنا وجه ثالث ، وهو : التفصيل بين ما إذا سقط بعض التكليف بأداء البعض ، وما يكون سقوطه متوقّفا على إتمام الفعل.

فعلى الأوّل لا يجوز العدول ، إذ القدر الثابت من التخيير بين تمام الفعلين دون تمام أحدهما والبعض من الآخر فتعيّن عليه إتمام الأوّل.

وعلى الثاني يجوز العدول ، لبقاء الأمر على حاله قبل إتمام الأوّل.

هذا كلّه إذا لم يكن هناك مانع من العدول ، كما إذا كان إبطال الأوّل محرّما ، كما في التخيير بين الظهر والجمعة فإنّه بعد شروعه في أحدهما يحرم عليه إبطاله ليتلبس بالآخر فيتعيّن عليه الإكمال.

نعم ، لو ارتكب الحرام وأبطل العمل كان بالخيار بينهما ، ومن ذلك في وجه تخيير المولى بين دفع العبيد الجاني إلى المجنيّ عليه وافتدائه ببذل أرش الجناية ، فإذا بنى على الافتداء ودفع بعض الأرش فأراد الرجوع إليه ودفع العبد فإنّه ينافي تملّك المجنيّ عليه للمدفوع إليه ، وثبوت الخيار له في الردّ خلاف الأصل.

خامسها : أنّه إذا وقع التخيير في الواجب بين الأقلّ والأكثر في أصل الشرع ـ كما لو ورد التخيير في الركعتين الأخيرتين بين أداء التسبيحات الأربع مرّة أو ثلاثا ، أو ورد التخيير في بعض منزوحات البئر بين الأربعين والخمسين ، أو ثبت التخيير بحكم العقل ، كما إذا تعلّق الأمر بطبيعة وأمكن أداؤها في ضمن الأقلّ والأكثر كما إذا وجب عليه التصدّق الصادق بتصدّق درهم أو درهمين أو ثلاثة مثلا ، أو وجب عليه المسح المتحقّق بمسح إصبع أو إصبيعن أو ثلاثة وهكذا ـ فهل يتّصف الزائد بالوجوب ليكون التخيير على حقيقته ، أو لا؟ فيه أقوال :

أحدها : اتّصاف الجميع بالوجوب أخذا بمقتضى ظاهر اللفظ ، إذ كلّ من الناقص والزائد قسم من الواجب.

ثانيها : اتّصاف الزائد بالاستحباب مطلقا نظرا إلى جواز تركه لا إلى بدل.

ثالثها : التفصيل بين ما إذا كان حصول المشتمل على الزيادة دفعة وما إذا كان تدريجيّا بأن حصل الناقص أوّلا ثمّ حصل القدر الزائد ، فإن كان حصول الفعل

٣١١

المشتمل على الزيادة دفعيّا اتّصف الكلّ بالوجوب لأداء الواجب به ولقضاء ظاهر الأمر بوجوبه ، وإن كان حصول الناقص قبل حصول الزائد أو حصول الناقص بالوجوب لا غير(١) لأداء الواجب به فيسقط الوجوب ، وحينئذ فإن صرّح الآمر بالتخيير بين الأقلّ والأكثر اتّصف الزيادة بالاستحباب ، نظرا إلى مطلوبيّة الزائد في الجملة وجواز ترك الزيادة لا إلى بدل.

وأمّا التخيير (٢) العقلي فيسقط الوجوب بالأوّل وتبقى مشروعيّة الزيادة متوقّفة على قيام الدليل عليه ، ففي الحقيقة لا تخيير حينئذ عند التأمّل ، وبذلك يظهر الفرق بين التخيير العقلي والشرعي.

ويمكن المناقشة في ذلك : بأنّ الأمر المتعلّق بالزائد والناقص على جهة التخيير أمر واحد مستعمل في الوجوب ، فمن أين يجيء الحكم باستحباب الزائد في الصورة المذكورة؟ ولو سلّم استعماله في الوجوب والندب ـ نظرا إلى أنّ القدر الّذي يمنع من تركه هو الأقلّ فيكون الزائد مستحبّا ـ لم يكن هناك فرق بين حصول الناقص قبل حصول الزيادة وحصول الزائد دفعة ، والتفصيل في استعماله في الوجوب وفي الوجوب والندب بين الوجهين المذكورين تعسّف بيّن لا وجه لالتزامه.

وقد يقال : إنّ تعلّق الأمر به على الوجه المذكور محمول على الوجوب إلّا فيما لا يمكن حمله عليه ، وهو فيما إذا كان حصول الناقص قبل الزيادة ، لقضاء التخيير بحصول الواجب حينئذ بالأقلّ ، فمع رجحان الزيادة يتّصف الزائد لا محالة بالاستحباب ، لجواز تركه حينئذ لا إلى بدل.

وفيه : أنّه اذا لم يتعلّق بالزيادة تكليف مستقلّ كيف يعقل اتّصافها بالاستحباب؟ وقضيّة ورود التخيير في الواجب بين الأقلّ والأكثر قيام الوجوب بكلّ منهما ، فإن كان الصادر منه في الخارج هو الأقلّ قام الوجوب به ، وإن كان

__________________

(١) في (ف ونسخة من ط) : قبل الزيادة ، فالمتّصف بالوجوب هو الناقص لا غير.

(٢) في (ف) : وأمّا في التخيير.

٣١٢

الأكثر كان الوجوب قائما به بمقتضى الأمر ، وحينئذ فقيام الوجوب بالأقلّ غير معلوم إلّا بعد العلم بعدم التحاق الزائد به ، وأمّا بعد الإتيان بالقدر الزائد فإنّما يقوم الوجوب بالجميع، فحصول الامتثال بالأقلّ يكون مراعى بعدم الإتيان بالزيادة.

فما ذكر من عدم إمكان حمل الأمر المتعلّق بالزائد حينئذ على الوجوب لجواز ترك الزائد حينئذ لا إلى بدل مدفوع بما عرفت من أنّ الزيادة لا حكم لها مستقلّا ، ولم يتعلّق بها أمر ، بل إنّما تعلّق الحكم بمجموع الزائد ، ولا يجوز تركه لا إلى بدل وهو فعل الناقص ، وبذلك يتقوّى القول الأوّل.

فإن قلت : إنّ نسبة الوجوب إلى كلّ من الواجبات التخييريّة على نحو واحد ، وكما يحصل أداء الواجب بالأكثر يحصل بالأقلّ أيضا ، فأيّ ترجيح حينئذ للحكم بقيام الوجوب بالأكثر عند حصول الزيادة دون الأقلّ ، فمع حصوله قبله القاضي بأداء الواجب به فلا وجه لكون حصول الامتثال به مراعى بعدم التحاق الزيادة.

قلت : من البيّن أنّه إذا حكم الشارع بالتخيير بين الأقلّ والأكثر كان مفاد كلامه قيام الوجوب بكلّ من الأقلّ والأكثر على ما هو الشأن في الواجب التخييري ، لكن لمّا كان الأكثر مشتملا على الأقلّ كان قضيّة حكمه بقيام الوجوب بالأكثر مع اشتماله على الأقلّ كون الأقلّ المقابل له هو الأقلّ بشرط لا. فمفاد التخيير المذكور : أنّه لو أتى بالأقلّ وحده كان واجبا ، وإن أتى بالأكثر ـ أعني الأقلّ مع الزيادة ـ كان أيضا واجبا ، وحينئذ فالأقلّ المندرج في الأكثر ليس ممّا يقوم الوجوب به إلّا في ضمن الكلّ.

نعم ، لو كان مفاد التخيير بين الأقلّ والأكثر هو التخيير بين الأقلّ الملحوظ لا بشرط والأكثر صحّ ما ذكر ، لكن ذلك خلاف المفهوم من اللفظ عند حكم الشارع بالتخيير بينهما ، بل ليس المنساق منه إلّا ما ذكرناه ، وقضيّة ذلك كون الحكم بقيام الوجوب بالأقلّ مراعى بعدم التحاق الزيادة.

هذا إذا اورد التخيير المذكور في لسان الشرع ، وأما إذا كان التخيير عقليّا فلا يتمّ ذلك ، لظهور كون الأقلّ حينئذ مصداقا للواجب ، سواء ضمّ إليه الزائد أو لا.

٣١٣

فعلى القول بتعلّق الأمر بالطبيعة يكون كلّ من المرّة والتكرار مصداقا لأداء الطبيعة ، إلّا أنّها حاصلة بحصول المرّة ، سواء ضمّ إليها الباقي أو لا ، فلا وجه إذن لكون التكرار مصداقا للامتثال لحصول البراءة بالأولى ، فلا وجه لكون الامتثال به مراعى بحصول الباقي وعدمه ، بل هو حاصل به على كلّ حال ، فلا يتّجه إجراء الكلام المذكور في هذه الصورة سيّما في المثال المفروض ، حيث إنّه لا يعدّ الجميع امتثالا واحدا وأداء واحدا للطبيعة ، نظرا إلى حصول الطبيعة بكلّ منها ، فيكون كلّ منها مصداقا لأداء الطبيعة ومحقّقا لامتثال الأمر المتعلّق بها ، فظاهر أنّ الأمر الواحد لا يقتضي إلّا امتثالا واحدا فلا وجه للحكم بأداء الواجب حينئذ بالمتعدّد ليكون التكرار أحد فردي المخيّر ، بل لا يفترق الحال بين أداء الجميع دفعة أو تدريجا لحصول الواجب في الحالين بالمرّة ، وفيه تأمّل ، وقد مرّ الكلام فيه في بحث المرّة والتكرار.

فظهر بما قرّرناه أنّه لو كانت الزيادة ممّا يحصل به الواجب أيضا ـ كما في المثال المذكور ـ كان ذلك أيضا قاضيا (١) بوجوب الأقلّ لحصول الطبيعة الواجبة به ، فيتحقّق به الامتثال ، وبعد تحقّق الامتثال والطاعة وحصول البراءة لابقاء للتكليف حتّى يعقل إمكان امتثال الأمر أيضا حسب ما أشرنا إليه.

نعم ، لو نصّ الآمر بعد تعلّق الأمر بنفس الطبيعة بالتخيير بين أدائه لتلك الطبيعة في ضمن المرّة أو التكرار أمكن القول باستحباب ما زاد على المرّة ، ويكون النصّ المذكور دليلا على ثبوت الاستحباب في القدر الزائد لحصول الطبيعة الواجبة حينئذ بالمرّة ، ومعه لا يتحقّق اتّصاف الزائد بالوجوب فيتعيّن أن يكون مندوبا.

وأمّا لو حكم أوّلا بالتخيير بين الإتيان بفعل مرّة أو مرّتين أو ثلاثا ـ مثلا ـ لم يبعد القول بقيام الوجوب بكلّ من المراتب حسب ما قررناه أوّلا ، فتأمّل في الفرق بين الوجهين فإنّه لا يخلو عن خفاء. هذا.

__________________

(١) في (ف) : أيضا واجبا.

٣١٤

وإذا لم تكن الزيادة ممّا يتحقّق بها تكرار لحصول الفعل بل إنّما تعدّ هي مع الناقص امتثالا واحدا وأداء واحدا للطبيعة المتعلّقة للأمر لم يبعد القول بمشروعيّة الزيادة واتّصاف كلّ من الناقص والزائد بالوجوب ، كما في مسح الرأس فإنّه وإن تحقّق مسمّاه بأوّل جزء من إمرار اليد عليه إلّا أنّه مع استمرار المسح زيادة على قدر المسمّى يعدّ الجميع مسحا واحدا وأداء واحدا للطبيعة ، فإن اقتصر على الأقلّ تحقّق به الطبيعة ، وإن أتى بالزائد كان المشتمل على الزيادة فردا آخر منها وقام الوجوب بالمجموع ، من غير فرق في ذلك بين كون التخيير عقليّا أو شرعيّا.

وقد يقال في غير هذه الصورة باستحباب القدر الزائد في التخيير الشرعي مطلقا ، إذ هو الّذي لا يجوز تركه عند الآمر ، وما زاد عليه لا منع من تركه أصلا فيكون مندوبا.

فإن قلت : إنّ تعلّق الأمر بهما على نحو سواء فكيف! يصحّ القول بوجوب الأقلّ دون الأكثر ، فيلزم استعمال الأمر حينئذ في الوجوب والندب معا.

قلت : ورود التخيير على الوجه المذكور دليل على ذلك ، إذ المتحصّل من إيجاب الفعل على النحو المفروض هو المنع من ترك الأقلّ وجواز ترك الباقي ، فلو لزم تجوّز في صيغة الأمر فلا مانع منه بعد قيام الدليل عليه ، وليس ذلك من استعمال اللفظ في كلّ من معنييه الحقيقي والمجازي.

بل نقول : إنّ ذلك لا يقتضي خصوص استحباب الزائد ، بل يفيد الرخصة فيه ، فإنّه إذا كان ذلك الفعل أمرا راجحا في نفسه قضى ذلك باستحبابه ، كما إذا قال : «تصدّق بعشرة دراهم فما زاد». ولو كان محرّما في نفسه كما إذا قال : «اضربه عشرة أسواط فما زاد إلى عشرين» فليس مفاده إلّا الرخصة في ما زاد على العشرة إلى عشرين ، ولا دلالة فيه على استحبابه. وهذا الوجه لا يخلو عن قرب ، إلّا أنّ ما فصّلناه هو الأقرب ، والباعث على الشهرة في المقام هو ما ذكر من جواز ترك الزيادة ، وقد عرفت أنّ الوجوب لا يقوم بها حتّى ينافيه ذلك ، وإنّما يقوم بالكلّ ، وجواز تركه إنّما هو إلى بدل هو الإتيان بالأقلّ فلا ينافي وجوبه على سبيل التخيير حسب ما ذكرنا ، فتأمّل في المقام فإنّه لا يخلو عن إبهام.

٣١٥

ويحتمل في المقام وجه رابع ، وهو التفصيل بين ما إذا نوى الامتثال بالأقلّ أو الاكثر. فعلى الأوّل يسقط التكليف بأداء الأقلّ ، فلا وجه للإتيان بالزيادة ، بخلاف الثاني ، لتوقّف الامتثال حينئذ على الإتيان بالزيادة.

وفيه : أنّ قصد الامتثال ممّا لا يتوقّف عليه أداء الواجب ، بل كون المأتيّ به من أفراد الواجب كاف في أدائه وتحقّقه في الخارج. نعم ، لو كان المأمور به من العبادات تعيّن اعتبار القربة في النيّة.

فقد يتوهّم : حينئذ اعتبار قصد امتثال الأمر المفروض ليتحقّق به الطاعة الملحوظة في العبادات.

ويدفعه : أنّ الملحوظ في العبادة مطلق قصد الطاعة ، لا خصوص امتثال الأمر الخاصّ المتعلّق به بحسب الواقع ، فلا يعتبر فيه ملاحظة كون المأتيّ به تمام المأمور به أو بعضه، إذ لا دليل عليه أصلا حسب ما مرّ القول فيه في محلّه ، فلا فرق حينئذ بين ما إذا نوى الامتثال بالأقلّ أو نواه بالأكثر ، فإنّه إذا كان مجرّد حصول الطبيعة المأمور بها كافيا في سقوط الواجب جرى ذلك في الصورة الثانية ، وإن كان حصول الطبيعة بأداء الأقلّ مراعى بعدم التحاق الزائد جرى ذلك في الصورة الاولى أيضا ، ومجرّد قصده الامتثال بالأقلّ لا ينافيه.

سادسها : أنّ التخيير بين الشيئين قد يكون على وجه الترتيب ، وقد يكون على وجه البدليّة ، والإشكال المتقدّم والأقوال المذكورة إنّما هو في الصورة الثانية ، وأمّا الاولى فلا مجال فيها للإشكال ، بل ليس ذلك من حقيقة التخيير في شيء وإن عدّ من التخيير. وعلى كلّ حال : فإمّا أن يمكن الجمع بينهما ، أو لا ، وعلى الأوّل : فإمّا أن يحرم الجمع بينهما ، أو يجوز مع إباحته أو استحبابه.

سابعها : أنّه هل يصحّ اتّصاف أحد الواجبين المخيّرين بالاستحباب بأن يكون واجبا تخييريّا مندوبا عينيّا ، أو لا؟ قولان. والمحكيّ عن جماعة القول بجواز الاجتماع ، والأظهر المنع ، لما تقرّر من تضادّ الأحكام ، واستحالة اجتماع المتضادّين في محلّ واحد.

٣١٦

وعلى القول بجواز تعلّق الأمر والنهي بشيء واحد من جهتين ـ كما هو المختار عند جماعة من المتأخّرين ـ فلا ريب في الجواز في المقام ، نظرا إلى اختلاف الجهتين ، وهذا هو الوجه في اختيار بعض المتأخّرين جواز اجتماع الأمرين.

وقد يتخيّل جواز اجتماعهما في المقام بناء على المنع من اجتماع الأمر والنهي أيضا ، ولذا ذهب إليه بعض من لا يقول بجواز اجتماعهما ، نظرا إلى منع المضادّة بين الاستحباب العيني والوجوب التخييري.

كما أنّه لا مضادّة بين الاستحباب النفسي والوجوب الغيري ، فوجوبه حينئذ لنفسه نظرا إلى حصول القدر المشترك به ، واستحبابه بملاحظة خصوصيّته إضافيّ بالنظر إلى غيره.

وأنت خبير بما فيه ، فإنّه : إن اريد بجواز اجتماع الأمرين في المقام جواز الجمع بين الوجوب التخييري والندب المصطلح ـ يعني ما يجوز تركه مطلقا ـ فبيّن الفساد ، لوضوح أنّه ليس ممّا يجوز تركه كذلك ، وإلّا لم يتّصف بالوجوب التخييري ، لما عرفت من حصول المنع من ترك كلّ من الواجبين المخيّرين في الجملة ، فإنّ كلّا منهما مطلوب للآمر على وجه المنع من تركه وترك ما يقوم مقامه.

وما اورد عليه من أنّ ما له بدل ليس بواجب في الحقيقة ، وما هو الواجب لا بدل له، فإنّ الواجب بالحقيقة هو مفهوم أحدهما ، والمندوب هو خصوص واحد منهما فلا اجتماع للوصفين ، غاية الأمر أن يكون المندوب مصداقا للواجب لاتّحاده معه مدفوع بما عرفت من أنّ الواجب التخييري هو خصوص كلّ واحد من الأمرين ، لا مفهوم أحدهما ، وإنّما هو أمر اعتباري انتزاعي بعد تعلّق الوجوب بكلّ منهما على الوجه الّذي قرّرناه ، حسب ما مرّ تفصيل القول فيه. ولو سلّمنا تعلّق الوجوب بمفهوم أحدهما فبعد اتّحاده مع خصوص واحد منهما لا يصحّ اتّصافه بالاستحباب إلّا على القول بجواز اجتماع الأمر والنهي من جهتين وهو مع ضعفه ـ كما سيجيء بيانه في محلّه إن شاء الله ـ خلاف مبنى الكلام ، إذ المفروض

٣١٧

البناء على امتناعه. وما يتراءى من جواز اجتماع الاستحباب النفسي والوجوب الغيري ـ كما في الوضوء وغسل الجنابة ـ ليس على ما ينبغي ، إذ ليس ذلك من اجتماع الوجوب والاستحباب في شيء ، إذ لا يتّصف الوضوء أو الغسل في زمان واحد بالوصفين المذكورين، إذ الحكم الثابت لكلّ منهما بعد وجوب (١) المشروط به هو الوجوب دون الندب.

نعم ، يجتمع هناك جهتا الندب النفسي والوجوب الغيري ، ولا مانع منه ، كما أنّه لا مانع من اجتماع جهتي الوجوب والندب الغيريّين ، فمفاد استحبابه النفسي أنّه مندوب في ملاحظة نفسه وإن كان واجبا مترقّيا رجحانه عن مقام الندب إلى الوجوب بملاحظة غيره ، وثبوت شيء لشيء في مرتبة أو نفيه عنه كذلك لا يستلزم ثبوته أو نفيه عنه بحسب الواقع ، ولذا تقرّر عندهم جواز اجتماع النقيضين في المرتبة ، ومن ذلك يعلم جواز اجتماع جهتي الوجوب والندب النفسيّين أيضا.

ألا ترى أنّه لو نذر أداء نافلة كانت تلك النافلة مندوبة بملاحظة ذاتها ، فإنّها لا تقتضي زيادة على ذلك واجبة من جهة تعلّق النذر بها ، وهي حينئذ غير متّصفة فعلا بالوصفين المذكورين ، بل الوصف الحاصل لها حينئذ هو الوجوب لا غير ، ولا يجري نحو ما ذكر في المقام حتّى يقال هنا أيضا باجتماع الجهتين وإن كان الحكم تابعا لأقواهما. ولو سلّم جريانه في المقام فقد عرفت أنّه ليس ذلك من اجتماع الحكمين أصلا ، والكلام هنا إنّما هو في اجتماع الحكمين دون الجهتين ، إذ قد عرفت أنّه لا مجال لتوهّم الإشكال بالنسبة إليه.

وإن اريد بذلك جواز اجتماع الوجوب التخييري والندب بغير معناه المصطلح ـ أعني ما يكون فعله راجحا بالنسبة إلى فعل غيره رجحانا غير مانع من النقيض ، نظير ما اعتبر في مكروه العبادة من مرجوحيّة فعلها بالنسبة إلى فعل غيرها ، كما قد يومئ إليه قوله بكون استحبابه إضافيّا بالنسبة إلى غيره ـ فلا مجال لتخيّل

__________________

(١) في (ف) : دخول.

٣١٨

مانع منه في المقام ، ولا يعتريه شبهة ، فلا إشكال. والظاهر أنّ أحدا لا يقول بامتناعه. هذا.

وقد يوجّه اجتماع الوجوب والندب في المقام بنحو آخر : بأن يقال بأنّ هنا رجحانا مانعا من النقيض يقوم غيره مقامه ، ورجحانا غير مانع من النقيض لا بدل له يقوم مقامه.

فالأوّل هو الوجوب التخييري القائم بكلّ من الفعلين.

والثاني هو الاستحباب العيني القائم بالفرد الأكمل ، إذ لا بدل لكمال الفرد ، ولا يتعيّن على المكلّف تحصيله.

وأنت خبير بوهن ذلك أيضا ، فإنّ ما ذكر إنّما يفيد كون الجهة المفروضة غير ملزومة للفعل ، وأين ذلك من استحباب الفعل وجواز تركه بحسب الواقع كما هو المقصود؟ إذ من البيّن أنّه إذا حصل جهة الوجوب والندب في شيء كان الترجيح لجانب الوجوب ، لاضمحلال الجهة النادبة عند الجهة الموجبة ومع الغضّ عن ذلك فالمصلحة القاضية بالأولويّة في المقام إنّما تفيد أولويّة فعل أحدهما على فعل الآخر على وجه لا يمنع من النقيض ، لا أولويّة فعل أحدهما على تركه مع عدم المنع منه مطلقا حتّى يندرج في الندب المصطلح ، ومجرّد عدم بديل للرجحان المفروض لا يقضي بكون الرجحان الحاصل ندبا مصطلحا كما لا يخفى.

نعم ، إن اريد بالندب غير معناه المعروف حسب ما أشرنا إليه صحّ ما ذكر ، إلّا أنّك قد عرفت أنّه غير قابل للنزاع.

ثامنها : أنّهم اختلفوا في جواز حصول التخيير في التحريم بأن يكون المحرّم أحد الفعلين لا بعينه على الوجه الّذي قرّر في الواجب المخيّر.

فعن الأشاعرة القول بجوازه ، وقد اختاره الآمدي والحاجبي والعضدي ، إذ لا يعقل مانع من تعلّق النهي بأحد الشيئين على الوجه المذكور.

وعن المعتزلة إنكار ذلك. وحكي عن بعضهم المنع من النهي عن امور على سبيل التخيير بينها ؛ لأنّ متعلّق النهي حينئذ هو مفهوم أحدها الّذي هو مشترك بينها

٣١٩

حسب ما ذكر في الواجب المخيّر ، فيحرم الجميع ، إذ لو دخل شيء منها في الوجود دخل القدر المشترك فيه ، والمفروض حرمته.

واورد عليه بالتحريم المتعلّق بالاختين والأمّ والبنت ، فإنّه إنّما نهي عن الترويج بأحدهما على الوجه المذكور ، لا بهما ، ولا بواحد معيّن منهما.

واجيب عنه : بأنّ التحريم هناك إنّما تعلّق بالجمع بينهما ، فيتحقّق امتثاله بترك الجمع الحاصل بترك واحد منهما كيف! ولو تعلّق التحريم هناك بالقدر المشترك ـ أعني مفهوم أحدهما ـ لحرمتا جميعا ، ضرورة استلزام وجود الأخصّ وجود الأعمّ ، إذ لا يعقل تحقّق فرد من نوع وحصول جزئيّ من كليّ من دون تحقّق ذلك النوع وحصول ذلك الكلّي المشترك. وظاهر الشهيد اختيار ذلك.

والّذي يقتضيه التدبّر في المقام أن يقال : إنّ النهي المتعلّق بالطبيعة قد يراد به عدم إدخال تلك الطبيعة في الوجود أصلا ، فيكون كالنكرة الواقعة في سياق النفي مفيدا لعموم المنع.

وقد يراد به عدم إدخال تلك الطبيعة في الوجود في الجملة ، فيحصل الامتثال بمجرّد حصول الترك ولو بتركه في بعض الأفراد ، كما هو الحال في الأمر. وسنبيّن كون استعمال النهي حقيقة على الوجهين وإن كان ظاهر إطلاقه منصرفا إلى الأوّل وعلى هذا فتعلّق النهي بمفهوم أحدهما على الوجه الثاني لا يستلزم إلّا حرمة واحد منهما وتحصيل امتثاله بترك أحدهما.

فما ذكر من استلزام تحريم الطبيعة تحريم جميع أفرادها إنّما يتمّ في الصورة الاولى دون غيرها ، فإذا تعلّق الطلب بترك أحد الفعلين على الوجه الّذي ذكرناه كان ترك أيّ منهما كافيا في تحقّق الامتثال ، وقضيّة ذلك حرمة الجمع بين الفعلين المذكورين ، لا تحريم كلّ منهما على وجه التخيير على ما هو الشأن في الواجب ، فإنّ تعلّق الوجوب بأحدهما يقتضي وجوب كلّ منهما على وجه التخيير بينهما حسب ما مرّ بيانه ، بخلاف ما إذا تعلّق التحريم بأحدهما فلا مفسدة حينئذ في الإتيان بكلّ من الفعلين المذكورين لو خلّي عن ملاحظة وجود الآخر معه ،

٣٢٠