هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

هداية المسترشدين في شرح أصول معالم الدين - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
964-470-069-4

الصفحات: ٧٨٣

معالم الدين :

أصل

ذهب الشيخ رحمه‌الله وجماعة إلى أنّ الأمر المطلق يقتضي الفور والتعجيل ؛ فلو أخّر المكلّف عصى ، وقال السيّد ـ رضي الله ـ هو مشترك بين الفور والتراخي ؛ فيتوقّف في تعيين المراد منه على دلالة تدلّ على ذلك.

وذهب جماعة ، منهم المحقّق أبو القاسم ابن سعيد ، والعلّامة ـ رحمهما‌الله تعالى ـ إلى أنّه لا يدلّ على الفور ، ولا على التراخي ، بل على مطلق الفعل ، وأيّهما حصل كان مجزيا. وهذا هو الأقوى.

لنا : نظير ما تقدّم في التكرار ، من أنّ مدلول الأمر طلب حقيقة الفعل ، والفور والتراخي خارجان عنها ، وأنّ الفور والتراخي من صفات الفعل ، فلا دلالة له عليهما.

حجّة القول بالفور امور ستّة :

الأوّل : أنّ السيّد إذا قال لعبده : اسقني ؛ فأخّر العبد السقي من غير عذر ، عدّ عاصيا ، وذلك معلوم من العرف. ولو لا إفادته الفور ، لم يعدّ عاصيا.

وأجيب عنه : بأنّ ذلك إنّما يفهم بالقرينة ؛ لأنّ العادة قاضية بأنّ

٤١

طلب السقي إنّما يكون عند الحاجة إليه عاجلا ، ومحلّ النزاع ما تكون الصيغة فيه مجرّدة.

الثاني : أنّه تعالى ذمّ إبليس لعنه الله ، على ترك السجود لآدم عليه‌السلام ، بقوله سبحانه : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) ولو لم يكن الأمر للفور لم يتوجّه عليه الذمّ ، ولكان له أن يقول : إنّك لم تأمرني بالبدار ، وسوف أسجد.

والجواب : أنّ الذمّ باعتبار كون الأمر مقيّدا بوقت معيّن. ولم يأت بالفعل فيه. والدليل على التقييد قوله تعالى : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ).

الثالث : أنّه لو شرع التأخير لوجب أن يكون إلى وقت معيّن ، واللازم منتف. أمّا الملازمة ، فلأنّه لولاه لكان إلى آخر أزمنة الإمكان اتفاقا ، ولا يستقيم ؛ لأنّه غير معلوم ، والجهل به يستلزم التكليف بالمحال ؛ إذ يجب على المكلّف حينئذ أن لا يؤخّر الفعل عن وقته، مع أنّه لا يعلم ذلك الوقت الّذي كلّف بالمنع عن التأخير عنه. وأمّا انتفاء اللّازم فلأنّه ليس في الأمر إشعار بتعيين الوقت ، ولا عليه دليل من خارج.

والجواب : من وجهين : أحدهما ـ النقض بما لو صرّح بجواز التأخير ؛ إذ لا نزاع في إمكانه. وثانيهما ـ أنّه إنّما يلزم تكليف المحال لو كان التأخير متعيّنا ، إذ يجب حينئذ تعريف الوقت الّذي يؤخّر إليه. وأمّا إذا كان ذلك جائزا فلا ، لتمكّنه من الامتثال بالمبادرة ، فلا يلزم التكليف بالمحال.

الرابع : قوله تعالى : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) فإنّ المراد بالمغفرة سببها ، وهو فعل المأمور به ، لا حقيقتها ، لأنّها فعل الله سبحانه ،

٤٢

فيستحيل مسارعة العبد إليها ، وحينئذ فتجب المسارعة إلى فعل المأمور به. وقوله تعالى : (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) فإنّ فعل المأمور به من الخيرات ؛ فيجب الاستباق إليه. وإنّما يتحقق المسارعة والاستباق بأن يفعل بالفور.

واجيب : بأنّ ذلك محمول على أفضليّة المسارعة والاستباق ، لا على وجوبهما ، وإلّا لوجب الفور ، فلا يتحقّق المسارعة والاستباق ؛ لأنّهما إنّما يتصوّران في الموسّع دون المضيّق ، ألا ترى أنّه لا يقال لمن قيل له «صم غدا» فصام : «إنّه سارع إليه واستبق». والحاصل : أنّ العرف قاض بأنّ الإتيان بالمأمور به في الوقت الّذي لا يجوز تأخيره عنه لا يسمّى مسارعة واستباقا ؛ فلابدّ من حمل الأمر في الآيتين على الندب ، وإلّا لكان مفاد الصيغة فيهما منافيا لما تقتضيه المادّة. وذلك ليس بجائز فتأمّل!.

الخامس : أنّ كلّ مخبر كالقائل : «زيد قائم ، وعمرو عالم» وكلّ منشئ كالقائل : «هي طالق ، وأنت حرّ» إنّما يقصد الزمان الحاضر. فكذلك الأمر ، إلحاقا له بالأعمّ الأغلب.

وجوابه : أمّا أوّلا فبأنّه قياس في اللّغة ، لأنّك قست الأمر في إفادته الفور على غيره من الخبر والإنشاء ، وبطلانه بخصوصه ظاهر. وأمّا ثانيا فبالفرق بينهما بأنّ الأمر لا يمكن توجّهه إلى الحال ، إذ الحاصل لا يطلب ، بل الاستقبال ، إمّا مطلقا ، وإمّا الأقرب إلى الحال الّذي هو عبارة عن الفور ، وكلاهما محتمل ؛ فلا يصار إلى الحمل على الثاني إلّا لدليل.

السادس : أنّ النهي يفيد الفور ، فيفيده الأمر ؛ لأنّه طلب مثله. وأيضا الأمر بالشيء نهي عن أضداده ، وهو يقتضي الفور بنحو ما مرّ في التكرار آنفا.

٤٣

وجوابه : يعلم من الجواب السابق ؛ فلا يحتاج إلى تقريره.

احتجّ السيّد رحمه‌الله بأنّ الأمر قد يرد في القرآن واستعمال أهل اللّغة ويراد به الفور ، وقد يرد ويراد به التراخي. وظاهر استعمال اللّفظة في شيئين يقتضي أنّها حقيقة فيهما ومشتركة بينهما. وأيضا فإنّه يحسن بلا شبهة أن يستفهم المأمور ـ مع فقد العادات والأمارات ـ : هل اريد منه التعجيل أو التأخير؟ والاستفهام لا يحسن إلّا مع الاحتمال في اللفظ.

والجواب : أنّ الّذي يتبادر من إطلاق الأمر ليس إلّا طلب الفعل. وأمّا الفور والتراخي فإنّهما يفهمان من لفظه بالقرينة. ويكفي في حسن الاستفهام كونه موضوعا للمعنى الأعمّ ، إذ قد يستفهم عن أفراد المتواطي لشيوع التجوّز به عن أحدها ، فيقصد بالاستفهام رفع الاحتمال. ولهذا يحسن فيما نحن فيه أن يجاب بالتخيير بين الأمرين ، حيث يراد المفهوم من حيث هو ، من دون أن يكون فيه خروج عن مدلول اللفظ. ولو كان موضوعا لكلّ واحد منهما بخصوصه ، لكان في إرادة التخيير بينهما منه خروج عن ظاهر اللّفظ وارتكاب للتجوّز ، ومن المعلوم خلافه.

٤٤

قوله : (ذهب الشيخ رحمه‌الله وجماعة ... الخ).

اختلفوا في دلالة الأمر على الفور أو التراخي على أقوال. وهذا الخلاف بين من نفى دلالته على التكرار ، وأمّا كلّ من قال بدلالته على التكرار فهو قائل بكونه للفور حسب ما نصّ عليه جماعة وكان ذلك لاستلزام التكرار للفور بزعمه ، حيث إنّ أوّل أزمنة الإمكان ممّا يجب الإتيان بالفعل عنده بمقتضى الدوام وإلّا فالملازمة الاتّفاقيّة بين القولين لا يخفى عن بعد؛ مضافا إلى أنّه لو كان الفور مدلولا آخر للصيغة عندهم غير الدوام على حسب ما تخيّله القائل بالمرّة لزم اعتبار الدوام حينئذ بالنسبة إلى مصداق الفور لا إلى آخر أزمنة الإمكان ولا يقول به القائل بكونه للدوام ، فاللازم حينئذ عدم كون الفوريّة مدلولا آخر للصيغة ، بل ليس مفاد الصيغة عنده إلّا طلب طبيعة الفعل على وجه الدوام ، ويتبعه لزوم الفور حسب ما قرّرناه. وفيه تأمّل سيظهر الوجه فيه.

وقد يقال : إنّه كما يقول القائل المذكور بوجوب الفور كذا يقول بالتراخي أيضا ، بل بوجوبه فإنّه كما يحكم بوجوب الفعل في أوّل الأزمنة كذا يقول بوجوبه في آخرها ، فيتساوى نسبته إلى القولين ويكون قائلا بوجوب الفور والتراخي معا ، وذلك غير ما هو الظاهر من القول بالفور والتراخي ، فإنّه يراد به حصول تمام المطلوب بأدائه على الفور أو التراخي.

ثمّ إنّ الخلاف في المقام إمّا في وضع الصيغة ودلالتها على الفور أو التراخي من جهة الوضع أو في مطلق استفادة الفور أو التراخي منها ولو من جهة انصراف الإطلاق ودلالة الظاهر من غير تعلّق الوضع بخصوص شيء منهما أو في الأعمّ من ذلك ومن انصراف الأوامر المطلقة إليه ولو من جهة قيام القرائن العامّة عليه حسب ما يشير إليه المصنّف في القائدة الآتية.

وهذا الوجه إنّما يتمّ بالنسبة إلى الأوامر الواردة في الشريعة دون مطلق الأمر ، فإنّ القرائن العامّة إنّما يقال بنصب الشارع إيّاها في الشريعة ولا يجري القول به في مطلق الأوامر ، وقد يقال بجريانه فيها مطلقا لما يأتي الإشارة إن شاء الله.

٤٥

ثمّ إنّ لهم في المسألة أقوالا عديدة :

أحدها : القول بالفور ، ذهب إليه جماعة من المتقدّمين ، منهم الشيخ منّا والحنفيّة والحنابلة والقاضي وجماعة من الأصوليين من العامّة واختاره أيضا جماعة من المتأخّرين. والمراد بالفور إمّا ثاني زمان الصيغة أو أوّل أوقات الإمكان أو الفوريّة العرفيّة فلا ينافيه تخلّل نفس أو شرب ماء ونحو ذلك أو الفوريّة العرفيّة المختلفة بحسب اختلاف الأفعال ، كطلب الماء وشراء اللحم والذهاب إلى القرية القريبة أو البلاد البعيدة على اختلافها في البعد وتهيّؤ الأسباب.

أو المراد به ما لا يصل إلى حدّ التهاون وعدم الاكتراث بالأمر ، والظاهر أنّ أحدا لا يقول بجواز التأخير إلى الحدّ المذكور إن أفاد التأخير ذلك ، وذلك ممّا لا ربط له بدلالة الصيغة ، بل للمنع من التهاون بأوامر الشرع وعدم الاكتراث بالدين ، وهو أمر خارج عن مقتضى الأمر حتّى أنّه لو اخّر إليه لم يسقط منه التكليف على القول المذكور وإن قلنا بسقوط التكليف بفوات الفور فليس ما ذكر تحديدا للفور إنّما هو بيان لحدّ التأخير في التراخي من الخارج لا بمقتضى الصيغة ، إذ لا إشعار في نفس الصيغة بذلك أصلا ، فجعله بيانا لحدّ الفور كما يظهر من بعض المتأخّرين ليس على ما ينبغي.

وكيف كان فالقول بالفور ينحلّ إلى أقوال عديدة :

فإنّ منهم من فسّره بأوّل أزمنة الإمكان. وفسّره بعضهم بالفوريّة العرفيّة المختلفة بحسب اختلاف الأفعال. وفسّره بعضهم بما لا يصل إلى حدّ التهاون.

وأطلق بعضهم فيحتمل كلّا من الوجوه الأربعة (١) وربما يحمل على الفوريّة العرفيّة بأحد التفسيرين المذكورين.

ثمّ إنّ ظاهر القائل بالفوريّة تعيّنه ، وعن القاضي التخيير بينه وبين العزم على الفعل في ثاني الحال.

__________________

(١) كذا ، والظاهر : الوجوه الثلاثة.

٤٦

ثمّ إنّ الظاهر من بعضهم ـ كما يظهر عن بعض الأدلة الآتية ـ دلالته عليه بالوضع. وذهب بعضهم إلى دلالته عليه من جهة انصراف الإطلاق إليه ومدلوله بحسب الوضع هو طلب مطلق الطبيعة. وذهب بعضهم إليه من جهة قيام القرائن العامّة عليه.

وهل يكون الفور حينئذ واجبا أوّلا؟ فإذا أخّر وعصى سقط الفور وبقى وجوب الفعل على إطلاقه من غير لزوم التعجيل فلا يعصى بالتأخير إلى الزمان الثالث وما بعده ، أو أنّه يجب التعجيل أيضا فيعصي بالتأخير إلى الثالث ومنه إلى الرابع وهكذا؟ قولان محكيّان. وهناك قول ثالث وهو سقوط الفعل بالتأخير عن الأوّل ، كما سيشير إليه المصنّف.

فهذه أقوال تسعة في القول بالفور ، ولكن يقوم الاحتمال فيه بما يزيد على ذلك كثيرا ، كما يظهر من ملاحظة الاحتمالات بعضها مع بعض.

ثانيها : القول بدلالته على التراخي ، ذهب إليه جماعة من العامّة ، وحكي القول به عن الجبائيين والشافعيّة والقاضي أبي بكر وجماعة من الأشاعرة وأبي الحسين البصري.

والمراد بالتراخي هو ما يقابل القول بالفور على أحد الوجوه الأربعة المتقدّمة دون الوجه الخامس ، لما عرفت ، وقد عرفت أنّ ذلك لم يكن تحديدا لمفاد الفوريّة حتّى يقابله التراخي.

ثمّ إنّ المقصود به جواز التراخي بأن يكون مفاد الصيغة جواز التأخير دون وجوبه إذ لا قائل ظاهرا بدلالته على وجوبه.

نعم ربما يحكى هناك قول بوجوب التراخي ، حكاه شارح الزبدة عن بعض شرّاح المنهاج قولا للجبائيين وبعض الأشاعرة ، لكن المعروف عن الجبائيين القول بجواز التراخي وهو المحكي أيضا عن الشافعيّة.

فالقول المذكور مع وهنه جدّا ـ حيث لا يظنّ أنّ عاقلا يذهب إليه ـ غير ثابت الإنتساب إلى أحد من أهل الأصول.

٤٧

نعم ربما يقرب وجود القائل ، ويرفع الاستبعاد المذكور ما عزاه جماعة منهم الإمام والآمدي والعلّامة رحمه‌الله إلى غلاة الواقفيّة من توقّفهم في الحكم بالامتثال مع المبادرة أيضا ، لجواز أن يكون غرض الآمر هو التأخير ، فإذا جاز التوهّم المذكور فلا استبعاد في ذهاب أحد إلى وجوبه أيضا ، بل وفي ما ذكر إشعار بوجود القائل به ، إذ لو اتّفقت الكلمة من الكلّ على الحكم بالامتثال مع التعجيل لم يحتمل الوجه المذكور حتّى يصحّ التوقّف فيه لكن نصّ في الإحكام والنهاية بأنّ المتوقّف المذكور خالف إجماع السلف.

وكيف كان فلو ثبت القول المذكور فهو مقطوع الفساد ، إذ كون أداء المأمور به على وجه الفور قاضيا بأداء الواجب ممّا يشهد به الضرورة بعد الرجوع إلى العرف ، فهذا القول على فرض ثبوت القول المذكور ينحلّ إلى قولين ويقوم فيه وجوه عديدة حسب ما أشرنا.

ثمّ إنّ مقصود القائل بجواز التراخي أنّ الصيغة بنفسها دالّة على جواز التأخير ، ما حسب نصّ عليه غير واحد منهم ويقتضيه ظاهر التقابل بين الأقوال ، وإلّا فعلى القول بدلالته على طلب مطلق الطبيعة ـ كما سيجيء الإشارة إليه ـ يفيد ذلك جواز التراخي أيضا من جهة الإطلاق أو بضميمة الأصل ، ولو كان مراد القائل بجواز التراخي ما يعمّ ذلك لاتّحد القولان.

ثالثها : أنّه حقيقة لغة في طلب مطلق الطبيعة من غير دلالة في الصيغة على الفور ولا التراخي ، فإذا أتى به على أيّ من الوجهين كان ممتثلا من غير فرق ، وهذا هو الّذي اختاره المحقّق والعلّامة والسيّد العميدي وأطبق عليه المتأخّرون كالشهيدين والمصنّف وشيخنا البهائي وتلميذه الجواد وغيرهم واختاره جماعة من محقّقي العامّة كالرازي والآمدي والحاجبي والعضدي.

وقد ذهب بعض القائلين به إلى حمل الأوامر الشرعيّة على الفور ، لقيام القرائن العامّة عليه في الشرع ، وبعضهم إلى انصراف إطلاق الطلب إليه من غير وضعه له وقد أشرنا إليه في القائلين بالفور.

٤٨

رابعها : القول بالوقف ، فلا يدري أهو للفور أو لا؟ ذهب إليه جماعة من العامّة وعزاه في النهاية إلى السيّد ، وكلامه في الذريعة يأبى عنه ؛ وهم فريقان :

أحدهما : من يقطع بحصول الامتثال بالمبادرة ويتوقّف في جواز التأخير وخروجه حينئذ عن عهدة التكليف ، وهو الّذي اختاره إمام الحرمين حاكيا له عن المقتصدين في الوقف.

ثانيهما : من يتوقّف في حصول الامتثال بالمبادرة أيضا ، وهم الغلاة في الوقف.

خامسها : القول بالاشتراك اللفظي بين الفور والتراخي ، وعزى المصنّف وغيره ذلك إلى السيّد ، واحتجاجه في الذريعة باستعماله في الفور والتراخي وظهور الاستعمال في الحقيقة يشير إليه إلّا أنّ كلامه في تحرير المذهب صريح في اختياره القول بالطبيعة.

ويمكن حمل احتجاجه بما ذكر على أنّ طلب ترك الطبيعة على سبيل الفور أو التراخي نحوان من الطلب ، وعلى القول بوضعه لمطلق الطلب يكون كلّ من الإطلاقين حقيقة ، فيوافق أصالة الحقيقة ، بخلاف ما لو قيل بوضعه لخصوص أحدهما ، فالمقصود إذن بيان أصالة الحقيقة في كلّ من الإطلاقين حسب ما ذكرنا لا فيما إذا استعمل في خصوص كلّ من الأمرين ، فإنّ ذلك غير معلوم ، ولا مفهوم من كلامه ، فلا يكون ما ذهب إليه قولا خامسا إلّا أنّه ذهب إلى حمل أوامر الشرع على الفور كحملها على الوجوب ، نصّ عليه في بحث دلالة الأمر على الوجوب أو غيره ، وظاهره كونه حقيقة شرعا في خصوص الفور فيكون إذا مذهبا آخر إلّا أنّه يندرج إذن في جملة أقوال القائلين بالفور حسب ما ذكرنا ؛ فيرتقي الأقوال في المسألة إلى خمسة عشر قولا وبملاحظة الوجوه المحتملة فيها يحتمل الزيادة على ذلك بكثير.

بقي الكلام في الثمرة بين الأقوال المذكورة فنقول : إنّ الثمرة بين القول بالفور والتراخي ظاهرة ، وكذا بينه وبين القول بالطبيعة ، وبينه وبين القول بالوقف

٤٩

على الوجه الأوّل ، إن قلنا بكون كلّ من الفور والطبيعة مطلوبا مستقلّا لا يسقط طلب الطبيعة بسقوطه وإلّا فلا يبعد القول بلزوم الفور على القول المذكور تحصيلا ليقين الفراغ بعد اليقين بالاشتغال ، ويحتمل دفع احتمال وجوب الفور حينئذ بالأصل ، إلّا أنّه خلاف التحقيق بعد إجمال اللفظ والشكّ في المكلّف به وعلى الوجه الثاني فالظاهر وجوب الإتيان به على الوجهين ، تحصيلا لليقين بالفراغ بعد اليقين بالاشتغال.

هذا إذا أمكن تكرار الفعل وإلّا تخيّر بين الوجهين وبما قرّرنا يظهر الفرق بينه وبين القول بالاشتراك اللفظي أيضا إن ثبت القول به.

وأمّا الثمرة بين القول بجواز التراخي والقول بالطبيعة فقد يقرّر فيما إذا أخّر الفعل عن أوّل الأزمنة ومات فجأة أو لم يتمكّن من الإتيان به بعده ، فعلى القول بالتراخي لا عقاب لترتّب الترك حينئذ على إذن الآمر وعلى القول بالطبيعة يستحقّ العقوبة ، لتفويته المأمور به عمدا وإن كان ذلك من جهة ظنّه الأداء في الآخر ، فإنّ ذلك الظنّ إنّما يثمر مع أداء الواجب وأمّا مع عدمه فهو تارك للمأمور به ، وقضيّة وجوبه ترتّب استحقاق العقوبة على تركه. وهذا هو الذي ذهب إليه الحاجبي واختاره بعض محقّقي مشايخنا قدس‌سره.

ويشكل ذلك بأنّ جواز التأخير حينئذ وإن كان بحكم العقل إلّا أنّ حكم العقل يطابق حكم الشرع فيثبت جواز التأخير في الشرع أيضا ، فلا فرق بينه وبين الوجه الأوّل. وهذا هو الأظهر ، إذ أقصى الفرق بين الوجهين تنصيص الشارع في الأوّل بجواز التأخير وعدمه هنا ، لكن بعد حكم العقل بجوازه وقيامه دليلا على حكم الشرع يثبت الجواز في المقام بحكم الشرع أيضا ، والفرق بين التجويزين ممّا لا وجه له.

وقد يقرّر الثمرة بين القولين بوجه آخر ، وذلك أنّه على القول بالتراخي يجوز التأخير ما لم يظنّ الفوات به ، وأمّا على القول بالطبيعة فإنّما يجوز التأخير مع ظنّ التمكّن من أدائه في الآخر ، وأمّا مع الشكّ فيه فلا ، إذ المفروض إيجاد الطبيعة

٥٠

فإذا شكّ المكلّف في تفريغ ذمّته مع التأخير لم يجز الإقدام عليه ، إذ قضية حصول الاشتغال هو تحصيل الفراغ ولا اطمينان إذن بحصوله ، فلا يجوز له إلّا الاشتغال به ، إذ لا أقلّ في حكم العقل بجواز التأخير من الظنّ بأداء الواجب معه. وفيه أيضا تأمّل.

والثمرة بين القول بالتراخي والقول بالوقف على مذهب أهل الاقتصاد ظاهرة ، بناء على الوجه الثاني منه ، للزوم الفور على ذلك القول على المختار حسب ما أشرنا إليه ، وعلى الوجه الأوّل فالحال فيه على نحو ما ذكر في الثمرة بينه وبين القول بالطبيعة ، وعلى قول أهل الغلوّ ، فالثمرة أيضا ظاهرة على ما مرّ.

وممّا ذكرنا يظهر الحال في الثمرة بينه وبين القول بالاشتراك اللفظي إن ثبت القول به ، وكذا بين القول بالطبيعة والقول بالوقف أو الاشتراك وبين قولي الوقف وبين كلّ منهما والقول بالاشتراك ، كما لا يخفى على المتأمّل فيما قرّرناه.

قوله : (وأيّهما حصل كان مجزئا).

يعني : من دون عصيان للأمر المذكور ، نظرا إلى الإتيان بمقتضاه ، ولا ينافي ذلك حصول العصيان بالتأخير من جهة اخرى فيما إذا دلّ العقل على وجوب المبادرة أو حكم به العرف ، كما إذا حصل له ظنّ الوفاة فأخّره ثمّ أخطأ ظنّه.

قوله : (لنا نظير ما تقدّم في التكرار).

ما مرّ من الكلام هناك جار في المقام فلا حاجة إلى إعادته.

وقد يورد في المقام بأنّ القول بكون الأمر موضوعا لمطلق طلب الفعل من غير دلالة على الفور ولا التراخي لا يوافق ما تقرّر عند النحاة من دلالة الفعل على أحد الأزمنة الثلاثة ، وقد جعلوه ما يزا بين الأسماء والأفعال ، فكيف يقال بخروج الزمان عن مدلوله على نحو المكان حسب ما ذكره المصنّف وغيره في المقام؟ ويمكن الجواب عنه بوجوه :

أحدها : أنّ ما ذكر في حدّ الفعل إنّما هو بالنسبة إلى أصل وضع الأفعال وإلّا فقد يكون الفعل منسلخا عن الدلالة على الزمان ، كما هو الحال في الأفعال

٥١

المنسلخة عن الزمان ، فلا مانع من أن يكون فعل الأمر أيضا من ذلك ، حسبما يشهد به فهم العرف على ما قرّره ، إذ ليس المتبادر منه إلّا طلب الفعل مطلقا من غير دلالة على زمان إيقاع المطلوب ، كمكانه وآلته.

وفيه : أنّهم لم يعدّوا فعل الأمر والنهي من الأفعال المنسلخة عن الزمان ، ولو قيل بعدم دلالتهما على الزمان لكان اشتهارهما بالانسلاخ أولى من سائر الأفعال المنسلخة ، بل نصّوا على خلافه وجعلوا مدلوليهما خصوص الحال.

وربما حكي عليه إجماع أهل العربيّة ، ففي ذلك منافاة اخرى ، لما ذكر في الاحتجاج من عدم دلالته على الزمان حيث إنّه مناف لما ذكر من إجماع أهل العربيّة على دلالته على خصوص زمان الحال ، بل نقول : إنّ قضيّة ما ذكروه دلالته على خصوص الفور وقيام إجماعهم على ذلك ، حيث إنّهم خصّوه بالحال دون الاستقبال.

فيقوم من هنا إشكال آخر وهو أنّ اتفاق أهل العربيّة على دلالته على الحال كيف يجامع هذا الخلاف المعروف بين أهل الأصول؟ وسيظهر لك الجواب عن جميع ذلك بما سنذكره من تحقيق المقام إن شاء الله تعالى.

ثانيها : أنّ المقصود ممّا ذكر في الاحتجاج عدم دلالة الأمر على خصوص الحال والاستقبال ، وذلك لا ينافي دلالته على القدر الجامع بينهما ، فيفيد طلب إيقاع الفعل في أحد الزمانين ، ومعه يحصل دلالته على الزمان ليتمّ به مدلول الفعل ولا يفيد خصوص شيء من الفور والتراخي ، كما هو المدّعى.

وفيه مع منافاته لكلام أهل العربيّة من دلالته على خصوص الحال أنّه لا يوافق ما أخذ في حدّ الفعل من دلالته على أحد الأزمنة الثلاثة ؛ مضافا إلى ما فيه من توهّم كون الفور والتراخي بمعنى الحال والاستقبال ، وهو فاسد.

ثالثها : أنّ القول بنفي دلالة الأمر على خصوص الفور أو التراخي لا ينافي دلالته على الزمان أصلا ، وما ذكره المصنّف من عدم دلالته على الزمان إنّما أراد به عدم دلالته على خصوص الفور أو التراخي ، كما هو المدّعى لا مطلق الزمان ،

٥٢

فتسامح في التعبير ، ولو حمل على ظاهره فكأنّه اختار الجواب الأوّل ، لزعمه المنافاة بين كون الأمر لطلب الطبيعة ودلالته على أحد الأزمنة ، والتحقيق خلافه ، وذلك لا ربط له بأصل المدّعى.

وكيف كان فنقول : إنّ مفاد الأمر إنّما هو الاستقبال ، فإنّ الشيء إنّما يطلب في المستقبل ، ضرورة عدم إمكان طلبه حال أداء الصيغة.

وتوضيح المقام : أنّ الحال يطلق على أمرين :

أحدهما : الحال الحقيقي : وهو الفصل المشترك بين الماضي والمستقبل ولا يمكن ايجاد الفعل فيه ، فإنّه تدريجي الحصول لا يمكن انطباقه على الآن ، وليس هو من أحد الأزمنة الثلاثة المذكورة في حدّ الأفعال ، إذ ليس الحدّ المشترك المذكور زمانا وإنّما هو فصل بين الزمانين كالنقطة الفاصلة بين الخطّين.

وثانيهما : الحال العرفي : وهو أواخر زمان الماضي وأوائل المستقبل المشتمل على الحال الحقيقي ، إذ لو خلا عنه لتمحّض للماضي أو المستقبل وهو الحال المعدود من أحد الأزمنة، ألا ترى أنّ قولك : «زيد يضرب» إذا اريد به الحال إنّما يراد به الزمان المذكور الملفّق من الامور المذكورة ، وأمّا لو اريد به أوائل زمان المستقبل بعد زمان إيقاع الصيغة لم يعدّ حالا ولا ملفّقا من الحال والاستقبال ، بل كان استقبالا خالصا ، كما لا يخفى بعد ملاحظة الاستعمالات العرفيّة ، فلابدّ في صدق الحال العرفي من الاشتمال على الحال الحقيقي.

إذا تقرّر ذلك فنقول : إنّه لا يمكن أن يراد من الأمر إيقاع المطلوب في الحال المذكور وإلّا لزم تحصيل الحاصل ، بل أقصى ما يمكن أن يراد به ثاني زمان الصيغة وما تأخّر عنها وهو استقبال خالص كما عرفت ، فإن اريد به الفور كان المراد أوائل الاستقبال ، وإن اريد به التراخي كان قاضيا بجواز التأخير إلى ما بعده من الأزمنة ، فعدم دلالة الأمر على خصوص الفور والتراخي لا ينافي دلالته على الزمان.

فمدلول الصيغة هو طلب إيجاد الفعل فيما بعد الطلب المذكور من غير دلالته

٥٣

فيه على خصوص إيقاعه في أوائله ـ أعني الفور ـ أو مع تجويز تأخيره إلى ما بعده من الأزمنة كما هو مفاد التراخي. فالمدّعى عدم دلالته على خصوصيّة الأمرين وإن دلّ على إرادة الاستقبال الجامع بينهما.

وفيه : أنّه لا يوافق ما ذكره علماء العربيّة من كون مدلول الأمر هو الحال ، والإغماض عمّا ذكروه ممّا لا وجه له سيّما بعد حكاية اتّفاقهم عليه ؛ مضافا إلى ما فيه ممّا سنقرّره إن شاء الله تعالى.

رابعها : ـ وهو المختار عندنا ـ أنّ مفاد الأمر هو الحال حسب ما نصّ عليه علماء العربيّة ، وليس الحال فيه قيدا للحدث المطلوب ، بل ظرف للطلب الواقع فيه على ما هو شأن الزمان المأخوذ في الأفعال.

وتحقيق المقام : أنّ الزمان المأخوذ في الأفعال معنى حرفي يؤخذ ظرفا للنسبة الحرفيّة المأخوذة في الأفعال ، ألا ترى أنّ «ضرب» في قولك : «ضرب زيد» له معنيان : أحدهما تامّ ، وهو معناه الحدثي ، والآخر ناقص حرفي ، وهو معناه الهيئي ، وهو نسبة ذلك الحدث إلى فاعل ما في الزمان الماضي ، ويتمّ ذلك بفاعله المذكور إذ النسبة لا متحصّل إلّا بمنتسبيها ، فيفيد في المثال نسبة الضرب إلى زيد نسبة خبريّة حاصلة في الزمان الماضي ، كما أنّ «يضرب» أيضا كذلك إلّا أنّ الملحوظ فيه زمان الاستقبال وللنسبة المذكورة جهتان :

إحداهما : من حيث صدورها عن المتكلّم وربطه بين المعنيين ، أعني : المعنى الحدثي والفاعل المذكور بعده.

وثانيتهما : جهة كونها حكاية عن نسبة واقعيّة وارتباطها بين ذلك الحدث والفاعل الخاصّ ، وبملاحظة الاعتبار الأوّل يصحّ لك أن تقول : إنّ ذلك المتكلّم أسند الضرب إلى زيد وبملاحظة الثاني يصحّ أن يقال : إنّه حكى النسبة الواقعيّة والربط الواقع بين ذلك الحدث وزيد.

والجهة الثانية مناط كون النسبة خبريّة ، فإنّ ما يحكيه من النسبة إمّا أن يكون مطابقا لما هو الواقع أو لا ، فيكون صدقا أو كذبا.

٥٤

وأمّا من الجهة الاولى فغير قابل للصدق والكذب ، فمفاد النسبة الخبريّة هي النسبة الواقعة من المتكلّم ، من حيث كونه حكاية عن أمر واقعي ، والنسبة الإنشائية هي النسبة الواقعة منه ، من حيث كونه واقعا وصادرا منه ، ولا حكاية فيها عن أمر آخر واقعي تطابقه أو لا تطابقه ، حسب ما فصّل القول فيه في محلّه.

وكلتا النسبتين معنى حرفيّ صادر عن المتكلّم إلّا أنّ في الأوّل حكاية عن الواقع بخلاف الثاني. والزمان الملحوظ في الفعل معنى حرفي وهو ظرف لتلك النسبة.

ففي الإخبار يكون ظرفا لها من الحيثيّة الثانية ، إذ هي الّتي يختلف الحال فيها بالمضيّ والحال والاستقبال ، وأمّا الحيثية الاولى فلا تكون إلّا في الحال ، ولا حاجة إلى بيان الحال فيها.

وأمّا في الإنشاء إذا اخذ فيه الزمان ، فإنّما يؤخذ من حيث صدورها عن المتكلّم ، إذ ليست فيها حيثيّة اخرى ، فلذا لا يمكن أن يؤخذ فيها إلّا زمان الحال ، وإذا نصّوا بأن الأمر للحال يعنون به ما ذكرناه.

فإن قلت : إنّ بيان ظرف النسبة في المقام ممّا لا حاجة إليه أيضا ، لوضوحه في نفسه، حيث إنّه ينحصر الحال فيه في الحال فأيّ فائدة في وضعه لبيان ذلك؟ وحينئذ نقول : إنّه لمّا شاهد الواضع انتفاء الفائدة في الوضع المفروض أخذه قيدا في الحدث المنسوب ، ليكون مطلوبه الحدث الحاصل في الزمان الخاصّ من الأزمنة الثلاثة.

قلت : فيه أوّلا إنّ جعل الزمان قيدا في الحدث يقضي بكونه معنى تامّا ملحوظا بالاستقلال لا حرفيّا رابطيّا ، لوضوح أنّ القيود الملحوظة في الحدث معنى تامّ ينسب كالحدث المقيّد به إلى الفاعل ، وليس الزمان المأخوذ في الأفعال كذلك ، لوضوح كون المعنى التامّ فيها هو معناها الحدثي لا غير حسبما قرّر في محلّه.

وثانيا : إنّه كما يتعيّن الحال في ملاحظة النسبة الإنشائيّة كذا يتعيّن الاستقبال

٥٥

في ملاحظته قيدا للحدث ، ضرورة أنّه لا يتصوّر طلب إيجاد الشيء إلّا في المستقبل ، فلا فائدة أيضا في ذلك ، فإن دفع ذلك بالفرق بين كون الشيء مدلولا التزاميّا أو وضعيّا فهو جار في الأوّل أيضا ، وإن قيل بأخذ الزمان فيه حينئذ من جهة اطّراد الحال في الأفعال فهو جار فيه أيضا ، مع أولويّة ذلك بعدم خروجه عن القانون المقرّر في سائر الأفعال.

إذا تقرّر ذلك فقد تبيّن لك أنّ الزمان المأخوذ في الأمر إنّما هو زمان الحال على الوجه المذكور ، وهو مقصود علماء العربيّة من وضعه للحال ، وذلك لا ربط له بزمان صدور الحدث عن المخاطب ، إذ قد عرفت أنّ الطلب المأخوذ في الأمر معنى حرفي نسبي آلة لملاحظة نسبة معناه الحدثي إلى فاعله ، فمفاد النسبة في «إضرب» كون الضرب منسوبا إلى المخاطب من حيث كونه مطلوبا منه في الحال ، فهو ظرف للنسبة المأخوذة كما هو الحال في الماضي والمستقبل من الأفعال وأمّا كون صدور ذلك الحدث عن المخاطب في أيّ وقت من الأوقات فهو ممّا لا دلالة في الأمر عليه وضعا أصلا ، ولا يقتضي عدم دلالته عليه نقصا في معناه الفعلي بوجه من الوجوه.

نعم إن ثبت أخذ الواضع لذلك أو لشيء من خصوصيّاته من الفور أو التراخي في الوضع كان ذلك متّبعا وإن لم يثبت ذلك كما هو الظاهر ويقتضيه التبادر وكلام علماء العربيّة فلا وجه للالتزام به.

فظهر بذلك اندفاع الإيرادات المذكورة من أصلها ، كما لا يخفى على المتأمّل فيما قرّرنا.

ثمّ إنّه قد يحتجّ لكون الأمر للطبيعة في المقام بغير ما ذكر من الوجوه المذكورة في المسألة المتقدّمة وإجرائها في المقام ظاهر ، فلا حاجة إلى التكرار وقد أشار إلى عدّة منها هنا في النهاية.

قوله : (انّما يفهم ذلك بالقرينة).

يمكن أن يقال : إنّ وجود القرينة على فرض تسليمه إنّما يدفع الاستدلال إذا

٥٦

كان فهم ذلك من الصيغة متوقّفا على ملاحظتها في المقام ، وليس كذلك ، فإنّ ذلك يفهم منها وإن قطع النظر عن القرينة المفروضة ولذا يتبادر الفور من سائر الأوامر الواردة في الاستعمالات العرفيّة ، فلو أخّر المكلّف أداءها ذمّه العقلاء على فرض وجوب طاعة الأمر وعاتبوه على التأخير ، ولذا لا يفهم من شيء من الأوامر الواردة في العرف إرادة طلب مطلق الفعل ولو في مدّة عمر المأمور.

وقد قرّر بعضهم الاحتجاج بحكم العرف بعصيان العبد مع ترك المبادرة إلى امتثال أوامر المولى. نعم لا يبعد القول بتفاوت الأفعال في ذلك فيكون ذلك شاهدا على القول بالفور ببعض الوجوه المذكورة.

ويمكن دفعه بالمنع من تبادر الفور من خطابات المولى للعبد ، وإنّما ينصرف الأمر فيها على حسب ما يقوم القرينة عليه في المقام ، فالأمر بسقي الماء ينصرف إلى التعجيل ، نظرا إلى قضاء العادة به ، والأمر بشراء اللحم ينصرف إلى شرائه في وقت يمكن طبخه للوقت المعهود ، وكذا الحال في غيرهما من المطالب ؛ فيختلف الحال فيها بحسب اختلاف الحاجات ، وليس ذلك من دلالة اللفظ في شيء ، ولو فرض عدم قيام القرينة على خصوص زمان من الأزمنة في بعض المقامات فلا انصراف في الصيغة.

نعم لو أخّر حينئذ إلى حيث يصدق التهاون في الامتثال دلّ العرف على المنع من تلك الجهة ، وقد عرفت أنّ ذلك ليس من الفور في شيء وإنّما هو تحديد لجواز التأخير على القول بالطبيعة أو التراخي ، وليس ذلك إذن قيدا في الأمر حتّى يجري فيه الخلاف في فوات المطلوب بفوات الفور ليقال بسقوط الوجوب على أحد الوجهين ، بل لا ريب حينئذ في بقاء الأمر ، وإنّما يحكم بالعصيان من جهة التهاون في الامتثال والمسامحة في أداء ما أهمّ به المولى ممّا أوجب الإتيان به ووجوب الفعل على حاله.

نعم لو كان هناك قرينة على إرادة الزمان المعيّن ، كما في كثير من المقامات سقط بفوته من تلك الجهة ، وليس ذلك من محلّ البحث أيضا.

٥٧

قوله : (إنّ الذمّ باعتبار ... الخ).

يمكن الجواب عنه أيضا بمنع دلالة الاستفهام المذكور على الذمّ فإنّه إنّما يتمّ لو كان للتوبيخ والإنكار ولا يتعيّن الوجه فيه في ذلك ، لجواز حمله على إرادة التقرير ، حيث إنّه وقع الترك منه على جهة الاستكبار والإنكار ، فأراد سبحانه بالاستفهام المذكور تقريره به عليه واعترافه به ليقوم عليه الحجّة في الطرد والإبعاد ، فلا دلالة فيها على حصول الذمّ أصلا حتّى يكون ذلك على ترك الفور ، وقد مرّت الإشارة إلى ذلك.

قوله : (والدليل على التقييد ... الخ).

كأنّ الوجه فيه أنّ «إذا» للتوقيت ، فتفيد أنّ الجزاء لابدّ من حصوله في ذلك الوقت أو أنّ «الفاء» يفيد التعقيب بلا مهلة ، فيدلّ على ترتّب الجزاء على الشرط من غير فصل.

ويشكل الأوّل أنّه لا دليل على كون «إذا» للتوقيت ، بل لا بعد في حملها على الشرطيّة ، بل ربما يكون الحمل عليها أظهر. وحينئذ فيكون «الفاء» في قوله تعالى : (فَقَعُوا لَهُ) (١) جزائيّة ، ولا دلالة فيها على التعقيب بلا مهلة ، فإنّ ذلك مفاد الفاء العاطفة ، فظهر بذلك فساد الوجه الثاني.

وقد يحتجّ على النحو المذكور بغير هذه الآية ممّا دلّ على ترتّب الذمّ أو العقوبة على مخالفة الأوامر المطلقة ، كآية التحذير ، وقوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ)(٢) إذ لو لا أنّ الأمر للفور لما صحّ ترتّب الذمّ على مخالفة الأمر المطلق ، لعدم استحقاق الذمّ حينئذ إلّا عند الوفاة.

وفيه : أنّ تأخير الفعل إلى حدّ التهاون ، سيّما مع العزم على ترك الفعل رأسا يصحّح ترتّب الذمّ عليه وإن كان فعله أخيرا يبرئ الذمّة.

وقد عرفت أنّ ذلك ممّا لا ربط له بالقول بالفور.

__________________

(١) الحجر : ٢٩.

(٢) المرسلات : ٤٨.

٥٨

قوله : (لو جاز (١) التأخير ... الخ).

يمكن تقرير الاستدلال المذكور بنحو آخر ، وهو أنّه لو لم يكن الأمر المطلق يفيد الفور لجاز التأخير ، والتالي باطل فالمقدّم مثله ، والملازمة ظاهرة وأمّا بطلان التالي فلأنّه لو جاز التأخير فإمّا أن يجوز إلى غاية معيّنة أو غير معيّنة أو يجوز التأخير دائما ، والوجوه الثلاثة باطلة ، فالمقدّم مثلها ، والملازمة ظاهرة ، إذ جواز التأخير لا يخلو عن أحد الوجوه المذكورة.

ويدلّ على بطلان الأوّل أنّه لا بيان في المقام ، إذ ليس في نفس اللفظ ما يفيد تعيين الوقت ولا من الخارج ما يفيد ذلك ، ولو كان دليل على التعيين لخرج عن محلّ الكلام والثاني يستلزم التكليف بالمحال ، إذ مفاده المنع من تأخّر الفعل عن وقت لا يعلمه المكلّف والثالث قاض بخروج الواجب عن كونه واجبا ، لجواز تركه إذن في كلّ زمان وما يجوز تركه كذلك فلا يجب فعله قطعا.

وبتقرير آخر : لو جاز التأخير فإمّا أن يجوز مع الإتيان ببدل يقوم مقامه ـ أعني العزم على الفعل فيما بعده ـ أو يجوز من دونه والتالي بقسميه باطل. أمّا الأوّل فلأنّ الإتيان بالبدل يقتضي سقوط التكليف بالبدل على ما هو شأن الواجبات التخييريّة ، وليس كذلك إجماعا. وأمّا الثاني فللزوم جواز تركه بلا إلى بدل فيلزم خروجه عن كونه واجبا ، إذ ليس غير الواجب إلّا ما جاز تركه بلا بدل.

ويرد على الأوّل أنّه إن اريد بالغاية المعيّنة أو المجهولة بالنسبة إلى المخاطب أو الواقع ، فإن اريد الأوّل اخترنا الثاني وإن اريد الثاني اخترنا الأوّل ، لأنّا نقول بعدم جواز تأخيره عن غاية معيّنة في الواقع غير معيّنة عندنا ، وهو آخر أزمنة الإمكان ، ولا يلزم فيه تكليف بالمحال، وإنّما يلزم ذلك لو وجب التأخير إلى غاية مجهولة. كذا ذكره المصنّف في الجواب عن الاستدلال ، وسيجيء الكلام فيه.

وعلى الثاني جواز اختيار كلّ من الوجهين ، أمّا الأوّل فيكون العزم بدلا عن الفور لا عن نفس الفعل ، وأمّا الثاني فبأنّه لا وجوب لخصوصيّة إيقاعه في

__________________

(١) في المتن المطبوع : لو شرع.

٥٩

خصوص شيء من الأزمنة ، وإنّما الواجب نفس الطبيعة ، ولا يجوز تركها وإن جاز الترك مقيّدا بالزمان الخاصّ ، ولا منافاة.

قوله : (فلأنّه لولاه لكان إلى آخر أزمنة الإمكان).

كان الأولى أن يقول : وإلّا لجاز التأخير إلى وقت غير معيّن ثمّ يرتّب عليه ما ذكره فلا حاجة إلى ضمّ المقدّمة المذكورة.

ثمّ إنّ ما ذكره من الاتفاق على كون جواز التأخير إلى آخر أزمنة الإمكان إن أراد جواز التأخير إليه بحسب الواقع مع قطع النظر عن تعيينه ولو بحسب الظنّ فهو ممنوع ، والمفسدة المذكورة أو غيرها مترتّبة عليه ، وإن كان ظاهر المقصود كون الغاية آخر أزمنة الإمكان على حسب الظنّ به فمسلّم ولا يترتّب عليه تلك المفسدة ولا غيرها ، لعلم المكلّف بذلك الوقت فليس له أن يؤخّر عنه حتّى أنّ الواجبات الموسّعة يتضيّق به.

وقد نصّ جماعة بتضييق الواجبات المطلقة كالنذر المطلق ونحوه بظنّ الوفاة بل الفوات ولو فرض عدم حصول الظنّ المفروض لبعض الناس لم يلزم منه خروج الواجب عن كونه واجبا ، فإنّ الواجب ما يذمّ تاركه على بعض الوجوه ، فهو بحيث لو ظنّ فواته بالتأخير عنه تضيّق فعله وتعيّن الإتيان به.

قوله : (ولا عليه دليل).

يمكن أن يقال : إنّ التأخير إلى حدّ يفيد التهاون في أمر المولى ممّا لا يجوز في الشرع ولا في العرف حسب ما أشرنا إليه ، فالمنع من التأخير كذلك ثابت والدليل عليه قائم ، وليس ذلك من التوقيت في شيء ، ويندفع به الاحتجاج المذكور.

قوله : (بما لو صرّح بجواز التأخير).

إن اريد به التصريح بجواز التأخير على الإطلاق فهو ممنوع ، إذ هو يقضي إلى ترك الواجب وإن اريد به التصريح بجواز التأخير في الجملة ، فلا يوافق المدّعى حتّى يتمّ به ما اريد من النقض.

٦٠