الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٥

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٥

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٦

هياجا فيما اعتزم ، فهي سياج عما اعتزم ، وحائطة على ما اعترم.

(قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ) دون ان يبيّن سبب الحزن ، ولكيلا يذهب مذهب التهريج. أنه يخافهم عليه ، لمح إلى سبب له : (وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) رمية إلى هدفين ، بيان سبب ، وارشاد الى عاذرة لهم حين يرجعون ، فإنهم ـ ولا بد ـ سوف يبحثون عن عذر ، فليكن : أكله الذئب ، فقد «قرب يعقوب لهم العلة اعتلوا بها في يوسف» (١).

وهب (إِنِّي لَيَحْزُنُنِي ..) صدق صراح دونما ليّ ولا تورية ، حيث إنّ كيدهم فيه ، وبعده عن أبيه ، كل يسبب حزنه ، ولكن (أَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) تلقين للكذب حيث الذئب لا يأكل الإنسان وإنما يفترسه ، وحتى إذا يأكله وكما يروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا تلقنوا الناس فيكذبوا فإن بني يعقوب لم يعلموا ان الذئب يأكل الإنسان فلما لقنهم أبوهم كذبوا فقالوا أكله الذئب» (٢).

ان (يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) صدق في ناحية حيث الافتراس أكل ، وتعليم لعاذرة ، حائطة لكي لا يقتلوه ويكتفوا في امره بان اكله الذئب من أخرى ، فقد لقنهم هذا الجواب ، وتلقين الكذب حفاظا على النفس فرض لا محالة ، قضية الدوران بين واجب كبير ومحرم صغير ، بل ليس محرما على أية حال حيث الذئب يفترس ويأكل ، ام إن «أخاف» ينحو منحى خوفه عما يفعلون ، ثم يفتعلون (فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ).

ولكي لا يصارح في (أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) قولهم (إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٤١٥ ح ٢٠ عن علل الشرايع باسناده الى عمر بن يزيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ان بني يعقوب لما سألوا أباهم يعقوب ان يأذن ليوسف في الخروج معهم قال لهم : (أَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ) فقال (عليه السلام) : قرب ...

(٢) نفس المصدر.

٤١

يلحّقه ب (وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ) انصرافا إلى أشغالكم ، لا تقصيرا في الحفاظ عليه.

ولكنهم لم يرضوا ب (وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ) على أية حال ، حيث يمس من كرامة العصبة في الإخوة ، ورحمة الأخوّة ، فرموا رميتهم الأخيرة : (قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ)(١٤).

فالغفلة عن الأخ الصغير (وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ) (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) هذه خسارة في الأخوّة بين الإخوة العصبة ، فنحن ـ إذا ـ خاسرون كل شيء ، فلا نصلح لكبيرة ولا صغيرة ، فلا نصلح لحياة كريمة ، فإذا نغفل عن أخ لنا كريم وهو أنفس من أنفسنا ، فقد خسرنا ـ وبأحرى ـ أنفسنا ونفائسنا ، فكيف ندير ـ إذا ـ شؤوننا وشؤون العائلة.

وذلك في الحق تهديد أكيد لتهدّم العائلة إن كان أبونا يخاف أن يأكله الذئب ونحن غافلون!

فسواء ألّا يأمننا عليه خيانة منّا ونكاية ، أم عجزا في حفظه ، ونحن عصبة ، وذلك أشد علينا وأنكى! (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) : أسد الفلوات والغابات ، شجعان في كل المجالات ، فكيف (أَكَلَهُ الذِّئْبُ) ونحن حضور وكلّنا عليه عيون! أم كيف نغفل عنه وهو أخونا وأمانة أبينا! وامنية عائلتنا!

وهكذا يستسلم الوالد الرحيم الحكيم بعد ذلك الإحراج لإخراجه عن محضنه (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ).

(فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (١٥).

وبالمآل ذهبوا به «وأجمعوا» بعد شتات آرائهم (أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ) كما ارتآه قائل منهم وهو كبيرهم ، وكما تؤيده تنديده بهم في قصة

٤٢

الصواع (وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ) وإنما ارتأى ان يجعلوه في غيابت الجب حيطة عليه ، ولأنهم كانوا مصممين على أمرهم الإمر وما كان له بينهم أمر إلا ما أمر! (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ) وهو في الغيابة (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا) الإمر بشأنك (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بأمرهم ، وهم لا يشعرون ماذا يفعلون ، وتنبئهم وهم لا يشعرون أنك لأنت يوسف : (قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ)(٨٩)؟ وهم لا يشعرون بذلك الوحي : ثالوث اللّاشعور للإخوة الحاقدين على يوسف الصديق (١).

والإجماع هو العزم الحاصل عن شور ، فالآن وقد ذهبوا به لتنفيذ المؤامرة النكراء ، وقد جعلوه في غيابت الجب ، وهيمن عليه كل بائسة يائسة ، الآن يأتيه ـ لأوّل مرّة ـ الوحي الحبيب : أنه ناج ، ثم ينبئهم بأمرهم وهم لا يشعرون ، وحي يطمئنه عن كل نائبة ومحنة ، إلى كل راحة ونعمة ، وعلى حدّ المروي عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «لما ألقي يوسف في الجب أتاه جبرئيل (عليه السلام) فقال يا غلام من ألقاك في هذا الجب؟ قال : إخوتي ، قال : ولم؟ قال : لمودة أبي إياي حسدوني ، قال : أتريد الخروج من هاهنا؟ قال : ذاك الى إله يعقوب ، قال : قل اللهم اني اسألك باسمك المخزون المكنون يا بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام أن تغفر لي ذنبي وترحمني وأن تجعل لي من أمري فرجا ومخرجا ، وأن ترزقني من حيث أحتسب ومن حيث لا

__________________

(١) على الاول «وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» حال لامرهم فلا يشعرون أمرهم ، وعلى الثاني حال الإنباء فلا يشعرونك ، وعلى الثالث حال لأوحينا ، والكل مقصود صالح لأن يعني ادبيا ومعنويا ، وقد أخرج الثالث في الدر المنثور عن مجاهد وقتادة وابن عباس والثاني عن ابن جريح ورواه القمي عن أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في الآية يقول : لا يشعرون انك أنت يوسف أتاه جبرئيل فأخبره بذلك

٤٣

أحتسب ، فقالها فجعل الله له من أمره فرجا ومخرجا ورزقه ملك مصر من حيث لا يحتسب ، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ألفظوا بهؤلاء الكلمات فإنهن دعاء المصطفين الأخيار (١).

فقد نبئ يوسف وهو في الجب على صغره ولما يبلغ الحلم ، ولكنها نبوءة دون حكم وعلم البلاغ : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)(٢٢) وذلك قبل ان تراوده امرأة العزيز ، وبعد قوله لها (أَكْرِمِي مَثْواهُ) فقد طالت سنون منذ اشترائه وهو طفل قبل الرهاق (٢) إلى بلوغ أشده ولكي يصلح لمراودة جنسية.

هنا نودع يوسف في غيابت الجب في تصارع بين ظلماتها وأهوالها وبين نور الوحي الأمين ، لنرى بماذا يرجع إخوته إلى أبيه وما هي ردة فعله : (وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (١٧) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ)(١٨).

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٩ ـ اخرج ابن مردويه عن ابن عمر قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .. أقول وفي اصول الكافي بسند عن أبي عبد الله ما في معناه بزيادة» ان تصلي على محمد وآل محمد ، قبل ان تجعل له من امري ... وفي امالي الصدوق باسناده الى أبي بصير قال قلت لابي عبد الله (عليه السلام) ما كان دعاء يوسف في الجب؟ فانا قد اختلفنا فيه؟ فقال : ان يوسف (عليه السلام) لما صار في الجب وأيس من الحياة قال : اللهم ان كانت الخطايا والذنوب قد أخلقت وجهي عندك فلن ترفع لي صوتا إليك ولن تستجيب لي دعوة فاني أسألك بحق الشيخ يعقوب فارحم ضعفه واجمع بيني وبينه فقد علمت رقته علي وشوقي اليه.

(٢) تفسير العياشي عن زيد الشحام عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال : كان ابن سبع سنين.

٤٤

هؤلاء الإخوة احتالوا من قبل كل الحيل لأن يذهبوا به ، والآن هم في احتيالات لتغشية أمرهم الإمر على أبيهم ، وأنّى ينجو الكاذب ويفلح ، ويكاد المريب أن يقول خذوني ، فقد ألهاهم الحقد الفائر عن سبك الكذب ، متسرعين في اصطناعه كما تسرعوا في استلاب يوسف من أبيه ، فالتقاطهم لحكاية الذئب المكشوفة دليل على التسرّع ، فقد كان أبوهم بالأمس يحذّرهم منها وهم ينفون ، ويكادون عليه يسطون ويتهكمون ، إذا فكيف يتركون يوسف وهم يستبقون؟.

(وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ) فرجوعهم عشاء حيلة أولى ، ولئلا يتطلب منهم أن يتحسسوا عنه فورهم ، حيث العشاء ظلام لا يبين ، وخطر أخطر من ذئب النهار ، ومن ثم «يبكون» حيلة أخرى يتسترون وراءها ، تبرئة لهم عما يتهمون ، حيث القاتل لا يبكي على مقتوله وهم «يبكون»!

(قالُوا يا أَبانا) نداء تجمعهم ويوسف في أخوّتهم من أب واحد ، وتستجيش رحمة الأبوة عليهم (إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ) في عدو ، ولم يكن أخونا الطفل ليسطع سباقا ، ولا معنا رفاقا ، ثم من ينظر متاعنا (وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ)!

ولكن ما لهم والاستباق وخطر الذئب حادق في البرية زعمهم ، وهم أكدّوا لأبيهم من قبل أكيد الحفاظ عليه ، لكيلا يأكله الذئب ، ثم ويوسف الطفل الذي لا يسطع مصاحبتهم في سباقهم كيف يسطع مقاتلة السارق وقد أوّل له رؤياه من قبل (وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ..) فيكف يصدقهم أنّه أكله الذئب؟ وهذه كلها آيات بينات لكذبهم المختلق الجاهل ، دونما تفكير سدا لثغراته ، وصدا عن تهماته.

ولكنهم لكي يبعّدوا كذبهم ويقرّبوا صدقهم ، يتظاهرون بمظهر

٤٥

المظلومين المهضومين في قولة ماكرة : (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا) تؤمن لنا قولنا (وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) على فرض المحال ، و «لو» هنا ، المحيلة صدقهم في تنازلهم ، لها موقعها في تشكيك يعقوب لأقل تقدير ، فبطبيعة الحال أنت تكذبنا حيث الشغف البالغ في حب يوسف يمنعك عن تصديقنا (وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) وثبت لديك صدقنا ، كيف وأنت متشكك فينا ، أم وتتهمنا أننا كاذبون.

ولكي يثبتوا صدقهم (وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ..) لائح كذبه ، لاختلافه عن دم الإنسان ، وليس في نفس الدم أثر الافتراس ، بل هو نزح ، والقميص السليم غير الممزق شاهد ثالث أنه دم كذب فهم تورّطوا بفعلة واحدة في ثالوث الكذب.

صحيح أن الدم لا يوصف بالكذب ، ولكنه كان مكذوبا فيه لحد كأنه تجسيد للكذب ، حيث الدعوى التي علّقت به كانت في غاية الكذب ، وعلى حدّ المروي عن يعقوب «اللهم لقد كان ذئبا رفيقا حين لم يشق القميص» (١) و «يا يوسف لقد أكلك ذئب رحيم ، أكل لحمك ولم يشق قميصك» (٢) فما أرحمه بقميصه ، وأشقاه به!

ولماذا (وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ) دون «بقميصه»؟ لأن (بِدَمٍ كَذِبٍ) متعلق ب «جاؤا» فالترتيب المعنوي «وجاؤا بدم كذب على قميصه» و «على» هنا تلمح ان الدم كان بظاهر القميص دون باطنه ، مما يؤكد كذبهم ، حيث الافتراس يدمي باطن القميص قبل ظاهره ، ولا يبقي على قميصه إلّا ممزقا مخترقا.

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٤١٧ في تفسير العياشي عن أبي جميلة عن رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : لما اوتي بقميص يوسف الى يعقوب فقال : اللهم ..

(٢) المصدر في المجمع وروى انه القى ثوبه على وجهه وقال : يا يوسف ...

٤٦

فقد أدرك يعقوب من دلائل الحال ، ومن شغاف القلب ، حيث القلب يهوى إلى القلب ، أن دعواهم كذب : (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) فأنفسكم الحاسدة سولت لكم وزينت أمركم الإمر وأنتم تحسبون أنكم تحسنون صنعا ، وليس مني في هذه الداهية إلّا (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) : «لا شكوى فيه فمن بث لم يصبر» (١) (وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) صبر جميل في الله واستعانة فيما يصبر عليه بالله ، دونما شكوى إلى غير الله ، ولا استعانة بغير الله.

ليس الصبر في ميزان الحق خنوعا على الظلم وخشوعا لدى الظالم يفعل ما يشاء ، فانه ظلم ذو بعدين ، فانما هو استقامة في القلب ، وحفاظ على النظام النفسي من التبعثر ، وانضباط للجمعية الداخلية من التفرق والتمزق والتعثّر ، وعدم الخروج عن الاعتدال بحق الله وحق الناس ، حينما تكلّ الأسباب عن دفع النازلة.

فعدم التصبّر عند هذه النوازل ، يخلّف كل تبعثر وتعثّر ، فهو نائبة فوق نائبة ، ونازلة تلو نازلة ، قد تربوا على أصل النازلة ، كمن لا يملك نفسه عند هياج النوازل فيقول في ربه ما لا يحمد ، ويفعل بعباد الله ما لا يجوز.

ثم وذلك الصبر منه جميل ومنه غير جميل ، كمن يشكوا بلواه إلى غير

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ١٠ بإسناد عن حيان بن أبي جميلة قال سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن قوله (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) قال : لا شكوى ... وفي هامش نور الثقلين ٢ : ٤١٧ نقلا عن كتاب سعد السعود لابن طاووس نقله من تفسير أبي العباس بن عقدة عن عثمان بن عيسى عن المفضل عن جابر قال قلت لابي عبد الله (عليه السلام) ما الصبر الجميل؟ قال : ذاك صبر ليس فيه شكوى الى الناس.

٤٧

الله متفجعا ، والجميل : (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٨٦) (.. فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (٨٣).

فيا لله ، ما أصبره على فقد يوسف ، إذ لا يجابه إخوته إلا بجميل الجواب ومجمله : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ) فلا أمر لي معكم ، وإنما هو الله ، أستعينه عليكم فيما تصفون ..

هذا يعقوب القرآن في صبر جميل ، ولكنه في التورات يمزق ثيابه ويضع مسحا على حقويه قائلا : إني أنزل إلى ابني نائحا إلى الهاوية مصدقا أنه افترسه وحش رديء .. (١)

__________________

(١) في الاصحاح ٣٨ من تكوين التورات تلوما مضى من قصته : «ثم جلسوا ليأكلوا طعاما فرفعوا عيونهم ونظروا وإذا قافلة اسماعيليين مقبلة جلعاد وجمالهم حاملة كثيراء وبلسانا ولادنا ذاهبين لينزلوا بها الى مصر فقال يهوذا لإخوته : ما الفائدة ان نقتل أخانا ونخفي دمه تعالوا فنبيعه للإسماعيليين ولا تكن أيدينا عليه لأنه أخونا ولحمنا فسمع له اخوته ـ

واجتاز رجال مديانيون تجار فسحبوا يوسف واصعدوه من البئر وباعوا يوسف للإسماعيليين بعشرين من الفضة فاتوا بيوسف الى مصر ورجع رأوبين الى البئر وإذا يوسف ليس في البئر فمزق ثيابه ثم رجع الى اخوته وقال : الولد ليس موجودا وانا الى اين اذهب ـ

فأخذوا قميص يوسف وذبحوا تيسا من المعزى وغمسوا القميص في الدم وأرسلوا الملون واحضروه الى أبيهم وقالوا : وجدنا هذا حقق أقميص ابنك هو ام لا ، فتحققه وقال : قميص ابني وحش ردي اكله افترس يوسف افتراسا فمزق يعقوب ثيابه ووضع مسحا على حقويه وناح على ابنه أياما كثيرة فقام جميع بنيه وجميع بناته ليعزوه فأبى ان يتعزى وقال : إني انزل الى ابني نائحا الى الهاوية وبكى أبوه.

٤٨

وأين الصبر لجميل في هذه الداهية على علمه بحياته تحقيقا لتأويل رؤياه ، والنوح عليه إلى الهاوية كأنه مفترس تجاهلا عن تأويل رؤياه؟.

لحد الآن حققوا ما حسدوه ، ثم وما ليوسف المحسود بعد ذلك الحقد الحقود؟ وبعد ان رأى رؤياه فأكرمه أبوه أكثر من الإخوة.

إنه في مرحلة ثالثة يصبح سلعة وبضاعة بثمن بخس دراهم معدودة ، من اخوته أمّن ذا ممن شروه ، ثم إلى مثواه المكرم ، ثم المتهوّس لحريم البلاط ، ومن ثم السجن لردح بعيد من الزمن ، ثم العزة العزيزة ، وفي ثامنة المراحل (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) تحقيقا حقيقا له من رؤياه ، بعد ما اجتاز هذه السبع وكلها رزايا في مختلف القضايا!.

ومن هنا يسدل الستار على يعقوب والإخوة ، عيادة ليوسف ، وعودا سريعا إليه في الجب ، لنرى وعد الله له في وحيه :

(وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٩) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ)(٢٠):

«سيارة» وهي كثيرة السير ، توحي بان الجب كانت على طريق القوافل ، المعبدة ، حيث يبحث عن الماء والكلاء ، وهو تأييد ثان أن الجب هي بئر الماء بين الكلاء ، و «واردهم» هو قاصد الماء بينهم ، الموظف لسقيهم (فَأَدْلى دَلْوَهُ) : أرسل دلوه في الجب ، فإنّ أدلى ودلى متعاكسان إدخالا وإخراجا ، والمناسب هنا الإدخال ، ام والإخراج بمناسبة البشرى : (قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ) يبشر به السيّارة أن حصل على غلام حين نزح الماء ، ام يعنيهما معا حيث ادخل دلوه وأخرج ، مهما كانت البشرى للإخراج. (وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ وَشَرَوْهُ ..).

٤٩

أترى من هم الذين أسروه وشروه ، أهم إخوته؟ وقد أسدل الستار عليهم إلى السيارة! ولماذا يسرونه بضاعة وهو لهم! وهم لم يذهبوا إلى مصر حتى يشروه بثمن بخس! ام هم أسروه بضاعة والسيارة شروه؟ فكذلك الأمر! ثم كيف هم يسترونه والسيارة يشرونه بدل ان يشتروه ، ثم يشروه في مصر! ام هما السيارة أسروه بضاعة مخافة ان يأتي صاحبه فيأخذه ، ثم شروه بثمن بخس حيث الملتقط لا يشرى غاليا وكما يسوى في السوق الحر ، ولأنه قد ياتي صاحبه فيأخذه ممن اشتراه فليبخس فيه لذلك من اشتراه ، ولأنّه كانت عليه ملامح الحرية دون أية لمحة من الرقية ، فلذلك كله تشرى هذه البضاعة بثمن بخس دراهم معدودة (وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ)!

فيا لله «قد كان يوسف بين أبويه مكرما ثم صار عبدا حتى بيع أخس وأوكس الثمن ثم لم يمنع الله ان بلغ به حتى صار ملكا» (١).

والبخس هو نقص الشيء على سبيل الظلم ، وذلك ظلم بالغ من السيارة بحقه بعد ظلم اخوته ، فإن ملامح الرقية فيه منفية ، ومظاهر الحرية ثابتة ، ولم يكن يوسف ليسكت ـ لأقل تقدير ـ عن أنه حرّ ، فكيف يشرى وهو حرّ ، ولماذا بثمن بخس إذا هو رق؟ مظالم بعضها فوق بعض.

والدراهم هي النقود الفضّية ، والمعدودة هي الخفيفة حيث الثقيلة توزن ولا تعد ، وهذه قلة في قلة ، قلة في أوزانها ، وقلة في أعدادها ، يشرى بها من لا يسامى بأغلى ثمن (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ) بحقه من بخس وإهانة ومسّ من كرامة ، وهذه نهاية المحنة الأولى في حياة ذلك النبي الكريم.

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٤١٨ ج ٣٧ العياشي عن عبد الله بن سليمان عن جعفر بن محمد (عليه السلام) قال : قد كان ...

٥٠

يتنقل من محضن العائلة ، الى الجب بأيدي أثيمة من إخوته ، ثم بضاعة إلى أيدي السيارة رقا يشرى وأدنى من سائر الرق ، ومن ثم إلى الذي اشتراه من مصر ، يد طامعة فيه :

(وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(٢١).

هذه حلقة ثانية من حلقات القصة ، يصل فيها يوسف إلى مصر ويشرى بثمن بخس دراهم معدودة ، ولكن الذي اشتراه يتوسم فيه كل خير على صباه ، حيث الخير لائح في الوجوه الصباح ، وبخاصة حين ترافقها الأخلاق الملاح.

فرغم أنه اشتراه بثمن بخس ، يراه ثمينا لائحا فيه كل بصمات الخير ، متحللا عن كل وصمات الشر ، ولذلك يوصي العزيز عزيزته فيه بكل خير : (أَكْرِمِي مَثْواهُ) دون أكرميه ، والرق أيا كان لا يكرم ، ولا سيما في بيت العزيز ذي السلطة والجبروت ، فضلا عن أن تتصدى إكرامه سيدة البلاط ، البعيدة عن جزئيات الأمور وسفاسفها ، وهي هنا تتصدى إكراما لمثواه ، مكانه ومكانته ، إكرام الشخصية ذي أبعاد وظلال ، دون إكرام الشخص ـ فقط ـ في مأكل ومشرب وملبس ومنام ، فليكرم في ذلك البيت بقمة الإكرام ، لحد كأن السيدة خادمته والسيد خادمه ، فهو ـ إذا ـ أعز من العزيز والعزيزة ولماذا؟ (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) ينفعنا ما نبغيه من مختلف المنافع ، كأن نشريه بأغلى الأثمان ، او نستخدمه لأعلى المناصب ، أم ـ وبأحرى ـ نتخذه ولدا يرثنا ، إذ لم يكن لهما ولد ، وهذا الغلام أحرى من يتخذ لهما كولد.

وحق للعزيز أن يتفرس فيه تلك الفراسة العالية ، إذ كان ذا جمال قمة

٥١

يبهر الأبصار ، ويوله ذوي الأبصار ، لطيف الحركات ، مليح اللمحات ، عالي الصفات ، لحد تقول عنه نسوة في المدينة (ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ)! فضلا عن العزيز والعزيزة.

(وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ ...) فالممكّن في بلاط العزيز : رئيس الشرط ام رئيس الوزراء أمن ذا ، هذا الذي له العزة الوحيدة ، غير الوهيدة ، في مصر ، وعلّه الملك ، أم ولي عهده ، والممكّن هنا ، المكرم مثواه في ذلك البلاط ، هو ـ دون هوادة ـ ممكنّ في كل البلد.

هذه ظاهرة الأمر ، ولكنها محنة من ناحية أخرى جارفة لا يقف لها إلّا من رحم الله ، ليس السجن إلّا أدناها : (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) فان جوّ البلاط بما يغشاه من استهتار وفجور ، وفي إصرار امراة العزيز ، ثم نسوة في المدينة ، هو جو المحنة والبلاء ، إلّا لمن رحم الله وعصم.

ذلك ، ولكن التمكين المكين في الأرض ، وإيتاء الحكم والعلم ، يتطلّب سلوك طريق شاقة ملتوية ، مليئة ، بالأشلاء والدماء ، (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً)!

(وَكَذلِكَ مَكَّنَّا ... وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) حيث التأويل كان السبب الأخير لنجاته ، واحتلال عرش العزة والملك (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) :

إخوته أرادوا عليه امرا ، والسيارة امرا ، والعزيز ثالثا كلها في ثالوثها إمر ، والله أراد أمرا (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) لا غالب على أمره ولا يسامى ، مهما كان أمره يتخلل أمورا كلها إمر (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) حيث ينظرون و (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ

٥٢

هُمْ غافِلُونَ) فيحسبون كلّ أمر نافذا إلا أمر الله ، كأنه مغلوب على امره! رغم (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) (٦٥ : ٣) وقد يعني «أمره» هنا أمر يوسف في ظلال أمره تعالى ، فلا غالب على أمر يوسف الا الله.

وهذه بداية تمكينه في الأرض ، كوسيلة لتمكنّه بعد ردح ، ولمّا انتصب على خزائن الأرض تم ذلك التمكين : (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ) (٥٦) فليس تمكنه في بيت العزيز هو فقط تمكينه فكما (وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) كان يستقبله ، كذلك تمكينه المكين يستقبله.

والواو في «ولنعلمه» عطف على محذوف معروف وغير معروف كما حقق الله تعالى فيه من أمره ، كإيتاء الحكم والعلم أمّاذا من مكانات روحية ومكرمات بجانب المكانة الزمنية.

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٢٢) وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢٣) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ

٥٣

كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤) وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٥) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (٢٩) وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٠) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ

٥٤

عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (٣١) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٣) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(٣٤)

ظل يوسف الصديق يترعرع ، وفي خدمته العزيز والعزيزة ، فقد دخل عبدا خادما ، وظل سيدا مخدوما.

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)(٢٢).

والأشد جمع الشّدّ ، وأقله ثلاث ، شد العقل والجسم وشد الرشد الاجتماعي وهو الحكمة (١) شدات ثلاث تصلح ظرفا صالحا ـ على

__________________

(١) راجع ج ٢٦ ص ٣٥ من الفرقان حول الآية «حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ ..» تجد بحثا فصلا حول الأشد.

٥٥

شروطها ـ لإيتاء الحكم والعلم ، ولأن الأنبياء أكمل الخلق خلقا وخلقا ، فالمعني من أشدهم دون قرينة ، هو بلوغ خمسة عشر سنة ، ثم من الأشد المستوى الوسط كما في موسى (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) (٢٨ : ١٤) ومن الأشد بعد الوسط بلوغ الأربعين : (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ) (٤٦ : ١٥) ولو لا قرينة «أربعين» هنا «واستوى» هناك كان الأشد فيهما كما في يوسف ، ثم ولا يعقل تصبّر امرأة العزيز في غريزتها المتعطشة الطائشة بعد بلوغ الحلم إلى ثلاثين أو أربعين وقد مضى شطر عظيم من ثورة الجنس فيهما!

وللحكم المؤتى والعلم درجات حسب درجات الإحسان (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أترى أن حكمه هنا هو نبوءته؟ وقد نبّئ قبله وهو في الجب : (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ)! وقد يقرن بالنبوة والكتاب : (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) (٣ : ٧٩) (أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) (٦ : ٨٩)!.

وقد يؤتى الحكم دون نبوة ولا كتاب كما في طالوت حيث أوتي ملكا يحكم به على شعب إسرائيل ، ولكن لا نبوة إلّا ومعه حكم شرعي وقضاء مهما لم يكن معه حكم زمني ، فالحكم إذا هو تحكيم الفضائل بسلطة شرعية عامة ، او زمنية ، ام قضاء خاص ، وهو في يوسف يجمع الثلاث إضافة إلى «علما» فليكن حكمه حكم الله في ايّ من الثلاث ، وعلمه فيما يرتبط بالدعوة إلى الله من علم الله ، فلا خطأ ـ إذا ـ لا في حكمه ولا في علمه ، ف ـ (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) (٤٠) وقد يؤتاه من ارتضاه الله كما هنا في يوسف ، وفي سائر الحكم لسائر النبيين أمن هم من الحاكمين كطالوت وأئمة الدين المعصومين (عليهم السلام).

٥٦

وقد تلمح جمعية الصفات في «آتيناه» أن حكما وعلما يجمعان الثلاث مع بعض في يوسف الصديق (عليه السلام).

(وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) منحة الحكم والعلم جزاء إحسانهم وعلى حدّ إحسانهم دونما فوضى جزاف!.

ثم كل قبيل من الإحسان يتطلّب حكمه وعلمه وفقهه ، من إحسان العقيدة والأخلاق ، والسيرة والسلوك ، والعلم والفهم أما ذا من درجات الإحسان ، فالمؤتى حكم النبوة وعلمه هو المحسن بما يصلح لها ، ولكن ليس كل من أحسن بالغا ما بلغ يؤتى ذلك الحكم ، فإنه كسبي كظرف صالح ، وانتصابي كما يراه الله في كل زمن حسب حاجة المرسل إليهم.

ومن حكمه الموهوب تمكينه في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء : (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) كما من علمه الموهوب علم تاويل الرؤيا الموعود له من قبل : (وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) إضافة إلى سائر الحكم والعلم المعلومان من طيّات القصة ، كحكم النفس إحكاما لها وتوطيدا أمام الشهوات ، وهو من الحكمة العملية والعلم بتأويل الأحاديث وهو من الحكمة النظرية ، حكم عليم ، وعلم حكيم يجتمعان في هذا النبي العظيم (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)!

وعلى أية حال فكل حكم بالغ وعلم سابغ هي من مخلفات النبوة ، فالحكم هنا حكم الله والعلم علم الله لا جهل يداخله ولا باطل يزاوله.

(لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) آتاه الله حكما وعلما ، يسرا في المعرفة الواصبة الخالصة ، وهل يحصل يسر بلا عسر؟ كلا! (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) لذلك نراه يبتلى بامرأة العزيز ونسوة في المدينة منذ أشدّه ، كما ابتلي بإخوته منذ رؤياه الى جبّه ، ورطات من قبل ومن بعد وليتحقق وعد الله في هذا البين

٥٧

(آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) ومن ثم (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ..).

هنا تبدأ حلقة ثالثة هي أخطر الحلقات وأبلاها ، وأخطر من هدر النفس والنفيس ، فانه جوّ تهدّر العصمة والخلوص لله ، (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ)! :

(وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)(٢٣).

(الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها) هي امراة العزيز ، وهذه صيغة سائغة عنها وعن موقفه (عليه السلام) دون (امْرَأَةُ الْعَزِيزِ) فالبيت بيتها ، وهو في بيتها وتحت إمرتها وملكتها ، مما تزايدها سلطة عليه وتأمرا ، وتزيده عجزا عن المقاومة وتذمرا.

وبطبيعة الحال في يوسف ، وهو في بداية الحلم وقوة بالغة في فورة الجنس وثورته شابا في غليان الشهوة وفوران الشبق ، في بلاط ملكي له كل وسائل العيش وأسباب الرياحة والترح ، كان له ان يراودها ، وهي بطبيعة الحال شابة جميلة تائقة في غرامها ، متزينة ـ على جمالها ـ بأرقى زينها ، متدللة متغنجة تتوق إليه نفسها ، مشغوفة بحبه ، والهة تائهة في وصاله! فائقة الجمال ، عزيزة العزيز ، عشيقة والهة تتوق إليها النفوس ، فتانة رنانة حنّانة ، لا يرد رأيها ولا يثنّى أمرها ، وقد ربّته كما أمرت في إكرام بالغ لمثواه ، ولكنه ـ رغم كل هذه وتلك ـ لم ينظر إليها نظرة شهوة ، ولا خلد بخلده لها لهوة ولا لحظة ، فهي هي التي تراودها عن نفسه ، مما يزيده إليها هوى ، والمراودة من الرّود : التردد في طلب شيء برفق ولينة ، بكل سعي وإصرار وحيلة ، والرائد الذي يرسل في التماس النجعة وطلب الكلاء ، والمراودة عنه استلاب المراد ممن هو عنده (قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ)

٥٨

استلابا عنه بتردد والتماس ، ف (راوَدْتُهُ .. عَنْ نَفْسِهِ) استلاب نفسه عنه حتى لا يملكها وهي تملكها فتفعل ما تشاء.

فقد احتالت له مرارا وتكرارا في قولة وفعلة ، مراودة إياه عن نفسه رغم تمنّعه وتمعّنه فيما تهوى ، فلم تنجح لما تهوى فان نفسه كانت مربوطة متعلقة بعصمة إلهية مطمئنة بالله ، راضية عن الله مرضية عند الله. فكيف تراود عنه؟ اللهم إلّا ألّا يرى برهان ربه وقد رأى!

ولكي تسد أمامه كل ثغرات الفرار ، وكافة الأعذار (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ) وعلّها أبواب الفرار إلى باب الدار حيث (أَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ) دون الأبواب ، أم وإذا كانت لمخرج البيت أبواب ، فلا يكمل الهدف ـ فقط ـ بإغلاقها ما دامت أبواب الأعذار باقية للفرار ، إذا ف (غَلَّقَتِ الْأَبْوابَ) تعم كافة الأبواب ، التي يدخل منها ويخرج عنها ، فلم يبق باب لعذره إلّا مغلقة ، والشهوة في الشاب والشابة حاضرة ، والموانع في ميزانها زائلة ، ولكنها ـ بعد ـ لم تنجح في بغيتها فرأت فيه تأبيّا وصمودا ، فعندئذ صرخت عليه (وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ) والأرجح أنها من أسماء الصوت العجاب وقد تعني هاه هاه! ويلك ويلاك! من ذلك الصمود كالحجر الصّلد ، والجبل الشامخ الصلب ، لا تحركه العواصف ولا تزيله القواصف ، لا يتحسس لها ولا يميل إليها ولا يكلّمها في كل هذه الطائلات الغائلات ، إلّا كلمة تكلمها ، وتفتح كافة الأبواب التي غلقّتها :

(قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)(٢٣).

إنه في هذه المرحلة التائهة الحساسة لا يسايرها في معاذ ليقول : معاذ العزيز حيث أحسن مثواي ، فما العزيز بعزيز أمام ربه العزيز ، فإنما (مَعاذَ اللهِ) فقط لا سواه ، مهما اعترفت به العزيزة أم أنكرت ، والبيت بيت الشرك والشهوة ، جوّ لا منفذ فيه لتوحيد الله ، ولكن يوسف هو الآن كما

٥٩

كان وسوف يكون ، نبيا وإلها في الله ، متيّما في حب الله ، لا يجلو له جمال دون جماله ، ولا جلال أمام جلاله.

فهب إنها غلقت الأبواب التي كانت بيدها مفاتيحها ، فهل لها أن تغلق باب قلبه إلى الله ، المليء من حب الله ، الخالي عما سوى الله ، فلا يستمسك في هذه الهزاهز بأسباب غير الله ، إلّا بعروة التوحيد : (مَعاذَ اللهِ).

فما أبعد قلبا عن قلب ، قلبا لامرأة العزيز مقلوبا غزيرا من الشهوات واللهوات ، حيث أسعرت في سرها كل لهيب إلى علانيتها ، وأججت كل نار حتى استغرقت في حب فتاها ، وتولهت في غرامه ، واشتغلت به عن كل شيء ، فهو بداية منطقها ونهايته ، وهو في ضميرها حين تسكت (قَدْ شَغَفَها حُبًّا) حيث دخل شغاف قلبها (١).

وقلبا ليوسف الصديق لا يحن إلّا إلى الله ، وليس فيه إلّا حب الله ، متناسيا عن حب من سواه إلّا فيه ، فكيف يعشق امراة ذات بعل مهما كان لجمالها ومالها من جواذب.

لذلك يقول في جوابها (مَعاذَ اللهِ) لأنه الله و (إِنَّهُ رَبِّي) لا سواه (أَحْسَنَ مَثْوايَ) لا سواه ، فقضية ألوهيته أن يتقى ، وقضية ربوبيته أن يتقى ، ولأنّه أحسن مثواي ، وإن كان ربك العزيز أمرك أن (أَكْرِمِي مَثْواهُ)

__________________

(١) في معاني الاخبار باسناده عن أبي حمزة الثماني عن السجاد (عليه السلام) في حديث يوسف الطائل قال (عليه السلام) وكان يوسف من أجمل اهل زمانه فلما راهق يوسف راودته امرأة الملك عن نفسه فقال : معاذ الله إنا اهل بيت لا يزنون فغلقت الأبواب عليها وعليه وقالت لا تخف والقت نفسها عليه فأفلت منها هاربا الى الباب ففتحه فلحقته فجذبت قميصه من خلفه فأخرجته منه فأفلت يوسف منها في ثيابه فالفيا سيدها ..

٦٠