الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٥

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٥

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٦

التأويلان ظاهران في تناسبهما مع رؤياهما ، ولكن ترى ما هو موقف (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ)؟

هل إنه يلمح بتكذيب منهما لرؤياهما؟ فكيف اصغيا لدعوته الرسالية قبل تأويلهما! وما هو الدافع لاختلاق رؤيا عند من يريانه من المحسنين! ولم يكن يدعي من ذي قبل أنني عالم بتأويل الرؤيا حتى يجرباه امتحانا او امتهانا! وقوله للذي ظن انه ناج منهما اذكرني عند ربك ، ثم سكوته عما يكذبه في تأويله لكذبه في رؤياه ، دليل لا مرد له على صدقه في رؤياه! وكيف يلهم نبي الله تأويل الرؤيا ولا يلهم كذبها وفيه فضح الرسول ونقض الرسالة!

أو أنه ـ لأقل تقدير ـ لمحة بتكذيب الآخر رؤياه إذ هوّله ما اوّله من صلبه؟ فكذلك الأمر! ثم ولم يكن التهويل إلّا للآخر فلما ذا يجمع معه الأوّل في «تستفتيان»؟!

ومن ثم كيف يتحقق تأويل رؤيا كاذبة ، فما رواية كذبه أو كذبهما إلّا كاذبة ، لا تلائم الآية وساحة النبوة ولا عدل الربوبية ، أن الكذب في رؤيا جزاءه الصلب!

قد يعني (قُضِيَ الْأَمْرُ ..) القضاء على الحيرة الحاصلة للاوّل بتبشيره وللآخر بإنذاره ، وعلّ الآخر أخذته الريبة في تأويله تخوفا ، والآخر أخذته تبجحا وتنشفا ، لذلك يؤكد صدق فتواه في تأويله بقضاء الأمر ومضيّه ، والأمر المستفتى فيه هو الرؤيا ، وقضاءه تحقق تأويله ، وهذا أولى بأدب اللفظ وحق المعنى ، دون تحميل على الآية ولا تأويل دون دليل!

(وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ)(٤٢).

١٠١

«وقال» يوسف بعد قضاءه أمر صاحبي السجن وإفتاءه ما أفتى (لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا) أتراه هو الذي ظن فيما أفتاه وقضاه؟ والقضاء علم! ولا سيما أنه من تعليم الله : «ولنعلمنه من تأويل الأحاديث»! فهل إن الله يظن كما الخلق؟ أم إن النبي يظن فيما يقضي به بالوحي؟.

أم الذي أفتى بنجاته هو الذي ظن؟ وقد يؤيده (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) حيث يلمح أنهما لم يصدقاه تماما ، وهو طبيعة الحال فيمن لم يؤمن بالوحي والرسالة ، فإنما آمن بما قضي له ظنا إذ كان لصالحه ، وهو قضاء رجل محسن صالح (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ).

وقد يعني فيما عناه ظن يوسف أيضا ، حيث العلم الظاهر هو في الحق ظن ، إذ (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) اللهم إلّا في أحكام الشرعة فلا محو فيها إلّا نسخا ، فرغم أن يوسف كان يعلم بما علمه الله أنه ناج ، ولكنه مما يتحمل المحو والإثبات فعلّه يمحى او علّه يثبت ، فلذلك يصح التعبير أنه ظن ، ولكن أين ظن من ظن؟ ظن الناجي قصورا لعدم الإيمان ، وظن يوسف عالما لقمّة الإيمان ، أن لله أن يمحو ما علّمه وقضاه.

(قالَ ... اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) لما نجوت ، أذكر أنني في سجنه حيث أنسوني بتهمة المراودة (حَتَّى حِينٍ) واذكر حالي (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) وعلمي بتأويل الرويا ، علّه يحتاجني فلا يجتاحني ويبقيني على تهمتي في السجن (حَتَّى حِينٍ) وحين يعلم ربك أنني من المحسنين والعالمين بتأويل الرويّ ، وأنني كما بينت من النبيين ، علّه يغير رأيه : أنني من الخائنين والجاهلين ومن الناس العاديين.

(فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ ..) وترى من هذا الذي أنساه الشيطان ذكر ربه؟ هل هو يوسف الصديق؟ وهنا شهادات سبع ـ كما هناك ـ في «هم بها» على برائته ، وأن الشيطان إنما أنسى الناجي منهما أن يذكره عند الملك.

١٠٢

(فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ ..) شاهد أوّل على برائته حيث الإنساء هنا مفرّع على (قالَ لِلَّذِي ..) ولو كان الإنساء ليوسف لكان «فأنساه» مفرعا عليه ، وقلبت العبارة لتدل واضحة عليه : (فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ ...) فقال حتى يكون قوله نتيجة إنساء الشيطان ، وهو الآن يعاكسه ، فإنما الشيطان أنسى الناجي ذكر ربه ، وبالنتيجة (فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) ما لو ذكره لم يلبث بضعها.

٢ وشاهد ثان (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ ..)(٤٥) بعد آيتين هنا ، وبعد مضي بضع سنين ، والمدّكر هو الناجي ، وليس الادكار إلّا بعد النسيان ، فليكن إنساء الشيطان له حتى (ادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) دون يوسف المظلوم الصدّيق الذي ظلمه العدو والصّديق.

٣ وشاهد ثالث (وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ ..) فلو كان (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) توسلا منه إلى غير الله ، ونسيانا لذكر الله ، لكان يستجيب الملك فور وصول الرسول ، وهذا مما يدل أن (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) كان منه ذريعة إلى برائته عن سجن التهمة ، وذلك قضية الإيمان وذكر الرب ، دون نسيان لذكر الرب.

٤ وشاهد رابع (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ)(٥٢) فما قولي للناجي «اذكرني» إلّا لهذه الغاية ، ليعلم العزيز أني لم أخنه ، وهم زجوني في السجن بتهمة الخيانة ، وهذا من خلفيات ذكر الرب دون نسيانه ، حيث المحاولة في البرائة عن الخيانة ولا سيما عن ساحة النبوه ، هذه قضية قوة الإيمان دون ضعفه أو نسيان لذكر الله.

٥ وشاهد خامس أن إنساء الشيطان لذكر الرحمن من أنحس السلطان على قلوب العباد ، وليس للشيطان اي سلطان على عباد الله المخلصين كما في آيات ، وفي يوسف (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا

١٠٣

الْمُخْلَصِينَ)(٣٤) وإنساء الشيطان من أسوء السوء وأفحش الفحشاء ، لأنه مفتاح كل سوء وفحشاء ، أفيزعم مختلقو التهم على يوسف أن ربه كذب فما صرف عنه إنساء الشيطان ، أو نسي أنه من عباده المخلصين؟!

٦ وشاهد سادس أنه لم يهم بها إذ (رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) ولا صبا إليهن إذ «صرف (عَنْهُ كَيْدَهُنَّ) وهذان الموقفان من أخطر مواقف الامتحان وأزلّها للأقدام ، ويوسف الصديق لا ينسى فيهما ربه ، فبأحرى ألّا ينساه في السجن ، وهو أحب إليه مما يدعونه إليه! فكيف يتوسل في الخروج عنه دخولا في سجن النسيان.

٧ وشاهد سابع أن التوسل إلى غير الله فيما لا يجوز ، كخلفية لإنساء الشيطان هو من الشرك ، وهو القائل لصاحبي السجن (ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ) وهذا هو «من شيء» ومن أشنع شيء!

وهو القائل (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ ..) وابراهيم لم يبرز حاجته لجبريل وهو على المنجنيق إلى النار حيث يقول له : أما إليك فلا ، فكيف يتوسل متّبعه في ملته بفرعون لخلاصه بوسيط فرعوني مشرك؟!

ثم إن ذكر الله والإخلاص لله لا يستوجب ترك التوسل بالأسباب للتوصل الى ما يرضاه الله ، يوسف يدخل إلى سجنه حيث أحبه فرارا عما يدعونه إليه ، ولكنه سجن بتهمة المراودة ، وهي أقل المحظورين بالنسبة له ، فهلّا تجب عليه محاولات متعددة مشروعة لإبعاد التهمة الملصقة به ، فلو كان سجنا بلا تهمة لم يكن ليتوسل بمن توسل ، اللهم إلّا لراجحة او واجبة اخرى.

ففي الحق ليست قالة الصديق للذي ظن أنه ناج : (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) إلّا تحقيقا لأمر الحق بحقه حفاظا على ساحة الرسالة القدسية من تهمة الخيانة وخيانة التهمة ، وكما أمر الله (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) وإذا كان

١٠٤

خروجه من السجن بهذه الذكرى الصالحة فهي وسيلة إلى الله خلاصا له من السجن وكما قال الله (.. وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ ..)(١٠٠).

أفيحق بعد ذلك كله أن يتهم بإنساء الشيطان له ذكر ربه! ام يندّد به لماذا توسل بما توسل لبراءته؟ إن هذا إلّا افك قديم وشيطنة مدروسة وهرطقة مدسوسة ضد ساحة الرسالة القدسية وان تظافرت به الروايات (١) فانها مضروبة عرض الحائط لمخالفتها كتاب الله!

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٣٠ اخرج بعدة طرق عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قال : رحم الله يوسف لو لم يقل اذكرني عند ربك ما لبث في السجن طول ما لبث او : لو لا ان يوسف استشفع على ربه ما لبث في السجن طول ما لبث ولكن إنما عوقب باستشفاعه على ربه ، او لو لم يقل يوسف الكلمة التي قال ما لبث في السجن طول ما لبث حيث يبتغي الفرج من عند غير الله تعالى.

وفي نور الثقلين ٢ : ٤٢٧ عن المجمع وقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قال : عجبت من اخي يوسف كيف استغاث بالمخلوق دون الخالق ، وعن تفسير العياشي عن يعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : قال الله ليوسف : الست حببتك الى أبيك وفضلتك على الناس بالحسن ، او لست بعثت إليك السيارة وأنقذتك وأخرجتك من الجب؟ او لست الذي صرفت عنك كيد النسوة؟ فما حملك على ان ترفع رغبتك او تدعو مخلوقا دوني فالبث لما قلت في السجن بضع سنين.

أقول : ليس في شيء من هذه وتلك أن الشيطان أنساه ذكر ربه ، وإنما نكاية عليه لما توسل الى مخلوق مّا ، وهذا تهديم لكافة الأسباب التي يجوز التمسك بها او يجب لأمر جائز او واجب ، إذا فهي كلها من الموضوعات وضعتها الأيدي الاثيمة الاسرائيلية ، فتسربت الى أحاديثنا وأخذت موضعها من القبول لدى من لا يؤصّلون القرآن في حجته ، وهذا غريب من الاكثرية الساحقة في كافة الحقول العلمية الاسلامية كيف يعتمدون على روايات مخالفة لكتاب الله وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا؟!

١٠٥

(اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) لا يعني إلّا مجرد ذكره عند الملك ليخرج عن التناسي المعمّد بحقه على ذكر تهمة الخيانة المتداولة على الألسن ، دون أية وساطة بينه وبين الملك ، او التماس عفو أمّا ذا مما لا تناسب ساحة العبودية فضلا عن سماحة الرسالة ، فإنما «اذكرني» والذكر فقط ، ولو كان أمرا وراءه قال : عند الملك ، ام : عند الرب أم : عند ربنا ، ليستجيش رحمته عليه ، ولكنه (عِنْدَ رَبِّكَ) إعلانا بان ربوبيته وسلطته ليست على ذلك السجين ، وإنما على ربعه والذين استخفهم فأطاعوه.

وحتى إذا أرسل إليه الملك (ائْتُونِي بِهِ) يقول لرسوله (ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ) دون استجابة لدعوة الخروج ، ولا امتنان منه ، فإنما (ارْجِعْ ... فَسْئَلْهُ ..) ليأخذ البرائة وهو في السجن ، فيكون خروجه عن سجن التهمة قبل هذا السجن الذي قال عنه : (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ).

(فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) انشغالا بما كان من سقاية الخمر للملك ، وتناسيا تلك الفترة الرحيمة في سجنه مع يوسف الصديق ، حيث الشيطان يحاول دوما في إبقاء الصدّيقين في السجن بتهمة الخيانة أمّا هيه من تهمة ،

ومن مخلفات ذلك النسيان :

(فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) والبضع فوق الثلاثة ودون العشرة ، ثم لا نرى يوسف أن يعود في التوسل ، حيث طبّق واجبه الإيماني والرسالي وعلّ في تكراره مع السجناء الآخرين مزرئة بساحة الرسالة ، فيصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين ، ولم يكن طائل السجن له في باطن أمره إلّا لصالحه ، فعلّه لو خرج قبل بضعه لكان فيه تهدد لبضعه من كيد امرأة العزيز ونسوة في المدينة!

١٠٦

أو علّه تنبيهة له أن ربه هو الذي يذكّر ناجي السجن لوقته الصالح ، دون ان يذكر هو بما ذكّر ، فلم يجعل قضاء حاجته على يد عبد خارج عن ربقة عبوديته ، ولا سبب يرتبط بعبد ، وذلك من اصطفائه وإكرامه!

(وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (٤٣) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (٤٤) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (٤٦) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً

١٠٧

مِمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (٤٩) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (٥٠) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٥١) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (٥٢) وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٣) وَقالَ الْمَلِكُ

١٠٨

ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ)(٥٧)

مضت السنون البضع ، سبعا أو زاد ولم يدّكر الذي ظن أنه ناج أن يذكر الصديق عند ربه ، وهذه طبيعة الحال للناس النسناس على أية حال ، إلّا ان يحظو حظوة مادية من هذه الذكريات.

لقد كان يوسف بأيدي اخوته ضحيّة الحقد الماكن في قلوبهم فجعلوه في غيابت الجب ، وبأيدي السيارة متاعا يشرى وبثمن بخس ، وعند العزيز (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) وللعزيزة شغفا في متعة الجنس ، وللسجينين معبرا للرءيا ، ثم الذي نجا لا يدّكر أمره إلّا بعد بضع من السنين يحتاجه لمرة أخرى معبرا لرؤيا الملك علّه يزداد عنده شأنا ومزيدا!

(وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ)(٤٣).

أترى «الملك» هنا ـ وللتالي تتمة القصص ـ هو العزيز؟ كأنه لا ، فإن

١٠٩

مختلف التعبير بمختلف الأفعال تعبير عن مختلف الفواعل ، فلو كان هو العزيز لقال «وقال العزيز» أم قال في قصة المراودة «امراة الملك»! ثم (امْرَأَةُ الْعَزِيزِ) في قصة الملك دون امراة الملك ، ولمّا يستخلص يوسف لنفسه يصبح هو العزيز (يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ) هذان يؤيدانه ، وأن العزيز هو الشخصية الثانية في المملكة وقد عزل أو مات أو قتل فأصبح الصديق هو العزيز.

وقد تلوح «إني أرى» بتكرر الرؤيا ، حيث المضارعة في بيان الرؤيا الماضية تلمح إلى المداومة ، والسمان جمع السمينة كما العجاف للعجفاء الهزيلة ، أرى سبعين مختلفين في السمن والهزال ، ومن العجاب أن العجاف يأكلن السمان ، وأرى سبع سنبلات خضر وسبعا أخر منها يابسات.

(يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ) من الفتوى والفتيا وهو الجواب عن حكم المعنى ، والجواب عن نفس المعنى.

فليس من الفتيا ، و «تعبرون» هو العبور عن المعنى الظاهر إلى حكم الباطن ، كما العبارة عبور عن اللفظ الى معناه ، فتأويل الرؤيا هو العبور إلى حقيقتها المعنية منها.

ولحد الآن في ذلك القصص تمر بنا رؤيّ ثلاث ، من يوسف وصاحبي السجن والملك ، والاهتمام بها وتأويلها يعطينا صورة من جو العصر آنذاك في مصر وخارجها ، فالهبة اللدنية المؤتاة ليوسف من علم تأويل الرؤيا كانت تناسب جو العصر وروحه ، حيث يحتاجه المؤمن وسواه سواء.

يطلب الملك ـ في اضطراب بال وسوء حال مما يراه ـ إلى الملأ من الكهنة والحاشية الملكية ، وهم يحيدون عن تأويلها جهلا او تجاهلا على طريقة

١١٠

رجال الحاشية في إخفاء ما يسوءه وإظهار ما يسره واختلاق الجو المساعد لهواه.

و (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) يعبّر عن تهديده لهم ليفكروا جيدا حتى يعبروا ، ولكنهم رغم اضطراب الملك وتهديده :

(قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ)(٤٤) وهذه أحسن عبارة وأبلغ استعارة عما يعنون في حيدهم وميدهم ، فالأضغاث هي الخلائط من الحشيش المضموم بعضها إلى بعض ، كالحزمة وما يجري مجراها ، يشبّه هنا اختلاط الأحلام ، وما يمر به الإنسان من مكروه ومحبوب والمساءة والسرور ، باختلاط الحشيش المجموع من أخياف عدة وأصناف متعددة.

فأضغاث من أحلام ، يخلط بعضها ببعض ، دون رباط ظاهر ، ليس لها تأويل ، وكما الأحلام ليس لها تأويل ، (وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ) لأنها أحلام تستجرّ من اليقظة إلى المنام ، فليست ـ إذا ـ لتكشف عن حقيقة وراءها سوى نفسها ، أم وحتى إذا كانت لها حقائق ف (ما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ) فضلا عن أضغاثها وهي ظلمات بعضها فوق بعض!

وتراهم كيف يتجرءون على التعبير عن رؤيا الملك ب (أَضْغاثُ أَحْلامٍ) وفيه حطّ من ساحته ومسّ من كرامته؟ علّه للحفاظ على اطمئنان خاطره ألّا يشوّش بما يرى ، وإعذارهم أنفسهم ألّا يتساءلهم كيف لا تعبرون ما أرى (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) وقضية الحفاظ على الأمرين هي إبعاد الرؤيا عن كونها ذات حقيقة ، فسواء أكانوا يعلمون تأويلها أم يجهلون فصيانة الموقف تقتضي ما قضوه.

واللوحة الظاهرة من هذه المنامة في نظرة سطحية هي استيلاء الضعيف على القوي ، وذلك يهدد السلطة الفرعونية بالزوال ، ولو كانوا يعلمون ما أوّله

١١١

يوسف لكانوا يتسابقون في تأويله حظوة عند الملك كما حظى الصديق ، ولكنهم علموا ظاهرا منه سطحيا فهابوا الملك أن يؤلوه بما علموا و (قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ ..)!.

(وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ)(٤٥).

(الَّذِي نَجا مِنْهُما) هنا هو (لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا) هناك ، حيث قال له يوسف (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) وهو الآن «ادّكر» ما ذكّر قبل «بعد أمة» منه ، ولأن له حظوة ومنزلة في تأويله .. «قال» بكل جرأة وطمأنينة (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ) تجهيلا للملأ ، وتثبيتا أن ما راه الملك ليس من (أَضْغاثُ أَحْلامٍ) وحتى لو كان منها فان له تأويلا يعرفه أهله «فأرسلون» أيها الملأ ، دون «فأرسلني» إذ لم يكن هو من الملأ المخاطبين المطلوبين ، فهو ساقي الملك وأنّى له أن يكون من الكهنة ورجال الحاشية.

وإنما يجرئه على ذلك رغم الملأ ، حيث جرب يوسف من قبل فوجده عليما بتأويل الرويّ صادقا في الحق وحقا في الصدق ، وعلّه استفاد من يوسف ـ لأقل تقدير ـ ان لكل رؤيا تأويلا مهما كان من أضغاث أحلام ، وإلّا فكيف يورط نفسه فيما ورّط واهل التأويل يقولون ان ليس لها تأويل؟!

(أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ) والنبأ خبر ذو فائدة عظيمة ، وهو عليّ فيما ترسلون ، وبطبيعة الحال أرسلوه وبأمر الملك وتأكيده.

وقد تلمح (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) انه ذكر الصديق بفضله وعلمه بتأويل الرؤيا عند ربه ، وانه الذي اوّل رؤياهما فكان كما كان ، إذا فمن ذا الذي يجرأ عند الملك ان يعارك الساقي: ما أنت والإنباء بما جهلنا ، او ما ليس له تأويل؟ (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ ... فَأَرْسِلُونِ) فأرسلوه الى الصديق فأخذ يتلطف

١١٢

معه في هذه المواجهة وبعد امة من السنين :

(يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ)(٤٦).

هنا (لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) تصريحة منه ان الملأ كانوا يجهلون حق التأويل ، مهما كانوا يعلمون ظاهرا منه يعرفه كل احد ، أن هناك حادثة أليمة في أركان الملك تعم الرعية ، وفي ذلك فضحهم أن رؤياه أضغاث أحلام ، بل أنتم الأضغاث وأنتم الأحلام ، وليس الملك ليرى أضغاث أحلام! .. ثم ومما (لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) هو فضله وبراءته إذ سجنوه على جهالة مدروسة من الحاشية الملكية ، وبعكس ذلك خيانة امرأة العزيز والحاشية التي زجته في السجن.

ف (أَيُّهَا الصِّدِّيقُ) في البداية ، ثم (لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) في النهاية تأكيد وتشجيع كيلا يتمنّع يوسف من تأويل نكاية عليه ، لماذا لم تذكرني عند ربك طول هذه الأمة فلبثت في السجن بضع سنين؟ ولكنه لم يلفظ بشطر كلمة حول القضية ، مما يدل على نبوة مقامه وبراءته عما افتري عليه من نسيانه هو ذكر ربه ، والتنديد عليه لماذا توسلت إلى عبد؟! ، ولا شرط أن يخرجوه حتى يفتي في رؤيا الملك خلاف ما يروى بشأن الرسول (١) (صلى الله

__________________

(١) في نور الثقلين ٣ : ٤٣١ عن المجمع وروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قال : لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره والله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ، ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى اشترط ان يخرجوني ، ورواه مثله العياشي في تفسيره عن ابان عن محمد بن مسلم عنهما قالا إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : ... أقول وليضرب عرض الحائط لمخالفته نص القرآن في يوسف فالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أحرى!.

١١٣

عليه وآله وسلم) وهو أحرى من يوسف ، وتراه إذا كان على علم من علم يوسف تأويل هذه الرؤيا كسائر الرّئى فلما ذا (لَعَلِّي أَرْجِعُ ... لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ)؟ علّه لأنه ليس على علم برجوعه ، فقد يموت في الطريق او تقتله الحاشية قبل وصوله ، وحتى إذا وصل فعلّهم لا يقبلون تأويله ، او برائته ، ولا سيّما خيانة امراة العزيز ونفس الحاشية.

ولأن المرجو هنا عظيم عظيم فقد يقاوم ما علّه ينقم منه : لماذا حرّج موقف الحاشية ، لا سيما وأن الملك بجنبه ولو لم يأت بشيء إذ تكفيه محاولة لتأويل رؤياه!

وهنا نراه بعد ما يسمع الرؤيا يفتي للساقي ودون تمهل ولا شكاة ولا تطلّب نجاة بتوسل ثان :

(قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ)(٤٨).

أتراه أفتى ـ فقط ـ تأويلا لرؤيا الملك؟ كلّا! حيث حكم على ضوء تأويله بما حكم ، صادرا عن مصدر القيادة العليا وهو في السجن بتهمة الخيانة ، وهذه هي الفتوى الكاملة ، وقد كان المستفتي ليكتفي بالبند الاوّل فإنه ـ فقط ـ تأويل رؤيا ، ولكنه يزيده حكما صالحا لفتواه ، ليأخذ بذلك أزمة قلوب الملك والحاشية (لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ).

ولأنها رؤيا الملك يأخذ «سبع بقرات سمان وسبع سنبلات خضر» مثالا عن الحالة الاقتصادية الخصبة في جميع أنحاء المملكة ، حيث البقرة تمثل وافر النعمة ، وهي في رؤيا من يملك أمر الرعية ، النعمة العامة الشاملة ، ثم «سبع عجاف وسبعا أخر سنبلات يابسات» مثالا عن الحالة الشديدة الضيقة بعد الأولى.

١١٤

و «دأبا» هو استمرار في الحركة الزراعية وتعب إذ يعنيهما لغويا فهما معنيّان هنا معا ، وإلا لجيء بلفظه الخاص ـ استمرارا او تعبا ـ وقد يؤيد جمعهما فتح عين الفعل اللامح للجريان والدوران : تزرعون سبع سنين متتالية سنة وسنوات ، مما تنتج أخصب الزرع وأكثره عدّة وعدّة.

وهذه الفتوى الأولى بحكمه ، فان «تزرعون» خبر يعني الأمر ومن ثم فتوى الحكم (.. فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ)(٤٧) فالكثير الذي لا يؤكل ، بل يسرف او يبذر أم يباع ، ذلك الكثير (فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ) حفظا عن السوس والمؤثرات الجوية أمّا هيه ، ذخرا للسبع الشداد ، و «تأكلون» هنا ، ك «تزرعون» أمر بصيغة الإخبار ، مما يحتّمه أكثر من صيغته ، فعليكم في السبع الأولى الزراعة دأبا في مواصلة وتعب ، وعليكم ألا تأكلوا مما حصدتم إلّا قليلا فيه بلغة الحياة ..

(ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ)(٤٨).

وإنها سبع لا زرع فيها والأكل نفس الأكل ، وهن (يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلاً) زائدا عن الضرورة وهو (مِمَّا تُحْصِنُونَ) عن الإسراف والتبذّر ، عن الالتهام والتبعثر.

إلى هنا يتم تأويل الرؤيا سبعا بسبع ، ثم يزيد الصديق مما علمه ربه وأنبأه ما ليس في الرؤيا :

(ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ)(٤٩).

ولكيلا تبقى لهم أية باقية من زمجرة السبع الشداد يخبرهم الصديق بذلك العام المغيث ، بغيث السماء وغيث الأرض ومنه كلاءها ، ولو كان ـ فقط ـ المطر لجيء بلفظه ، والغيث المطر ليس غيثا إلّا لأنه يغيث وينجي

١١٥

البائسين ، أم ان «يغاث» من كلا : الغيث والغوث ، فليس الغيث المطر والكلاء ـ فقط ـ بالذي يكشف الكرب ويمنع الجدب ، إذ قد يوازيه برد قارص ، ام برد كارث قبل نضوج الحرث ام عنده ، او ريح صرصر كارث ، او زلزال مارس ، أماذا مما قد يساعده الغيث على الكارثة المزمجرة ، والحادثة المدمرة.

فالقول ان فيضان النيل كان يكفيهم عن المطر ، تقاوله السبع الشداد والنيل هي النيل ، ثم هل للنيل ان تنال بفيضاناتها كل الخيرات وتنيل ، وهناك كربات وصعوبات سماوية وأرضية لا تدفع إلّا أن يغاث الناس بغوث إلهي ضمن فيضان وغيث ، لا سيما وان الفيضان نفسه ليس إلّا بالغيث الذي يمده من مجاريه عن بلاده.

(فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ) غيثا وغوثا (وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) الفواكه ، مما يلمح إلى كثرتها لحد الإعصار بعد الإعسار ، فلا يعني ـ فقط ـ يعصرون الخمر ، بل ولا يعنيه فيما يعنيه ، إذ تجل ساحة النبوة ان ينبئ فيما ينبئ عما فيه شهوات النسناس بخمر تخمر الناس ، وتبغض إله الناس!

فان لم يدل تأويله الرؤيا على نبوته وتسديده بالوحي ، فليدل إنباءه ب (عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) فليس تمام السبع الشداد مما يدل عليه ، إلّا عاما غير شديد ، كما قبل السبع الأولى ، عام يكفي نفسه كتقدير معتاد ، وأما ان (فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) فزيادة لا تعلم إلّا بالوحي.

وهنا يحذف السياق ما يعلم من المساق او هو غير ضروري في القصة ، وينتقل إلى مشهد الملك وتأثره عن تعثّره في سجن الصديق ، فلنسمع الملك كيف ينهاز إلى خلاصه بكل إخلاصه والتماسه :

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ

١١٦

ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ)(٥٠).

يا عظماه لذلك الصديق العظيم ، يطلب إليه الملك ليخرج عن السجن ويدخل عليه فلا يستجيب ، وطبعا ما كان الإتيان به إشخاصا لاستجواب يعود بعده إلى السجن ، فإنه أمر قاطع لا مرد له ولا قبل أمامه ، وإنما هو إحضار عن عفو وإغماض ، فله أن يقبل وله ألا يقبل.

هنا نرى يوسف السجين وقد طال سجنه بضع سنين لا يستعجل إجابة الملك في الخروج ، حتى يخرج قبله عن تهمة الخيانة ، ويعلن متهموه برائته من الوشايات والمكائد التي أدخلوه السجن بظنتها.

فلو خرج من فوره لكان خارجا عن طوره ، متهما في توسله بالساقي ، وقد تبقى عليه وصمة الخيانة أن يظن بخروجه عفو الملك وإغماضه عما كان ، بما ظهر منه الآن. ولكنه مسبوك بذلك الأدب الرائع ، والسكينة والثقة والطمأنينة في قلبه البارع ، فلا يعود عجولا ولا معجلا ، تقديما لخروجه عن سجن الروح في تهمة الخيانة ، على سجن البدن ، وإن بقي فيه بضعا أخرى ، ذلك يوسف ولم يكن ممن دارت عليهم الرحى ، فبأحرى إمام المرسلين وخاتم النبيين وأفضل الخلق أجمعين محمد (ص) لو كان مكانه لكان أمتن منه وأمكن خلاف ما اختلق على ساحته من روايات (١) كما على أخيه الصديق!

__________________

(١). كما في الدر المنثور ٤ : ٢٣ عن أبي هريرة قال تلا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الآية : (فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ ...) فقال : لو كنت انا لأسرعت الاجابة وما ابتغيت العذر! وفي اخرى عنه انه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : يرحم الله يوسف ان كان لذا أتاه لو كنت انا المحبوس ثم أرسل إلي لخرجت سريعا ، وعن ابن عباس قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : عجبت بصبر أخي يوسف وكرمه والله يغفر له حيث أرسل اليه ليستفتى في الرؤيا وان كنت انا لم افعل حتى ـ

١١٧

وأيا كان رسول الملك ، أهو الساقي الناجي وعله أنسب لكونه أرفق وبصاحبه أليق؟ أم هو رسول تنفيذي يكلّف بمثل هذا الشأن ، لمكان قوله (ائْتُونِي بِهِ) دون «آتني به» فبطبيعة الحال ليس هذا الرسول إلا عظيما من الحاشية يليق بهذه الرسالة ، لا نعرفه من هو؟ ولا فائدة في أن نعرفه.

(فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ) وعرفه رسالته (قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ) لا «الملك» ولا «الرب» او «ربنا» كما يقوله السجناء بغية الخلاص ، وإنما (إِلى رَبِّكَ) ثم «فاسئله» كأنه من قبلك نفسك ، لا عني ، ولأنه لا يجرأ الساقي وأضرابه على سئوال الملك من نفسه ، اللهم الّا رسول خاص ، له اختصاص بالسّدة العليا ، يتأيد أنه غير الساقي. (فَسْئَلْهُ ما بالُ (١) النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ).

فانظر إلى ذلك السجين كيف يستجوب الملك والنسوة في مسألة واحدة ، بكل حائطة واحتشام ، حيث لا يذكر مراودة امراة العزيز ، فإنما النسوة والنسوة فحسب ، إذ كان أمرهن واضحا في المملكة وضح النهار ، وأمرها يظهر ضمن أمرهن كما ظهر ، فبالهن وخطبهن ذريعة إلى خطبها وبالها ، وهو لم يذكرها بسوء ولا إياهن إلّا قدر الضرورة التي هي مفتاح براءته : (إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) ولسوف تعلمون في ذلك الاستجواب وعلّ من كيدهن أنهن لما يئسن عن مراودتها القين حبل التهمة الوقحة على عاتقه ، في وشاية دائبة وجناية صارحة سارحة ، لحد شككن الملك والعزيز في أمره!.

__________________

ـ اخرج ، وعجبت من صبره وكرمه والله يغفر له أتى ليخرج فلم يخرج حتى أخبرهم بعذره ولو كنت انا لبادرت الباب ولكنه أحب ان يكون له العذر! وعن الحسن عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : رحم الله اخي يوسف لو انا اتاني الرسول بعد طول الحبس لا سرعت الاجابة حين قال : ارجع الى ربك ، فاسأله ما بال النسوة!

١١٨

والبال هو الأمر العظيم والشأن الخطير ، وهو للنسوة هنا أخطر من أيديهن وأعظم حيث نسينها لبالهن ، وليس إلّا الشغف الهالك الحالك في حبه ، لحد أنساهن أنفسهن فقطعن أيديهن ، مكان الأكل والفاكهة التي بأيديهن.

فلما يعرف ذلك البال يعرف واقع الحال منهن ومن امراة العزيز وكفاه ذلك السؤال ظهورا لبراءته في الحال وبكل استعجال.

(قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ)(٥١).

والخطب هو جلل الأمر ومصابه ، فالصديق يتغاضى عن مراودتهن احتشاما حتى يصرح بها وبخطبهن الملك ، ويصرخن ببراءته ، مما يدل على أنه كان يعلمها من ذي قبل ، او استقصى قبل إحضارهن فعلمها ، وهذه قضية الحال في كل استجواب ولا سيما بالنسبة للعظماء ، ليكون المستجوب للحال على بينة من الأمر ، والظروف المحيطة به قبل الخوض والانغمار فيه ، فهنا لك يواجه النسوة على بينة من واقع المراودة وخطبهن فيها : (ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ)؟ أهو الذي أوقعكن في خطبكن ومراودته أم أنتن من أنفسكن؟

(قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) لا سوء المراودة ، ولا سوء النظرة (ما عَلِمْنا عَلَيْهِ) امر يعلوه او يظهر فيه «من سوء» إلّا حسنا وجمالا (ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ)! حقيقة ليست لتنكر او تستر ولو من مثل هؤلاء النسوة المترفات المتجبرات الارستقراطيات اللاتي لا يحنّ إلى معروف ولا يقررن بمنكر فعلن.

وهنا لا تملك المراودة الأولى ، الخائنة الأولى ، لا تملك نفسها في جو

١١٩

المصارحة بين النسوة ان تختصه بالتهمة فتتقدم النسوة في مصارحة المراودة (قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ) ظهورا لا يحتمل أي خفاء ولا يتحمل ، مهما تحمله من ذي قبل بما حمّلناه (أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ)(٥١) شهادة ناصعة دون أية ريبة ولا شائبة ، يقال حصحص البعير في بروكه إذا تمكن واستقر في الأرض ، وكأن اشتقاقه من الحصة حيث بانت حصة الحق عن حصة الباطل بكل تمكن واستقرار ، ولا تبالي الشاهدة هنا أن تشهد له على نفسها ، مستهينة ما وراءها مما يلم بها نفسها ، ومن ناحية أخرى هي طبيعة الحال في الأوساط النسائية في المترفين ، لحد قد يتفاخرن بتلك المراودات إذا كان المراود معترفا بلياقته وصلوحه للمراودة ، حيث التحلل والتميّع وحيونة السعار الجنسي المرتدي ثياب الارستقراطية ، لها مقاييس في الحياة غير ما للشعوب المحطّمة المظلومة.

ولقد تمت هنا الشهادة من الملك والنسوة وامراة العزيز على براءة الصديق ويراعته ، وقد شهد العزيز في أول وهلة : (إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) فهل كان هنا غائبا عن المشهد أم ميتا ولذلك لم يشهد ، أما ذا؟ القدر المعلوم انقطاع خبره منذ الوهلة حتى آخر القصة وقد كانت في شهادته الأولى كفاية ، إضافة إلى شاهد من أهلها وشهادة القميص أمن ذا ممن قد مضى؟ والتوراة على تحرّفها شاهدة لصدقة مهما اختلف التعبير أو تهافت في بعض المواضيع (١).

__________________

(١) فالى تتمة الاصحاح ٤١ من سفر التكوين الذي أوردناه من ذي قبل ... وسأل الساقي ان يذكره عند فرعون لعله يخرج من السجن لكن الشيطان أنساه ذلك «أقول : «لكن» هنا يؤيد ما أيدناه بالادلة السبعة «ثم بعد سنتين رأى فرعون في منامه سبع بقرات سمان حسنة المنظر خرجت من نهر وسبع بقرات مهزولة قبيحة المنظر ـ

١٢٠