الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٥

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٥

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٦

فان ذلك ايضا في ظلال ربوبية الله (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) يكرم مثوى عبده عند من يعبد سواه ، وكما أكرم موسى في بلاط فرعون.

هذا وذاك وذياك ومن ثم (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) ولا سيما في ثالوث الظلم ، أن أظلم نفسي ، وأظلم العزيز في غيبه (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) وأظلم حق ربي وإن كان هو لا يظلم (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) (٦٥ : ١).

فهل أخترق عصمة العبودية ، وأظلم ثالوثه ، لان العزيزة يعشقني؟ كلا! (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) ـ (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ).

وما أسخفه تفسير «ربي» بالعزيز ، و (مَعاذَ اللهِ) يقدمه ، فكيف يرجع إلى غيره «إنه»؟ ومهما كان العزيز أحسن مثواه ، ولكنه من إحسان الله ، وليس العزيز محور الاحترام ، فان ربوبيته له بالنسبة للرب اخترام ، ثم لم تكن للعزيز بالنسبة إليه أيّة ربوبية تحترم ، فانه أوصى العزيزة بإكرام مثواه انتفاعا منه كتاجر! ثم قد أهان مثواه روحيا بجنب الله ، مهما أكرم مثواه ماديا وكما تهواه!

ثم المربي أيا كان لا يسمى في منطق الموحدين ربا! ولم يكن رقا حتى يعتبره بذلك ربا! وإنما هو رب في منطق الشرك وكما قال لأحد صاحبيه في السجن : (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ)(٤٢) وقال لرسول الملك : (ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ)(٥١) وأما عن ربه (فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) (٥١)! وفي الآية التالية» لو لا أن رأى برهان ربه».

(وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ)(٢٤).

٦١

ان العزيزة لم تقنع بذلك الحجاج ، واصرت على ما تهوى بكل إصرار ولجاج (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) بكل ما للهمّ من معنى وكما يؤكّده حرفا التأكيد عدّة وعدة ، همت به لحد علقت به (وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ ..) والهمّ ارادة صارمة بهمة عارمة ، لو لا دافع عنه او مانع لتحقق المهتم به ، وهمّ الزنا سوء وهي نفسها فحشاء ، وهذه العزيزة سيدة البلاط.

وأما يوسف (وَهَمَّ بِها) كما همت به (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) ولكنه رأى برهان ربه فلم يهم بها ، فالأسباب الطبيعية ، وتجاذب الجنس مع تغلّق الأبواب ، كانت كالعلة التامة لذلك الهمّ من يوسف ، ولكنه (رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) فلم يهم بها سوء فضلا عن الفحشاء!

وهنا مع كل الأسى نرى زمرة من المفسرين القدامى والحدثاء ، وآخرين من المحدثين ساروا في همّه (عليه السلام) وراء الإسرائيليات التي حتى التورات المحرفة منها براء (١) مصورين يوسف في هذه الحلقة الخطيرة

__________________

(١) ففي الاصحاح ٣٩ من تكوين التورات تصريحة ببرائته على تحرفه في جهات اخرى قائلا بعد ما مضى في قصته : «واما يوسف فانزل الى مصر واشتراه فوطيفار خصي فرعون رئيس الشرط .. فوكله الى بيته ودفع الى يده كل ما كان له .. ولم يكن يعرف معه الا الخير .. وحدث بعد هذه الأمور ان امراة سيده رفعت عينيها الى يوسف وقالت : اضطجع معي فأبى وقال لامرأة سيده هو ذا سيدي لا يعرف معي ما في البيت .. ولم يمسك عني شيئا غيرك لأنك امرأته فكيف اصنع هذا الشر العظيم وأخطى الى الله وكان إذ كلمت يوسف يوما فيوما انه لم يسمع لها ان يضطجع بجانبها ليكون معها. ثم حدث نحو هذا الوقت انه دخل البيت ليعمل عمله ولم يكن انسان من اهل البيت هناك في البيت فأمسكته بثوبه قائلة : اضطجع معي فترك ثوبه في يده وهرب وخرج الى خارج وكان لما رأت انه ترك ثوبه في يدها وهرب الى خارج انها نادت اهل بيتها وكلمتهم قائلة : انظروا قد جاء إلينا برجل عبراني ليداعبنا ، دخل إلي ـ

٦٢

هائج العزيزة ، مائج الشهوة ، فالله يدفعه ببرهان منه فلا يندفع ، حتى أخرج شهوته من أنامله ، ويرى هيئة أبيه يعقوب في سقف المخدع عاضا على إصبعه بفمه يندّد به ، ولوحات كتبت عليها آي من الذكر الحكيم تؤنّبه وتردعه فلا يرتدع ، حتى خرجت شهوته من أنامله ، وإلى أمثال هذه وتلك من الأسطورات النكراء المكراء بحق يوسف الصديق! وهنا شهود سبع على براءته بين صديق وعدو وعوان بينهما :

فالله تعالى اوّل شاهد لبراءته : (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) بعد ما صرف عنه سوء الهمّ بها (وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) ولا ريب أن هكذا همّ من أسوء السوء وهو من غواية الشيطان وسلطانه : (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (١٦ : ٩٩) ومن أفضلهم المخلصون ويوسف منهم : (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ)!

وشاهد ثان (هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) ـ (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ. فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ ..) (٣٤) (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) (٥٢) (ـ إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ

__________________

ـ ليضطجع معي فصرخت بصوت عظيم ، وكان لما سمع اني رفعت صوتي وصرخت انه ترك ثوبه بجانبي وهرب وخرج الى خارج ، فوضعت ثوبه بجانبها حتى جاء سيده إلى بيته فكلمته بمثل هذا الكلام قائلة : دخل الي العبد العبراني الذي جئت به إلينا ليداعبني وكان لما رفعت صوتي وصرخت انه ترك ثوبه بجانبي وهرب الى خارج. فكان لما سمع سيده كلام امرأته الذي كلمته به قائلة بحسب هذا الكلام صنع بي عبدك ان غضبه حمى فأخذ يوسف بيده ووضعه في بيت السجن المكان الذي كان اسرى الملك محبوسين فيه وكان هناك في بيت السجن ، أقول : على اختلاف مواضيع منها مع ما قصه القرآن نراها لا تتهم الصديق ان هم بها ، فالويل لمن اتهمه وكذب عليه ما التورات المحرفة منه براء!.

٦٣

فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (٩١) وهو يعني نفسه وأخاه حين قال : (أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي ..).

وصاحبة القصة ثالثة : (لَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ) (٣٢) (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ)(٥١).

والعزيز الراغب في تهمته هو الرابع : (إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ. يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ)(٢٩).

والشاهد من أهلها هو الخامس (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ. وَإِنْ كانَ ... فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ ..)(٢٨).

ونسوة في المدينة هن السادس : (وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٣٠) و (قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) (٥١).

وإبليس هو السابع حيث (قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (١٥ : ٤٠)(كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ).

شهود سبعة بين صديق وعدو وعوان بينهما كلهم يشهدون ببرائة ساحة الصديق من السوء والفحشاء ، فلئن كان هؤلاء المختلقون يتبعون كاذبا عدوا للصديق حتى الشيطان ، لكان عليهم ان يبرؤوا ساحته كما قال الشيطان : (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)! فلتغسل كتب إسلامية عن

٦٤

تلكم الأسطورات التي تسوّد وجه النبوات وتعارض كافة المقاييس والله منها براء!

يوسف منذ نبئ كان يرى برهان ربه والبرهان هو آكد الأدلة وأوضحها وأثبتها ، من بره يبره إذا ابيض دون مخالطة ، فهو هنا العصمة الإلهية ، والحضور التام عند ربه ، دونما غفلة ولا لحظة ، ولا سيما في مواضع الزلة ، و «لو لا ..» تحيل له عدم الرؤية ، وبالنتيجة تحيل همّه بها ولبرهان الرب مراحل ثلاث ولكلّ درجات ، علم اليقين ـ عين اليقين وحق اليقين ، فحقه لا يخالطه أيّ شك وباطل ، ولقد رأى يوسف درجة من حق اليقين ، وكما تطلّب إلى ربه درجة أعلى منها لما ابتلي بكيد نسوة في المدينة : (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ ..).

في مرحلة حق اليقين تتحلى حقايق الأشياء دون ستار ، منخلعة عن صورها المستعارة ، وكما يروى في اجابة الصديق عن همها (١).

وانما يحسن (وَهَمَّ بِها) ولن يهم ، تلويحا بأن الأسباب العادية تمت في همّه بها ، حيث القمة القاضية من تجاذب الجنس حاضرة ، ولكنه حيث

__________________

(١) في تفسير روح البيان ١٢ : ٢٣٦ روى عن ابن عباس كان يوسف ... فقالت له يا يوسف انما صنعت هذا البيت المزين من أجلك فقال يوسف يا زليخا انما دعوتني للحرام وحسبي ما فعل بي أولاد يعقوب ألبسوني قميص الذل والحزن يا زليخا اني أخشى ان يكون هذا البيت الذي سميته بيت السرور بيت الأحزان والثبور وبقعة من بقاع جهنم فقالت يا يوسف ما احسن عينيك! قال : هما أول شيء يسيلان الى الأرض من جسدي ، قالت : ما احسن وجهك! قال : هو للتراب يأكله ، قالت ما احسن شعرك قال : هو اوّل ما ينتشر من جسدي ، قالت ان فراش الحرير مبسوط فقم فاقض حاجتي قال : إذا يذهب نصيبي من الجنة ، قالت : ان طرفي سكران من محبتك فارفع طرفك الى حسني وجمالي ، قال : صاحبك أحق بحسنك وجمالك مني ، قالت هيت لك!.

٦٥

(رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) لم يهم بها «كذلك» التأثير الخارق للعادة من رؤيته برهان ربه (لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ) لا «لنصرفه عن السوء والفحشاء» إذ لم يكن ليهم بهما وإنما السوء الهاجم عليه ، والفحشاء الحادقة به المحلّقة عليه ، لا بد لهما من صرف الهي ـ حينما تعجز المحاولة البشرية ـ وقد صرف (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) وهكذا يكون دور المخلصين في صرف إلهي بعصمة إلهية على طول الخط ، فساحتهم من وصمات السوء والفحشاء براء ، وفناءهم من بصمات الخير والسعادة بيضاء ، وفي الحق «ان رضا الناس لا يملك وألسنتهم لا تضبط وكيف تسلمون مما لم يسلم منه أنبياء الله ورسله وحجج الله عليهم السلام ، ألم ينسبوا يوسف إلى أنه هم بالزنا»؟ (١)

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٤١٩ عن امالي الصدوق باسناده الى أبي عبد الله (عليه السلام) أقول ومن المؤسف انه روى هذه الفرية الفريقان وكما في نور الثقلين ٢ : ٤٢٠ في تفسير العياشي عن محمد بن قيس عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال سمعته يقول : ان يوسف لما حل سراويله رأى مثال يعقوب عاضا على إصبعه وهو يقول له : يوسف! قال : فهرب ثم قال ابو عبد الله (عليه السلام) ولكني ما رأيت عورة أبي قط ولا رأى أبي عورة جدي قط ولا رأى جدي عورة أبيه قط ، قال وهو عاض على إصبعه فوثب فخرج الماء من إبهام رجله ، أقول ومن أعور العورات نسبة هذه الرواية الى صادق آل محمد (عليه السلام) ولا موقع هنا للتقية حيث الكتاب مصرح ببرائته (عليه السلام) وكما فيه عن العياشي (٤٧) عن بعض أصحابنا عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : اي شيء يقول الناس في قول الله عز وجل (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) قلت يقولون : رأى يعقوب عاضا على إصبعه.

وفي الدر المنثور ٤ : ١٣ و ١٤ روايات عدة غير مسنودة الى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اللهم الى علي (عليه السلام) أن هم بحل التكة ، او جلس منها مجلس الخائن اما ذا من سفاسف الافتراءات على الصديق العظيم ، والله منها براء والرسول والائمة النجباء (عليهم السلام).

٦٦

وهكذا تقول الروايات الصادقة وفق القرآن كما يروى عن الامام الرضا (عليه السلام) قوله في تفسير آية الهمّ : «لقد همت به ولو لا أن رأى برهان ربه لهم بها كما همت به لكنه كان معصوما والمعصوم لا يهم بذنب ولا يأتيه ..» (١).

فبرهان ربه هو العصمة الإلهية التي يجعلها في مقام الحضور الدائب لدى الرب كما

يقول الامام الصادق (عليه السلام): «ما رأيت شيئا إلا وقد رأيت الله قبله وبعده ومعه وفيه» وليست المعصية إلّا عن جهالة وغفلة ، وساحة النبوة منها براء.

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٤١٩ ح ٤٢ عن عيون الاخبار في باب مجلس آخر للرضا (عليه السلام) عند المأمون في عصمة الأنبياء باسناده الى علي بن محمد بن الجهم قال : حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا (عليه السلام) فقال له المأمون يا بن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أليس من قولك ان الأنبياء معصومون؟ قال : بلى قال فما معنى قول الله عز وجل ـ الى ان قال ـ فاخبرني عن قول الله تعالى : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) فقال الرضا (عليه السلام) ... ثم أضاف : ولقد حدثني أبي عن الصادق (عليه السلام) انه قال : همت بان تفعل وهم بان لا يفعل فقال المأمون لله درك يا أبا الحسن.

أقول الجملة الأخيرة في ظاهرها لا تلائم الآية بل تعاكسها ، ف «هم الا يفعل» بتتمة الآية (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) يجعله فعل حيث رأى برهان ربه ، ورؤية البرهان تدفع الهم دون ان تدفع الى الهم ، الا ان تؤول بانه تفسير النتيجة الحاصة عن (هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) فانتفى ـ إذا ـ همه بها الى همه الا يفعل وهو تأويل حسن.

واما المجلس الآخر عند المأمون عند الرضا (عليه السلام) في نفس الآية : فانها همت بالمعصية وهم يوسف بقتلها ان أجبرته لعظم ما تداخله فصرف الله عنه قتلها والفاحشة وهو قوله : (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ) ، يعني القتل والزنا» فلا يلائم الآية حتى تأويلا بانه لم يهم بها كما همت بل هم بقتلها ، حيث القتل في نظائر هذه الموارد لا يجوز في الشرعة الإلهية ، غاية الأمر الا يستجيبها ويفر عنها كما فر.

٦٧

هذه ثالوث المحاولات الإبليسية من العزيزة (١) ليوسف ، مراودة عن نفسه. ولمّا تفشل ، تتربع لرابعها توسلا الى القوة ، وأين لها وكيف تقوى على طغوى من حياته كلها تقوى :

(وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٢٥).

إنّ هياجها الحيواني المسعّر دفعها إلى إعمال القوة في إطفاء الشهوة فلحقته بعد ما مسّكته وفرّ (وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ) مما يدل على إقبالها إليه فإدباره عنها.

فالقدّ هو الشق طولا والقطّ هو عرضا ، والإلفاء مباغتة اللّقاء خلاف الوجدان فانه لقاء مقصود محاول ، وسيدها ـ هنا ـ بطبيعة الحال هو العزيز ، فلم يقل : سيده او سيدهما ، إبعادا عن مزعمة أنه ربّه ، وتأييدا للمعنى من أن «انه ربي» هو الله لا سواه.

«واستبقاء» يوسف وامرأة العزيز «الباب» الممكن فتحها بعد غلقها ، أم يكسرها ويخرج نجيا ، وفي ذلك الاستباق يوسف يسرع إلى الباب فرارا عن كيدها وإصرارها ، وامرأة العزيز تسرع إليه لتأخذه ، والى الباب لتمنع عن فتحها ، ولما سبقها الى الباب أخذت قميصه ايقافا له عن الخروج قضاء لحيونة الشهوة ، ولكنه استمر في السباق (وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ) شقا في طوله «وألفيا» في مباغتة (سَيِّدَها لَدَى الْبابِ) وهنا انقلبت حركة المراودة والاستباق ، إلى موقف التحقيق في حيرة وبهرة من هؤلاء الثلاث.

__________________

(١) هي راودته ـ غلقت الأبواب ـ وقالت هيت لك.

٦٨

لم يكن يوسف في هذه المفاجئة الفاجعة ليسبق العزيز والعزيزة في شيء من بيان الواقعة ، لأنه خلاف الشرعة ان تبدى خطيئة مخفية ، وقضية الحال لو لا الإيمان أن يبدي ـ ولأقل تقدير ـ حياطة عليه وسياجا على مكيدة قد تكاد ، ولكنما الايمان قيد الفتك.

ونرى البادئ هنا صاحبة الجريمة ، تجد حاضر الجواب بكل مكيدة على السؤال الذي يهتف به المنظر المريب ، ولكنها بصورة عامة قد تحافظ فيها على عشيقها الذي شغفها حبا ، علّها تصل الى بغيتها فيه بعد ردح من الزمن ف : (قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ) فلو أنها لم يكن لها فيه هوى لقطعت في حكمها بقتله ، أفتى مملوكا مؤتمنا على البلاط مكرما مثواه ، يمس من كرامة صاحبة البلاط؟ ولكنها حكمت أولا «أن يسجن» الظاهر في فترة دون «ان يكون من المسجونين» اللائح في ردح بعيد من الزمن ، ومن ثم تبين منها أن حكم السجن مكيدة لها عليه في حائطة : (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ)(٣٢) وهنا (أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ) علّه سياج على المكيدة ، وأن في إبهام العقوبة نوعا من الفرج ، وإن كان في «بأهلك» هياجا حارضا على مؤاخذته ، ولكنه من وجه آخر كان حيلة في صرفه عن مؤاخذتها ، ثم لها سبيل في صرفه عن مؤاخذة يوسف تلك الصعبة الملتوية القاضية عليه.

ا ترى يوسف البريء هنا يتفجر فيفجر في الجواب ، ويخرج عن نجد الصواب؟ كلّا! فلا يجهر إلّا بقدر من الواقع فيه براءة ساحته ، دون أن يدنسها أكثر مما كانت ، ولا كما كانت ، حيث اختار من ثالوث مكيدتها أولاها : (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها) وأما تغليق الأبواب ، وقولة «هيت لك» ومن ثم الاستباق ، فلا! ف :

٦٩

(قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي ...)(٢٦).

دفاعا عن نفسه بأقل الواجب ، وليس فيه تأكيد من قسم وسواه ، ولا تملق او تعلق بأمر سواه ، تدليلا على طمأنينة أمينة في نفسه ، وهكذا يكون البريء الأمين ، لا يقول إلا صراح الحق ، دون تشبثات بخلاف الحق.

(... وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ)(٢٧).

أترى العزيز كان مكفوف البصر ليحتاج بيان الموقف إلى شاهد يشهد بما هو مشهود لكل ذي بصر؟ كلّا ، ولكن المنظر المفاجأ ما كان ليفسح مجالا لفحص ونظر ، حيث يرى صاحب البلاط صاحبته في ذلك المنظر الرهيب مما يريب ويهيب ، فكان ـ ولا بد ـ لبراءة يوسف الصديق من خارقة تجلب النظر ، فعلّه لم يسمع كلام يوسف ، أم لم يحلّ محله في سمعه ، فمدعية ـ هي عزيزته وكريمته : أنها هتكت في غيبه من فتاه ، ومنكر لم يأت بشيء إلّا دعوى خالية وجاه دعواها ، وطبيعة الحال قاضية أنها القاضية الماضية في دعواها ، أم ـ ولأقل تقدير ـ يبقى الموقف مريبا مترددا.

هنا قد نصدّق الرواية القائلة أن الشاهد كان طفلا في مهده وهو من أهلها (١) وقد كانت شهادة مثلثة : رضيع يشهد ، وهو من أهلها ،

__________________

(١)ىفي الدر المنثور ٤ : ١٥ ـ اخرج احمد وابن جرير والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس عن النبي (ص) قال : تكلم اربعة وهم صغار ابن ماشطة فرعون وشاهد يوسف وصاحب جريح وعيسى بن مريم ومثله دون اسناد اليه (ص) عن سعيد بن جبير وفي نور الثقلين ٣ : ٤٢٢ ح ٥٣ عن القمي حدثني أبي عن بعض رجاله رفعه قال قال ابو عبد الله (ع) لما همت به ـ الى ان قال في تفسير الآية ـ فألهم ـ

٧٠

وشهادته مشهودة في قميصه ، فطفولته وجّهت وجه العزيز إليه حائرا ذعرا ليسمع مقالته ، وكونه من أهلها لا من أهله أوجب للحجة وأوثق للبراءة وأنفى للشبهة ، وقدّ القميص من الدبر جعله يقطع دون ريب بكيدها وبرائته ، لا سيما وبدأه باحتمال كذب يوسف (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ) كسياسة حيادية في الشهادة تجعل السامع لها تائقا إليها ، ناظرا فيها ، مرتاحا بها ، ثم عطفا إلى احتمال ثان هو المبان في المشهود له : (وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ).

وبالنتيجة نظر العزيز إلى القميص قبلا ودبرا ليحظو حظوة من الشهادة (فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ)(٢٨) أفكان يجرأ شاهد بالغ من أهلها ان يشهد لغير صالحها وفيها هتفه ام سقوطه عن أهليته؟!.

ولم تكن هذه الشهادة لتحتمل خلاف الواقع ، أن تحمّل على الموقف تعبدا ام تقبلا عرفيا ، وإنما هي شهادة بمشهود حاضر غاب عن الناظر قضية الموقف الخطير الرهيب ، الذاهب بلب العزيز وبصيرته فضلا عن بصره ورؤيته ، فهي شهادة مصحوبة بواقع المشهود وبسند الشهادة ، والشاهد طفل ليس ليتكلم كلام الطفولة وهو يشهد شهادة الرجولة البالغة ، ثم هو من أهلها ، مقدما لها ما يحتمل به نجاحها ، فلم يكن بد للعزيز إلّا حكمه القاطع في عزيزته : (إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ) إدخالا لها في جمعهن تخفيفا عنها أنها ليست بدعا في مكرها (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ)!

__________________

ـ الله عز وجل يوسف ان قال للملك سل هذا الصبي في المهد فانه سيشهد انها راودتني عن نفسي .. فانطق الله الصبي في المهد ليوسف ..

٧١

فأخيرا تبين في مشهد العزيز والعزيزة بشاهد من أهلها أنها هي الخائنة ، وهنا تبدو صورة من الطبقة الراقية المترفة في الجاهلية قبل آلاف من السنين ـ كما هي اليوم أرقى ـ تبدو رخاوة في مواجهة الفضائح الجنسية مع تميّل إلى كتمان التميّع عن المجتمع ، وأنّى منها الكتمان وقد تسرب الخبر وشارع في سراع الى نساء في المدينة!.

وترى كيف (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) ومع (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) (٤ : ٧٦)؟ إنه عظيم وجاه كيد الرجال ، ولكنهما معا ضعيفان بجانب كيد الشيطان ، ثم العظيم عند الناس أضعف من الضعيف عند الله ، ثم وعظم الكيد منهن من قالة العزيز ، ولا يرد عليه القرآن لعظمه نسبة الى الرجال ، لا على أية حال!

(يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ)(٢٩).

هل الحاكم هنا بعد الشهادة هو الشاهد؟ (وَشَهِدَ شاهِدٌ) دون حاكم لا يناسبه ، ثم الحكم في مثل هذا الموقف ليس إلّا عزيزه الكبير ، النافذ قوله في فتاه والعزيزة! فهو إذا ليس إلّا العزيز.

يبدأ بيوسف المنتصر المحكوم له في المشهد كملتمس منه ، ألّا يذيع ويشيع الكارثة : (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) الذي حصل ، ولكنه لا يكفي كاتما ما دامت العزيزة أسيرة سعار الشهوة ، وقد تتكرر منها المراودة فتفشوا ، أم تتسابق على لسانها في فلتاتها ، ام تظهر على وجهها في لفتاتها فتشيع ، فلذلك يثني الوصية بعده إليها (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ) وهل كانت مؤمنة بالله لتستغفره عن ذنب ، ام كان هو مؤمنا ليأمرها به؟ وطبيعة البلاط وجّوه التميع واللّامبالاة حتى في المسلمين فضلا عن بلاط الفراعنة المشركين!.

٧٢

أم أمرها أن تستغفر العزيز نفسه لذنبها؟ وماذا يفيده وكيدها عظيم! ولو كان في الحق ذنبا عندهما لكانت هي البادئة في استغفاره قبل أمره!.

علّه بمناسبة الموقف هو طلب الغفر الستر على ذنبها ، وهو ما يستوخم عقباه ، أن تحاول في ستره والحفاظ عليه كما تستطيع حتى لا يذيع ، أم بمناسبة (إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ) يطلب إليها أن تصلح حالها فلا تراوده؟ وعلّهما معا معنيّان ، وفي مناسبة الموقف هما سيان.

ولماذا «الخاطئين» بدل «الخاطئات» علّة لتعميم أكثر وتعمية لخطائها ضمن خطايا الآخرين رجالا ونساء ، أم إنهم الطبقة الارستقراطية من رجال البلاط ونساءه حيث تعمهما هذه الأخطاء ، ثم وفي «الخاطئين» تلويحة أخرى أنها كانت مستمرة في مراودتها في سترة ملّحة ، حيث كان يتحسسها منها ولا يصارحها بشيء إلّا هذه المرة المريرة المفاجأة ، كما وقالة النسوة : (امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ) بالصيغة المضارعة دون : «راودتها» تدل على ذلك الاستمرار المكّار الجبار ، فهو ضمن ما يحكم عليها بالخطاء يحكم لها أنها ليست بدعا في الأخطاء التي هي طبيعة الجو في البلاط ، ولذلك نراها تصرح بمراودتها أمام نسوة في المدنية (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ ..) دونما تخوف من ذياع الخبر وضياعها في جوّ البلاط ، فانما كانت تتستر وتتصبر تفتشا عن مجال لائق مقبول لمراودتها حتى لا يقال (تُراوِدُ فَتاها) : الرق ـ مما يدل على خساستها ، متنزلة عن خصاصتها وعلياها!.

وهنا يسدل الستار على مشهد المراودة ، ولكنه لم يؤنّبها أو يعاقبها ، أم ـ ولأقل تقدير ـ يفصل بينهما ، فتمضي الأمور في طريقها ، مما يدل على نقصان الغيرة او زوالها من جو البلاط ، وهكذا تمضي الأمور في القصور ، في كل تقصير وقصور ، ذلك وإلى أن تسرّبت القصة إلى نسوة في المدينة :

٧٣

(وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٣٠).

هنا لأول مرة نعرف رسميا صراحا ان المرأة هي امرأة العزيز ، والذي اشترى يوسف من مصر هو العزيز ، فالقرآن يكتفي في ذكر الأشخاص من سماتهم كما يقتضيه الموقف ، دون تهدّر في ذكرها تطويلا بلا طائل ، فهنالك «الذي اشترى وامرأته» وهناك (أَلْفَيا سَيِّدَها) وهنا ، (امْرَأَةُ الْعَزِيزِ) ومن ثم (قالَ الْمَلِكُ ..) وقد نتبينّ بعد أنه عله هو العزيز أم سواه.

ولماذا (قالَ نِسْوَةٌ) دون «قالت»؟ ألأنها اسم مفرد لجمع المرأة وتأنيثه غير حقيقي؟ وتأنيثه على أية حال حقيقي! أو لأن تقديم الفعل يسمح لإسقاط علامة التأنيث كسقوط علامة التثنية والجمع؟ وهذا قياس خلاف القياس الأدبي ، أن المؤنث الحقيقي فعله او صفته مؤنث على أية حال! إلّا أن يقال أن أدب القرآن هو المقياس لكل قياس ، فتذكير فعل المؤنث الحقيقي قبله هنا يؤخذ قياسا مطردا في أضرابه ، دون إصغاء الى سائر الأدب!.

ام أضف إلى ذلك المحتمل أن قالة نسوة هنا تجشّما على عزيزة البلاط هي قولة الرجولة ، فناسبهن ضمير الرجال ، وكما ياتي ضمير العاقل لغير العاقل بمناسبة فعل العاقل : (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) : الأرض والقمر والشمس ، حيث السباحة العاقلة دون غرق ولا اصطدام هي فعلة العاقل.

وعلى أية حال (وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ ..) وطبعا هن نسوة معروفات بامكانهن تلك الرجولة في قالة على العزيزة ، وطبيعة الحال فيهن التحسّد عليها ، فلا تحسد نساء الطبقة السافلة الجائعة عزيزة البلاط ، ولا يخلد بخلدهن تلك المحاسده ، فهن ـ إذا ـ سيدات في المدينة عزيزات راعنات

٧٤

مثلها متهوّسات متغنجات متولهات والهات للشهوات واللهوات ، يسمحن لأنفسهن تعيير صاحبة البلاط.

وكيف تسربت القصة إليهن؟ أنها (تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ) دون «راودت»؟ فلأنهن عشيرات العزيزة ورفيقاتها ، فالمخالطة المراودة بينهن تجعلهن يتفرسن تلك المراودة المستمرة ولا سيما تلك المرة الجاهرة التي تسربت ـ بطبيعة الحال ـ إليهن ، من فلتات لسانها وصفحات وجهها إمّا ذا من لفتات وفلتات.

هن يعبن العزيزة كيف (تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ) ولما يرينّ يوسف إلّا رواية ، واين رواية من دراية؟ والبيان من العيان؟ واين هي والفتى المملوك؟ وبطبيعة الحال إذا كان صاحب جمال ليس بالذي يفوق جمال الفتيان في جوّ البلاط ، فكيف تعشق العزيزة فتاها ولحد (قَدْ شَغَفَها حُبًّا)؟ اختلت أحوالها القلبية كما القالبية! فقد شق حبه شغاف قلبها حتى وصل إلى فؤادها ، متفئدا بنيران العشق ، حارقا كلا القلب والقالب! ..

والحب الشغف هو أبلغ الحب ، فهنا العشق الحب المفرط ، وهناك السكر والهيمان ، وهنالك الشغف وهو غشاء القلب ، فقد يعني أن حبه تغلغل إليها حتى أصاب شغافها وهو غشاء قلبها ، فأصبحت مسلوبة الشغاف ، أم إن شغافها أحاط حبه وأحاطه حبه فلم يبق في قلبها إلّا حبه ، فلا تهوى إلّا إياه ، ولا ترى إلّا رؤياه ، ولا تنظر إلّا مرآه ، وكأنها أصبحت كلها إياه ، حيث حجب عنها كل شيء ، كأنها لا تملك لنفسها إرادة إلّا مراودته ، ولا تحب إلا رؤيته ، إذ «قد حجبها حبه عن الناس فلا تعقل غيره ، والحجاب هو الشغاف والشغاف هو حجاب القلب» (١) حب قاتل لا

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٤٢٣ ح ٥٧ في تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى : «قد شغفها حبا يقول : قد حجبها ...».

٧٥

يعرف صاحبه إلّا محبوبه ، فإنه اللازق بالقلب ، اللازم معه!

(إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) حيث تبين هي كلّ ذلك وهو لا يبين بل لا يبين!.

فهبها تحب فتاها شذوذا في الحب ، فلما ذا تبين هي ، وأما هو فلا يكاد يبين ، ترغب إليها وهو لا يرغب ، لحدّ التسابق وقد قدت قميصه من دبر وشهد شاهد من أهلها (إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) حيث ظلت تراوده فضلت كذلك المبين!

وضابطة المراودة الجنسية ان الرجل يراود المرأة التي هي بمبلغه ، وتلك المراودة فيها تخلفات عدة ، ١ ـ أنها تراود ، ٢ ـ وباستمرار ، ٣ ـ فتاها المملوك لسيدها ، ٤ ـ وقد شغفها حبا ، فهي ـ إذا ـ مراودة تربو في مربعها على سائر المراودة ، مما تزيدها قحة على قحة ، فتصبح فعلتها في قمة الوقاحة.

(فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ)(٣١).

وبالمآل (سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ) كما سمعن مكرها ، وكيف يصبح بيان الواقع مكرا وهي معترفة بأصل المراودة ، وليس الاغتياب مكرا إلّا التهمة؟ علّه «مكرهن» من جهة تضخيم القحة بغيا منهن لها ، حسدا وابتغاء فضحها في المدينة ، والتذرّع به إلى مواجة يوسف لكي يحظون به حظوها ، وهي ترى مراودته طبيعة الحال في ذلك الجمال ، وكما أثبتت لهن حتى اعترفن (ما هذا بَشَراً ..)!

(سَمِعَتْ ... أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ ...) كلهن دون إبقاء ، مما يدل على

٧٦

أنهن نسوة خصوص كانت تعرفهن وتتعارف معهن ، «أرسلت .. واعتدت لهن متكأ ..» وترى ما هو «متكأ» وما هي الصلة بينه وبين «سكينا»؟

المتكأ هو ما يتكأ عليه من كرسي أو نمرق ، متعوّد عليه في بيوت المترفين تلك الزمن ، والإعتاد دليل أنه متكأ خاص ، دون الحاضر في محاله على أية حال ، إذ كن من نساء الطبقة الراقية المسامتة للعزيز ، فهنّ اللواتي يدعين إلى مآدب لكل المآرب المترفة في القصور ، ويؤخذن بتلك الوسائل المتميزة ، يأكلن ويتفكهن وهن متكئات على الوسائد والحشايا والنمارق كعادة الشرق في تلك الزمن.

ومهما صح عناية الأترج من المتكأ ، إضافة إلى ما يتكأ ، فهنا لا تصح ، فان «متكأ» ظاهرها الوحدة ، وكيف تكفي لهن أترجة واحدة! ومن قبل «أعتدت» لمحة أن «متكأ» ما كان حاضرا ، وحضور الأترج وسائر الفاكهة في بيوت المترفين أمر متعوّد لا يحتاج إلى إعداد ، ف «متكأ» بوحدته يلمح لمجلس واحد كله متكأ ، وطبعا للأكل والشرب والمحادثة ، فيكفي بوحدته دلالة على حضور أنواع المآكل والفواكه.

(وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً ..) واستعمال السكاكين في الأكل في تلك الزمن البعيدة ، يصور المدى البعيد ، عن الترف والحضارة المادية ، .. فبيناهن منشغلات بتقطيع اللحوم والحلويات والفواكه ، تمكر مكرها إذ تفاجئهن بيوسف مباغتة دون سابقة إعلام : (وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ).

ولماذا «أخرج» بديل «أدخل» علّه لأنه كان منزويا في زاوية أو غرفة تخوفا عن استمرار المراودة ، أم وكيد النسوة المدعوات ، أم إنها أخفته في مخدع داخل المأدبة المتكأ ف (قالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ) فخرج بطبيعة الحال ، إذ ما كان يملك تأبّيا وهو في ملكتها وتحت سلطتها وسيطرتها ، أم

٧٧

لو لم يخرج لأخرجناه معها وأنّى له التأبّي عن خروجه في هذه المعركة الصاخبة ، وهلّا خافت عليه منهن أن يفتنهن كما هي ، فبشاركنه فيما تشتهي؟ لأنها مولاه وقد تملكه ، فلا يدعه يهوي الى هوّاتهن ، وهي تعلم أنه لا يصبو إليهن وقد عصم نفسه منها وهي أجملهن ، ثم لا تسطع أن تقضي على كيدهن إلّا أن يرينه كما رأت فيغيرن من كيدهن اعترافا بحقها فيه وقد فعلت.

(فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ)(٣١).

ولماذا لا يكبرنه وقد أعطي حسنا منقطع النظير وكما يروى عن البشير النذير «أعطي يوسف وأمه شطر الحسن» (١)!

«أكبرنه» عما كن يزعمن أنه ـ فقط ـ فتاها المملوك ، أم وأي فتى جميل ، ولكنه منقطع النظير في قبيل البشر ، لذلك (أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) لدهشة مفاجئة غير منتظرة ، ولقد كان ذلك الإكبار لحدّ أصبحن في أنفسهن صاغرات مائرات لحدّ فقدن بالمرة شعورهن وإحساسهن ، فجذبن أعينهن إليه عما يقطعن من أكل وفاكهة ، فقطعن أيديهن ، فإن كانت العزيزة شغفها حبا لحد تلك المراودة في مدة طائلة فهن قد أصبحن أشغف

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ١٧ ـ أخرج احمد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم عن انس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : ... وفي المجمع عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يصف يوسف حين رآه في السماء الثانية ، رأيت رجلا صورته صورة القمر ليلة البدر قلت يا جبرئيل من هذا! قال : هذا أخوك يوسف.

٧٨

منها في اوّل وهلة ، فقالت لهن العزيزة «أنتن من ساعة واحدة هكذا صنعتن فكيف أصنع أنا» (١)!

ومن خلفيّات الإكبار الأنثوي أمام جمال رائع منقطع النظير ـ الحيض ، وكما تعنيه لغة الإكبار أحيانا : أكبرت المرأة إذا حاضت ، فسواء أحاضت لكبر في عمرها كبداية اغتلامها ، ام لإكبار فيما ترغب إليه من شهوة فائقة وقد تمني ، حينذاك ، فقد تعني «أكبرنه» فيما تعنيه : حضن وأمنين ، مناسبة لأدب اللفظ والمعنى.

ومن خلفيات ذلك الإكبار أن (قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) في تصاغر قوالبهن كما في قلوبهن ، حيث أثر إكبارهن قلبا وقالبا ، لحد أخطأن الفاكهة وسائر المأكول إلى أيديهن ، حيث قطعنها فاقدات الشعور والأحاسيس ، اللهم إلّا إحساسهن ليوسف لا سواه ، دون أن يدركن إلّا إياه.

وهذه سنة سارية في الإنسان ، أن الروح إذا انشغل عن البدن تماما فلا يحسّ ما يصاب في البدن ، سواء أكان انشغالا في الله فأحرى وأتم ، أم انشغالا في غير الله وكما حصل في نسوة في المدينة.

فلقد كان ذلك الإكبار لحد فقدان الشعور المدبر للبدن ، المدرك لمصابه ، وليس «قطعن» تعني جرحن ، والاختلاف بينهما فادح ، وهل كن

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ١٦ واخرج ابن أبي حاتم من طريق دريد بن مجاشع عن بعض أشياخه قال قالت للقيم ادخله عليهن والبسه ثيابا بيضا فان الجميل احسن ما يكون في البياض فادخله عليهن وهن يحرزن ما في أيديهن فلما رأينه حرزن أيديهن وهن لا يشعرن من النظر اليه فنظرن اليه مقبلا ثم اومأت اليه ان ارجع فنظرن اليه مدبرا وهن يحرزن أيديهن بالسكاكين لا يشعرن بالوجع من نظرهن اليه فلما خرج نظرن الى أيديهن وجاء الوجع فجعلن يولولن وقالت لهن : أنتن ...

٧٩

يجرحن الطعام والفاكهة حتى يستبدلن أيديهن عنهما؟ فإنما تقطيع بديل تقطيع ، وصيغة التفعيل هي للتكثير ، كثرة في عدد عدد أيديهن ، وأخرى في قدد حيث قددن وشققن أجزاء من أيديهن كما تقطع الفاكهة ، وهن لم يشعرن حين قطعن حتى هنيئة رجعن إلى ما كنّ فرأين أيديهن مقطعة.

(قَطَّعْنَ ... وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً ..)! وهي كلمة تنزيه لله ، اندهاشا من خلق الله ، فهن مهما كن مشركات في عبادة الله ، ولكنهن في نفس الوقت موحدات في خالقية الله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ)؟.

ففي حسن البشر حد تعرفه نساء الطبقة العليا ، المترفة بجمال الرجال ، فإذ لم يجدن مثله فيما رأينه ، إذ ف (ما هذا بَشَراً) أيا كان (إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ) ليس كسائر الملك على حسنهم وجمالهم وكمالهم بل هو بينهم «كريم» واسع في الملكية جمالا وكمالا ، خلقا وخلقا ، صورة وسيرة ، فلو كان بشرا لرأينا مثله ، أم انجذب إلى نسوة جميلات متزينات بأعلى الزّين ، متزيّات بأرقى الأزياء ، فلا خلقه يشبه بشرا ولا خلقه ، إذا ف (ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ).

أترى أنهن رأين ملكا كريما حتى ظننّه ملكا او مثّلنه بملك؟ كلّا! ولكن السيرة منذ القديم جرت على أن صورة الملك أفضل الصور كما وسيرته أحسن السير ، فضلا وحسنا فوق التصور ، فيمثل به كل حسن لا يقدر بقدر ، وهو منقطع النظير في قبيل البشر! وهكذا قدرن في يوسف ما هذا بشر إذ لا يرين فيه انجذابا الى أنثى البشر وهن وهي في حسنهن القمة ، وفي دلالهن وغنجهن ما لا تغمض عنه عين بشر! لذلك (إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ).

٨٠