الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٥

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٥

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٦

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١) اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ

٢٤١

مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤) وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٥) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (٦) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (٧) اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (٨) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (٩) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (١٠)

٢٤٢

لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ)(١١)

سورة الرعد صورة عن جملة من بوارع الكون وقوارعه ترعد وترعد وتطوف بالقلب بجولات في مجالات شاسعة واسعة ، وتحلّق العقول فيها فتعلّقها بحقائق جمة من كتابي التدوين والتكوين ، اتصالا بعظم الخلق فوصولا إلى معدن العظمة : الخالق العظيم.

«المر» هي كسائر الحروف المقطعة من مفاتيح كنوز القرآن ، لا نعرف من معانيها شيئا إلّا ما يعرّفنا من خوطب بوحي القرآن ، بما يروى عنهم قاطعة قاصعة لا تقبل أية ريبة ولا شائبة ، دون روايات آحاد متناحرة تخرص ولا يحرس كالتي تقول «.. ويقوم قائمنا عند انقضائها بآلمر» (١) أمّا

__________________

(١) تفسير العياشي عن أبي لبيد عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : يا لبيد ان لي في حروف القرآن المقطعة لعلما جما ان الله تبارك وتعالى أنزل : (الم ذلِكَ الْكِتابُ) فقام محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى ظهر نوره وثبتت كلمته وولد يوم ولد وقد مضى من الالف السابع مائة سنة وثلاث سنين ثم قال : وتبيانه في كتاب الله في الحروف المقطعة إذا عددتها من غير تكرار ليس من حروف مقطعة حرف تنقضي أيامه الا وقائم من بني هاشم عند انقضائه ثم قال : الالف واحد واللام ثلاثون والميم أربعون ، والصاد تسعون فذلك مائة وواحد وستون ثم كان بدو خروج الحسين بن علي (عليه السلام) «الم» فلما بلغت مدته قام قائم ولد العباس عند «المص» ويقوم قائمنا عند انقضائها بآلمر فافهم ذلك وعد واكتمه».

٢٤٣

يضاحيها من تخرصات بالغيب في تخيلات لا تأوي إلى ركن وثيق.

(تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ)(١)

أترى الآيات المشار إليها هنا هي آيات التكوين إذ تشمل السورة شطرا منها ، ومن ثم آيات التدوين هي (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ)؟ ولا تحمل الرعد كل آيات التكوين ، و (آياتُ الْكِتابِ) هي كلّها لمكان إضافة الجمع الموحية باستغراق ، وآيات من الرعد حين تحمل تعبيرات عن آيات التكوين لا تعتبر هي نفسها آيات من التكوين ، بل هي من التدوين الحاكي عن التكوين!

أم هي كل آيات التكوين ومن ضمنها ما تحملها الرعد ، ف «تلك» ـ إذا ـ إشارة إلى التي تحكي عنها في الرعد كنموذج بارع منها؟ ولكنها بعد آيات من التدوين!

أم إن «الكتاب» هو «أم الكتاب لدى الله علي حكيم» وآياته المفصلات المدونات في الذكر الحكيم؟ (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ) هي هيه! والعطف موح بمغايرة!

أم إنها آيات كتاب الوحي كلها ، فإنها تفصيلات لأم الكتاب ، ولكنها منسوخة ومحرفة ، خارجة عن حقها ، أم منسوخة على حقها (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ) فمهما كانت آيات الكتاب في كل كتابات الوحي حقّا ، ولكنها مطلق الحق حيث تقبل بطلانا بتحريف وتجديف ، ام بطلان الزوال بنسخ ، ولكنما (الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) هو «الحق» المطلق ،

__________________

أقول : ليس العلم بحروف الاعداد علما جما فانه يعلمه كثير من الجهال والكفار ، ثم وهذه الرواية سكة لمن يدعون المهدوية لعلي محمد الشيرازي الذي ادعى البابية للإمام المهدي ثم المهدوية تطبيقا ل «المر» بحساب الاعداد على زمن الباب.

٢٤٤

لا يقبل ايّ بطلان وزوال ، من بطلان باطل كالتحريف ، ام بطلان حق كالنسخ ، ف «الحق» معرفا دون «حق» حصر للقرآن بحقه ، دون أن يساويه او يساميه سائر الحق : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ).

أم إن «تلك» إشارة إلى كل آيات التكوين والتدوين في كتابيه ، على طول الخط في كل تكوين وتدوين ، (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ ..) نموذج شامل كامل عنهما ، حيث يشمل ما شملته كتابات السماء وفيه مزيد ، فهو «الحق» الثابت الذي لا حول عنه (وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً)!

فهذا القرآن العظيم أكمل نسخة عما دوّن وكوّن كما يحتاجه العالمون حتى آخر زمن التكليف ، وكما يروى عن باقر العلوم : القرآن يجري كجري الشمس.

هذا هو «الحق» الناصع البارع ، كل الحق الذي أراد الله إنزاله على العالمين (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) مهما كان في حروفه المقطعة اختصاصات غيبية لمن خوطب بالقرآن.

ذلك (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) أنه أنزل إليك من ربك ، وقد يؤمنون بإنزاله إليك ولكنهم لا يؤمنون أنه «الحق» الثابت الذي لا حول عنه ، تحريفا من الناس أم نسخا من خالق الناس.

(اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) (٢).

«ربّك» الذي رباك بالحق الذي أنزله إليك ، ورفعه في سماوات الوحي لأعلى قمة شاملة تحلّق على كتابي التكوين والتدوين «ربك» هذا. هو (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ..).

٢٤٥

هنا تبدء الآيات بالمعجزة الكونية ، الدالة على المكون الواحد العليم الحكيم القدير ، برسم مشاهد كونية بارعة ضخمة ، لمسة في السماوات وأخرى في الأرض ، ثم لمسات تلو أخرى في مشاهد أخرى (لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ)!

فاللمسة الأولى تبدء بالسماوات المرفوعة ، المعروضة على الأنظار ليل نهار ، حيث نرى سماوات مرفوعة (بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) فمن هذا الذي رفعها؟ ومن هذا الذي دعمها؟ إلّا الله الواحد القهار؟!

(السَّماواتِ) جمعا هي السبع الطباق ، فحين نراها دون وثاق ، والمرفوع في الجو بلا وثاق يدعمه مستحيل في العقول ، فليكن لها «عمد لا ترونها» فثم عمد ولكن لا ترونها» (١) فان «ترونها» تصف العمد وهي جمع العماد ، ولو لا عمد تدعمها لكانت «ترونها» زائدة بائدة ، فهي إذا توصيفة احترازية عن عمد غير مرئية ، إذا فهي «موطدات بلا عمد ، قائمات بلا سند» (٢) مرئية : «سقفا محفوظا وسمكا مرفوعا بغير عمد تدعمها ولا دسار ينظمها» (٣) ولا رفع إلّا برافع ، ولا حفظ ولا سمك إلّا بحافظ وسامك ممسك!.

تاتي «السماوات» في ساير القرآن (١٩٠) مرة ، ولا رفع لها إلّا هنا

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٤٨٠ ح ٥ القمي حدثني أبي عن الحسين بن خالد عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال قلت له : اخبرني عن قوله تعالى (وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) فقال : هي محبوكة الى الأرض وشبك بين أصابعه فقلت كيف يكون محبوكة الى الأرض والله يقول (رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) فقال : سبحان الله أليس يقول (بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) فقلت : بلى قال : فثم عمد ولكن لا ترونها ...

(٢) في نهج البلاغة قال (عليه السلام): فمن شواهد خلقه خلق السماوات موطدات ..

(٣) النهج في كلام له يذكر فيه خلق السماوات «جعل سفلاهن موجا مكفوفا وعليا هن سقفا محفوظا ..

٢٤٦

وفي الرحمن (وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ) (٧) وفي النازعات بإفرادها (أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها) (٢٨) وفي الطور (وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) (٤).

ولان رفع الشيء ليس إلّا بعد كونه بانخفاض ، فلتكن السماوات مرفوعة بعد خلقها غير مرفوعه كما فصلتها الآيات في فصّلت وفصلناها على ضوئها وفق ما فصلّت.

فالسماوات المرفوعة بأجرامها الضخمة الثقيلة ـ فإنها (سَبْعٌ شِدادٌ) ـ إنها تدلنا على رافع رفعها ، ثم بقاءها مرفوعة محفوظة عن التساقط دليل على داعم يدعمها ، ولان الرافع الداعم لا يرى فلنؤمن بمن لا يرى بما يرى ، فان ما يرى دليل على ما لا يرى.

وعلّ الجمع في (عَمَدٍ تَرَوْنَها) يوحي بعمد لا ترى ، فليست هي القوة الجاذبية فحسب إذ ليست جمعا ، وليست ـ كذلك ـ الله ، إذ لا اله إلّا الله ، إذا فهي كل ما لا يرى ممن يدعمها كما رفعها بعد ما خلقها وهو الله تعالى ، ومما يدعمها مرتفعة كالجاذبية العامة ، فالله تعالى هو العماد الأصيل في كل كثير وقليل ، ثم الجاذبية أماهيه من المدبرات امرا من قبل الله ، حيث أبى الله ان يجري الأمور إلّا بأسبابها ، وهو السبب الاوّل ، وهو مع كل الأسباب ومسبب للأسباب ، فهو العماد الاوّل المسنود إليه إمساكها في آية الحج : (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ)(٦٥).

فقصارى ما يرفعه الناس في هذه الكرة الصغيرة الهزيلة ، لا تتعدى بناية او برجا ام وطائره ، وكل ذلك بحاجة إلى دعامة بحسبها ، فكيف بالإمكان ان تحفظ هذه السماوات المبنية العظيمة بهذه الأجرام الهائلة ، تحفظ مرفوعة بلا عمد ولا دسار ينظمها ، فإذ لا ترى عمدها فلتكن هناك عمد ولكن لا ترونها!

ولماذا يبتدء في ذلك العرض العريض بالسماوات البعيدة عنا دون

٢٤٧

الأرض القريبة منا وهي كما السماوات مرفوعة في جوها بغير عمد ترونها؟

لأن رفع السماء وبقاءها في جو الفضاء بغير عمد ترونها معلوم لكل ناظر إليها ، ولكنما الأرض ـ على كونها معلقة في جو الفضاء كما السماء ـ لم تكن ظاهرة التعلق والعلقة ، إذ كانوا يزعمونها ولحد الآن مستقرة على دعامة ، مهما دلت على كونها معلقة آيات عدة وروايات مسرودة في محالها ، مؤيّدة للعلم ، ومتأيدة به لغير ذوي العلم ، ومن آياتها هي الجامعة بينهما كآية الإمساك : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) (٣٥ : ٤١) وإمساكهما بعد زوالها دون خلقهما مرة أخرى يدلنا أن زوالهما هو تساقطهما عن محالهما ، دون انعدامهما ، فكما السماوات بحاجة إلى إمساك عن السقوط كذلك الأرض.

ولأن دخان السماء رفع قبل تسبيعها : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ ... فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ ..) (٤١ : ١٢) إذا فرفع السماوات رفع ثان لذلك الدخان اقتساما له إلى سبع وجعله طباقا فوق بعض ، وفي ذلك الرفع الرفيع خلق الأنجم لأنه تكملة لبناء السبع الطباق وبعده استواء لله على عرش الملك والتدبير.

(.. ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) مما يؤكد خلقهما في ذلك الرفع ، وهما من أنجم المجرة الأدنى إلى أرضنا (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) وهو أجل قيامتهما ضمن القيامة العامة الطامة (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) في السماوات والأرض وما بينهما (يُفَصِّلُ الْآياتِ) تكوينا وتدوينا وكل ذلك (لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) لقاء المعرفة في الأولى والأخرى ، ولقاء الجزاء يوم الجزاء.

لقد فصلنا القول حول العرش في طيات آياتها الأنسب وأنه كناية عن السلطة

٢٤٨

الربوبية المطلقة على كل شيء ، ولأن السلطة الفعلية ليست إلّا بعد ملك بالفعل ، فلا عرش لله قبل خلقه إذ «كان الله ولم يكن معه شيء» ثم خلق المادة الأولية التي خلق منها كل شيء ف (كانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) قبل أن يخلق منه الأرض والسماء : (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) (١١ : ٧) ومن ثم كان عرشه على السماوات والأرض : (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) (٢٥ : ٥٩).

فاستواء الرحمن على العرش ليس إلّا لبسط الرحمة بباسط يديه ، حيث الرحمن رحمة عاملة شاملة كل شيء.

وهنا تسخير الشمس والقمر نموذج من تسخير الأنجم ، وتدبير الأمر يعم أمرها وكل خلق تكوينا وتشريعا ، وتفصيل الآيات يعم آيات التكوين كعامة الكون ، وخاصة الرسل فإنهم آياته العظمى ، وآيات التشريع كعامة ، وخاصة الشرعة القرآنية ، فكما له الخلق وحده ، كذلك له الأمر وحده ، لا خالق ولا آمر معه : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٧ : ٥٤) فالخلق هو خلق الكون كله المعبر عنه بالسماوات والأرض ، والأمر هو عرش ملكه في ربوبيته المطلقة علما وتدبيرا ، وتفصيلا وتقديرا أماهيه؟ :

وترى ما هي الصلة بين لقاء الرب وما قبله من خلق وتدبير؟ إن في رفع السماوات بغير عمد ترونها واستوائه على العرش وتسخيره ما تحت العرش وتدبير الأمر وتفصيل الآيات ، إن في ذلك كله آية لوجود الله ووحدته وعلمه وقدرته وعدله وحكمته ، وهي كلها ذريعة لمعرفته وهي

٢٤٩

أفضل لقاءه ، ومن ثم لقاء الجزاء يوم الجزاء ، فذلك الرفع الرفيع ، والتسخير المنيع ، والتدبير والتفصيل لكتاب التدوين والتكوين الوسيع ، كلها توحي بعودة للخلق إلى الخالق فانه من كمال التقدير الحكيم ، ولولاها لكان تطويلا بلا طائل ، وتفصيلا دون حاصل! «فنظرت العين إلى خلق متصل بعضه ببعض ودلها القلب على أن لذلك خالقا وذلك أنه فكر حيث دلته العين على أن ما عاينت من عظم السماء وارتفاعها في الهواء بغير عمد ولا دعامة تمسكها ، وانها لا تتأخر فتنكشط ولا تتقدم فتزول ، ولا تهبط مرة فتدنو ولا ترتفع فلا ترى (١) والقادر على هذا الخلق العظيم الحكيم إبداعا أقدر على إعادته مرة أخرى (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ)!.

ثم من السماء البعيدة المدى ، القريبة لهذه الذكرى ، إلى الأرض التي نعيشها ونمشي على مناكبها ، هبوطا للخط التصويري الهائل من السماء إلى الأرض ، عرضا للوحتها العريضة الأولى حين أكملها وبناها كما السماء بناها :

(وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(٣).

وهنا يرسم مدّ الأرض بعد خلقها كلمسة أولى لهذه اللوحة الفسيحة لساكنيها ، ومن ثم خط الرواسي وخدود الأنهار بخطوطها ، ثم الثمرات الناتجة عن ازدواجية الخطين ، وامتزاجهما تلو بعض وزوجية الثمرات وإغشاء الليل النهار في سباقهما على مدّ الآفاق (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٤٨١ عن كتاب الاهليلجة قال الصادق (عليه السلام) ...

٢٥٠

وللأرض مدان اثنان ، مدّ اوّل لإحيائها كما هنا وفي أضرابها : (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) (١٥ : ١٩) (.. وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (٥٠ : ٧٠).

ومدّ ثان لإماتتها : (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ ، وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ) (٨٤ : ٣) واين مد من مدّ تعميرا وتدميرا؟.

ولأن المدّ ليس إلّا عن انقباض فلتكن الأرض قبل مدّها منقبضة لا تحنّ لجعل جبال ورواسي أو إلقاءها عليها ، فضلا عن جعل الأنهار والثمرات ، فبمدها قرّت فغرّت لقرارة الحياة عليها : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً) (٤٠ : ٦٤) وذلك هو ذلّها بعد شماسها : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (٦٧ : ١٥) وفي ذلك كفاتها : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً ، أَحْياءً وَأَمْواتاً ، وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) (٧٧ : ٢٧).

ولأن الأرض كروية فمدها هو بسطها في حجمها ، وعلّه على أثر حركاتها الدورانية حين ذوبانها ، وقانون الفرار عن المركز يحكم بذلك الانبساط في جوانبها ، فانجماد سطحها ، وانبثاق أقسام منه هي أثقل من فوقها ، وهي جبالها الراسية في متن أديمها وأعماقها (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)!

ومن خلفيات جعل الرواسي جعل الأنهار حيث يدخر فيها من ثلج السماء وبردها وماءها خلالها ، فتشق من أطرافها وأكنافها أنهار يجري ماءها فيها ، أم تنبع نبعات في أكنافها فتجري أنهارا صغارا وكبارا.

فجعل الجبال يتبنى مد الأرض كما مدّت ، وجعل الأنهار يتبنى جعل الجبال ، وجعل الثمرات يتبنى جعل الأنهار لأرض مستعدة للإثمار (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ!

(وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) تستغرق كل ما بالإمكان الراجح من مختلف

٢٥١

الأثمار ، فكل الثمرات الممكنة الكينونة ، الراجحة في إمكانيتها ، مجعولة في هذه الأرض ، وعلّ «من» قبل «كل الثمرات» تشير إلى هذه المباعضة الراجحة وكما في أضرابها : (فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (٧ : ٥٧) (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ) (١٤ : ٣٢) (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (١٦ : ١١) : ذلك وكما الجنة أيضا كذلك : (وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) (٤٧ : ١٥) فما كل ثمرة بالإمكان خلقها تصلح لخلقها في الأولى أو الأخرى ، إلّا ما فيها رحمة راجحة.

وترى ما هما (زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) والزوجان هما اثنان دون زيادة ولا نقصان؟

الزوج هو الفرد الذي له قرين ، فكل زوج للآخر كما الآخر ، وهو القرينان معا ، فلكي يدل على المعنى الاوّل : القرينين ـ قيدهما باثنين لكيلا يعنيا الأربع في المعنى الآخر ، فمن الاوّل (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) (٤ : ١) (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) (٥٣ : ٤٥).

ولأن الثمرات أزواج وأقران لا ـ فقط ـ زوجين ، فقد يعنيان الذكر والأنثى ، ولا تعني الثمرات ـ فقط ـ الناضجات حتى يقال : ان زوجية الذكورة والأنوثة إنما هي في زهراتها دون نفس الثمرات المخلّفة منها ، حيث الثمرات هي ناتجات نابتات عن الأرض بأنهارها ، منذ زهراتها إلى ناضجاتها.

فكل النابتات تحمل في ذواتها زوجين اثنين ، فتضم أعضاء الذكورة وأعضاء الأنوثة مجتمعة في زهرة واحدة ، او متفرقة في العود ، فهي لا يتولد ثمارها وحبّها إلّا بين زوجين اثنين ، كما والبعض منها ـ كذلك ـ زوجان اثنان.

٢٥٢

عضو الذكر قد يكون عشيرا لعضو الأنثى في شجرة واحدة كالأغلبية الساحقة من الأشجار ، وأخرى يقتسم العضوان بين شجرة وأخرى كما النخل وفي الواحدة أيضا قد يجتمعان في زهرة واحدة كشجرة القطن ، أم في زهرتين كالقرع ، وذلك مما كشف العلم عنه النقاب بعد قرون عدة من نزول القرآن (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)!

ومن (زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) في الثمرات : الحلو والحامض ، الرطب واليابس ، الحار والبارد ، الصيفي والشتوي أما ذا من زوجيات ، وقد تجد في شجرة واحدة ثمرة ذات زوجين أم أزواج من ألوان وطعوم و (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)!

ثم (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) لمحة لامعة إلى كروية الأرض ودورانها ، فذلك الإغشاء دليل كونهما مع بعض ، فليست الأرض ـ إذا ـ مسطحة ذات أفق واحد ليل كلها ثم نهار كلها ، بل هي ذات أفاق في إشراقة الشمس عليها من مشرقها إلى مغربها ، ففي كل انتقالة للأرض حول نفسها يغشي سرادق الليل وجه النهار : (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) (٧) : ٤٥) : سريعا جسيسا ، فغشي الليل النهار في طلبه السريع دليل على سرعة الحركة الارضية وتبادل آفاقها في إشراقة الشمس عليها ، فقبل أفق الشمس ليل وبعده ، والليل الخلفي لها يغشي نهارها الذي تنتقل عنه ، كما والليل الآتي يغشاه النهار الذي ياتي ، وآيته : (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) (٣٩ : ٥) كما فصلناها تفصيلا.

فلو لا كروية الأرض لم يكن ليل ونهار مع بعض ، ولو لا حراكها حول نفسها لم يطلب الليل النهار حثيثا ، ومهما لم تكن كروية الأرض ودورانها معروفا حين نزول القرآن وحتى ردح بعيد بعده ، بل كان خلاف الحس والرأي العام ، ولكنما التفكر في حالات الأرض يدلنا على ما يخفى منها

٢٥٣

ف (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).

إن في مدّ الأرض وجعل الرواسي والأنهار فيها ، وجعل الزوجين من كل الثمرات فيها ، وأغشاء الليل النهار ، إن في ذلك المربع الربيع «لآيات» عدة (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) في آيات العلم والقدرة والحكمة والرحمة الواسعة!.

فعلى مدّ الزمن وتمديد الأفكار زمنا بعد زمن تظهر آيات تلو آيات من هذا الكون البارع البديع لقوم يتفكرون ، فيزدادوا على ضوءها معرفة برب العالمين ، حيث العلم في توسّعه الدائب هو من خدام الإيمان لو لم يخلد إلى الأرض اتباعا للأهواء.

ولنقف هنا وقفة متأملة متعملة أمام تلك التقابلات الفنية في ذلك المشهد الرائع البديع ، بين مدّ الأرض والرواسي والأنهار والزوجين من كل الثمرات وتلاحق الليل والنهار في إغشاء بطلب حثيث ، من ثم إلى قطع الأرض :

(وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٤)

أرض واحدة هي (قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) على كونها قطعة ورقعة واحدة فما هو رمز الكثرة المتجاورة؟

لأنها حسب الحالات والأثرات ليست واحدة ، فمنها السبخة النكدة ، ومنها الجدبة المقفرة ، ومنها صخرة صلدة ، ومنها رخوة لينة ، ومن ثم هي بين عامرة وغامرة ، ريانة وعطشانة ، حية مزروعة ومهملة ميتة أمّاهيه ، وكلها أرض واحدة ، تقابلات فنية في لوحة واحدة بقطع

٢٥٤

متجاورات ، فليكن وراءها تصميمة قاصدة واحدة حيث الاختلاف بذلك النسق المنضد المنظم دليل الإرادة الوحيدة ، غير الكثيرة ولا الوهيدة.

هذه إجمالة جميلة عن هذه الأرض وإلى تفصيلات هي من خلفيات مختلف القطع بطباعها المختلفة : (وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ) فالأعناب والنخيل يمثّلان كل الأشجار المثمرة لأنهما أهمهما نفعا ، والزرع يشمل كل ما يزرع ، وهذه الثلاث بين (صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ) مع أن الكل (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ) ثم (وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) حيث استعمال العقل في مختلف هذه المظاهر على وحدة الأرض والماء دليل التصميم الهادف الوحيد ، لو لا ذلك فلما ذا الاختلاف وهو لا يأتي إلّا عن مختلف ، والماء واحد والأرض واحدة ، والبذر الواحد ياتي بمختلف الأثمار لونا وطعما وحجما!.

و «صنوان» مثنى وجمع ، واحده «صنو» وهو المماثل ، وهو الغصن الخارج عن أصل الشجرة ، فالصنوان هي الأمثال النابتة على أصل مشترك ، وغير صنوان خلافها وهي من أصول عدة ، فمن الصنوان مختلف الأعضاء ، بين خضراء وحمراء وصفراء من شجرة واحدة ، فترى تمرات مختلفة حجما وطعما ولونا في نخلة واحدة ، وعنبات حلوة وحامضة ، بين خضراء وحمراء وصفراء من شجرة واحدة وارض واحدة وماء واحد ، كما نرى متماثلات ومختلفات من أصول عدّة ، فمن هذا الذي يجعلها مختلفة صنوان ، ام متوحدة وغير صنوان إلّا الرحمن ، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟

وهكذا تكون الثمرات في أنسال الإنسان (صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ) وكما يروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله : «يا علي الناس من شجرتين وأنا وأنت يا علي من شجرة واحدة ثم قرء الآية» (١) وقوله (ص)

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٤٤ ـ اخرج الحاكم وصححه وضعفه الذهبي وابن مردوية عن

٢٥٥

«إن عم الرجل صنو أبيه» (١).

(وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) صنوانا وغير صنوان ، فقد نرى تفاحات من شجرة واحدة مختلفة الطعوم مفضلة بعضها على بعض في الأكل حلاوة وحموضة أمّاهيه (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أرض واحدة وماء واحد وشجرة واحدة والثمرة مختلفة ، أترى هذه صدفة عمياء ام تصميمة قاصدة لئلاء.

لسنا نقول أن ليست هناك علل طبيعية تؤثر هذه التأثيرات ، ولكنها معلّلة بإرادة الله الواحد القهار ، لو كانت هي الطبيعة وحدها كانت أثراتها على نسق واحد دونما اختلاف ، ولا سيما في الصنوان ، فسبحان العزيز المنان!.

(وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(٥).

(وَإِنْ تَعْجَبْ) يا رسول الهدى أنت ومن تبعك بإحسان وكل من ألقى السمع وهو شهيد «إن تعجب» من أمر يعجب ويحير العقول من حمقه في عمقه (فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) وقد كانوا ترابا ثم نطفة : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ

__________________

ـ جابر (رضي الله عنه) سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : يا علي .. ورواه ابن شهر آشوب عن الخركوشي في شرف المصطفى والثعلبي في الكشف والبيان والفضل بن شاذان في الامالي واللفظ له باسنادهم عن جابر بن عبد الله ورواه النطنزي في الخصائص عن سلمان عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).

(١) المصدر اخرج عبد الرزاق وابن جرير عن مجاهد ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : لا تؤذوني في العباس فانه بقية آبائي وان عم الرجل صنو أبيه :

٢٥٦

مُخَلَّقَةٍ) (٢٢ : ٥).

والخلق الجديد أهون من الخلق القديم : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) (٣٠ : ٢٧) فكيف وهم معترفون بالخلق الأول ، عارفون أن الثاني هو أهون ، يستنكرون خلقهم الجديد وهو أحرى وأحق من الأول ، حيث الأول قضية رحمة الله الراجحة ، والثاني قضية رحمته الواجبة وعدله ، ضرورة الجزاء يوم الجزاء ، ف (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) كأن لا سواهم (وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) أغلال الحيونة والشهوة ، أغلال الجهل والجهالة ، أغلال العناد والمتاهة ، وأغلال الإخلاد إلى أرض المادة.

وليست «على أعناقهم» حتى يمكن وضعها عنها ، وإنما «في أعناقهم» فهي مغلولة في أصل ذواتها وأعماقها بما كسبت أيديهم ، وأن الله ليس بظلام للعبيد ، ولأنهم في ذواتهم نيران مسعّرة ف (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

فلو كان الخلق الجديد مستحيلا لأنه من التراب ، فأحرى بالخلق القديم إحالة! ولو كانت الاستحالة في الخلق الجديد لتمزق تراب البدن وتفرقه في سائر الأبدان أم ايّ مكان ، فكذلك النطفة الجرثومية هي مأخوذة من ذرات في سائر البدن والأبدان : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ. قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (٣٢ : ١٠).

إن اصحاب الأغلال هنا ، هم أصحاب الأغلال هناك ، والخالدون في نيران الشهوات والضلالات هنا ، هم خالدون في النار هناك ولا يظلمون نقيرا ، فإنما طبق عن طبق ، فأغلال عن أغلال ، وخلود عن خلود.

٢٥٧

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ)(٦).

هؤلاء الحماقى الطغاة ليسوا ليتذكروا بأيّة ذكرى (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) استعجالا بالعذاب : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ ... يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) (٢٩ : ٥٣ ـ ٥٤) :

ولم يستعجلونك بالسيئة وهناك الحسنة أحرى أن يستعجل بها؟ إنما (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ ..) (٤٢ : ١٨) فما استعجالهم إلّا تحديا وإبطالا لدعوة الحق استغلالا له فاستقلالا ثم استغفالا للمستضعفين.

والسيئة المستعجل بها قبل الحسنة هي العقوبة التي تهدّدوا بها يوم الدنيا والأخرى وهم ناكروهما ، فالأخرى لكفرهم بها ، والأولى لنكراهم الوحي وتوحيد الربوبية.

إنهم هكذا يستعجلون (وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ) والمثلة نقمة تنزل بالإنسان فتجعل مثالا يرتدع به غيره فهي كالنكال ، والمثلاث التي خلت هي أمثال لما تهددهم من عقوبات الدنيا والآخرة ، حيث الأولى تشهد للأخرى ، كما تشهد لنظيرتها في الأولى لأنها كلها تشهد لصدق الوعد والوعد الصدق.

ألا «واحذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلاث بسوء الأفعال وذميم الأعمال فتذكروا في الخير والشر أحوالهم واحذروا أن تكونوا أمثالهم» (١).

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٢٨٢ ح ١٢ في كتاب التوحيد باسناده عن ابو ذكوان قال سمعت ابراهيم العباسي يقول : كنا في مجلس الرضا (عليه السلام) فتذاكروا الكبائر وقول ـ

٢٥٨

ألا «فاعتبروا بما أصاب الأمم المستكبرين من قبلكم من بأس الله وصولاته ووقايعه ومثلاته واتعظوا بمثاوي خدودهم ومصارع جنوبهم».

أو لا تكفي هذه المثلاث التي خلت عبرة لصدق الرسالات ، وليصدقوا أنباءها لعقوبات هنا ، وفي الآخرة أشد وأنكى (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ).

ألا فلينظروا إلى مصارع الغابرين حيث استعجلوا العذاب المهين فأصابهم حينا بعد حين وتركهم مثلة يعتبر بها وأمثولة للكافرين ، ثم لينظروا إلى رحمة الله الواسعة كيف يعد عباده على ظلمهم : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) فالناس دون «المؤمنين» و «على ظلمهم» دون «التائبين» يدلاننا على سعة الرحمة المغفرة كأصل بين العباد ، اللهم إلّا للمعاندين المتعنتين ، السائرين في ظلمهم وعتوّهم بكل عناد وعتاد (وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ)!

فمن يصر في الظلم ويلجّ ولا يبتغي باب الرحمة ليلج ، مستغنيا عن رحمة الله ، مستعجلا بعذاب الله ف (إِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) والباقون هم في رحمة الله بشروط ودون شروط ، ما دامت لا تمس من كرامة عدله.

ثم «ربك» في الرحمة والعذاب ، تلميحة أنهم كانوا مشركين ، لهم ارباب متفرقون ، وأن هذه الرحمة غير محدودة تستقصي كل ما بالإمكان من رحمة رحيمية ، وكما أنزل كل رحماته على هذا الرسول العظيم.

كما وأن عذابه في موقفه العدل لا يحدّ ولا يمنع : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ ، وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ) (٨٩ : ٢٦).

__________________

ـ المعتزلة فيها انها لا تغفر فقال الرضا (عليه السلام) قال ابو عبد الله (عليه السلام) قد نزل القرآن بخلاف قول المعتزلة قال الله جل جلاله (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ ..).

٢٥٩

ثم (لَذُو مَغْفِرَةٍ) تعم النشأتين ، والأولى هي المعلومة المتيقنة هنا ، حيث المشرك لا يغفر في الأخرى ، فعلّه قد يغفر عن مثلات العذاب هنا لعلهم يرجعون ، ام يزيدهم عذابهم في الأخرى ، كما وأن عذابهم في الأولى لعلهم يرجعون : (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٧ : ١٦٨) (لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٣٠ :) ٤١) (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)(٣٢ : ٢١).

إذا فليس غفر المشركين يوم الدنيا سماحا عنهم فيما يظلمون ، وإنما تأجيلا عنهم لعلهم يرجعون ، أم يزيد في عذابهم إن كانوا على الحنث العظيم يصرون : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ، إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ ..) (١٤ : ٤٢)

أجل وان باب التوبة والمغفرة مفتوحة بمصراعيها على كافة الناس في هذه النشأة على شروطها المسرودة في القرآن ، ثم من المعاصي ما تغفر دون توبة في النشأتين كصغائر السيئات لمن يجتنب كبائر ما ينهى عنه ، وصغائر الواجبات لمن يأتي بكبائر الحسنات ، ثم لا مغفرة بعد الموت لمن مات مشركا فضلا عن الملحد : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (٤ : ٤٨).

و (لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) دون غافر أو غفور ، للإشارة إلى عدم فعلية الغفران لمن هو في حالة الظلم والطغيان ، ولا سيما الظلم بعباد الله حيث لا يغفر إلّا ان يغفروا هم ظالميهم ، فقد تدل «ذو» على شأنية الغفران للظالمين على ظلمهم إن تركوا ظلمهم وجبروا ظلامتهم ، فليس هو تعالى ليغضب على الظالم لحد يسد عنه باب الغفران ، ولأن الظلم يعم كل صغيرة وكبيرة فهذه الآية مما تشهد لغفران الكبائر كما الصغائر ـ وطبعا ـ

٢٦٠