الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٥

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٥

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٦

علمه بحياته بعد حين في آيته : (يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ ..).

(وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ)(٨٤).

هنا يختص يوسف بذكراه إذ لا يتأكد بعد من حياته أو أن يأتيه ، ولكن أخاه وكبيرهم بعد موجودون بمكان معلوم ، ثم ويوسف هو القمة العالية الغالية في حبّه ، وما فاصل الزمان البعيد بالذي ينسيه ، لا سيما والحادث الجلل الجديد يذكر جلل القديم.

(وَتَوَلَّى عَنْهُمْ) اعتراضا عليهم وإعراضا عنهم ، منقطعا إلى الله (وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) إذ ما هوّنت من مصابه طائل السنون ، والنكبة الجديدة في أخيه ثم كبيرهم تجدده أكثر مما كان طيلة السنين ، وذلك غاية الأسف والأسى على أعز الأبناء وأغرهم الذي تتلوه غائلة فوق غائلة ، فهنا (وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ) حيث أذهب الحزن بسواده فانظّم في سائر بياضه ، ولكنه على حزنه الذي بلغ به إلى العمى لم يكن ليشكوا حزنه إلى أحد إلّا لله (فَهُوَ كَظِيمٌ) غيظه وحزنه عمن سوى الله ، هضيم عبء مصابه لله : (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ) ممن أحزنني وخانني لا من الله.

أترى أن الحزن ، وعلى أثره البالغ منه : ابيضاض العين ، ذلك لا يلائم الصبر الجميل؟ إنه لو كان شكوى من الله لخرج عن الإيمان بالله ، فضلا عن الصبر الجميل ، ولكنه إذا كان شكوى إلى الله من بأس الظالمين ، فهو قضية الإيمان ، وصبر جميل ، حيث لم تخرجه عن الرجاء بالله والأمل في رحمة الله.

١٨١

وفي نائبة يوسف واجهتان ، من إخوته خيانة وظلما حسدا من عند أنفسهم ، ففيها (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ ..).

وأخرى تجاه الله وفيها (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ... فَهُوَ كَظِيمٌ ... إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ ... اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ ..) وكلتاهما قضية الإيمان ، رحمة ابويّة على أفضل أولاده ، ونقمة على حاسديه ، وثقة وإيمانا بالله ورجاء به (عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً).

وقد صدق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في قوله : «كان له من الأجر أجر مائة شهيد وما ساء ظنه بالله ساعة من ليل أو نهار» (١)!

__________________

(١) الدر المنثور : ٤ : ٣١ ـ اخرج ابن جرير عن الحسن عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انه سئل ما بلغ وجد يعقوب على ابنه؟ قال : وجد سبعين ثكلى ، قيل : فما كان له من الأجر؟ قال : اجر مائة شهيد ...

وفي نور الثقلين ٢ : ٤٥٢ عن القمي عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال له بعض أصحابنا : ما بلغ من حزن يعقوب على يوسف؟ قال : حزن سبعين ثكلى ، وفيه في الخصال عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام) قال : كان علي بن الحسين (عليه السلام) يصلي في اليوم والليلة الف ركعة ـ الى ان قال ـ ولقد بكى على أبيه الحسين (عليه السلام) عشرين سنة ما وضع بين يديه طعام إلّا بكى حتى قال له مولى له : يا بن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اما آن لحزنك ان ينقضي؟ فقال له ويحك ان يعقوب النبي (عليه السلام) كان له اثنا عشر ابنا فغيب الله عنه واحدا منهم فابيضت عيناه من كثرة بكائه عليه واحدودب ظهره من الغم وكان ابنه حيا في الدنيا وانا نظرت الى أبي واخي وعمي وسبعة عشر من اهل بيتي مقتولين حولي فكيف ينقضي حزني؟.

١٨٢

وما هو موقف الفاء في (فَهُوَ كَظِيمٌ)؟ علّه كعلة ل (ابْيَضَّتْ عَيْناهُ) فالحزن الظاهر المتظاهر يخفف عبء الباطن المتكاثر ، وأما إذا كان مكظوما لا يظهر ، فهو صادر عن القلب ووارد في القلب ، فيحرق القلب ويؤثر على القالب ، ولماذا «عيناه»؟ طبعا لمزيد البكاء ، وطبعا ابيضّ سائر شعره مع عينيه ، واحدودب ظهره ، وكل ذلك لعظم الحزن وأنه كظيم لا يظهر حزنه.

(قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ)(٨٥).

«تفتؤ» هنا منفي بأداته المحذوف (لا) ، المدلول عليها ، بترك اللّام ونون التأكيد في جوابه ، فإنهما لزامان الجواب القسم في الإثبات.

(قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا) : لا تنقطع (تَذْكُرُ يُوسُفَ) آسفا حزينا كئيبا ، كلمة حانقة خانقة مستنكرة ، ظاهرها فيه الرحمة تعطفا على أبيهم ، وباطنها من قبله العذاب تنديدا شديدا بأبيهم ، كيف يأسى على يوسف الفقيد منذ سنين؟

تدأب في ذكر يوسف (حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً) : مشرفا على الهلاك كما هلكت عيناك (أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ) والحرض ما لا يعتد به ولا خير فيه ، وهذه هلكة الإنسان في كيانه قبل هلاكه بموته ، فلا هو حي كالأحياء ، ولا ميت كالأموات! وهكذا يتظاهرون لأبيهم في مظهر الناصح المشفق ألّا يتذوّب بذكر يوسف الفقيد حيث ذهب دون عودة ، ولكنه يرد عليهم ردا حازما حاسما جازما : أنه لا يشكو إليهم ما كان منهم ولا يجزع لديهم :

(قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(٨٦).

١٨٣

البث المقارن للحزن هو الحزن المبثوث حين يغلى مرجله فينبث باختيار ودون اختيار ، حيث يظهر في ملامح الوجه وفلتات اللسان ومعارض الأركان ، والحزن همّ دونه حيث يملك ستاره ، وشكوى البث والحزن هي الاختياري منهما وقد اختاره يعقوب «إلى الله» لا سواه ، لمكان «إنما» فلا يشكوهما إلى أحد حتى أهله وولده ، وهذه هي قمة الشعور بمقام الربوبية في قلب منقلب إلى الله ، موصول النياط بالله ، في لألاء باهر وجلال غامر.

فليس بعد الزمان ، واستنكار الولدان لذلك التطلّع الدائب بعد هذا الأمد البعيد ، ليسا هما وأمثالهما من مؤيسات بالتي تؤثر في أمل الرجل الصالح الواثق بربه ، فإنه يعلم من الله ما لا يعلمون هؤلاء المحجوبون.

ولذلك يدأب في شكواه بثا وحزنا إليه ، ويمضي حياته عليه ، ولحد ابيضاض عينيه من كمد البكاء دون لفظة قول ولا لحظة عين ولا أية إشارة في شكواه إلى غير الله ، وهنا نضرب بالرواية القائلة خلاف الآية عرض الحائط حين تقول : كتب يعقوب بكتاب له إلى العزيز يشكو فيه كل شكواه ، فحتى لو كان يعلم أنه يوسف ما كان له أن يشكو إليه ، ولكنه لم يعلم (١) أنه هو فكيف يشكو إلى العزيز الذي هو بطبيعة الحال مشرك ويستجدّه ويسترحمه في نفسه؟ ويطلب منه أن يتصدق عليه وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «من أصبح حزينا على الدنيا أصبح ساخطا على ربه ومن أصبح يشكو مصيبة أنزلت به فإنما يشكو الله ومن

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٤٦١ ج ١٨٢ في امالي شيخ الطائفة باسناده الى أبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام) قال : فلما كان من أمر ، اخوة يوسف ما كان كتب يعقوب الى يوسف وهو لا يعلم أنه يوسف ...

١٨٤

تضعضع لغني لينال من دنياه أحبط الله ثلثي عمله ..» (١) «ومن بث لم يصبر» (٢) وقد قال يعقوب (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) فقد صبر جميلا ولم يبث إلا إلى الله لا سواه ، وهكذا يكون من عند الله ، مطمئنا بالله ، مجاهدا في الله ، جاحدا لغير الله إلّا في أمر بأمر الله ، وكما أمرهم :

(يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) (٨٧).

فليست الثقة بالله والتكلان على الله بالذي يبطّل التوسل بالأسباب ، ويعطل ابتغاء الوسيلة إلى رحمة الله وكما قال الله : (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ)! وهنا يتجلى ـ وضح الشمس في رايعة النهار ـ أنه كان على علم بحياة يوسف (٣) وطبعا بوحي من الله ، وكما اوّل رؤياه في الأوّل : (وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ..) وقد كرر قوله (إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) لما ارتد بصيرا : (فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) فكان مما يعلم من الله حياة يوسف!

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٣١ ـ اخرج البيهقي في الشعب عن انس قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي آخره : ومن أعطي القرآن فدخل النار فأبعده الله.

(٢) المصدر ـ اخرج ابن عدي والبيهقي في شعب الايمان عن ابن عمر قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : .. ثم قرأ الآية.

(٣) نور الثقلين ٣ : ٤٥٥ ج ١٦٦ في كتاب كمال الدين وتمام النعمة وقال الصادق (عليه السلام) ان يعقوب قال لملك الموت : اخبرني عن الأرواح تقبضها مجتمعة او متفرقة؟ قال : بل متفرقة ، قال : فهل قبضت روح يوسف في جملة ما قبضت من الأرواح؟ فقال : لا ، فعند ذلك قال لبنيه (يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا ...) ورواه مثله في العلل باسناده الى حنان بن سدير عن أبيه قال قلت لابي جعفر (عليه السلام) ...

١٨٥

وكأنّ التحسّس والتجسّس سواء في معنى التفتيش لكنما الاوّل في غير شر والثاني في الشر ، فالتفتيش عن عورات الناس وأسرارهم المخبوئة التي لا يرضون كشف الستر عنها هو التجسس ، وقد منع عنه باتا (وَلا تَجَسَّسُوا) واما التفتيش عما سواها ، ولا سيما الأشياء او الأمور التي تخصك من حقك ، فهو التحسس ، أن تبالغ في استعمال حواسك ظاهرة وباطنة لتجد ضالتك المنشودة ، وهكذا يأمر يعقوب بنيه.

«.. اذهبوا» إلى مذاهب التحسس ومظانّه (فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ) فكبيرهم لا يتحسس فإنه في نفس الأرض التي تركتموها ، وأخي يوسف الموقوف عند العزيز لا يدرى مسيره ومصيره فليسأل عنه العزيز ، ويوسف نفسه يسأل عنه العزيز وغير العزيز ، فالمذهب الأول في ذهابكم هو العزيز وكما ذهبوا إليه.

(اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا ... وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ) كما يئستم لحد تنصحونني ألّا أذكر يوسف ، فروح الله غير مأيوس منه إلّا لمن يكفر بالله ، أو يستر عن معرفة الله بروحه ورحمته : (وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) (١٥ : ٥٦).

الروح والروح هما من أصل واحد هو الحياة ، واختص الأولى بالنفس كلها ، والثانية بنفسها وراحتها ، وللرّوح كما الرّوح نسبة إلى الإنسان وأضرابه كما في الواقعة : (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ، فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ) (٥٦ : ٨٩) وأخرى إلى الله كما هنا (رَوْحِ اللهِ) تنفيسا منه عن كرب ، كمن يتنفس عن خنق ، فيستريح بعد عذاب ، فروح الله ـ إذا ـ هي رحمته بعد نقمته ، بتنفيسه بعد خنفه وحنقه لخلقه ، حيث الرّوح هو تنسيم الريح التي يلذ شميمها ويطيب نسيمها ، فشبّه الفرج الذي يأتي بعد الكربة ويطرق بعد اللزبة ، بنسيم الريح الذي ترتاح القلوب له وتثلج

١٨٦

الصدور به ، وكما يروى ان «الريح من نفس الله» أي من تنفيسه عن خلقه ، وهذا روح في الظاهر ، ومن ثم روح في الباطن ينسم على الرّوح نسمة الراحة بعد الكربة.

فالكافرون بالله بدركاته آيسون من روح الله بعد كربه ، ولكنما المؤمنون بالله بدرجاتهم لا ييأسون من روح الله ورحمته ، ولو أحاط بهم كل كربة ومصيبة ، مستظلين في ظل روحه من الكرب الخانق حيث ينسم على أرواحهم من نسمة روح الله الندي ، حيث يشعرون في طمأنينة بنفحاته المحيية الرخيّة المنفّسة عن كل كرب.

وروح الله المستكن في أبدان المؤمنين ، هو الكافل لروح الله ، روح في روح وروح يضمن الروح ، فهما لصق بعض في المؤمنين ، كما هما منفيان عن الكافرين!

أجل و «الفقيه كل الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله ولم يؤيسهم من روح الله ولم يؤمنهم مكر الله» (١) فإن القنوط من رحمة الله في حد الكفر بالله ، فهو من أكبر الكبائر بعد الشرك بالله (٢).

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ)(٨٨).

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٤٥٦ عن نهج البلاغة عن الامام امير المؤمنين علي (عليه السلام).

(٢) المصدر في الفقيه في باب معرفة الكبائر التي أوعد الله عز وجل عليها النار عن أبي عبد الله (عليه السلام) حديث طويل يقول فيه (عليه السلام) ، بعد ان ذكر الشرك بالله وبعده اليأس من روح الله لان الله عز وجل يقول : (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ).

١٨٧

إنه لم يكن في أمر يعقوب أن يذهبوا إلى العزيز إلّا ضمن ما يتحسس عن بنيامين عنده ، فضلا عن أن يكتب إليه بكتاب يمس من كرامة النبوة والإيمان كما يهرفه المحرّفون الخارفون ، وفضلا عن أن يطلبوا إليه تصدقا عليهم شكوى إليه من الضر الذي مسهم وأهليهم ، وهم في هذا اللقاء لم يطلبوا إليه تسريحا لبن يامين لا ظاهرا ولا تصريحا ، وإنما المطلوب أولا وأخيرا إيفاء الكيل ببضاعة مزجاة وتصدقا زائدا على الإيفاء ، اللهم إلّا أن تشمله «تصدق» وليس بذلك البعيد ، ولكنه ـ إذا ـ مطلوب ضمني في آخر المطاف ، وليكن أولا لأنه أولى من إيفاء الكيل.

وعلّهم لأنهم في هذه الجيئة الفجيعة لا يرجون من العزيز تعزيزهم لسابق السرقة من أحدهم فيما يزعمون ، لا ينطلق ألسنتهم لإطلاق سراح أخيهم صراحا ، فعلّهم يجربونه بتقديم بيان حالهم وأهليهم ، فإذا عرفوا انعطافا طلبوا إليه طلبهم الأصيل ، وقد تطلبوه في (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا).

دخلوا عليه للمرة الثالثة ، ولكنها مرّة فالسة كالسة ، وقد أضرت بهم المجاعة ، ومستهم وأهليهم الضر والضراوة ، ونفدت منهم كل بضاعة إلّا مزجاة مقلعة ، يدخلون منكسرين منحسرين ما لم يعهد لهم من ذي قبل وعند ذلك تمت كلمة الربوبية : (وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) في واجهته أمام الإخوة حيث ذلوا وانكسروا أمامه.

و (بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ) كأنها الكاسدة غير الطائلة من متاع قليل رثّ ، لأنها البقية الباقية مما يملكون ، حيث المزجاة من الإزجاء الإقلاع قلة إلى قلة كما أن (اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) فالسحاب مزجاة مقلعة من مختلف الأبخرة الجوية ، قليلة قليلة ، فإذا ألفت كثرت ، مهما بان البون بين مزجاة ومزجاة!

فبضاعة مزجاة من هؤلاء الذين مسهم وأهلهم الضرّ ليست إلّا

١٨٨

ما يجمع منهم كأخريات البضاعات المتبقّية لديهم حيث قلّت في مس الضر ، ورثّت ببأسه ، فلم تحصل في هذه المزجاة إلّا قلة في كمّ وقلة في كيف ، فهم حين لم يكونوا واثقين ان يعطوا كيلا ببضاعة مغلاة لسابقهم السوء ، يتطلبّون إليه أن يوفي لهم الكيل ببضاعة مزجاة ، ثم ويتصدق عليهم ، حيث لمسوا فيه سابغ العطف من إيفاء كيل وإنزال خير ، حين كانت بضاعتهم وافية ، فكيف إذا كانت تافهة مزجاة ، فعلّه ـ إذا ـ يرحمهم ثم ويتصدق عليهم.

هنا ـ وقد بلغ بهم أمرهم الإمر إلى ذلك الحد الحادّ من استرحام في تضيّق وانكسار وانحسار ـ لم يملك يوسف نفسه أن يمضي في تمثيل دور العزيز ، فقد انتهت الدروس واندرست عليهم معالم بيت النبوة في ذلك الشخوص كلّ دروس ، وحان حين المفاجأة العظمى التي لا تخطر لهم ببال .. فهنا يتلمع في لمحة لائحة كأنه هو يوسف :

(قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ)(٨٩).

يرنّ في آذانهم رنّة تجرسهم في أعماقهم ، تذكرة لها نبراتها على علاتها في يوسف وأخيه إذ هم جاهلون ، فهل إنه هو يوسف حيث يخبرنا بما فعلنا بيوسف وأخيه؟ وهو في سمت العزيز وأبهته! وتراهم فعلوا بيوسف وأخيه ما فعلوه وهم جاهلون يوسف وأخاه ، ام جاهلون نكر ما فعلوه؟ فهم إذا معذورون؟ كلّا ، حيث الجهل هنا التجاهل على عمد ، ف «كل ذنب عمله العبد وإن كان عالما فهو جاهل حين خاطر بنفسه في معصية ربه» (١) و (هَلْ عَلِمْتُمْ) تنديد بهم فيما جهلوا ثم الآن علموا بما

__________________

(١) مجمع البيان وروى عن أبي عبد الله (عليه السلام) انه قال : كل ذنب ... فقد حكى الله سبحانه قول يوسف لإخوته «هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ ـ

١٨٩

فعلوا ، علما بمدى العصيان في ذلك الطغيان حيث وقعوا في فخه الآن فكيف بما يأتيهم بعد الآن؟! وفي (إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) تبرير لموقفهم الآن أنهم ليسوا بجاهلين ، فان جهالة الصبا والغرور مضت والآن وقت النّبهة والعلم فالتوبة عما كان.

ثم وفي ذلك تصديق لما أوحي إليه من قبل : (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) وقد نبههم الآن بما كان وهم لا يشعرون أنك لانت يوسف حتى شعروا بذلك الإنباء ثم علموا بعد ما سألوا : (قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)(٩٠).

سؤال استفهام بكل استعجاب حيث يرونهم أمام يوسف ـ الصغير الطريد الشريد ـ صغارا وصغارا ، وهو الآن ذلك الرجل الكبير الكبير ، فأين (تَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ)؟!

وهنالك لمعة التصديق أننا لمّا نفاجأ بلقاء القائم المهدي روحي وأرواح العالمين لتراب مقدمه الفداء نقول لقد رأيناه مرارا وتكرارا والآن كما كان ، ف «في القائم (عليه السلام) شبه من يوسف في غيبته ومعرفته ، وكما في متظافر الأحاديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الكرام (عليه السلام) (١).

__________________

ـ جاهِلُونَ» فنسبهم الى الجهل لمخاطرتهم بأنفسهم في معصية الله.

(١) نور الثقلين ٢ : ٤٥٩ ج ١٧٧ في كتاب كمال الدين وتمام النعمة باسناده الى سدير قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : في القائم شيبة من يوسف (عليه السلام) قلت : كأنك تذكر خبره او غيبته؟ فقال لي : ما تنكر من هذه الامة أشباه الخنازير؟ ان اخوة يوسف كانوا أسباطا وأولاد أنبياء تاجروا يوسف وبايعوه وهم اخوته ـ

١٩٠

وأكرم بيوسف وأعظم بعطفه على إخوته حين يعرّف بنفسه وأخيه إخوته ، دون أن يعلنهم بما فعلوه إلّا في إجمال مضى ، وليكون ذريعة منبهة لتعريفه ، وإنما يذكرهم بما منّ الله عليه وعلى أخيه بما أحسنا في صبرهم وتقواهم ، وفيه لمحة بتنديدهم حيث أساءوا بما طغوا إذ لم يصبروا ولم يتقوا.

وترى ما هو موقف (وَهذا أَخِي) تعريفا بمن يعرفونه حيث الفصل قصير وهم عارفون أنه عنده؟. علّه إلحاق قاصد بنفسه لكي يشملهما معا كل ما ياتي به من تبجيل وتجليل ، وأن دورهما واحد في البراءة ، وما حسدوا وما من الله عليهما ، ولكي يزيدوا به معرفة كما عرفوا يوسف بمحتده.

والتاكيدات الثلاث في سؤالهم : (أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ) تكشف عن مدى حيرتهم في أبعاد بعيدة ، ثم الجواب دون تأكيد (قالَ أَنَا يُوسُفُ) لعدم الحاجة فيه ، حيث العزيز أعز من أن يكذب ، ثم لا يحتار في أمر نفسه حتى يؤكّد.

__________________

ـ وهو أخوهم فلم يعرفوه حتى قال لهم : انا يوسف ، فما تنكر هذه الامة ان يكون الله عز وجل في وقت من الأوقات يريد ان يبين حجته ، لقد كان بينه وبين والده مسيرة ثمانية عشر يوما فلو أراد الله عز وجل ان يعرفه مكانه لقدر على ذلك والله لقد سار يعقوب وولده عند البشارة مسيرة تسعة ايام من بدوهم الى مصر فما تنكر هذه الامة ان يكون الله عز وجل يفعل بحجته ما فعل بيوسف ان يسير في أسواقهم ويطأ بسطهم وهم لا يعرفونه حتى يأذن الله عز وجل ان يعرفهم نفسه كما اذن ليوسف حتى قال لهم : هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون. قالواءانك لانت يوسف قال انا يوسف وهذا اخي ...» ورواه مثله عن سدير عنه (عليه السلام) في الكافي باختلاف يسير.

١٩١

(قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (٩١) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)(٩٢).

وذلك منهم اعتراف بفضيلته ورذيلتهم حيث آثره الله عليهم وأذلّهم أمامه خلاف ما كانوا يظنون.

وترى هل يأخذه فرح الإيثار وترحه باستكبار ، كلّا ما ذلك الظن بذلك العبد الصالح ، فإنه يقابلهم بكل تكريم وإكبار ، ناجحا في ابتلاءه بالنعمة كما نجح في ابتلاءه بالنقمة ، وهذه هي شيمة الرجال الكرماء وكما فعله الرسول الأقدس (صلى الله عليه وآله وسلم) في فتح مكة حيث «صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : يا أهل مكة ماذا تظنون؟ ماذا تقولون؟ قالوا نظن خيرا ونقول خيرا ابن عم كريم قد قدرت ، قال فاني أقول كما قال أخي يوسف : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)(١) «.. فخرجوا كأنما نشروا من القبور فدخلوا في الإسلام» (٢).

ذلك مهما كان البون بين يوسف ومحمد كما البون بين إخوته واهل مكة ، ولكن الكرم نفس الكرم وإن كان درجات.

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٣٤ ـ اخرج ابن مردويه عن ابن عباس ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما فتح مكة صعد المنبر ...

(٢) المصدر اخرج البيهقي في الدلائل عن أبي هريرة ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما فتح مكة طاف بالبيت ركعتين وصلى ركعتين ثم أتى الكعبة فأخذ بعضادتي الباب فقال ماذا تقولون وماذا تظنون قالوا نقول ابن أخ وابن عم حليم رحيم فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) أقول كما قال يوسف : لا تثريب .. فخرجوا .. وفي نور الثقلين ٢ : ٤٦٠ ح ١٨٠ في الكافي باسناده عن حريز عن أبي عبد الله (ع) لما قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مكة يوم افتتحها فتح باب الكعبة فامر بصور في الكعبة فطمست فأخذ بعضادتي الباب فقال : لا اله إلّا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ماذا تقولون ...

١٩٢

(قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ) والثرب شحمة رقيقة هي غاشية الكرش ، والتثريب هو إزالة هذه الغاشية فيبين الكرش ، فهو هنا التقريع والتعييب بالذنب ، وكما يروى عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها ولا يثربها» فان في تثريبها مع جلدها اعتداء عليها بأكثر من ذنبها ، وفي تأنيبها دون جلدها تبديل حكم الله إلى غيره!

بذلك الصفح ينهي موقفهم المخجل الشائن وكأنه هو الذي يعتذر منهم ، فقد انتهى أمري على إمره ولم تعد له جذور ، وإذا كان من حقي اعتداء بالمثل فأنا أرجّح العفو (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ).

ذلك خطأكم عندي و (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ) وأما عند الله فقد (يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ) لأني قد غفرت لكم واستغفرت وإذا أنا ـ العبد المربوب ـ أرحمكم وأغفر لكم ، فبأن يرحمكم الله ويغفر أحرى وأحق (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) لا سيما وأن غضبه لم يكن إلا لاغتضابي باغتصابي عن أبي!

ثم (يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ) قد تجمع بين الإخبار والإنشاء وما أحلاه جمعا وما أجمعه حلوا.

وهكذا يكون حق الناس ، أن الله لا يغفر لمن ضيّعه إلّا ان يغفره صاحب الحق ، وما أحسنه إذا كان الغافر له هو المستغفر له بجنب استغفار الخاطئ لنفسه بعد اعترافه بالخطيئة.

(لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ) مني كصاحب الحق الأصيل ، ولا ممن سواي وبأحرى حيث الدخيل زائل بزوال الأصيل (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) مهما كان عليكم قبل اليوم تثريب وتخجيل كما كان من يعقوب من ذي قبل بحق القول : (قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ ..) (٦٤) (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) (٨٣) وكما كان مني أنا لمّا اتهمتموني وأخي بالسرقة : (قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ)(٧٧).

١٩٣

فمهما كان قبل اليوم عليكم تثريب مني ومن أبينا ، ولكنا اليوم (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ) فيه إذ قد مضى دور الامتحان والامتهان ، وحان حين اللطف والحنان ، منا ومن الرب الملك المنان.

ف «اليوم» إنما هو ظرف ل (لا تَثْرِيبَ ..) دون (يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ) فان قضيته أدبيا تأخيره : «يغفر الله لكم اليوم» ليكون نصا لمظروفه دون تردد ، ولان غفر الله لهم ما تمت شروطه بعد ولمّا يغفرهم يعقوب ويستغفر لهم! وكما طلبوا إليه (يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ. قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (٩٨) ، ومن ثم فذلك من سوء الأدب والجرأة على الرب أن يقال عنه «يغفر الله لكم اليوم» ولا يملك أحد غفره ولا وقته حين يغفر ، وإنما على العبد أن يستغفر دون تحديد لأصل الغفر أو وقته!.

وإذا كان (الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ) فما لهم يطلبون إلى يعقوب ان يستغفر لهم وهو يعدهم ، وهذا تكذيب منهم ومن يعقوب ل (الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ)!.

وإنها لضابطة أخلاقية ضابطة على الإنسان زهوة القدرة والرئاسة ، وزهرة النصرة في المعركة ، وقد ازدهى يوسف وازدهر حيث أصبح عزيزا في بلد الفراعنة ، فجاءت إخوته متصاغرين أمامه ، معتذرين ، ولكنه ينهي أمرهم ويعذرهم لا في حقه فحسب : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ) بل وتطلبا من الله أن يغفر هم : (يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ) ثم البقية الباقية هي غفرة واستغفارة من أبيهم وقد فعل : (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي).

ومن ثم لا نسمع من يوسف صغيرة بعد ولا كبيرة بحق الإخوة ، إلا محاولة مسرعة في تفريج الكربة عن أبيه ببشارة عملية وقولية :

١٩٤

(اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤) قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٩٦) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ (٩٩) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ

١٩٥

رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (١٠٠) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢)

اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ)(٩٤).

أترى ما هو (بِقَمِيصِي هذا)؟ أهو الذي جاؤا عليه بدم كذب؟ وقد جاؤا عليه وما رجعوه لأنهم ما عرفوه حتى عرّفهم نفسه! إذا فهو قميص آخر علّه كان شعاره ، وهم جاؤا على قميصه الدثار بدم كذب!

ومن ثم ترى كيف يجد ريح يوسف من قميصه لمّا فصلت العير ، وبينهما زهاء ثمانين فرسخا؟ وكيف يرتد بصيرا بعد ما كان ضريرا لمّا يلقى على وجهه؟ إنهما من عجاب أمر النبيين الكريمين ولا عجب ، فإنهما اتقيا الله وصبرا لله وأن الله لا يضيع اجر المحسنين.

(بِقَمِيصِي هذا) في هذه الإضافة المشرّفة دليل على أن القميص اكتسب منه ما اكتسب ، مهما كان له سابق فضل وسابغة أن نزل به

١٩٦

جبرئيل من الجنة لإبراهيم فكان لابسه حين ألقي في النار ، ثم انتقل إلى إسحاق فيعقوب فيوسف ، ولكن الجنة ليست بأشرف من هؤلاء النبيين بل هم أشرف وأعلى ، وأعرف منها وأنبى! فكل بنفسه جنة لبس قميص الجنة ، فكان جنة عن نار إبراهيم ، وعن جب يوسف ، وتوارثه النبيون حتى وصل إلى خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله وسلم) ومنه إلى أوصيائه المعصومين ، وهو الآن عند القائم المهدي من آل محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين(١).

ولقد وجد الرسول الأقدس (صلى الله عليه وآله وسلم) ريح أو يس القرني على حد قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «تفوح رائحة الجنة من قبل قرن وا شوقاه إليك يا أويس القرني ألا ومن لقيه فليقرأه مني السلام ..» (٢) هذا ولمّا رآه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ولمّا رأى

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٤٦٣ ج ١٨٧ في كتاب كمال الدين وتمام النعمة باسناده الى مفضل بن عمر عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال : سمعته يقول : أتدري ما كان قميص يوسف؟ قال : قلت لا ـ قال : ان ابراهيم لما أوقدت له النار نزل اليه جبرئيل (عليه السلام) بالقميص والبسه إياه فلم يضر معه حر ولا برد فلما حضرته الوفاة جعله في تميمة وعلقه على إسحاق وعلقه إسحاق على يعقوب فلما ولد له يوسف علقه عليه وكان في عضده حتى كان من امره ما كان فلما أخرجه يوسف بمصر من التميمة وجد يعقوب ريحه وهو قوله عز وجل حكاية عنه (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ) فهو ذلك القميص الذي انزل من الجنة ، قلت جعلت فداك فالى من صار هذا القميص؟ قال : الى اهله ثم يكون مع قائمنا إذا خرج ، ثم قال : كل نبي ورث علما او غيره فقد انتهى الى محمد وآله.

(٢) سفينة البحار ١ : ٥٣ روى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) انه كان يقول : تفوح ... فقيل يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن أويس القرني؟ قال : ان غاب عنكم لم تفتقدوه وان ظهر لكم لم تكترثوا به يدخل الجنة في ـ

١٩٧

هو الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). فانما الأصل رؤية المعرفة الروحية.

هذان نبيّان يشمان ريح محبوب من مسافة بعيدة ، وقد يشمها بعض المؤمنين وليس بذلك الغريب من فضل الله لمن يتقي الله (١).

(اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا) إلى أبي (فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً) كما كان قبل أن يصير ضريرا (وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) بأبوينا وسائر أهليكم أزواجا وبنين وبنات وأحفادا لمكان «أجمعين».

(وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ) وطبعا من حضرة الصديق فإنه الفصل الاوّل للعير ، دون مفارق الطرق في أرض كنعان فإن عبارته : «وصلت» دون : «فصلت» ولماذا نفصل نص الخارقة الإلهية عن نفسها ، وصلا بظاهرة عادية ، وما ذلك إلّا تحويرا لا يبقي دلالة قائمة لنص أو ظاهر.

(وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ) وبينهما وبين يعقوب ليال عشر (قالَ أَبُوهُمْ) لمن تبقّى عنده من أبناءه ، مما يدل على أنهم ما ذهبوا ليتحسسوا عن يوسف إلّا نفر منهم «قال : (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ) كما فندتموني من

__________________

ـ شفاعته مثل ربيعة ومضر ، يؤمن بي ولا يراني ويقاتل بين يدي خليفتي امير المؤمنين علي بن أبي طالب ، في صفين وفيه عن امير المؤمنين (عليه السلام) انه أخبره النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انه يدرك رجلا من أمته يقال له اويس القرني يكون من حزب الله يموت على الشهادة يدخل في شفاعته مثل ربيعة ومضر.

أقول : انه احد الزهاد الثمانية من أخص جواري امير المؤمنين (عليه السلام.

(١) قال لي صديق تقي من اهل المعرفة ان فلانا من اهل الله اتاني الى منزلي في المشهد المقدس الرضوي في بعض سفراتي فاستغربت ذلك وقلت له من دلّك على بيتي ولم ادل عليه أحدا؟ قال : دلتني ريحك اشتممت فشممت ريحك فأتيتك!

١٩٨

قبل : (إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(٨).

والتفنيد هو نسبة الإنسان إلى الفند وهو ضعف الرأي ، وقد نسبوه إليه من ذي قبل وفيما هاهنا مزيد : (قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ)(٩٥). حيث زادوا على القديم «تالله» لأنه زاد في آيات الشغف من حبّه ، (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) مما يدل على خارقة فيه إلهية ، رغم أن يوسف ـ بزعمهم ـ أدرج إدراج الرياح ، فأين يوسف حتى يوجد ريحه من بعيد أو قريب ، لا سيما وأن أبناءه الحضور ليس لهم علم ولا احتمال بحياة يوسف ، لذلك جن جنونهم بحقه ونسبوه إلى ضلال مبين في وجهه ، بدل أن يداروه ويماروه علّه يأنس ـ في زعمهم ـ بظنه ، وتراهم كفروا مرة بعد أخرى بنسبة الضلال المبين إلى أبيهم النبي الكريم؟ إنها إن كانت نسبة الضلالة في الدين كانت خروجا ارتدادا عن الدين ، ولكنها ـ بمناسبة الحال ـ ليست إلّا ضلالا في حب يوسف وأخيه ، إذ كانوا يرونهم أنفسهم ـ وهم عصبة ـ أحق من يوسف وأخيه في ذلك الحب ، فظنوا ـ بجهلهم ـ أن أباهم ضال عن الحكمة الأبوية بين ولده تقديما لمفضولهم على أفاضلهم أم ترجيحا دون مرجّح ، دون علم بأن ذلك أيضا كفر بالوحي ، إذ لا يقول النبي ولا يفعل إلّا بوحي!

إلّا أن ذلك ايضا خروج عن الإيمان بهذه الرسالة السامية كما يحق ، فأصبحوا ـ على حدّ تعبير الامام الصادق (عليه السلام) ـ «ولا بررة أتقياء» (١) بل هم فسقة أطغياء ، وكما يدل على ذلك استغفار يوسف وأبيه

__________________

(١) في تفسير العياشي عن نشيط بن صالح البجلي قال قلت لابي عبد الله (عليه السلام) أكان إخوة يوسف (عليه السلام) أنبياء؟ قال : لا ولا بررة أتقياء ، كيف وهم يقولون لأبيهم يعقوب (تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ).

١٩٩

لهم ، والمرتد عن فطرة لا غفران له إلّا قتلا.

مضت أيام السفرة الراجعة ، ووقعت مفاجأة بعيدة فوق المفاجأة ، وليعلموا أن وعد الله حق وأن الله لا يهدي كيد الخائنين ، ولقد كان ذلك الريح الذي وجده من روح الله الذي أمرهم برجائه :

(فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(٩٦).

وعلّ البشير هو الكبير بينهم وله سابقة سابغة من بينهم حيث دلهم على (أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ) دون أن يلقوه فيه أو يلغوه يذهب هباء ، وأخيرا قال لهم (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي) فبطبيعة الحال ينتخبه الصديق لهذه البشارة السارة وكما في رواية.

وهنا نرى يعقوب يقول لهم بديلا عن أي تنديد أو تثريب : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) من حياة يوسف ، ووجدان ريحه؟ تنبيها لهم بموقفه من الله فلا ضلال فيه أيا كان وأيان.

(قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)(٩٨).

(يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) عيّ في الاستغفار لعظم الذنوب ، وأنها أضرت بحقه ومست من كرامته ، فليكن هو الذي يستغفر لهم بعد ما استغفروا لأنفسهم ، ولأنه نبي مستجاب الدعوة وكما في نبينا : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَ (١) اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) (٤ : ٦٤).

__________________

ـ وفيه عن سليمان بن عبد الله الطلحي قال لابي عبد الله (عليه السلام) ما حال بني يعقوب هل خرجوا من الايمان؟ فقال : نعم قلت : فما تقول في آدم؟ قال : دع آدم.

٢٠٠