الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٥

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٥

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٦

كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٣١) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (٣٢) أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ (٣٤) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ)(٣٥)

٣٢١

(الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)(٢٨).

فالمنيب إلى الله مؤمن بالله قبل أن يأتيه ذكره ، ثم بذكره يطمئن قلبه بالإيمان ، و «ذكر الله» هو كل ما يذكر الله من ذكرى أنفسية فطريا وعقليا ، أو ذكرى آفاقية من كتاب الذكر ورسول الذكر أم أي ذكر ، والكون كله ذكر لله فإنه كله آية لله ، وأفضل الذكر الوحي هو القرآن وعلى ضوءه الرسول ، ثم من يحمل رسالته معصوما.

فما آية الرسالة إلّا ذكرا تطمئن به قلوب مؤمنة من ذي قبل ، وفي ذكر القرآن وآيته البارعة الخالدة كفاية عن كل ذكر : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ. أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً ..) (٢٩ : ٥٢) والقرآن شهادة كافية وآية ورحمة وذكرى وافية تدليلا على هذه الرسالة السامية!

وآية الذكر ـ هذه ـ هي الوحيدة في ساير القرآن ، المنقطعة النظير في هذا الكتاب البشير النذير ، وقد تحلّق على كل ذكر بدرجاته ، كما تطمئن القلوب به بدرجاته ودرجاتها.

فكما أن (بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) إلى الله كذلك به تطمئن القلوب المؤمنة بالله إلى من آمن بالله وكما يروى عن رسول الله «صلى الله عليه وآله

٣٢٢

وسلم) قوله : «.. ألا بذكر الله يتحابون» (١).

فكل ما يذكّر الله أو من يذكر الله فهو ذكر الله ، وعلى حده وحدّته تطمئن القلوب إلى الله ، وعلى هامشه وفي سبيله إلى اولياء الله ، ثم ولا تطمئن القلوب بذكر غير الله كما وهو المستفاد من الحصر المدلول عليه بتقديم الظرف (بِذِكْرِ اللهِ) على فعله (تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).

وترى إذا (بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) المؤمنة ، فما هو موقف الحصر في (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ..) (٨ : ٢) فالقلب الوجل مضطرب ولا اطمئنان مع الاضطراب؟!

ان الوجل هو قضية الإيمان حيث يخافون عذابه بما تقدمه أيديهم من أسبابه ، وذلك قبل الاطمئنان التام ثم ـ (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) فهم مضطربون من وعد العذاب ، ثم يطمئنون برحمته على مزيد الإيمان عند تلاوة الآيات كما هي طبيعة الحال أمام القرآن : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ) (٣٩ : ٢٣).

فمهما تقشعر الجلود وتوجل القلوب في بادئ الذكر بما يذكر المؤمن من

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٥٨ ـ اخرج ابن مردويه عن علي (رضي الله عنه) ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما نزلت هذه الآية (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) قال : ذاك من أحب الله ورسوله وأحب اهل بيتي صادقا غير كاذب وأحب المؤمنين شاهدا وغائبا الا بذكر الله يتحابون.

٣٢٣

تقصيره أمام ربه خوفا من عقابه ولكنه لا يلبث بعيدا أن يلين جلده وقلبه إلى ذكر الله ، حيث يذكر عظمته ورحمته ، ويتصل قلبه بمعدن النور اللّامحدودة ، ويزيد نورا على نوره ، واطمئنانا على إيمان ، ورجاء ثوابه ، ف «من خاف الله أخاف الله منه كل شيء ومن لم يخف الله أخافه الله من كل شيء».

إن القلوب الخالية عن الإيمان هي خاوية عن الاطمئنان ، فهي مضطربة طول الحياة النكدة الكافرة ، عمي عن نظارة النضارة بذكر الله (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (٢٢ :) ٤٦).

فإن بغية الإنسان فطريا أيا كان هي الكمال اللّامحدود ، وليس إلّا الله ، فلا يصل إلى بغيته ما لم يتصل قلبه بالله ، والاطمئنان بذكر الله هو حقيقة مرموقة مرقومة على تلك القلوب المؤمنة بالله ، التي خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم فاتصلت بالله ، وتلك الاتصالة المعرفية الإيمانية هي التي تطمئنها عن كل اضطراب تعيشه في الحياة الدنيا ، حيث الدنيا بزخارفها وحذافيرها ومحدودياتها لا تثبت القلوب عليها مطمئنة بها ، فالقلوب لهواها غير المحدود من الكمال المطلوب ، هي دائمة التنقّل من هذه إلى تلك حتى إذا وصلت إلى الله فترتكن إليه وتطمئن به حيث تجد فيه بغيتها المرموقة المطلوبة ، فلا تهوى بعد تنقّلا وتبدّلا ، إلا تأنقا وتعمقا في هذه الركينة العالية الذروة ، واتصالة فاطمئنانة أكثر وأكثر حتى تصل إلى مقام «أو أدنى».

فكل اتصالة بغير الله هي انفصالة عن الله ، فغربة واضطراب ، وكل انفصالة عما سوى الله هي اتصالة بالله وقربة واطمئنان.

وليس في الحياة أشقى ممن يخلد إلى الأرض وكان أمره فرطا ، راضيا

٣٢٤

بالحياة الدنيا ، واجسا من كل شيء خيفة ، حيث لا يستشعر الصلة بالله ، فهو يعيش معيشة ضنكا مهما عاش في القصور العالية والأموال الطائلة :

(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) (٢٠ : ١٢٤).

في الكون اضطرابات لا يصمد لها الإنسان أيا كان إلّا من يطمئن بذكر الله ، فالمرتكن بغير الله غريب وحيد وهيد دائم الاضطراب ، والمطمئن بالله قريب لا يحس اي اكتئاب.

فالنفس المطمئنة بالله تعيش ربها وترجع الى ربها راضية مرضية (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي) والنفس المطمئنة بالدنيا وزينتها هي مضطربة : (وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها) (١٠ : ٧) تعيش معيشة ضنكا وترجع الى ربها غاضبة مغضوبة.

(الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ)(٢٩).

وهؤلاء هم المطمئنة قلوبهم بذكر الله حيث يطمئنهم ويؤمنهم ويحملهم على عمل الصالحات ، فهم لا سواهم «طوبى لهم» في الحياة كل الحياة ، حيث تطيب حياتهم الروحية بذلك الاطمئنان وعمل الايمان ، ثم ولهم (حُسْنُ مَآبٍ) حيث يرجعون الى ربهم راضين مرضيين.

«طوبى» وهي مؤنث أطيب صفة لمحذوف يناسب الحياة ، فهي الحياة الطوبى في الاولى وفي الأخرى : ف (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٦ :) ٩٧).

٣٢٥

والشجرة المتشجرة من هذه الطوبى هي أولا في بيت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) (١) ثم في بيت علي (٢) وأغصانها وفروعها المتهدلة هي في بيوت المؤمنين الصالحين ، هنا مزيجة ، وفي الأخرى (حُسْنُ مَآبٍ) حيث لا تشوبها غير طوبى.

ف «طوبى» هي الحياة الطيبة بمصاديقها المختلفة روحية ومادية في الدنيا والآخرة «فلا تكونن ممن يقول للشيء أنه في شي واحد» فإن هذه

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٥٩ عن أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ان رجلا قال يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) طوبى لمن رآك وآمن بك قال : طوبى لمن رآني وآمن بي وطوبى ثم طوبى لمن آمن بي ولم يرني قال رجل وما طوبى؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم) شجرة في الجنة مسيرة مائة عام تخرج من أكمامها وفي نور الثقلين ٣ : ٥٠٤ عن اصول الكافي قال امير المؤمنين (عليه السلام) في حديث له عنه علامات اهل الدين «وطوبى شجرة في الجنة أصلها في دار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وليس مؤمن إلا وفي داره غصن منها لا يخطر على قلبه شهوة شيء الا أتاه به ذلك ولو ان راكبا مجدا سار في ظلها مائة عام ما خرج منه ولو طار في أسفلها غراب ما بلغ أعلاها حتى يسقط هرما ألا ففي هذه فارغبوا ان المؤمن من نفسه في شغل والناس منه في راحة إذا جن عليه الليل افترش وجهه وسجد لله عز وجل بمكارم بدنه يناجي الذي خلقه في فكاك رقبته الا فهكذا كونوا.

(٢) الدر المنثور ٤ : ٥٩ ـ اخرج ابن أبي حاتم عن ابن سيرين قال : شجرة في الجنة أصلها في حجرة علي وليس في الجنة حجرة الا وفيها غصن من أغصانها وفي نور الثقلين ٣ : ٥٠٢ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : لما دخلت الجنة رأيت في الجنة شجرة طوبى أصلها في دار علي وما في الجنة قصر ولا منزل الا وفيها فتر منها ... أقول الجمع بين الأصلين ان أصلها الاول في دار الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصلها الثاني في دار علي (عليه السلام) لأنه استمرار للرسالة المحمدية (صلى الله عليه وآله وسلم). ولا تدخل مدينة علم الرسول الا من باب علي (عليه السلام).

٣٢٦

الوحدات ليست إلّا مصاديق للمفهوم الواسع.

وفي عدم تعريف «طوبى» رغم أنها المبتدأ تأييد لتعميمها لكل طوبى دون اختصاص بشجرة في الجنة أمّا هيه.

(كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ)(٣٠).

«كذلك» البعيد في أعماق التاريخ الرسالي والسنة الرسالية المستمرة مدى الزمان «أرسلناك» أنت يا حامل الرسالة الأخيرة العليا (فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ) ف (ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) ولا هم بدع من الأمم ، «أرسلناك» بجمعية الرسالات على ضوء جمعية الصفات إذ تحمل في رسالتك كافة الرسالات (لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ) الأمم كل الأمم في الطول التاريخي والعرض الجغرافي من الكون المكلف كله (الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) ونوحيه ، حيث المضي في «أوحينا» تطوى مثلث الزمان ، أم يعني وحي القرآن المحكم الماضي ليلة القدر ، وقد تفصله الآيات المفصلات ماضية وحالية ومستقبلة ، والأصل الأوّل في (الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) هو القرآن المحكم ، ثم الثاني هو القرآن المفصل ، ومن ثم قرآن السنة فإنه وحيه في معناه وهو صنع الرسول في لفظه ، وكل الثلاثة وحي يتلوه الرسول على الأمم ، تلاوة لفظية وعملية وتطبيقية ، وتلاوة إسماع وتعليم وتزكية (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ) (٢ : ١٢٩).

«وهم» رغم هذه التلاوة المجيدة ، التالية تلاوات الرسل (يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) الذي عمّم الرحمة الرسالية لكل الأمم ، كأنهم يختصون رحمانية هذه الرحمة وعامتها بجماعة خصوص خلوا ، فهم أولاء خلو من رحمته الشاملة ، أم ليسوا هم بحاجة إلى تلك الرحمة الرسالية ، فلا جواب

٣٢٧

لكفرهم هذا إلّا كلمة الرسالة الجامعة لكل الرسل : (قُلْ هُوَ رَبِّي) الذي رباني بهذه الرسالة السامية دون ظنّة ولا ضنّة ، وكما هو رب الرسل الذين خلوا من قبل ، فقد رباني بتلك التربية المكملة لما خلت حتى أربيكم بها فتفوقوا كل أمة خلت (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) الذي رباني ورباهم ورباكم ، فالرسالة واحدة من رب واحد مهما اختلفت درجاتها ، وإن كنتم صامدين في نفوركم وكفوركم ، متربصين بي دوائر السوء فها ، أنا ذا (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) في رسالتي ودعوتي كما في كل شئوني ، لا عليكم ، حتى إذا كفرتم أترك دعوتي أو أكفر (وَإِلَيْهِ مَتابِ) ومرجعي في نهايتي لا إليكم (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ)(١٣ : ٤٠).

وهذه حجة قائمة صارمة تقضي على كل لجة عارمة وشجة خارمة ، فإنهم مهما ارعدوا وأبرقوا ف (حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ).

يا عجبا أنهم يكفرون بالرحمن الذي تطمئن بذكره القلوب ، ويؤمنون بالجبت والطاغوت ، يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ، ولكنك لا شأن لك إلّا (لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) :

(وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ)(٣١).

إن هذا القرآن فيه الكفاية الوافية لمن يتحراه ويسمعه ويراه ويفكّر في مدلوله ومغزاه ف (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (٥٩ : ٢١).

إن هذا القرآن تسيّر به العقول غير المعقولة بعقالات الهوى ، وتقلب به القلوب غير المقلوبة عن الهدى ، (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ

٣٢٨

الْجِبالُ ...) ليلمسوا منه آية بصرية بديلا عن آيته في البصيرة ، فيكون فيه حمل على الهدى ، لم يكونوا ليؤمنوا كما لم يؤمنوا بآيات ملموسة من ذي قبل ، ولو شاء الله لهداهم رغم هواهم ، ولكن (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) وهذا القرآن خير آية لمن يفتش عن إيمان عبر الآيات الرسالية!

(وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (٦ : ١١١)(بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً ..).

وعلّ (قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ) إجابة عن متطلّبة جاهلة حمقاء من المتعنتين المتعذرين في آية القرآن وكما تقول الروايات (١).

وهنالك جبال الإنيات وأراضي القلوب وموتى الأفكار والإدراكات تحررت وتغيرت بقارع البيان المعجز في القرآن ، ا ولم يكف ذلك الخارق العظيم البارق كونه آية تفوق الآيات التي تسيّر الجبال وتقطع الأرض ويكلم بها الموتى؟

لقد سيّر القرآن ما هو أهم وأضخم من الجبال وهو تاريخ الأمم والأجيال ، وهو جبال الإنيات والفرعنات ، وجبال الطغيان من بني الإنسان ، حيث سيّرها عن مقاعدها ، واستأصلها عن قواعدها ، وألانها عن صلدها ، أم أزالها بصلدها ، وكما نراه واقعا منذ بزوغ الإسلام ، وما أن واصل المسلمون في صمودهم الإسلامي السامي ، ونراه في نبؤءت هيّلد :

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٤٢ ـ اخرج ابن أبي حاتم وابو الشيخ وابن مردويه عن عطية العرفي قال : قالوا لمحمد (ص) لو سيرت لنا جبال مكة حتى تتسع؟؟؟؟ فيها او قطعت لنا الأرض كما كان لسليمان (ع) يقطع لقومه بالريح او أحييت لنا الموتى كما كان عيسى (ع) يحيى الموتى لقومه فانزل الله تعالى الآية ، أقول وفي معناها باختلاف الألفاظ روايات عدة.

٣٢٩

«آتيا أمتا مزع زع برياتا عابدا هدمتا بيد بن أمتا»

ستأتي امة تزعزع العالم وتحدث خرابات وإطفاءات بيد ابن الامة ـ «بعالما ونشا وحردين كرشا جبارين حاشا وهلمين نشا».

يلقي في العالم الخراب ـ الحراك ـ الزعزعة ـ الخوف ـ الإزعاج ، يبعد و «يسيّر» ويهدم ويكسر» (١).

وفي كتاب حبقوق النبي ضمن البشارة بظهور القدوس من پاران (حرى) في الآية ٦ من الفصل ٣ يقول :

«عامد ويمودد أرص رآه ويتر غويم ويت تصصو هرري عد شحو جبعوت عولام هليخوت عولام لو» :

وقف ومسح الأرض ، نظر وأذاب الأمم ، وتبددت الجبال القديمة وخسفت وانحنت آكام وأتلال القدم ، مسالك الأزل له.

ثم أراضي القلوب وأوعيتها ، الصالحة الماء الحياة ، المتقبلة للإنبات قطّعت عن جدبها إلى شقها عن نبتها فأنبتت وأينعت ثمار الإيمان وصالح الأعمال : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها ...).

ومن ثم نرى ميت الإنسان في قبور الجهالات والغفلات حيث أحييت بروح القرآن على قدر قابليتها وتقبلاتها وإقبالاتها في تحري الحق أم عدم التجري على الحق : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٦ : ١٢٢).

__________________

(١) هذه من وحي الطفل (لحمان حطوفاه) باللغة الأنقلوسية : العريّة؟؟؟ المرموزة ، وقد نقلناها تماما في كتابنا «رسول الإسلام في الكتب السماوية» وما بين الخطوط الأفقية من ترجمة الجملة الثانية ، هي من مختلف الترجمات لعلماء اليهود نقلنا عن منقول الرضائي لمؤلفه الحبر العظيم اليهودي الذي اسلم والف كتابه هذا ردا على اليهود.

٣٣٠

فلقد أحيى القرآن من هم اخمد من الموتى وأموت من الهلكى ، حيث قتل الطغيان والأوهام أرواحهم ، أفلا يكون هذه وتلك وتياك أعظم وأضخم وأقوم تأثيرا من تسيير الجبال وتقطيع الأرض وتكليم الموتى؟ وهؤلاء الموتى بكامل الكفر ، وحماقى الطغيان ، يستبدلون هذا القرآن بالذي هو أدنى!

إنه ليس أمر الإيمان بيدك ، ولا بأيدي آيات الرسالة بصرية وبصيرية ، حتى إذا جاءتهم آمنوا دون نكير ، (بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) من شاء هداه ومن شاء أضله ، كلّا كما يهواه ويعمل له دونما فوضى جزاف ، فله أمر الآيات بنتيجتها كما يشاء وهي أدل وأحرى دونما تهواه أنفسهم ويشتهون ، وهم بآيات الله يلعبون.

(بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) في أصل الرسالة ووحيها وآياتها وأوقاتها وأدوارها وأكوارها وأبعادها وحملتها.

(أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا) من إيمان هؤلاء الحماقى المتظاهرين بلمحة الإيمان لو استجيبوا في تطلّبات الآيات؟

(أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا) من استقلال التأثير لهذه الآيات مهما صغرت أو كبرت ، قلت أو كثرت؟

وما أجدر نتيجة اليأس هذا (أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً) أن يحملهم على الهدى دونما اختيار ، ولكنه أراد هدى باختيار وضلالا باختيار ، وهو يعلم الذي يختارون الهدى ، أم يختارون الردى ، فهم منصرفون عن آيات الله مهما كثرت : (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ) (٧ : ١٤٦).

٣٣١

(وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ) تقرعهم في ذوات نفوسهم ختما على قلوبهم وعلى سمعهم ، وغشاوة على أبصارهم .. (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) أم تقرعهم بما تصرعهم وتبيدهم كما في الأمم الهالكة في القرون الخالية بعد قرعهم في قلوبهم.

(أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ) قارعة العذاب الهون بما كانوا يكسبون ، وليعتبروا ، «تحل» قرب المكان او قرب الزمان ، بحيث تكون بمسمعهم ومرآهم شهود الواقع أم شهادة التاريخ.

هم لا يزالون على حالتهم التعيسة هذه والبئيسة (حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ) عذابا منذ الموت حتى القيامة الكبرى (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) و (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)!

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ)(٣٢).

قارعة من قوارع التاريخ المتواصلة على المستهزئين برسل الله ، إملاء ثم أخذا ثم عقابا فهم في تباب ، وإنها تكفي معتبرا لمن يستهزءون بك يا حامل الرسالة الإلهية الأخيرة (وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) فالأمثلة حاضرة حاذرة ، وفي مصارع الغابرين عبرة بعد نظرة وإمهال ، فأصمد على دعاية صارمة لرسالتك ، ولا تكن من الآيسين (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)

(أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) ٣٣.

انه تعالى قيوم بنفسه سبحانه ولخلقه ككل ، (قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ) في نفسها فإنها قائمة به في كونها وكيانها و «بما كسبت» روحيا أم ماديا في مثلث

٣٣٢

الزمان أيا كان وأيّان.

قياما على كل نفس بالقسط : (قائِماً بِالْقِسْطِ) (٣ : ١٨) في التكوين والتشريع والعطيات والجزاء ، وقياما في الحفاظ عليها : (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) (٦ : ٦١) (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) (١٣ : ١١) وقياما لإحصاء مكاسبها خيرة وشريرة ليجازيها بها وكما هي تشهد كما صدرت لأصحابها : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ. كِراماً كاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) (٨٢ : ١١) والقيام المجرد يختلف عن القيام «على» في معنى القيام ، فليس هو الانتصاب والقيام بعمد (١).

فهو ـ إذا ـ قيام علمي وتكويني وحفاظي للأعمال بأصحابها.

وقد يعني قيامه على كل نفس ـ ككل ـ دوامه عليها دونما نعسة ولا نكسة. ف (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) كما الماء القائم هو الدائم الذي لا يجري ، فالله تعالى دائم على كل نفس يجريها ولا يجري ، قياما ربوبيا قيوميا يحلّق على كل المتطلبات والحاجيات الخلقية لأولاها وأخراها.

فقيامه على كل نفس هو هيمنته عليها ، وبما كسبت هو تدبيره لها ، فلا يخرج من نفس خارج ، ولا يفلت منها فالت عن قيامه عليها وقيامه بها فيما لها

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٥٠٨ في في اصول الكافي علي بن محمد مرسلا عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال : اعلم علمك الله الخير ان الله تبارك وتعالى قديم ـ الى ان قال ـ : وهو قائم ليس على معنى انتصاب وقيام على ساق في كبد كما قامت الأشياء ولكن قائم يخبر انه حافظ كقول الرجل : القائم بأمر فلان والله هو القائم على كل نفس بما كسبت والقائم ايضا في كلام الناس الباقي ، والقائم ايضا يخبر عن الكفاية كقولك للرجل : قم بأمر بني فلان اي اكفهم ، والقائم منا على ساق فقد جمعنا الاسم ولم يجتمع المعنى.

وفي العيون رواه مسند متصلا عنه (عليه السلام) مثله.

٣٣٣

ومنها وإليها وعليها في كافة النشآت التي تعيشها.

أفهذا القائم الدائم تحق له الربوبية ، أم الشركاء الذين جعلوا له ، وهم لا يقومون على أنفسهم ولا بما يكسبون فضلا عن عابديهم : (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ).

«و» هؤلاء الحماقى (جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) : لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ولا نشورا ـ (قُلْ سَمُّوهُمْ) لأقل تقدير إذ لا يوجد لهم مسميات «أم» هي كائنة بأسمائها والله لا يعلمها وهي شركائه الذين جعلهم في زعمهم شركائه (أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ) من شركاء وأنتم تعلمون؟ «أم تنبئؤنه (بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ) بأسماء ليست لها مسميات.

كلا! فلا هناك في الكون مسميات الشركاء ولا أسمائها (بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ) في اختلاق الشركاء كما يهوون «و» بهذه الحجب الظلمانية بين الخلق والخالق (صُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ) إذ حصروا العبودية للشركاء ، أو الطاعة للطواغيت ، فلم يبقوا لله مكانة في طاعة ولا عبودية ، (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) بما أزاغ قلبه حيث زاغ ، وطبع على قلبه بعد ما انطبع (فَما لَهُ مِنْ هادٍ) أنهم لا يملكون لشركهم ولشركائهم اي برهان من هذه أو تلك ، إذ لا يقول بها ذو جنّة ، بل زين لهم مكرهم ، فلا يهدفون من جعل الشركاء لله إلا الصد عن سبيل الله ، أن ينشغل العباد بها عن الله ، فيعيشون حياة الحرية اللّامبالاة ، غارقين في حيونة الشهوات.

فهل القائم على كل نفس بما كسبت ، لا يقوم على أنفس الشركاء بما كسبت ـ في زعمكم ـ من شرك في الربوبية ، فهل هي تكسب ذلك المقام السامي إلّا بما يكسبه الله .. (أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ) وهو يعلم ما في السماوات وما في الأرض ، (أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ) لا يملك باطنا وواقعا من كائن الشركاء؟! وهل إن قضية الألوهية بلغت من التفاهة والهزل بحيث تتناول

٣٣٤

بظاهر من القول وليس له مدلول ، وكل ما له مدلول سوى الله فقير إلى الله وقائم بالله!

فهؤلاء الهمجيون الحيارى السكارى يكسبون بهذه الاختلاقة الجنونية عذابا فوق العذاب :

(لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ)(٣٤).

ومن عذابهم في الحياة الدنيا ضمن ما تصيبهم من قارعة فيها ، او تحل قريبا من دارهم ، هو جفاف القلب من ندى الإيمان ، وحيرته دونما اطمئنان ، واضطرابه في كل آن (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى ..) مهما كان لهم هنا من واق (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ واقٍ)!

(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ) ٣٥.

المثل هو الذي يمثّل الشيء توصيفا يقربه أم نموذجا من جنسه ، وهو هنا التوصيف بأمور ثلاثة : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) لأنها ملتفة الأشجار من فوق والأنهار في أرضها جارية (أُكُلُها دائِمٌ) لا يفتر «وظلها» دائم.

ودوام الظل هناك دليل دوام الشمس فلا ليل فيها ، أم الظل الدائم في نهارها حيث يظل أهلوها في ظلها بعيدين عن حرّ الشمس ونفاذ نورها وأذى نارها ، وطبعا هي شمس الآخرة المخلوقة بعد تكور شمسنا هذه يوم قيامتها.

(تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا) إيمانا وعمل الإيمان ، دون الذين آمنوا دون عمل ، أم عملوا صالحا دون إيمان ، وإنما التقوى الجامعة لهما هي الكافلة

٣٣٥

لذلك الوعد الصادق الأمين.

إذا ف (الْكافِرِينَ) هنا كما يعني كفر العقيدة والعمل ، كذلك يعني الكفر في كل مهما آمن بالآخر ، ولا سيما كفر العقيدة حيث لا يصلح عمل في كفرها ، مهما نجى تارك الصالحات بعقيدة الإيمان بعد عقبى النار في برزخه وعقباه.

(وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (٣٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (٣٨) يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩) وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما

٣٣٦

عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (٤٠) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤١) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (٤٢) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ)(٤٣)

(وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ) ٣٦.

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) هم عامة أهل الكتاب ، التالين له حق تلاوته ، العارفين به ، سواء في ذلك كتاب الإنجيل او التوراة أم أي كتاب محرف وسواه ، حيث الحق متجلّ في كتابات السماء دون مرية ، مهما دخل فيها الباطل بأيدي الدس والجهل.

هؤلاء هم (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) لا (أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) (٢ : ٧٨) فإنهم لم يؤتوا إلا ما يؤتيهم

٣٣٧

علماءهم فمنهم صالحون ومنهم دون ذلك كانوا طرائق قددا ، وطبيعة الحال في إيتاء الكتاب علما ودراسة هي الفرح (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) حيث الوحي قبيل واحد مهما اختلفت درجاته ، فالعارف بوحي الكتاب يعرف حق الوحي في القرآن وزيادة فإنه مهيمن على الوحي كله.

ف (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (٢ : ١٢١) لأنهم (.. يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ ..) (٦ : ١١٤) فهم (.. يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ) (٦ : ٢٠) (... وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٢ : ١٤٦).

فهم ـ على أية حال ـ (يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) حيث يصدق ما أنزل إليهم ، ويتجاوب معه في الأصول العقائدية والأحكامية ، وتحمل بشارات بحق القرآن ونبيه ، وذلك فرح التصديق بكله والإيمان به ، مهما كان :

(وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) وهم المتحزبون خلاف الحق ممن أوتي الكتاب ، كالمحرفين الكلم من بعد مواضعه والتابعين لهم ، إنكارا للبعض الذي يشير او يصرح ببشارات في كتابات السماء ، والمصرح خلاف الاختلافات اللاهوتية الثالوثية في الإنجيل ، او الشركية التجسيمية في التوراة ، وثالثة احكامية تعارض مخلفات الأحكام الكتابية ، وإخباراتها بحق المرسلين وسواهم ،

ومنهم الأحزاب غير الكتابيين إذ لا يقدرون على انكار القرآن كلّه ، كما ومنهم من يؤمن به كله : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ) (٢٩ : ٤٧).

٣٣٨

فالأحزاب المنكرة لبعضه هم أعم من اهل الكتاب والمشركين ، ولكن طبيعة الحال للذين آتيناهم الكتاب هي الايمان به بحجة الكتاب ، فما كفرهم به بعضا او كلا إلّا تخلفا عن حكم الكتاب جهلا او علما.

والمحور الرئيسي في نكران البعض هو التوحيد حيث الكتابات العتيقة والجديدة (العهدين) مليئة من اختلاقات تغشي وجه التوحيد الحق لحدّ يسمى ثالوثهم «توحيد الثالوث» كأنه الحق لا سواه!

لذلك ف (قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ) رافضا ما تدعون اليه من ثالوث الالوهية ، واشراك المسيح مع الله في العبودية ، والإياب اليه كما الى الله المآب!

فالفريق الصادق من اهل الكتاب ، والمتحري الحق من غيرهم (يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) حقيقة نفسية في القلوب الصافية الضافية وهي فرح الالتقاء على الحق وزيادة اليقين بصحة ما لديهم كتابيا أو فطريا حيث يؤازره الكتاب الجديد في الحق السديد.

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ) ٣٧.

إن القرآن حكم في كافة الحقول ، عربي واضح لا تعقيد فيه لدى كل العقول ، فهو دون توجيه وتحميل يوافق وحي الفطرة كإجمال ، ويوافق وحي الرسالة في كتاباتها كتفصيل ، دون حاجة إلى لزق التوجيهات غير المتحمّلة ، او لصق البراهين الخارجية ، فإنه في نفسه حجة عربية لا ريب فيه ، ولا شبهة تعتريه.

٣٣٩

فالقرآن كله حكم منزل ، يعم الأحكام الفطرية والعقلية والفرعية الشرعية ، لا تجد فيه آية إلّا وتحمل حكما أو أحكاما عربية : واضحة لائحة لدى العقول الصافية ، لا تعقيد فيها ، لا في التعبير لمكان الفصاحة القمة وبلاغتها ، ولا في المعبّر عنه لمكان التجاوب والملائمة التامة مع الفطر والعقول والواقعات والمتطلّبات.

فلا يعني من «حكما» فقط الأحكام الفرعية ، ولا من «عربيا» عربية اللغة ، حتى ينبري المبشر الانجيلي قلائلا أنه يختص بالعرب دون سواهم ، فالحكم هو كل حكم ، والعربية هي كل واضحة لائحة ، فقد يكون الحكم عربي اللفظ في اللغة ، والمعنى معقّد ، ام عربي الدلالة والمعنى مبهم لدى العقل والفطرة ، ام عربي المعنى دلالة ومدلولا ولكنه معقد في التصديق او التطبيق ، فالحكم الذي لا تعقيد فيه دلالة ومدلولا وتصديقا وتطبيقا هو العربي المطلق المطبق ، وكذلك القرآن (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ!)

أجل ولا تجد آية طيلة الرسالات الإلهية ، عبر آياتها الرسالية ، أعرب من آية القرآن وأحكم ، لحدّ تعتبر الآية الوطيدة ، غير الوهيدة ، آية كافية وافية لمتطلبات الآيات وزيادة هي رمز الخلود لمن يستقبلونها طول الزمان حتى القيامة الكبرى ، كما كانت لمن مضى.

كما وأنه الحكم كلّه وكلّ الحكم ، حكم الآية التكوينية كآية الرسالة الختمية ، على كونه حكم الآية التشريعية كمادة الرسالة في الأصول الأحكامية وفروعها ، وفي كافة الأقضية على مختلف الحقول الفردية والجماعية ، السياسية والاقتصادية ، الثقافية والحربية أما هيه من أحكام تربط فصالات المجتمعات أو الأفراد ، وهو ـ ككل ـ حكم قيادي يقود كافة المكلفين في دولة مباركة واحدة بزغت منذ الدولة الإسلامية في المدينة المنورة رغم العراقيل التي حالت دون شمولها ، وسوف تشمل العالم كله إرغاما للعراقيل كلها زمن القائم المهدي من آل محمد (ص). (فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ) (٤٠ : ١٢).

٣٤٠