الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٥

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٥

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٦

(ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (٥٢) وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٥٣).

أترى من هو القائل (لِيَعْلَمَ ... وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي)؟ هل هي امراة العزيز؟ فمن هو الذي لم تخنه؟ أهو العزيز وقد خانته في مراودات

__________________

ـ وقفت على الشاطئ فأكلت المهازيل السمان فاستيقظ فرعون ثم نام فراى سبع سنابل خضر حسنة سمينة وسبع سنابل رقيقة ملفوحة بالريح الشرقية نابتة وراءها فأكلت الرقيقة السمينة فهال فرعون ذلك وجمع سحرة مصر وحكماءها وقص عليهم رؤياه فعجزوا عن تعبيره وعند ذلك ادّكر رئيس السقاة يوسف فذكره لفرعون وذكره ما شاهده من عجيب تعبيره للمنام فامر فرعون بإحضاره فلما ادخل عليه كلمه واستفتاه فيما رآه في منامه مرة بعد اخرى فقال يوسف لفرعون حلم فرعون واحد قد اخبر الله فرعون بما هو صانع : البقرات السبع الحسنة في سبع سنين وسنابل سبع الحسنة في سبع سنين هو حلم واحد ، والبقرات السبع الرقيقة القبيحة التي طلعت وارءها هي سبع سنين والسنابل السبع الفارغة الملفوحة بالريح الشرقية يكون سبع سنين جوعا.

هو الأمر الذي كلمت به فرعون قد اظهر الله لفرعون ما هو صانع هوذا سبع سنين قادمة شبعا عظيما في كل ارض مصر ثم تقوم بعدها سبع سنين جوعا فينسى كل السبع في ارض مصر ويتلف الجوع الأرض ولا يعرف السبع في الأرض من اجل ذلك الجوع بعده لأنه يكون شديدا جدا ، واما عن تكرار الحلم على فرعون مرتين فلان الأمر مقرر من عند الله والله مسرع لصنعه.

فالآن لينظر فرعون رجلا بصيرا وحكيما ويجعله على ارض مصر يفعل فرعون فيوكل نظارا على الأرض ، ويأخذ خمس غله ارض مصر في سبع سنين الشبع فيجمعون جميع طعام هذه السنين الجيدة القادمة ويخزنون قمحا تحت يد فرعون طعاما في المدن ويحفظونه فيكون الطعام ذخيرة للأرض لسبع سني الجوع التي تكون في ارض مصر فلا تنقرض ، الأرض بالجوع ...

١٢١

واهتمامات بالغيب وكما صرحت بصدق الصديق في خيانتها وبراءته! أم هو يوسف؟ وقد خانته في الحضور والغيب ، حيث احتالت عليه حتى أدخلته السجن بتهمة الخيانة! ثم ولم تكن موحدة حتى تقول : (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) او تقول (إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) ثم وما برّئت نفسها إلّا (وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ) وقد فضحت بشهادة الشاهد من أهلها ، وإنما برّئت نفس يوسف في مشهد النسوة مرتين ، فلم تكن في موقف التبرئة لنفسها حتى تنفيها عن نفسها! ثم وماذا تعني ـ إذا ـ من ذلك؟ أتعني أن ذلك الاعتراف ببراءة الصديق وخيانتها ليعلم او يعلم العزيز أنها لم تخنه بالغيب؟ وهو اعتراف منها بخيانتهما بالغيب! اللهم إلّا في ذلك الغيب الأخير بمشهد الملك وغياب يوسف! ولم تكن امراة العزيز بالتي لا تخون يوسف وقد خانت العزيز! ولا أن علم الصديق بعدم خيانتها إياه بالغيب يهمها لحدّ تفضح له نفسها أمام النسوة والملك أم والعزيز!.

إنها ـ دون ريب ـ من كلام يوسف إجابة عن سؤال مقدر ، لماذا لم تحضر عند الملك فور إحضاره ، وطائل السجن كان يؤكد التهمة عليك فضلا عن مزيده؟ فيجيب ، (ذلِكَ لِيَعْلَمَ) العزيز (أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) فلو خرجت دون استجواب النسوة لظلت تهمة الخيانة عليّ لزاما ، وهو استبقاء في سجن التهمة ، فسواء أخرجت أم بقيت إلّا أن تحصل هذه الحصحصة في حقي أمام الجماهير ، فيعلم العزيز أني لم أخنه بالغيب.

أتراه لم يعلم أنه لم يخنه بالغيب وهو القائل لدى الباب بعد شاهد من أهلها (إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ)؟

أجل إنه أخذ يعلم ولكنها بدلته من بعد علم جهلا ، كما هددت الصديق مرارا وتكرارا (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ) وهكذا يأخذ مكائد النساء بأزمة قلوب الرجال ، فقد فعلت

١٢٢

وافتعلت حتى دفعته أن يسجنه بتهمة الخيانة ، وظل بضعه في سجنه في ظل هذه التهمة الوقحة ، فكيف يخرج دون ان يقضي عليها؟.

أجل لقد كان لزاما على يوسف قوله (لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) تذرعا إلى رفع التهمة ، ولزاما عليه إلّا يخرج بطلب الملك إلّا بعد زوال التهمة ، و «ذلك» القول وعدم الخروج إلّا ببرائته «ليعلم» العزيز ومعه من معه من الملك وسواه (أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ) في قصة المراودة «بالغيب» إذ كان غائبا.

«وليعلم» على علمه (أَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) كامرأته ونسوة في المدينة ، ومعهن العزيز والملك في خيانتهم المكرّسة وشيطنتهم المدروسة ، فلو أنني كنت من الخائنين ، والجهاز الفرعوني مصرّ على أنني خائن فكيف اهتديت إلى برائتي بشهادتهم هؤلاء أنفسهم؟ ثم (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) ضابطة تضرب إلى مثلث الزمان ومختلف الكائن والمكان ، وقد أقام الله تعالى فيها كيد الخائنين مقام الخابط في طريق ليصل الى مضرة المكيدة وهو عنه غافل ، فأعلمنا سبحانه انه لا يهديه حيث لا يوفقه لإصابة الغرض ، ولا يسده لبلوغ المقصد ، بل يدعه يتخبط في ضلاله ويتسكع في متاهه ، حيث يسري في معصية الله فلا يستحق ان يهدى لرشد او يتسدد لقصد.

ولأنهم كانوا خونة بحقي بكل المكائد الفرعونية ، نسائية ورجالية ، لم يكن الله ليهدي كيدهم إلى بغيتهم : دراسة متينة ونصيحة مكينة من الصديق السجين لرجال البلاط ونساءه ولمّا يخلص من السجن!

ولأن (أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) تلمح كأنه بحوله ـ فقط ـ وقوته ترك تلك الخيانة فلم يصب إليهن ، يثنّيها بما يزيل غشاوة الإيهام والإبهام بقوله : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) عن الخيانة وهمها ل (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) نفسي

١٢٣

وسواها (إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) وقد رحمني بما أراني برهانه : (وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) وصرف عني كيدهن : (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) (إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) يغفر برحمته ويستر زلات المخلصين والمخلصين ، فلو لا غفره بما أراه برهانه وصرف عنه كيدهن لهمّ بها وصبا إليهن وكان من الجاهلين ، وذلك غفر قبل حلول العصيان ، وهكذا كلّ غفر للمعصومين ، كما هنالك غفر بعد حلوله كما لغير المعصومين.

فإذا كان يوسف الصديق لا يبرئ نفسه وهو من المخلصين ، فيربط برائته برحمة ربه ، فبأحرى لمن دونه من الصالحين ، فلو لا رحمة الرب لكنا من المهلكين (وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) (٣٧ : ٥٧)!

ف «النفس» هنا هي الشهوانية وهي بطبعها (لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) إلّا برادع من نفس مؤمنة مطمئنة بالله ، تكرّس كافة طاقاتها سياجا صارما على أمر السوء وفعله ، مستعينة بالله وحتى النفس المعصومة ، حيث العصمة الإلهية وتثبيته يحولان بين النفس وشهواتها (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً).

وصحيح أن النفس لا يصح ان تأمر بسوء ، فإنما تشتهي السوء ، ولكن الإنسان لما كان بطبعه يتبع دواعيها إلى الشهوات ، وينقاد بأزمتها إلى المقبحات كانت بمنزلة الآمر المطاع ، والإنسان بمنزلة السامع المطيع ، والمبالغة في «لأمارة» مؤكدة باللام تحاكي صفتها بكثرة الدفع إلى المهاوي والقود إلى المغاوي.

ثم وهذه الأمارة بالسوء ـ بطبيعة الحال ـ تتدرج على ضوء المحاولة البشرية والرحمة الإلهية من أسفل سافلين إلى أعلى عليين ، إلى لوّامة بدرجاتها ، ومن ثم مطمئنة بدرجاتها ، مخلصة لا تخلو من أخطاء اللمم ،

١٢٤

ثم مخلصة معصومة بعصمة إلهية ، وهذه رحمة خاصة تخص المخلصين ، وقبلها عامة تعم المخلصين ، ويوسف من الأوّلين (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) والرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هو إمام المخلصين (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) لحد يقول عن نفسه «شيطاني أسلم بيدي ـ جزناها وهي خامدة».

ف (إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) استثناء متصل يعني إلّا النفس التي رحمها ربي فليست أمارة ولا آمرة بالسوء بل لوامة أو مطمئنة : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي).

وليست لنا إلّا إحدى هذه الثلاث ، وهي مختلفة حالات الروح ، واجتماعها في هذه الحالات ، ام تعددها كل بحالتها ، ذلك اجتماع الأضداد المتنافرة ، أو المحالات المتهاترة.

(وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها ، فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها ، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها ، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) وأمثالها هي من براهين وحدتها دون تعدد في ذواتها ، ولا اجتماع في حالاتها!.

ثم ومع الأسى نرى هنا كما هنالك ترسم أيدي الخيانة ما يمس من كرامة الصديق وليضرب عرض الحائط لمخالفته كتاب الله المصرح في آيات عدة ببرائة يوسف ويراعته (١).

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٢٣ عن أبي صالح في الآية قال : هذا قول يوسف (عليه السلام) لم يخن العزيز في امرأته ، فقال له جبرائيل : ولا حين حللت السراويل؟ فقال يوسف (عليه السلام): (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي ..) أقول أليس حل السراويل للعزيزة بغيب العزيز خيانة ، ثم وفي القيلة المنسوبة الى جبرائيل تكذيب لقول يوسف اضافة الى تهمة الخيانة! والصحيح ما أخرجه ابن أبي حاتم وابو الشيخ عن الحسن في الآية قال : خشي نبي الله ان يكون زكى نفسه قال : (وما أبرئ نفسي) الآية.

١٢٥

وهكذا ينتهي دور السجن لمن كرّمه الله واصطفاه ، بريئا عن تهمة الخيانة ، جريئا على الخونة ، مما يدفع الملك أن يطلبه إليه مرة ثانية :

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ)(٥٤).

وهكذا يتجلى الإنسان في أكمله وأنقصه في قصص القرآن التي لا تقص لمجرد قصّ التاريخ وأداء الفن القصصي ، بل (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) فانما تساق لتعالج قصة العقيدة والداعية عبرة وعظة ، في واقعة تتناسق فيها جميع المؤثرات والمؤشرات والواقعيات في نفوس بني الإنسان.

هنا يصدر الأمر الملكي مرة ثانية (ائْتُونِي بِهِ) ولكنه في هذه المرة يستخلصه لنفسه حيث يرى إخلاصه في علمه ودرايته وأمانته : (أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) فلو استجابه في الأولى لم يستخلصه إذ لم يعرفه بذلك الإخلاص والأمانة والرزانة ، واستخلاص الملك هو الصدارة الثانية بعده كرئاسة الوزراء امّا ذا من القمة الثانية.

إنه في هذه المرة خلاف الأولى لا يطلبه ليرى مأول الرؤيا ، أو ليسمعه كلمة الرضا لصاحب السموّ الملكي ، وليعفو عنه ويطلق سراحه ، وإنما ليستخلصه لنفسه معتذرا إليه عما كان عليه ، ومفوضا إليه ما سيكون.

.. هنا الملك يطلب إلى من لا يتهافت على خروجه من السجن ، ولا يتفاوت عنده السجن وخارج السجن ، إلّا أن يخرج قبل خروجه عن تهمة الخيانة ، وإلّا فالسجن أحب اليه من عفوه دون براءة ، كما كان أحب إليه مما يدعونه إليه.

يطلب الانسراح عن السجن ممن أخذ يفتي برؤياه لصالح المملكة ،

١٢٦

ويحكم كقائد اوّل لإصلاح الحالة الاقتصادية عند توترها وتبعثرها وتعثّرها ، وهكذا يكون رجالات الحق والصدق والدعاة الى الله ، لا يخضعون للأمر الواقع المفروض عليهم أيا كان ، فلا يذلون عن عزهم ، ولا يترذلون أمام السلطات الباطلة المفروضة عليهم ، ولا يحيدون عن موقفهم الرسالي ، ولا يفرق لديهم السجن وخارجه ، ولكي يبرزوا الحق كما يليق به ويحق ، دون مسّ من كرامته وكراماتهم ، ودون نكص على عقبيهم انتقاصا لحق الدعوة والداعية.

فيا ليت رجالا ـ ولا رجال ـ يمرغون كل كرامة على أقدام الطغاة ـ بمطلق سراحهم ـ متسابقين متهافتين على نظرة رضى وكلمة ثناء ، ليتهم يعتبرون بأحسن القصص ، وليعلموا أن العزة والإباء يدرّ عليهم أضعافا من إدرار التمرغ والتزلّف والانحناء أمام ذوي السلطة والكبرياء (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ ... وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ)(٥٧).

(.. فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ) خلاف ما قبل اليوم لمّا طلب إليه للمرة الأولى (ائْتُونِي بِهِ)! لست أنت اليوم الفتى العبراني المشرى بثمن بخس دراهم معدودة ، لعبة العزيز وامرأته ، وإنما أنت (الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ) ذو مكانة عالية مرموقة ، ولا أنت المهدّد بالسجن أو عذاب اليم ، وإنما أنت «لدينا اليوم أمين» ، وتراه في ملتقاه مع الملك أخذ يتملق له بقولة او فعلة كما يفعله رجال الحاشية؟ كلا ولا في شطر كلمة ، فالنص (فَلَمَّا كَلَّمَهُ) فالملك هو البادئ بالكلام دونه ، اللهم إلا بسلام والسلام ، وفي ذلك الكلام الملكي الهام : (إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ) نرى كل مراتب العزة والإكرام ، دون ألفاظ مرسومة خاوية في المواجهات العادية ، وإنما كلام مكين أمين ، حيث الملك ليس ليهاب أحدا او يماريه حتى يجاريه في كلمة خاوية المرام.

١٢٧

هنا مثلث التأكيد للمكانة والأمانة ، المستفاد من حرف التأكيد وتقدم الظرفين ، يؤكد له المكانة والأمانة الخاصة المتميزة ، والسلطة الصالحة لإدارة أمور المملكة بحاجة جذرية ماسة إلى تلك المكانة والأمانة ، ولا سيما في تلك الظروف الحرجة الهرجة ، وفي الحق يلمح من كلامه هذا حكم صدارته العليا بعده ،

(قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ)(٥٥).

(إِنِّي حَفِيظٌ) لشتات الأمور ومتفرقاتها لأجمع شملها ، ولمجموعاتها عن تمزقها وشتاتها ، حفيظ للمعادلة الاقتصادية في السبعين الرخوة والشداد ، حفيظ في كلما تحتاجه خزائن الأرض من صالح الإنماء والمصرف ، فالحفيظ على الحرمات والنواميس في تلك الظروف المحرجة ، هو بأحرى حفيظ على المصالح الاقتصادية!

(إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) فمن حفيظ غير عليم ، يحاول في الحفظ ولكنه لا يعلم ، فقد يكون ما يفسده على جهله أكثر مما يصلحه كصدقة ، ومن عليم غير حفيظ ، يعلم ويخالف علمه إلى جهالة ، أم لا يحافظ على المصلحة الجماعية ، إذ لا يلاحظ إلّا شخصه وشخصيته وصالحه ، ولكني (حَفِيظٌ عَلِيمٌ) كركنين أساسيين لمن يجعل على خزائن الأرض.

وتراه لماذا يتطلب إلى الملك ذلك المنصب دون أن يصبر حتى ينصبه هو كما يراه؟ علّه ما كان ليعلم أية مصلحة في الملك هي أصلح ليجعله عليها؟ فهو ـ بعد ما يتأكد أنه لديه مكين أمين ، وبطبيعة الحال يحتاجه لأمر ما لمصلحة البلد ـ فهو يدله على ما هو الأصلح في تلك الظروف الصعبة الملتوية ، كمواصلة صالحة لما يريده منه الملك ، حيث الأزمة القادمة وسنو الرخاء التي تسبقها ، هي بأمسّ الحاجة إلى الحفظ والصيانة على علم واسع ودراية ، لذلك يختار ذلك المنصب المناسب الضروري لحفظ البلد عن

١٢٨

التفكك ، الذي لا بديل عنه ، كما هو (عليه السلام) لذلك المنصب ، فلا يطلب إلى الملك وزارة البلاط الملكي ، ولا أية وزارة إلّا وزارة الإقتصاد والتنمية والإصلاح الزراعية ، التي كانت تحلّق حينذاك على كافة الوزارات ، وفي الحق هي رئاسة الوزارات كلها حسب الظروف الراهنة!

فبالرغم من أنّ تصدي أمر الإقتصاد في ذلك الظرف الحرج تورّط في مختلف الصعوبات ، يختاره الصديق لنفسه ، وهناك أمور أريح ، ولصالحه الشخصي أصلح ، لأنه حسب واجبه الرسالي كان حصينا في اختيار اللحظة المرهقة ذات التبعة الضخمة ، فيكون مسئولا عن إطعام شعب بكامله والشعوب المجاورة ، ليؤدي واجبه الرسالي عدلا ناصعا ناصحا للجماهير ، وعلّه على ضوئه يجلب أنظار المحاويج إلى شرعة الله.

فليس من السهل تكلّف ذلك العبء الثقيل ، ولأقل تقدير في أربعة عشر سنة التي قد تكلّف في مصطرع المراجعات والمنازعات رأس الرئيس وحياته ومصرعه ، المنصب الذي يحيد عن تقبله سائر الحاشية الملكية ، حيث ترجّح الأريحية وحياة الترف والرعونة.

أفبعد ذلك كله يخلج ببال ، أن كيف يزكي الصدّيق نفسه والله تعالى يقول : (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) يزكي قائلا : (إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ)؟ أم كيف يطلب إلى فرعون المشرك الظالم أن يجعله على خزائن الأرض؟ ومعونة الظالمين حتى في عدلهم هي من المحرمات القطعية؟!.

إن أمر الصديق هنا أبعد أعماقا وأوسع آفاقا من هذه الضوابط الناظرة إلى الناس العاديين ، فإنه يرتكن على ركن الرسالة والدعوة إلى الله ، ولا بد للرسول ان يزكي نفسه بما زكّاه الله تعالى لتحل رسالته محلها من القلوب ، وإنما التزكية المحرمة هي للنفوس غير المزكّاة ، أو التي تأخذها بتزكيتها رعونات وطنطنات ، دون النفوس المطمئنة بالله التي زكاها الله بما

١٢٩

رحمها (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) أو ليست النفس المرحومة بالله مزكاة!.

ولان زكاة النفس من نعمة الرب فلا بد لصاحبها أن يحدث بها (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) لا سيما في مقامات الضرورة لإظهار الحق والدعوة إليه وتطبيقه ، دون التظاهر بالحق وأنت مبطل أو معجب : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) (٤ : ٤٩) (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) (٥٢ : ٣٢). وقد زكى الله نفس الصديق وهو أعلم به وهو يريد مكانته وتمكّنه في الأرض : (وَكَذلِكَمَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ ..)(١).

ومن ثم ليس طلبه إلى الملك أن يجعله على خزائن الأرض إلّا ليعدل حسب الشرعة الإلهية فيمن لا يقرون بحق الله وشرعته ، وإزالة الظلم ثم تقليله من المفروض على عواتق الدعاة إلى الله! وليجد ظرفا صالحا للدعوة الرسالية وذلك من أهم الظروف الواسعة والمجالات الفاسحة.

ثم الضرورات تبيح المحظورات ، فحتى لو كانت قيادة خزائن الأرض والرئاسة عليها في الملكية الفرعونية محظورة للصديق ، لكانت أقل المحظورين حيث الضرورة الرسالية تفرضها.

وقد قبل الإمام الرضا (عليه السلام) ولاية عهد المأمون لنفس الضرورة وأحرى ، فلما يسأل : يا بن رسول الله (صلى الله عليه وآله

__________________

(١) نور الثقلين في تفسير العياشي وقال سليمان قال سفيان قلت لابي عبد الله (عليه السلام) ما يجوز ان يزكي الرجل نفسه؟ قال : نعم إذا اضطر إليه اما سمعت قول يوسف (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) وقول العبد الصالح : (وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ).

١٣٠

وسلم) إن الناس يقولون : إنك قبلت ولاية العهد مع إظهارك الزهد في الدنيا؟ يقول (عليه السلام) : قد علم الله كراهتي لذلك فلما خيّرت بين قبول ذلك وبين القتل اخترت القبول ، ويحهم أما علموا أن يوسف (عليه السلام) كان نبيا ورسولا فلما دفعته الضرورة إلى تولي خزائن الأرض قال : (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) ودفعتني الضرورة إلى قبول ذلك على إكراه وإجبار بعد الإشراف على الهلاك ، على أني ما دخلت في هذا الأمر إلّا دخول خارج منه فإلى الله المشتكى وهو المستعان» (١) واين ضرورة من ضرورة ، والحكمة فيهما والحكم واحدة على اختلاف الدرجة.

والامام ابو عبد الله الصادق (عليه السلام) يقول لأقوام يظهرون الزهد ويدعون الناس ان يكونوا معهم على مثل الذي هم عليه من التقشف : أين أنتم عن سليمان بن داود (عليه السلام) ثم يوسف النبي (عليه السلام) حيث قال لملك مصر (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٤٣٢ ج ٩٩ في عيون الاخبار باسناده عن الريان بن الصلت الهروي قال : دخلت على علي بن موسى الرضا (عليه السلام) فقلت له يا بن رسول الله ان الناس يقولون ... وفيه حجاج اخرى له مما شاة ومجارات عن عيون الاخبار باسناده عن الحسن بن موسى قال : روى أصحابنا عن الرضا (عليه السلام) انه قال له رجل : أصلحك الله كيف صرت الى ما صرت اليه من المأمون ـ وكأنه أنكر ذلك عليه ـ فقال له ابو الحسن الرضا (عليه السلام) يا هذا أيهما أفضل النبي او الوصي؟ فقال : لا بل النبي ، قال : فأيهما أفضل مسلم او مشرك؟ قال لا بل مسلم ، قال : فان العزيز عزيز مصر كان مشركا وكان يوسف (عليه السلام) نبيا وان المأمون مسلم ، وانا وصي ، ويوسف سأل العزيز ان يوليه حين قال : (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) وأنا أجبرت على ذلك ، وقال (عليه السلام) في قوله : (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) قال : حافظ لما في يدي عليم بكل لسان.

١٣١

حَفِيظٌ عَلِيمٌ) فكان من أمره الذي كان أن اختار مملكة الملك وما حولها إلى اليمن ، وكانوا يمتارون الطعام من عنده لمجاعة أصابتهم وكان يقول الحق ويعمل له فلم نجد أحدا عاب ذلك عليه! (١).

وفي الحق إنما الحكم لله ومن يمثّل حكم الله من رسله وأوليائه ، والحاكمون على الشعوب دونهم كلهم طغاة ، ومن المفروض على من له أهلية الحكم تكريس الطاقات في كافة الحلقات لإزالة هذه السلطات وتأسيس الحكم الحق قدر المستطاع ، أم ـ ولأقل تقدير ـ التقليل من ظلمهم في سلطاتهم ، فإزالة السلطة الظالمة المغتصبة وتقليلها هما مفروضان دوما على عواتق المؤمنين بالله وبرسالاته.

فمن يندّد بمثل يوسف الصديق والإمام الرضا (عليهما السلام) كفقيه ينقد أئمة الفقه ورسله ، إنه في الحق ليس له فقه بطبيعة الفقه ورسالته الجماهيرية ، وفقه الإسلام الناصع هو فقه الحركات والبركات ، محلقا على كل فقه وفقيه ، ومطبّقا شرعة الله في سياسته الجماهيرية والسلطة الشرعية والزمنية ، دون فكاك له عن السياسة ، وهؤلاء الذين يفصلون الدين عن السياسة في الحق لم يعرفوا الدين ولا السياسة ، وبهذه الجهالة فسحوا كافة المجالات القيادية الزمنية لرجالات السياسة غير الديّنين ، ورجال الدين هم في الوقت نفسه وعاظ السلاطين ، والفقهاء الذين يحصرون الشرعة الإلهية في مدارس وأوراق وحلقات الدروس وفي المساجد وحفلات الوعظ والتعزية ، التي هي تحت هذه السلطات السياسية الجهنمية.

__________________

(١) المصدر الكافي القمي باسناده عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام) حديث طويل يقول فيه لا قوام ...

١٣٢

إن الفقه الاسلامي لم ينشأ لينشئ أمة في فراغ ، ويعيش ويعيّش في فراغ ، لا تتمثل فيه عناصر المواقف الخاصة بأجوائها ، والبيآت والملابسات التي ينشأ فيها ، منعزلا عن السياسات والملابسات والأحكام الزمنية ، مدروسا في فراغ مثالي لا يمثل في المجتمع حتى نفسه.

لقد جاء الإسلام بشرعة كاملة الجهات ليحكم بها العرض الجغرافي في الطول التاريخي ، أفبإلامكان تطبيق هذه الشريعة بلا قيادات زمنية تتجمع فيها كافة الصلاحيات للحكم على الشعوب؟!

وكذلك كل شرعة إلهية في كافة الرسالات ، فلم يكن ليوسف الصديق ـ بعد تمشيه في هذه الطريق الملتوية الشاقة الطويلة ـ لم يكن له أن يبقى مكتوف اليدين عن أية عملية إصلاحية ، والجو الملكي يستقبله ويستدعيه : (وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ) وحين يصل أمره إلى ذلك المكانة والتمكين ، عليه كواجب رسالي أن يرشد الملك إلى الأصلح للشعب من المناصب المطروحة لديه ويقول : (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ)! (١).

ولئن سئلنا كيف بالإمكان تطبيق النظام الإلهي في التراكيب العضوية الجاهلية واللّادينية ، فلا تحرك الشرعة الإلهية في ذلك التركيب العضوي العارم إلّا ضدها ، كما ولا تتحرك في فراغ ، فلنصبر لإصلاح التركيب

__________________

(١) نور الثقلين في تفسير العياشي وقال سليمان قال سفيان قلت لابي عبد الله (عليه السلام) ما يجوز ان يزكي الرجل نفسه؟ قال : نعم إذا اضطر اليه ا ما سمعت قول يوسف (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) وقول العبد الصالح : (وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ).

١٣٣

العضوي حتى يصلح الحكم على أساسه ولا يكون ذلك إلا في زمن المهدي القائم من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)!

فالجواب أن الناس على دين ملوكهم ، فالسلطة هي التي تصنع أعضاءها وتراكيبها الصالحة مهما طال الزمن ، ومهما ظلت بعض الأعضاء فاسدة ، فما لا يدرك كله لا يترك كله! وإذا كان الإصلاح الرسالي قائما على أساس التركيب العضوي الصالح ، وذلك الصلاح ليس إلا على ضوء الرسالات الإلهية ، فهو الدور المصرح المستحيل ، بل والرسالات التي تحمل أعباء الاصلاحات لا تحلّ إلّا في مجتمع فاسد هو بحاجة إلى إصلاح ، وحملة الرسالات هم الذين يصنعون التركيب العضوي الذي هو من أسس الحكم ، ثم يحكمون بحكم أوسع ، كما صنعه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بادى بدء في العهد المكي ، ثم في العهد المدني أنشأ دولة الإسلام بذلك التركيب الذي أنشأه من ذي قبل ووسّعه في المدينة.

والصديق يرى الجو يومذاك صالحا لإصلاح مّا حيث الحاجة إليه في الإصلاح الاقتصادي ذريعة تفرض عليه كونه على خزائن الأرض ، ليمتلك بها قلوب أهل الأرض ، فيحكم بشرعة الله في الأرض.

(وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ)(٥٧).

«وكذلك» الذي فعله يوسف في رحلته الشاقة الطويلة ، منذ البئر حتى البلاط الملكي مستخلصا للملك ، «وكذلك» الذي فعلنا بيوسف من تعليم الأحاديث وأنباء الغيب الرسالية ، وإرائته برهاننا وصرف السوء عنه والفحشاء.

١٣٤

«وكذلك» الذي فعله اخوته والعزيز وامرأته ونسوة في المدينة ، والذي ظن أنه ناج والملك. وحتى «كذلك» المكانة التي حصّلنا له في الجو الفرعوني ، بهذه المعدات المثلثة المقدرة المقررة من قبلنا.

(كَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ ..) مكانة مكينة ، وإمكانية متينة ، حيث يجعل على خزائن الأرض فيصبح عزيزا لحد يتوارى في ظله العزيز ، فلا نسمعه حتى نهاية القصص إلّا له ، دون الذي اشتراه من مصر حيث يخاطبه إخوته : (يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً ..) (٧٨) ـ (يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ ..) (٨٨).

أترى العزيز الأول مات او قتل او عزل فاحتل الصديق مكانته؟ لا فحسب بل وتوارى الملك ايضا إلّا مرة ، : (.. ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ..).

أجل إن مكانة يوسف وإمكانيته في الأرض جعلته هو العزيز في كل المملكة لحد توارى كل عزيز من ملك فضلا عن العزيز!

أترى تلك المكانة المرموقة ليوسف كانت من الله؟ فلما ذا تطلّبه الصديق من الملك! أم كانت من الملك؟ فكيف ينسبها الله إلى نفسه! ولا دلالة هنا على أنه جعله على خزائن الأرض.

(كَذلِكَ مَكَّنَّا) تدل أن الملك استجابه إلى مطلوبه ، وأنه كان من تمكين ربه ، فالعبد يدبر وقد دبر الصديق بما قدم وما سئل ، والله يقدّر كما قدر تمكينه في الأرض بما دبّر ، مما يبرهن بوضوح أن سؤاله ذلك من الملك كان بمرضات الله تدبيرا ، فكان من مرادات الله تقديرا ، وتوافق الأمر ان في تمكينه في الأرض! حيث حوّل قلب الملك ووجهه إلى تلك الواجهة. فكان ما سأله وأراده الله.

١٣٥

نرى في طول الخط تتحول أسباب ذله إلى عزه برحمة خفية إلهية تجلت آخر أمره ،! فقد حسده إخوته فجعلوه في غيابت الجب ليغيب عن ذلك الإكرام والحب ، فأخذته السيارة ليشروه للعزيز ، فأكرم الله مثواه في بيت العزيز ، وكادت به النسوة وامراة العزيز لإدخاله في صغار الفجور أو (لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ) فأصبح عزيزا في السجن ، يؤوّل الرويّ ، وقد جعله الله ذريعة لتخلّصه عن التهمة وخلاصه عن السجن ، لحدّ يثني الملك تطلبّه إليه ويستخلصه لنفسه ، ويجعله على خزائن الأرض ، فيتوارى في ظل عزته العزيز الذي أذله ، وكل عزيز.

لقد مكن الله ليوسف أوّل مرة حين دخل بيت العزيز حيث قال لامرأته (أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣١) (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (٢٢). وكأنه آنذاك ـ فقط ـ تمكين الخلاص عن غيابت الجب إلى أرض البلاط ، والتمكين العلمي والرسالي ولمّا يحن حين تمكين لسلطته الزمنية تطبيقا عزيزا لرسالته.

ولكنما الآن يمكّنه بعد ذلك التمكين في الأرض ، أرض المملكة وحواليها ، لحد يتبوأ منها حيث يشاء ، دون مشية فوقية تحده فيما يشاء ، إذ أصبح مطلق الإختيار في كل أرض المملكة ، كأن له السلطة العليا ، ولم يكن الملك لو كان له كون ـ إذ ذاك ـ أو كيان ، إلّا صورة فاضية وسلطة خاوية ليست له إرادة دون إرادته ولا مشيئة فوق مشيئته!.

لقد تعاضدت أعضاد الدولة والملة بأسباب قاطعة وتظاهرت وتواترت لخفضه فلم يزدادوه إلّا عزا ، ولم يكن إلا ما أراده الله (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).

١٣٦

وهنالك حصحص حق الآية : (إِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (١٠ : ١٠٧).

أتراه لماذا (مَكَّنَّا لِيُوسُفَ) دون «مكناه» كما في آخرين في آيات أخرى؟ :

إن التمكين «له» أوسع مكانة وإمكانية من تمكينه ، فقد مكّن ـ بوجه عام ـ كل من في الأرض فيها : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ ..) (٧ : ١٠) وهذا من تمكين إمكانية استعمار الأرض واستثمارها دون منع عنها وتمنّع منها ، ومن ثم مكانة فوقها تخص الماكن فيما يتوجب عليه دون إحراج او إخراج : (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) (٢٢ : ٤١) وهذا التمكين على قدر الماكن من تطبيق واجبه الشخصي ، وآخر جماعي لا يحوجه إلى أكثر من تطبيق مّا قل او كثر ، دون حاجة إلى سلطة زمنية ، وإلا لما وجبت هذه الأربع على الأمة ، حال (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ ...)!

ثم التمكين «له» نراه في يوسف كما هنا ، وفي ذي القرنين : (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً) (١٨ : ٨٤) حال أن فيه نفسه بالنسبة لصناعة السد ، غير المحتاجة الى سلطة واسعة زمنية يقول : (ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ) (١٨ : ٩٥) دون «ما مكني له».

وفي السلطة العالمية للذين آمنوا (وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ ..) (٢٤ : ٥٥) دون «نمكنهم في دينهم» ، كما وفي وعد الإمامة ووراثة الأرض للمستضعفين المؤمنين : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي

١٣٧

الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) (٢٨ :) ٦).

وذلك التمكين لهم هو السلطة الصالحة لأنبياء إسرائيليين ، كموسى وداود وسليمان ومن تبعهم بإحسان ، ويوسف هذا يقدمهم فيه : (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) وهو يسبق هؤلاء كلهم في ذلك التمكين المكين الأمين.

(وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ ..) وليس فقط تبوّء الدار المكان ، بل وتبوء الإيمان ورفع أعلامه ، فإن تبوّء الدار حاصل لمن يشتريها أيّا كان ، فذلك ـ إذا ـ تبوّء وتمكن رسالة الإيمان على ضوء النبوة السلطة الزمنية ، بإمكانية واسعة ومكانة شاسعة دونما تحدد أو تهدد (١).

(نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ) لو أنه يشاء ويعمل له فيصلح لإصابة الرحمة ، وهو من المحسنين (وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) لا في الدنيا ولا في الآخرة (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) لأنها هي دار الأجر والجزاء ، وهنا دار التكليف والبلاء (لِلَّذِينَ آمَنُوا) لا فحسب الإيمان كعقيدة مخبوءة في الجنان بل (وَكانُوا يَتَّقُونَ) على طول الخط في معارك الحياة ، يتقون المحاظير فردية وجماعية ، وليرفرفوا أعلام التقى ، ويخفضوا منارات الطغى ، ومن «رحمتنا» هنا هي

__________________

(١) في الإصحاح ٤١ من تكوين التورات تباعا لما سلف ما يلخص كالتالي : «ان فرعون استحسن كلام يوسف وتعبيره وأكرمه وأعطاه امارة المملكة في جميع شؤنها وخلع عليه بخاتمه والبسه ثياب بوص ووضع طوق ذهب في عنقه واركبه في مركبه الخاصة ونودي امامه ان اركعوا وأخذ يوسف يدير الأمور في سني الخصب ثم في سني الجدب احسن ادارة.

١٣٨

جماع من المكانتين الروحية والزمنية كما حصل ليوسف وأضرابه ، وليس كل المحسنين ليصابوها ، وليس حرمان المحرومين عنها ضياعا لأجرهم ، فلهم أجرهم في الآخرة عيانا وبيانا ، وأجرهم في الدنيا وبدون سلطة زمنية هو النصرة الإلهية في غلب البرهان ، والتصبّر على كل حرمان في سبيل الإيمان : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ)! ف «اطلبوا الخير دهركم كله وتعرضوا لنفحات رحمة الله فإن لله عز وجل نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده واسألوا الله أن يستر عوراتكم ويؤمن روعاتكم» (١).

وقد تلمح «نصيب» بأن الجمع بينهما في الدنيا ليس إلا كصدفة قاصدة «من نشاء» حسب ما تقتضيه المصلحة الجماعية ، ولسوف تصبح الرحمتان هامتان وعامتان ومنقطعتا النظير في زمن القائم المهدي من آل محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين!

من هنا تدور عجلة زمن سلطته الزمنية طوال السبع الأولى سنوات الرخاء ، دون أن تذكر القصص ما هو دور الصديق فيها ، ولا كيف أدار جهاز الدولة المخولة إليه ، اللهم إلا ما أفاده من قبل : (إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) ثم ولا يذكر العزيز ولا الملك إلّا مرة مشيرة : (فِي دِينِ الْمَلِكِ) فضلا عن رجال الملك والحاشية ، مما يلمح أن الأمر بكامله وكله صار إلى يوسف ، بارزا مبارزا على مسرح الحوادث ومصرع الكوارث ، كأنه هو الآمر الناهي لا سواه ، حيث يضطلع بالأعباء كلها في الأزمات الخانقة الخافقة ، فقد تصدق ـ على ضوء هذه التلميحة ـ الرواية القائلة بعد مقابلة طائلة ان «قال له الملك إن

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٢٥ ـ اخرج الحكيم الترمذي وابن أبي الدنيا في الفرج والبيهقي في الأسماء والصفات عن انس عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قال : ...

١٣٩

ذلك لشرفي وفخري ألا أسير إلا بسيرتك ، ولا أحكم إلا بحكمك ، ولولاك ما قويت عليه ولا اهتديت له وقد جعلت سلطاني عزيزا ما يرام وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنك رسوله فأقم على ما وليتك فإنك لدينا مكين أمين» (١).

__________________

(١) لقد مضى ما يشبهه من التورات والرواية في نور الثقلين ٣ : ٤٢٥ عن المجمع عن الطبرسي في كتاب النبوة بالإسناد عن احمد بن محمد بن عيسى عن الحسن بن علي بن الياس قال سمعت الرضا (عليه السلام) يقول : واقبل يوسف على جمع الطعام في السبع السنين المخصبة مكبسة في الخزائن فلما مضت تلك السنون وأقبلت السنون المجدبة اقبل يوسف على بيع الطعام فباعهم في السنة الاولى بالدراهم والدنانير حتى لم يبق بمصر وما حولها دينار ولا درهم الا صار في ملك يوسف.

وباعهم في السنة الثانية بالحلي والجواهر حتى لم يبق بمصر وما حولها حلي ولا جواهر الا صار في ملكه ، وباعهم في السنة الثالثة بالدواب والمواشي حتى لم يبق بمصر وما حولها دابة ولا ماشية الا صار في ملكه ، وباعهم في السنة الرابعة بالعبيد والإماء حتى لم يبق بمصر وما حولها عبد ولا امة إلا صار في ملكه وباعهم في السنة الخامسة بالدور والفناء حتى لم يبق في مصر وما حولها دار ولا فناء إلا صار في ملكه ، وباعهم في السنة السادسة بالمزارع والأنهار حتى لم يبق بمصر وما حولها نهر ولا مزرعة إلّا صار في ملكه وباعهم في السنة السابعة برقابهم حتى لم يبق بمصر وما حولها عبد ولا حر إلا صار عبدا ليوسف. ـ

فملك احرارهم وعبيدهم وأموالهم وقال الناس ما رأينا ولا سمعنا بملك أعطاه الله من الملك ما اعطى هذا الملك حكما وعلما وتدبيرا ، ثم قال يوسف للملك : ما ترى فيما خولني ربي من ملك مصر وأهلها؟ اشر علينا برأيك فإني لم أصلحهم لافسدهم ولم انجهم من البلاء ليكون وبالا عليهم ولكن الله نجاهم على يدي ، قال الملك : الرأي رأيك.

قال يوسف : اني اشهد الله وأشهدك ايها الملك اني قد اعتقت اهل مصر كلهم ورددت عليهم أموالهم وعبيدهم ، ورددت عليك الملك وخاتمك وسريرك وتاجك على ان لا تسير الا بسيرتي ولا تحكم الا بحكمي ، قال له الملك : ان ذلك ...

١٤٠