الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٥

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٥

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٦

فمن يشرك بعبادة ربه رغم توحيده في عبادته يلحد في الوهية العبادة بالنية : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (١٨ :) ١١٠) ف (بِعِبادَةِ رَبِّهِ) دون «بربه» دليل أنه يعبد ربه وحده ولكنه يرائي غيره فيما يعبده وهو من الشرك الخفي.

ومن يعصي الله يلحد في طاعته «والمعاصي التي يرتكبون فهي شرك طاعة أطاعوا فيها الشيطان فأشركوا بالله في الطاعة لغيره وليس باشراك عبادة أن يعبدوا غير الله» (١) «يطيع الشيطان من حيث لا يعلم فيشرك» (٢) «شرك طاعة وليس شرك عبادة» (٣) : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ).

إذا فكل العصاة والمرائين ـ إلّا المشركين والكافرين ـ يؤمنون بالله وهم مشركون ، ومن يحترم غير الله كما يحترم الله دون عبادة ولا طاعة فقد أشرك بالله في حرمته كمن يسجد لغير الله أم يركع أماذا من اختصاصات لساحة الربوبية ، أو يذكر اسم الله ردف أوليائه ، ام يذكر فعلا من أفعال الله ردف فاعل سواه!

__________________

(١) المصدر ج ٢٢٨ ـ القمي باسناده عن الفضيل عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تبارك وتعالى (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) قال : شرك طاعة وليس شرك عبادة والمعاصي ...

(٢) المصدر ج ٢٣٠ اصول الكافي باسناده عن أبي بصير وإسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) قال : يطيع الشيطان ...

(٣) المصدر صدر الحديث رقم ٢ الذي نقلناه والحديث ٢٣١ الكافي باسناده عن ضريس عنه (عليه السلام) في الآية قال : شرك طاعة ...

٢٢١

كما ومن يحلف بغير الله «لا وحياتك» (١) فقد أشرك ، إذ لا حلف إلّا بالله ، حيث لا يحلف إلا بأقدس الكائنات ، اللهم إلّا ما يحلف به الله ، وليس حلفا ، إلّا توجيها الى برهان : (وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ).

او من يردف بمشيئة الله مشيئة من سواه حتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كمن قال : لو شاء الله وشاء محمد فندد به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وبدله بالقول «لو شاء الله فشاء محمد» (٢) ام «لو لا الله وأنت ما فعل بي كذا وكذا ولو لا الله وأنت ما صرف عني كذا وكذا وأشباه ذلك» (٣) سواء أكان «أنت» رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمن دونه.

او من يرى في الكون مؤثرا غير الله او مع الله ف «يقول : لو لا فلان لهلكت ولو لا فلان لأصبت كذا وكذا ولو لا فلان لضاع عيالي ، الا ترى انه قد جعل لله شريكا في ملكه يرزقه ويدفع عنه» (٤).

__________________

(١) المصدر ج ٣٣٢ في تفسير العياشي عن زرارة قال سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الآية قال : من ذلك قول الرجل «لا وحياتك».

(٢) الدر المنثور ان جماعة من اليهود جاءوا الى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال يا محمد ان دينك خير دين لو لا ان أمتك مشركون فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) كيف؟ قالوا : انهم يقولون : لو شاء الله وشاء محمد ، فنادى الصلاة جماعة وقال لا تقولوا هكذا قولوا لو شاء الله فشاء محمد.

(٣) المصدر ج ٣٣٤ ابو بصير عن أبي إسحاق في الآية قال : هو قول الرجل ... أقول والظاهر نقله عن المعصوم (عليه السلام).

(٤) المصدر ج ٢٣٥ في تفسير العياشي عن مالك بن عطية عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قال : هو الرجل يقول : لو لا فلان ... ـ الى ان قال ـ : قلت : فيقول : لو لا ان من الله علي بفلان لهلكت؟ قال : نعم لا باس بهذا.

٢٢٢

والشرك في لفظة القول هكذا ، ام في نية الرئاء ام في المعصية ، إنها «شرك لا يبلغ به الكفر» (١).

ولكنما الشرك في العبادة ، أن يعبد معه سواه ، أو يعبد بديله سواه ، هو الكفر في الشرك وهو أنحس دركات الشرك ، ومن ثم الإشراك به في سائر شئون الألوهية ، فلأنه تعالى: «له الملك» لا سواه إلّا من ملكه إياه فمن ملك او ترأس شأنا من شئون العباد دونما صلاحية وانطباقه لشرعة الله فقد أشرك بالله في ملكه!

ولأنه «له الحكم» في شرعة وتقنين وقضاء ، فالشارع شرعة من دون الله ، والمقنن قانونا دون حكم الله ، والقاضي بحكم ليس من حكم الله ، كل أولاء مشركون فيما يختص بالله : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) (٥ : ٤٤) ـ

ولأن الرسالة والإمامة بعد الرسول من المناصب الخاصة بانتصاب الله ، فدعوى الرسالة او الإمامة أو انتخاب الإمام بشورى وسواها ، كل ذلك إشراك بالله ما لم ينزل به سلطانا ، كذلك ـ ومن بعد ذلك احتلال منصب الفتوى لمن ليس من أهلها أم في العلماء من هو أعلم منه أو أحرى ، وكذلك الدعاية له ، إنه شرك على علم إن كان على علم ، أم شرك على جهالة قاصرة او مقصرة.

وعلى أية حال فكل فكرة أو نية او عقيدة أو عملية أو حركة أو سكون أماهيه ليس بأمر الله أو سماحه أو مرضاته ، كل هذه إشراك بالله سواه ، سواء أكان هو نفسك أم سواك! : (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ

__________________

(١) المصدر ج ٣٣٢ في تفسير العياشي عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) عن قول الله (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) قال شرك لا يبلغ به الكفر.

٢٢٣

اللهِ) (وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) أن تؤلّه نفسك كما تؤله ربك فتعبد الله على حرف ، فان وافق رضي الله هواك ترضاه ، وان خالفها فلا ترضاه ، وان عملت بمرضاة ربك على سخط من هواك فقد عبدته على حرف وخرف إذ قدمت هواك على هواه!

ثم هناك شرك ليس عصيانا ولا كفرا وإنما هو نقصان في الايمان ، أن يذكر غير الله

ناسيا ذكر الله دون رئاء ولا عصيان ، بل نسيان هو لزام الإنسان أيا كان إلّا المعصومين في القمة ، (وَهُمْ مُشْرِكُونَ) في الآية علّها تشملهم كلهم ، شرك الكفر والعصيان والنسيان ، فبقي الموحدون المخلصون والمخلصون وقليل ما هم ، اللهم ألحقنا بهم وأدخلنا في زمرتهم.

فهنا لك إشراك في الله ، وإشراك بالله ، وإشراك مع الله يجمعها (وَهُمْ مُشْرِكُونَ) لفقد هذه الأدات الثلاث ، فلتشمل كل هذه الثلاث ، ١ ايمانا بوجود الله وإشراكا فيه ذاتا وصفات وافعالا ٢ أيمانا بوحدته في هذه الثلاث واشراكا به غيره في عبودية إما هيه من اختصاصات الألوهية ، ٣ إيمانا بوحدته هنا وهناك وإشراكا معه في لفظة قول أم حلف أماهيه؟ ..

والتوحيد المطلق يجعل الموحد منقطعا عمن سوى الله إلى الله على أية حال ، في كل حال وترحال ، ليس في قلبه إلّا حب الله ، ولا يعيش إلّا مع الله ومرضات الله ، ولا يحب إلّا الله وفي الله ، ولا يعمل إلّا لله وفي الله ، فهو على طول الخط إلى الله وفي الله كما هو من الله ، ولا يصل الى هذه القمة العالية إلّا من أخلص دينه لله فأخلصه الله ، فلا يحجب بينه وبين ربه إلّا حجاب ذات الله ، فلا هناك حجب الظلمة ولا حجب النور حتى نفسه ، متدنيا إلى الله متدليا بالله كما كان رسول الله (صلى الله عليه

٢٢٤

وآله وسلم) : (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى. فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى).

فيا ايها الناظر البصير هل تجد أجمل من وجه ربك الكريم حتى تنظر إليه؟ أو تجد أحب من الله امّن يساميه حتى تحبه دونه أم تحبه معه؟ امّن تجده أكمل منه وأرحم أو يساويه حتى تخضع لديه؟ فكيف تشرك به خلقه وهو الضلال المبين : (تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ).

(أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)(١٠٧).

لمسة قوية لمشاعرهم لو كانوا يشعرون ، تستجيش شعورهم الكامن ، «أفأمنوا» كما تدل عليه أعمالهم الهاتكة لساحة الربوبية ، الفاتكة سماحة الألوهية «أفأمنوا» حيث (رَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها) (أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ) عقوبة تغشاهم ، تلفّهم وتعشاهم (مِنْ عَذابِ اللهِ) غاشية بحرية : (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) (٢٠ : ٧٨) أماهيه من برية وجوية تغشى أبدانهم ، فهنالك موتهم عن أبدانهم ، أم غاشية تغشى أرواحهم وبصائرهم : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) (٢ : ٧) (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) (٣٦ : ٩) هذه التي تستحل لهم غشاوة العذاب في الدنيا والآخرة : (أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ) موتا كقيامة صغرى ، أم قيامة كبرى «بغتة» حيث الغيب موتا وقيامة مؤصد الأبواب ، لا تمتد إليه عين ولا أذن فما تدري نفس متى تموت أو تقوم القيامة ، (تَأْتِيَهُمْ ... وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) إتيانها فإنها مباغتة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) ماذا يتوجب عليهم وليأخذوا حذرهم ، فيا ويلاه أن تأتيهم غاشية العذاب أم ساعة الموت او القيامة وهم غافلون ، عائشين غفلة وغفوة حتى الغاشية

٢٢٥

والساعة ، وهذه الغفلة اللاشعورية غاشية فوق الغاشية : (كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ..) (٢٤ : ٤٠).

هنا غاشية من عذاب الله ، وهناك غاشية : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ. وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ. عامِلَةٌ ناصِبَةٌ. تَصْلى ناراً حامِيَةً. تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ. لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ. لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) (٨٨ : ١ ـ ٧) وأين غاشية من غاشية ، وهما من مخلفات غاشية الغفلة المعمدة!

(قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(١٠٨).

هنا يؤمر رسول الهدى أن يعرّف بسبيله للعالمين وبكيفية دعوته بشرطها الأصيل له ولمن اتبعه إعلانا صارما صارخا على أسماع العالمين وليكونوا على بصيرة من أمره.

فالسبيل هي الطريقة المنحدرة المعبّدة الهادفة إلى الغاية المقصودة ، ومنها الصراط المستقيم وهو واحد والسبل عدة : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (٦ : ١٥٣) وسبيله الوحيدة الوطيدة هي صراطه المستقيم.

ف «هذه» إشارة إلى سبيله الخاصة به وهي صراط الله المستقيم ، إشارة إلى القمة التوحيدية العالية التي لا تساوى ولا تسامى بأية درجة في مدارج العالمين ، وهي مقام قاب قوسين أو أدنى ، التي لا يخالطها أية دركة من دركات الشرك وحتى المرجوحة غير المحرمة ، ف (ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) لا تنفي ـ فقط ـ إشراك العبادة وأضرابه ، بل وكل إشراك ندّد به في الآية السالفة : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) فهو ـ إذا ـ التوحيد الخالص ، في القمة الخاصة بأوّل العابدين والموحدين. و «قل» خطابا

٢٢٦

للرسول إلى العالمين ، إعلام عام في إعلان بإذاعة قرآنية عالمية دائبة ، يعرّف فيه بمبدئه أنه على صراط من ربه مستقيم وليس (مِنَ الْمُشْرِكِينَ) لا قبل الإيمان ولا بعده.

وقد حصر سبيله في العمق بأنها (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) وإنما قدم الإيجاب : (هذِهِ سَبِيلِي ..) وهو «إلا الله» على السلب : (وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وهو «لا إله» خلاف المتعوّد المعمول في الاهتداء ، لأنه اجتاز السلب العام إلى إيجابه ، لأنه أوّل العابدين ، ثم وفي ذلك الإعلان يعرف بمحتده في سبيله أنها صراط الله المستقيم ، توحيد خالص خاص لا شرك فيه.

ولأن (هذِهِ سَبِيلِي ... وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) فأنا (أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ) دون عمى ولا تعمية ولا تخبّط او تخبيط ، فإنه اليقين البصير المستنير (وَسُبْحانَ اللهِ) أن أتخذ سبيلا غيرها أو أن أشرك به غيره ، أم أدعوا على غير بصيرة ، أم يرسل الله داعية على غير صراطه المستقيم وعلى غير بصيرة!

فسبحانه سبحانه في كل سلب وإيجاب في ابتعاث الداعية الاخيرة بتلك الدعوة الأخيرة ، أن تخالجهما أية ضلة أو زلة.

(أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ..) دعوة واحدة على بصيرة واحدة لمكان (أَدْعُوا ... أَنَا) دون «ندعوا» حتى يشمل (مَنِ اتَّبَعَنِي) ف (وَمَنِ اتَّبَعَنِي) يدعوا كما أنا أدعوا ، وإلا فليكن «ندعوا ..» ف (أَدْعُوا ... وَمَنِ اتَّبَعَنِي) تجعل دعوة من اتبعه دعوته ، فليكن في سبيله وعلى بصيرته ، يحذو محذاه وينحو منحاه ، فليس «من اتبعني» إلّا من رباه كما رباه الله ، دون أي فارق إلّا أنه مبدء الدعوة وهم منتهاه ، يأخذ منه كل ما أخذه بالوحي ثم يعطي الآخرين كما أعطاه ، دون اختلاف عنه ولا قيد شعرة ، فليكن (وَمَنِ اتَّبَعَنِي) هم المعصومون من عترته الطاهرين سلام الله عليهم

٢٢٧

أجمعين ، فهم كنفسه في سبيله ودعوته ببصيرته ، رفاقا معه دون فراق إلّا في الأبد ان ، فهم كما يقول صادقهم (عليهم السلام) وكلهم صادقون : «أولنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) آخرنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أوسطنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وكلنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)».

فلأنه لا بد لهذه الدعوة الأخيرة استمراريتها إلى الأيام الأخيرة ، فلا بد لها بعد صادعها الاوّل من حملة معصومين على طول خط الرسالة ، وكما نعتقده في الائمة الاثنى عشر من أمير المؤمنين علي (عليه السلام) إلى القائم المهدي عجل الله تعالى فرجه ، ف «ذاك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) والأوصياء من بعدهم» (١).

فهم أولاء الأكارم ، الذين عناهم الله في آية الدعوة الرسالية المعصومة ، فإنهم «أول من اتبعه على الإيمان به والتصديق له وبما جاء به من عند الله عز وجل» (٢). دون سواهم وإن كانوا من العلماء الربانيين ، فان

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٤٧٦ ح ٢٣٨ في اصول الكافي باسناده عن سلام بن المستنير عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) قال : ذاك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ...

وفي روضة الواعظين للمفيد قال الباقر (عليه السلام) في الآية : علي اتبعه.

(٢) في الكافي علي بن ابراهيم عن أبيه عن بكر بن صالح عن القاسم بن يزيد عن أبي عمر والزبيري عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قلت له اخبرني عن الدعاء الى الله والجهاد في سبيله اهو لقوم لا يحل الا لهم ولا يقوم به الا من كان منهم؟ ام هو مباح لكل من وحد الله عز وجل وآمن برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن كان كذا وكذا فله ان يدعوا الى الله عز وجل والى طاعته وان يجاهد في سبيله؟ فقال : ذلك لقوم لا يحل الا لهم ولا يقوم بذلك الا من كان منهم ، قلت : من أولئك؟ قال : من ـ

٢٢٨

بصيرتهم تخالطها وتخالجها غير بصيرة مهما كانوا في أخطاءهم غير العامدة معذورين ، وأنهم ـ أيا كانوا ـ ليسوا على صراطه المستقيم ، ولا خارجين عن الشرك كله إلى الإيمان كله.

صحيح (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) ببصارة الفطرة والعقل ثم الشرعة التقليدية ، ولكنها ليست بصيرة معصومة ، والداعية إلى الله يجب أن يكون على بصيرة بالوحي معصومة ، إضافة إلى بصارة العقل والفطرة وأين بصيرة من بصيرة؟!

هنا نعرف بيقين أن الخلافة الرسالية الإسلامية لزامها العصمة الرسالية تستمر دعوة الداعية الصادعة بعيدة عن الأخطاء ، ف «من اتبعني» تخص الإتّباع المطلق لا مطلق الإتّباع ، حتى الذي فيه أخطاء عامدة أم ساهية قاصرة ، بل هو اتباع دون أي تخلف وشذوذ ، وكما اتبع الرسول وحي الله

__________________

ـ قام بشرائط الله عز وجل ومن لم يكن قائما بشرائط الله في الجهاد على المجاهدين فليس بمأذون له في الجهاد ولا الدعاء الى الله حتى يحكم في نفسه ما أخذ الله عليه من شرائط الجهاد ، قلت : فبين لي يرحمك الله ان الله تبارك وتعالى اخبر في كتابه الدعاء اليه ووصف الدعاة اليه ـ الى ان قال ـ : ثم اخبر عن هذه الامة وممن هي وانها من ذرية ابراهيم ومن ذرية إسماعيل من سكان الحرم ممن لم يعبدوا غير الله قط الذين وجبت لهم الدعوة دعوة ابراهيم وإسماعيل من اهل المسجد الذين اخبر عنهم في كتابه انه اذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، الذين وصفناهم قبل هذا في صفة امة ابراهيم (عليه السلام) الذين عناهم الله تبارك وتعالى في قوله : (أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) يعني اوّل من اتبعه على الايمان به والتصديق له وبما جاء به من عند الله عز وجل من الامة التي بعث فيها ومنها وإليها قبل الخلق ممن لم يشرك بالله قط ولم يلبس ايمانه بظلم وهو الشرك ...» وفي التهذيب في الدعاء بعد صلاة يوم الغدير المسند الى الصادق (عليه السلام): ربنا آمنا واتبعنا مولانا وولينا وهادينا وداعينا وداعي الأنام وصراطك المستقيم السوي وحجتك وسبيلك الداعي إليك على بصيرة هو ومن اتبعه وسبحان الله عما يشركون بولايته وبما يلحدون وباتخاذ الولايج دونه.

٢٢٩

تعلما واعتقادا ونشرا وتطبيقا.

هذه هي الدعوة الاولى كحجر الأساس لها من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وخلفاءه المعصومين (عليهم السلام) ومن ثم العلماء الأتقياء ، الأفضل منهم فالأفضل بشروطاتها الأساسية المسرودة في آيات الدعوة والأمر والنهي ك (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)

دعوة مستمرة على بصيرة ممن هو على صراط مستقيم أو سبيل قويم ، وهو أحق أن يتّبع ممن سواه : (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ).

أجل وإن أصحاب الدعوة إلى الله لا بد لهم من ذلك التميّز البارع ، إعلانا ـ منذ البداية ـ لما هم عليه دون تزعزع ولا ممارات ، ولما يدعون إليه دون مجارات وأنصاف حلول ، صراطا مستقيما لا حول عنه!.

وتلك هي السنة السنية الرسالية في كل خطوطها بكافة بنودها بمن يحملونها في خيوطها طول الزمان وعرض المكان :

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ)(١٠٩).

(وَما أَرْسَلْنا ... إِلَّا) حصر للرسالة الأصيلة الإلهية في رجال من جنس الإنس ، دون نساء منهم مهما بلغن الذروة من الكمال ، ولا من الجن وسواهم رجالا ولا نساء ، مما يدل على حصر الرسالة في بعدي الرجولة والإنسانية ، فلا تنافي الآيات الصريحة او اللامحة في رسالة الجن فانها على هامش رسالة الإنس ، ولا الرسالة فيمن سوى الجن والانس حيث المجانسة شرط في الرسالة بين الرسول والمرسل إليهم ، إذا فأصل

٢٣٠

الرسالات الإلهية للعالمين ومحورها الأصيل رجال من الإنس ، مهما حملها رجال من الجن وسائر العالمين كخلفاء لرسل الإنس ، ثم يحملها في دعوة عليمة سليمة كل من تحملها علما وعملا صالحا رجالا ونساء وكما في واجب الدعوة والأمر والنهي ف (الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ..) (٩ : ٧١).

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) منذ بداية الرسالات (إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) لا ملائكة كما كانوا يزعمون ويقترحون ، ولا سواهم (إِلَّا رِجالاً ... مِنْ أَهْلِ الْقُرى) بشرا مثلك وأمثالهم من أهل المجتمعات البشرية ، حيث القرية هي المجتمع أيا كان ، في مدينة أو ضاحية أما هيه.

فلست أنت بدعا من الرسل ، فإنك رسول كسائر الرسل ، رجل من أم القرى كما هم من أهل القرى ، مهما بان البون بينك وبين سائر الرسل كما البون بين أم القرى وسائر القرى.

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) حاضرها وغابرها ، تاريخا جغرافيا وجغرافيا تاريخيا عن شئون الرسالات الإلهية ، أفلم يسيروا فيها لينظروا رجالات الرسالات أنهم كما أنت من أهل القرى (نُوحِي إِلَيْهِمْ) ثم (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الذين أرسل إليهم «حيث» رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها «فأنكروا رسالات ربهم» (وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) : الدنيا وهم فيها ، تقوى عن طغوى النكران (أَفَلا (١) تَعْقِلُونَ) في أنفسكم ، وفيما تنظرون من الذين من قبلكم؟

ولعمر الله إنها هزّة فظّة تهز القلوب حتى المقلوبة المتجبرة ، الجاسية القاسية المتكبرة ، فلحظات الاسترجاعات الخيالية لحركات الطاغين وسكناتهم وخلجاتهم ، فإذا هم على حين غفلة وغفوة لا حس لهم ولا حسيس ولا حركة ، قصورهم خاوية ، ودورهم خالية ، طواهم الموت طيا

٢٣١

ولا فوت ، فتلك مصارعهم بين آونة وأخرى ولات حين مناص.

إنها تهز هزة وتفز فزة فظه ، مهما يكن القلب خاويا ، وجاسيا قاسيا ، فكيف لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد؟!

(أَفَلا تَعْقِلُونَ) عقل دراية ، فتعتبروا بعاقبة المكذّبين قبلكم ، وما قاساه رسل الله منهم :

(حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)(١١٠).

أترى من هم الذين (ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا)؟ أهم الرسل لقرب المرجع؟ فمن كذبهم؟ أهم المرسل إليهم؟ وقد علموا أنهم كذّبوهم طول التاريخ الرسالي أشد تكذيب دون ان يكذبوهم! ويظنوا! وإنما يكذبهم المنافقون فيما يدعون من الإيمان ، و «حتى إذا» غاية الأمر لكل الناكرين دون خصوص المنافقين!

ثم وكلّ من كذبهم نفاقا ، وتكذيبهم كفرا ، معلوم لدى الرسل ملموس ، والنص «ظنوا»! ولقد ظن ناس (أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا)(١) ونحن نكذب قولتهم بروايتهم حيث النص «كذبوا» وكما يروى عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) (٢) كما وتكذب الرواية القائلة أن الرسل ظنوا أنهم كذبوا في

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٤١ ـ اخرج ابن مردويه من طريق عروة عن عائشة ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قرء (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) بالتشديد.

(٢) المصدر اخرج ابن مردويه من طريق عمرة عن عائشة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قرء (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) مخففة واخرج ابن مردويه من طريق أبي الأحوص عن ابن مسعود قال حفظت عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في سورة يوسف (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) مخففة.

* المجمع بين احتمالي ظن الرسل والمرسل إليهم اجمع وأجمل كما بيناه على ضوء الآية ٢١٤ ـ البقرة فراجع.

٢٣٢

وعد الله والعياذ بالله من هذه المقحمات الزور (١) وكيف ييأس الرسل من نصر الله لحد ظنوا أنهم كذبوا في وعد الله و (لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) فضلا عن ظنهم!.

إذا ففاعل الظن والكذب هم المرسل إليهم المدلول عليهم ـ على بعدهم ـ ب «حتى إذا» حيث تتحدث عن الغاية التي انتهوا اليه امام رسلهم (.. كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ... حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ ..) ومم استيأس الرسل ، أمن نصر الله وروحه؟ و (لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) (٨٧)!

أم استيأسوا من إيمان هؤلاء النسناس إذ كذّبوهم لحد (ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) في وعد النصر ، فكذلك الأمر وكما في روايات (٢) والآية : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٤٧٨ ج ٢٤٨ القمي في الآية حدثني أبي عن محمد بن أبي عمير عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : وكلهم الى أنفسهم فظنوا ان الشياطين قد تمثلت لهم في صورة الملائكة ، وفي تفسير العياشي عن ابن شعيب عنه (عليه السلام) قال : وكلهم إلى أنفسهم أقل من طرفة عين ، أقول وتكذبهما الروايات التالية.

(٢) المصدر في تفسير العياشي عن زرارة قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) كيف لم يخف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما يأتيه من قبل الله ان يكون ذلك مما ينزع به الشيطان؟ قال : فقال ان الله إذا اتخذ عبدا رسولا انزل عليه السكينة والوقار وكان يأتيه من قبل الله مثل الذي يراه بعينه وح ٢٥١ في عيون الاخبار في باب مجلس الرضا (عليه السلام) عند المأمون في عصمة الأنبياء (عليهم السلام) باسناده عن علي بن محمد بن الجهم قال حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا (عليه السلام) فقال له المأمون يا بن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أليس من قولك ان الأنبياء معصومون؟ قال : بلى قال فما معنى قول الله عز وجل ـ الى ان قال ـ فاخبرني عن قول الله تعالى : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا) قال الرضا (عليه السلام) يقول الله تعالى : «حتى إذا استيأس الرسل من قومهم فظن قومهم ان ـ

٢٣٣

تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) (٢ : ٢١٤).

وإنها ساعات حرجة محرجة للذين آمنوا أن يظن الكافرون أن الرسل كذبوا في وعد النصر ، فالباطل ـ إذا ـ يتنفش ويغدر ويبطش ، والرسل ينتظرون نصر الله كما وعدوا ، وهنالك زلزال المؤمنين إذ تهجس في خواطرهم الهواجس.

في تلكم اللحظات التي يستحكم فيها الكرب ويأخذ فيها الضيق بمخانق المؤمنين ، ولا تبقى ذرة مثقال من الطاقة المدخرة لهم (جاءَهُمْ نَصْرُنا) فيرتاح له المؤمنون ويرتاع به الكافرون ، ويحظوا به المرسلون (فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ) من الرسل من زلزال المؤمنين حيث هالهم ، والمؤمنون من مخالفتهم بالبأساء والضراء ، ثم (وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) البأس الذي فيه دمارهم وبوارهم :

تلك هي سنة الله في الدعوة والداعية ، ان عليهم تكريس كافة طاقاتهم في الدعوة الى الله ، والتصبر في كافة المضايق على أذى الناكرين ولظاهم ، انتظارا للانتصار من الله بعد تقطع الأسباب وتقلب القلوب ، وتحير الألباب.

أجل وليس النصر رخيصا على الأبواب ، إلّا بعد استئصال الأسباب

__________________

ـ الرسل قد كذبوا جاء الرسل نصرنا ، فقال المأمون : لله درك يا أبا الحسن (عليه السلام).

٢٣٤

باستعمالها في كل باب ، ومن ثم (جاءَهُمْ نَصْرُنا) ـ (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) (٣٧ :) ١٧٣) ولكنما الشدائد في هذه السبيل الشاقة الطويلة الملتوية المليئة بالأشلاء والدماء ، إنها لا يصمد لها إلّا الواثقون بوعد الله ، الصادقون في إيمانهم بالله ، فهم ـ إذا ـ لا يتخلون عن الدعوة إلى الله مهما بلغت بهم الشدائد وحتى إن ظن الكافرون أنهم كذبوا ، وزلزل المؤمنون انتظارا للانتصار.

وكيف يستعجل الداعية أجل النصرة وهو يواجه طواغيت يملكون المال والقوة واستخفاف الجماهير واستحمارهم ، ويملكون تأنيبهم بتأليب الجماهير الجاهلة ضدهم.

درسنا في قصص الصديق ألوانا من الشدائد ، في الجب وبيت العزيز وأمام نسوة في المدينة وفي السجن ، فصبر واصطبر دونما زعزعة لعرش رجاءه بنصر الله حتى جاءه نصر الله ، لا على إخوته فحسب ، بل وعلى العزيز والعزيزة ورجال الحاشية وفرعون نفسه ، فيا له من قصص بارع فيه عبرة لأولى الألباب :

(لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(١١١).

«قصصهم» عله ـ فقط ـ قصص يوسف وإخوته : (لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ) وقد يعنيهم وقصص الرسل ككل ، ف (ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى) ـ إذا ـ يعم قصص القرآن ككلّ : (كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً) (٢٠ : ٩٩) (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) (١١ : ١٢٠).

٢٣٥

والعبرة هيئة خاصة من العبور ، فهي ـ إذا ـ انتقالة من حالة إلى أخرى أحسن منها : من غفلة إلى ذكرى ، وذلك طبيعة الحال في أولي الألباب ، وهي لباب العقول ، فحين يستعمل العقل سليما تتحلل عن القشور الحاجبة ، فتصل إلى الأوامر الواجبة.

«ما كان» قصص يوسف وإخوته ، ولا كل القصص القرآنية (حَدِيثاً يُفْتَرى) أن يفتريها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على الله دونما وحي ، فلو كان القرآن مفترى والتورات والإنجيل وحيا لكان كلام البشر أفضل وأتم من كلام الله : (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٠ : ٣٨).

ف «ما كان» دون «ليس» نفي باتّ مؤكد عن كينونة القرآن أن يفترى من دون الله ، بطبيعة الحال في القرآن نفسه حين يتدبر في آياته وتقاس بسائر الوحي السابق عليه ، حيث الرجاحة في القمة باهرة فيه دون ريب يعتريه.

وهنا للقصص القرآن او القرآن ككل مواصفات عدة مستفادات من القرآن نفسه دون ادعاءات خاوية عن البرهان :

(١) (عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) حيث ينقلهم من حالاتهم الرديئة جهلا وجهالة وغفوة وغفلة إلى حالات حسنة بديعة علما وذكرى ونبهة وحفوة.

(٢) (ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى) كما يعرف من تدبّره وقياسه إلى سائر الوحي.

(٣) (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) من وحي ناصع واصب ، ومن حديث الفرية ما كان من أهل الكتاب إذ يرون خلافات بين هذا القرآن

٢٣٦

وكبتهم ، في حين يرون أنها هي الأصل فيقاس عليها القرآن ، فما وافقها منه فمأخوذ من كتبهم ، وما خالفها فمفترى على الله! ، فالنفي «ما كان ..» نفي للفرية «ولكن» إثبات لوحيه إذ يصدق الذي بين يديه ، وليس هو الكتب الرائجة بينهم فإنها بين أيديهم لا بين يديه ، ولا يعني (بَيْنَ يَدَيْهِ) هنا وفي ساير القرآن إلّا ما نزل على أنبياء الله من قبل ، دون المحرف المفترى! كما عرفنا الفوارق بين قصص يوسف وإخوته هنا وفي التورات.

(٤) (وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ) يحتاجه العالمون إلى يوم الدين ، وهو زيادة على «ما بين يديه» ـ (وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) (١٧ : ١٢).

وهذه كليّة شاملة لا تشذ شيئا يحتاجه العالمون ، دون سائر الوحي ، كما التورات : (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ ..) (٧ : ١٤٥) ف «من» لمحة لامعة إلى تبعيض موعظة وتفصيلا ، ف «كل شيء» كما «موعظة» هما المحتاج إليه في الشرعة الإسرائيلية في دورها المحدود ، إضافة إلى الفرق بين (تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ) (وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) حيث التنوين التنكير يشير إلى التبعيض المستفاد من «من».

فالقرآن هو تفصيل مطلق للكتاب المكنون عند الله : (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٠ :) ٣٧) (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً) (٦ : ١١٤).

وسائر كتابات الوحي هي مطلق تفصيل للكتاب دون شمول يعم كل زمن التكليف.

(٥) «وهدى» زائدة على الهدى السابقة عليه في سائر كتابات الوحي.

٢٣٧

(٦) (وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ليست هي لناكريه مهما كان أهل كتاب من عهد قديم أم جديد ، وحيث البون بين (هُدىً وَرَحْمَةً) هنا وهناك شاسع واسع ، بونا بين المحدود بزمن والشامل لكل الزمن ، مع العلم أن الهدى المحدودة محرفة عن جهات أشراعها فلا تصلح حتى لزمنها المحدود.

فالقرآن بمنظار الإيمان (هُدىً وَرَحْمَةً) وبمنظار تفتيش الواقع (ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ ..) وبمنظار الألباب «عبرة» فهو في ذلك المثلث الرائع تبصرة وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد»!

وهكذا يتوافق المطلع والختام في قصص يوسف وإخوته ، وقد يختلف عن سائر قصص القرآن فإنها مقصوصة مبثوثة في مختلف المناسبات ، ولكن قصة يوسف مسرودة مترتبة في سورة واحدة لأن طبيعتها تستلزم هذا اللون من العرض ، حيث الحلقات الأصيلة المذكورة منها متلاحقة ، وهي تشكّل قصة واحدة لو قصّت وبثّت في مختلف المجالات لم تكن عبرة كما هي في مواصلتها ، دون سائر القصص حيث تقتص منها حلقات بقلة او كثرة دون تمام في مختلف المناسبات إذ تكفي عبرة ونبهة كقصص نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن دونهم من رسل جاءت قصصهم في مختلف القرآن.

٢٣٨

سورة الرّعد مدنيّة

وآياتها ثلاث وأربعون

٢٣٩
٢٤٠