الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٥

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٥

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٦

يا عظماه كيف يصبح العبد السجين مالكا لمولاه فيعبّده لله؟ اجل و «ان الحر حر على جميع أحواله ، ان نابته نائبة صبر لها وإن تداكت عليه المصائب لم تكسره ، وإن أسر وقهر واستبدل بالعسر يسرا كما كان يوسف الصديق الأمين (عليه السلام) لم يضر حريته ان استعبد وقهر وأسر ، ولم يضرره ظلمة الجب وحشته وما ناله ـ أن من الله عليه فجعل الجبار العاتي له عبدا بعد أن كان له مالكا فأرسله ورحم به أمة ، وكذلك الصبر يعقب خيرا ، فاصبروا ووطنوا أنفسكم على الصبر توجروا» (١).

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٤٣٤ ح ١٠٨ في اصول الكافي باسناده عن أبي بصير قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول ...

١٤١

(وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٨) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (٦٠) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (٦١) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٦٢) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٦٣) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٦٤) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (٦٥) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ

١٤٢

مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٦٦) وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (٦٧) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦٨) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٩) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (٧٠) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ (٧١) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (٧٢) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ

١٤٣

ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (٧٣) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (٧٤) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٧٥) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (٧٦) قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (٧٧) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٧٨) قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (٧٩) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ

١٤٤

فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٠) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (٨١) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ)(٨٢)

(وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ)(٥٨).

بين مجيئهم هذا ومجيئهم يومذاك ليجعلوه في غيابت الجب أمة بعيدة من الزمن ، علها لا تقل عن عشرين عاما (١) وبعد ما يجتاح الجدب والمجاعة مصر وما حولها بكنعانها ، فيحتاج أهلوها إلى فائض غلة مصر المتسامع أنه من السبع السمان الرخاء ، (٢)(جاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ) وطبعا في أوّليات سنّي السبع الشداد!

__________________

(١) فبينه وبين ان بلغ أشده في بيت العزيز سنة او سبع سنين إذ كان حين اشتراه العزيز قرابة التسع ثم بضع السجن سبع ، ثم السبع الاولى وهي سني الرخاء.

(٢) وهنا تستمر التورات في الاصحاح ٤٢ ـ ٤٣ من التكوين القصص ما نلخصه كالتالي : انه لما عمت السنة ارض كنعان امر يعقوب بنيه ان يهبطوا الى مصر فيأخذوا طعاما فساروا ودخلوا على يوسف فعرفهم وتنكر لهم وكلمهم بجفاء وسألهم من اين جئتم؟ قالوا : من ارض كنعان لنشتري طعاما قال يوسف : بل جواسيس أنتم جئتم الى أرضنا لتفسدوها قالوا : نحن جميعا أبناء رجل واحد في كنعان كنا اثنى عشر أخا فقدمنا واحد وبقي أصغرنا ها هو اليوم عند أبينا والباقون بحضرتك ونحن جميعا أمناء لا نعرف ـ

١٤٥

__________________

ـ الفساد والشر ـ قال يوسف : لا وحياة فرعون نحن نراكم جواسيس ولا نخلي سبيلكم حتى تحضرون أخاكم الصغير حتى نصدقكم فيما تدعون فامر بهم فحبسوا ثلاثة ايام ثم أحضرهم وأخذ من بينهم شمعون وقيده امام عيونهم واذن لهم ان يرجعوا الى كنعان ويجيئوا بأخيهم الصغير ـ ثم امر ان يملأ أوعيتهم قمحا وترد فضة كل واحد منهم الى عدله ففعل فرجعوا الى أبيهم وقصوا عليه القصص فأبى يعقوب ان يرسل بنيامين معهم وقال : اعدمتموني الأولاد يوسف مفقود وشمعون مفقود وبنيامين تريدون ان تأخذوه لا يكون ذلك ابدا وقال : قد اسأتم في قولكم للرجل : ان لكم أخا تركتموه عندي قالوا : انه سأل عنا وعن عشيرتنا قائلا : هل أبوكم حي بعد؟ وهل لكم أخ آخر! فأخبرناه كما سألنا وما كنا نعلم انه سيقول : جيئوا إلي بأخيكم ، فلم يزل يعقوب يمتنع حتى أعطاه يهوذا الموثق ان يرد اليه بنيامين فاذن في ذهابهم به ومعهم وأمرهم ان يأخذوا من احسن متاع الأرض هدية الى الرجل وان يأخذوا معهم اصرة الفضة التي ردت إليهم في أوعيتهم ففعلوا.

ولما وردوا مصر لقوا وكيل يوسف على أموره واخبروه بحاجتهم وان بضاعتهم ردت إليهم في رحالهم وعرضوا له هديتهم فرحب بهم وأكرمهم وأخبرهم ان فضتهم لهم واخرج إليهم شمعون الرهين ثم أدخلهم على يوسف فسجدوا له وقدموا اليه هديتهم فرحب بهم واستفسرهم عن حالهم وعن سلامة أبيهم وعرضوا عليه أخاهم الصغير فأكرمه ودعا له ثم امر بتقديم الطعام فقدم له وحده ولهم وحدهم ولمن عنده من المصريين وحدهم ـ ثم امر وكيله ان يملأ أوعيتهم طعاما وان يدس فيها هديتهم وان يضع طاسه في عدل أخيهم الصغير ففعل فلما أضاء الصبح من غد شدوا الرجال على الحمير وانصرفوا.

فلما خرجوا من المدينة ولما يبتعدوا قال لوكيله أدرك القوم وقل لهم : بئس ما صنعتم جازيتم الإحسان بالاساءة سرقتم طاس سيدي الذي يشرب فيه ويتفأل به : فبهتوا من استماع هذا القول وقالوا : حاشانا من ذلك هوذا الفضة التي وجدناها في أفواه عدلنا جئنا بها إليكم من كنعان فكيف نسرق من بيت سيدي فضة او ذهبا من وجد الطاس في رحله يقتل ونحن جميعا عبيد سيدك فرضي بما ذكروا له من الجزاء فبادروا الى عدو لهم ـ

١٤٦

وها نحن ممن نشهدهم أولاء (فَدَخَلُوا عَلَيْهِ) ويا لروعة المشهد حينذاك بعد هذا الفصل الطويل؟ أتظن أنه لا يعرفهم كما لا يعرفونه؟ كلا! (فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ).

تراه كيف عرفهم والفصل طائل ، وسعار الملك حائل؟ إنه «عرفهم» كما هي طبيعة الحال في كل مظلوم يعرف ظالمه مهما طال الزمن وتطاولت المحن ، فضلا عن يوسف النبي حيث يعرف الأغارب بسيماهم فضلا عن الأقارب ، ومن ثم فهذه معرفة قاصدة إلى تعرّف أبويه بمكيدة إلهية ، ان يوسف قد اجتباه الله كما في تأويل رؤياه ، ينبه بذلك أباه ، ثم ولم يكن من هؤلاء الملوك الذين يزدهون بزهوة الملك ، فيحول بينه وبين إخوته سعاره وكباره!

(وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) كما أنكروه حين جعلوه في غيابت الجب ، وهم الآن لا يخلد بخلدهم أنه حيّ ، وحتى في حياته فأين غلام عبراني يشرى بثمن بخس دراهم معدودة وذلك الملك العظيم في هيله وهيلمانه وحيطة

__________________

ـ وانزل كل واحد منهم عدله وفتحه فأخذ يفتشها وابتدأ من الكبير حتى انتهى الى الصغير واخرج الطاس من عدله.

فلما رأى ذلك اخوته مزقوا ثيابهم ورجعوا الى المدينة ودخلوا على يوسف واعدوا عليه قولهم معتذرين معترفين بالذنب وعليهم سيماء الصغار والهوان والخجل فقال : حاشا ان نأخذ الا من من وجدنا متاعنا عنده واما أنتم فارجعوا بسلام الى أبيكم فتقدم اليه يهوذا وتضرع اليه واسترحمه وذكر له قصتهم مع أبيهم حين أمرهم يوسف بإحضار بنيامين فسألوا أباهم ذلك فأبى أشد الاباء حتى أتاه يهوذا الميثاق على ان يرد بنيامين اليه وذكر انهم يستطيعون أن يلاقوا أباهم وليس معهم بنيامين وان أباهم الشيخ لو سمع منهم ذلك لمات من وقته ثم سأله ان يأخذه مكان بنيامين عبدا لنفسه ويطلق بنيامين لتقر بذلك عين أبيهم المستأنس به بعد فقد أخيه من امه يوسف ...

١٤٧

واسعة له من غلمانه ، ومهابة مهيبة لسلطانه ، وحتى لو عرفوه ف (هُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) أن يعرفهم وهم ظالموه وهو في سطوته وجبروته! وقد أخبره الله تعالى بذلك من ذي قبل وهو في غيابت الجب كأوّل ما أوحى إليه (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) وذلك إنباءهم بما فعلوا بيوسف وهم لا يشعرون (هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) (٨٩)؟ فأنّى لهم معرفته من قبل إذ واجهوه لاوّل مرة ولمّا يعرفوه بزمن بعدها؟!

في ذلك المشهد الرائع ليس يوسف ليكشف عن نفسه ولا يلمح لهم بحاله إذ لا بد لهم منذ لقاءه من دروس يدرسونها ، وبليات يبتلون بها بما قدمت لهم أنفسهم (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ).

(وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ)(٥٩).

(جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ) الذي كانوا يطلبون وفق بضاعتهم ، وطبعا طلب إليهم تعريفهم بأنفسهم وأهليهم حتى يفصح بقوله : (ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) فإن في إفصاحه دونما استفساره تلميحا لهم فاستلهام منهم أنه من هو؟ وعليه في ذلك المسرح التخفي عن كل ملمح ليكيد كيده ، فقد أنزلهم لمّا جاءوه خير إنزال ، وتركهم يأنسون إليه بكامل الأنس ، واستدرجهم حتى عرّفوه بأنفسهم لحد عرف أن لهم أخا من أبيهم لم يأتوا به ، فلما جهزهم بحاجيات الرحلة بإيفاء كيل وخير إنزال (قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) ولمّا تلمّح منهم أن أباهم ضنين (١) عليهم بأخيهم ، ظنين ،

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٤٣٨ في تفسير العياشي عن أبي بصير قال سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يحدث قال : لما فقد يعقوب يوسف (عليه السلام) اشتد حزنه عليه وبكائه حتى ابيضت عيناه من الحزن واحتاج حاجة شديدة وتغيرت حاله وكان يمتاز القمح من مصر في السنة مرتين في الشتاء والصيف وانه بعث عدة من ولده ببضاعة ـ

١٤٨

وبخاصة بعد افتقاد يوسف أخيه ، فليس أمره ميسورا لهم ، يثني دعوته بتأكيد في ترغيب : (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ) فلكم إيفاءكم وله إيفاءه ففيه المزيد وكما قالوا بعد : (وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ). (وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) منقطع النظير في إنزال المراجعين وتكريمهم ، فلا خوف إذا من بخس مكيال ولا ركس في مقال أو حال.

وهنا (خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) يعصف بتهمته إياهم بالتجسس عبر الرياح خلافا لما يروى ، وكما في التورات ، ولأن إيفاء الكيل لا يلائم رواية الزيادة لأخيهم وأبيه

وهذه سنة سنية لاجتلاب القلوب واجتذاب العواطف العادية أو المتفلتة ، لترجع إلى طلبة موفي الكيل وخير المنزلين ، مهما كانت العقبات والصعوبات والالتواءات ثم يؤكد تأكيده بتهديد :

(فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ)(٦٠) لا كيل فضلا عن إيفاءه ، ولا إنزال فضلا عن خيره ، كلمة قاطعة ملكية لا مرد لها أبدا ، جامعة بين الترغيب والترهيب!

ولذلك تراهم يتقبلون عبء الإتيان بأخيهم من أبيهم ضرورة المعيشة فإن الضرورات تبيح المحظورات! :

(قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ)(٦١).

__________________

ـ يسيرة الى مصر مع رفقة خرجت فلما دخلوا على يوسف وذلك بعد ما ولاه العزيز مصر فعرفهم يوسف ولم يعرفه اخوته لهيبة الملك وعزته فقال لهم هلموا بضاعتكم قبل الرفاق وقال لفتيانه عجلوا لهؤلاء الكيل وأوفوهم فإذا فرغتم فاجعلوا بضاعتهم هذه في رحالهم ولا تعلموهم بذلك ففعلوا ثم قال لهم يوسف قد بلغني ان لكم اخوان لأبيكم فما فعلا؟ قالوا : اما الكبير منهما فان الذئب اكله واما الصغير فخلفناه عند أبيه وهو به ضنين وعليه شفيق قال : فاني أحب ان تأتوني به معكم إذا جئتم لتمتارون (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ ...)

١٤٩

هناك تراوده امرأة العزيز عن نفسه ، وهنا إخوته يراودون عن أخيه أباه ، وأنى مراودة من مراودة؟ ومراودتهم هذه في مختلف احتيالاتهم لاستلاب بن يامين كوعد قاطع منهم ليوسف لا مرد له (وَإِنَّا لَفاعِلُونَ) المراودة المثمرة والإتيان به في المرة الآتية. و «أباه» هنا دون «أبانا» تلمح أنهم عرفوه بأبيهم وأخ لهم من أبيهم هو أحب إلى أبيه منهم ، ولذلك لم يصاحبهم في رحلتهم هذه ، مما يؤيد أنه سألهم عن حالهم وبالهم ، حاضرهم وغائبهم ، وهو طبيعة الحال في مثل ذلك اللقاء المقصود.

وليؤكد الصديق واقع مطلوبه منهم ، ويشجع أباه على إزالة العقبات دون السماح لمجيئه يرجع بضاعتهم بصورة خفية إليهم :

(وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)(٦٢).

من هنا يبدأ كيد الله ليأخذ الصديق أخاه وليبلغ مناه (كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ..)(٧٦)! فلا تثريب على يوسف أو تعييب لماذا كادهم ذلك الطائل الغائل ، حيث كان بمرضات الله وإرادته شرعة وتكوينا.

«وقال» يوسف «لفتيانه» عبيده وغلمانه (اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ) التي سلموها لجهازهم (فِي رِحالِهِمْ) وطبعا بصورة خفية وغير مرئية (لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ) فإنها التي أدوها ، فبطبيعة الحال يعرفونها ، على احتمال بعيد ألّا يعرفوها أنها هيه ، ولذلك نترجى قريبا (لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها ..) فإذا عرفوها تشوّقا لرجوعهم مع أخيهم من أبيهم بداعية ثالثة إضافة إلى ذلك الترغيب والترهيب سلفا (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).

و «لعل» الثانية في ترجيّها ، علّها ترمي هدفين ، أولهما تعلقها ب (لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها) حيث الترجي لا يخلّف إلّا ترجيا مثله ، وثانيهما تعلقها

١٥٠

بواقع المعرفة ، فقد يعرفونها ، ومع الوصف لا يرجعون ، أم لا يستطيعون ، فما أحسنه تعبيرا أدبيا في حساب المستقبل إذ لا يحتّم شيئا من الأمرين إلا رجاء على رجاء.

فها هم الآن يرجعون إلى أهليهم ومعهم بضاعتهم في رحالهم وجهازهم بإيفاء كيل وخير إنزال مما يرغبهم ، ولكنهم على وعد أن يأتوه بأخيهم مما يرهبهم ، عائشين في هذا البين بين الخوف والرجاء ، متشاورين في طريقهم كيف يراودون أباهم عن أخيهم ، وسابق مراودتهم إياه عن يوسف قد يحول بينه وبين هواهم!

هنا ندع يوسف في مصره ، ولنشهد مشهد الجمع بينهم وبين أبيهم ماذا يقولون وكيف يفعلون؟

(فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(٦٣).

في هذه المرة لا تعني المراودة احتيالا لاغتيال ، وإنما اكتيالا لأنفسهم وآخر لأخيهم ، ولماذا هنا يتقدم (مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) وهو الأخير في ترهيب بعد ترغيب؟ علّه لأنه الحاسم لموقفهم والمحرض لسؤالهم : لماذا منع الكيل؟ ثم الجواب يضم الأوّلين : (أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) وقد يعني «منع» فيما عناه كيل أخيهم أم أبيهم ، فمهما كان أبوهم شيخا كبيرا لا يأتيه ، فأخوهم لا يعذر إذا لم يأته فلا كيل له ، وقد يشير له (وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ).

ولو لا عرضهم لما حصل عن تفصيل لم تكن صلة مقبولة بين منع الكيل وإرسال الأخ للاكتيال ، وهنا «أخانا» دون «ابنك» مزيد تأكيد لإرساله بتعطف أخوي ، وتأكيد ثان (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ).

وهم بذلك الطلب العارم الجازم يستثيرون كوامن يعقوب حيث وعده من قبل في يوسف نفس الوعد بنفس الصيغة ، وقد خالفوه! فكيف يأمن لهم بسابق كيدهم وميدهم؟ ولذلك نجده :

١٥١

(قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)(٦٤).

خلوني خلوني من وعودكم الفارغة وكلماتكم البارقة ، والعاقل لا يلدغ من حجر مرتين ، وقد لدغت لأوّل مرة والجرح لمّا يندمل ، فقد أمنتكم على أخيه من قبل حين صدقتكم ، فكيف آمنكم عليه الآن ، ثم وليس وعد الحفظ منكم بالذي يؤمنني ولو كنتم صادقين ، إذ قد تنجرفون بعد صدق أو يحاط بكم على صدق (فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً) من سواه (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) سواه ، فقد لا ترحمونه وهو الراحم ، أم ترحمون ويحاط بكم (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ).

إنه (خَيْرٌ حافِظاً) له ولأخيه (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) به وبأخيه ، فكيف تقولون في بتّ وقاطعية (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)؟

وقد يشير بحفظ الله ورحمته بعد التنديد بهم في وعدهم لبعديه (١) أنه لو أرسله معهم فليس إلّا امتحانا وايمانا بحفظ الله ، دون وعدكم البارق الفارغ.

(وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ)(٦٥).

هنا يبتغون بضاعتهم المردودة إليهم لحجة على ما يدعون ويعدون : (قالُوا يا أَبانا) نحن وأخينا «ما نبغي» بعد من العزيز وقد أوفى لنا كيلنا دون بضاعة حيث ردها خفية ، وأنزلنا عنده خير إنزال ، ووعدنا مزيدا ، ف «هذه» التي تراها وتعرف هي (بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا) ثم من بعد ذلك إذا أرسلت معنا أخانا (نَمِيرُ أَهْلَنا) ميرة الزاد فلا يظلون جياعا (وَنَحْفَظُ أَخانا) هنا من الجوع وهناك من أية حادثة ، كيف لا وهو عزيز على العزيز ، فحتى

__________________

(١) الأول هل آمنكم والثاني لستم أنتم بحافظين إذ قد يحاط بكم.

١٥٢

ولو أردنا به سوء فهو المدافع عنه ، ثم (وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ) لأخينا و «ذلك» الميرة والزيادة «كيل» هو (عَلَيْنا يَسِيرٌ) غير عسير.

وهذه محاولة تضم في جنباتها ترغيبات وترهيبات ، ان كان يعقوب يحب البقية على العائلة ومنهم بنيامين فلا بد له أن يرسله معهم.

وقد يعني «يسير» فيما يعنيه ـ يسير من العزيز الذي رد علينا بضاعتنا ، ام و «يسير» قليل ، وهنا «ذلك» يعني غير ما عناه «ذلك» هناك ، فإنه هنا «ذلك» الذي أعطانا من قبل «كيل علينا» على كثرتنا «يسير» قليل ، وهو إذا أرسلت معنا كثير حيث (نَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ).

يبدو هناك من قولهم «أرسله معنا نكتل» وهنا (نَمِيرُ أَهْلَنا ... وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ) أنهم اعتبروا أخا يوسف متاعا لهم في حاجة مدقعة يسهلون به ميرة الزاد لأنفسهم ثم (وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ) وكما يوسف من قبل (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) فكل غال ورخيص عندهم فيما يهوونه رخيص بخيس.

كما ويبدو من (وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ) أن يوسف (عليه السلام) كان يعطي كل من حضر كيل بعير ، دون ان يبيع المشتري كل ما يريد ، وإنما لكل رأس شرط الحضور ، او التأكد من محظور لعدم الحضور ، وتلك حكمة حكيمة في سنّي الجدب والمحاصرة الاقتصادية ، تنظم بها نظام العيشة العادلة للشعب ، دون أن تتحكم في مزيد الميرة زيادة مال ، او قوة وجلال.

أترى نبي الله يعقوب هل يستسلم بغيه ما يرمون من هدف الميرة وزيادة كيل بعير؟ وهل إن طلب المعاش يبرره هدر نفس محترمة له سابقة من قبل كما في يوسف؟ كلا! (قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ)(٦٦)

١٥٣

ف «لن» تحيل إرساله معهم على أية حال ، فليس نبي الله يعقوب بالذي يجعل ابنه متاعا لميرة حتى عند الضرورة ، فضلا عن هدره نفسا ، علما أو ظنا ، ولكنه يرسله على شرط يصرح به (حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ) دون أية إشارة إلى ميرة الأهل وازدياد كيل بعير ببضاعة أو دونها.

أتراه كيف يرسله معهم بموثقهم ولا ميثاق لهم كما تبين له من قبل؟ علّه لما كان يعلمه بتأويل رؤياه : (وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) أن يوسف موجود الآن بعزة ، أو أنه هو العزيز ، فبارقة الرؤيا ببارقة النبوة خارقة تخرق حجب الغيب عن يوسف وبعد زهاء العشرين.

ثم «الله (خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) ـ (وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) سياجان على ما قد يحاط به أو بهم ، وهذه الثلاث يصاحبها في هذه السفرة طلب الميرة الضرورية ، مما يرجح له أن يرسله معهم.

وترى ما هو (مَوْثِقاً مِنَ اللهِ) حيث يعتبره أصلا يحوّل مستحيله : «لن» إلى ممكنه الراجح حيث أرسله؟ ثم (وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) دليل أن موثقهم قول يوثق به ، ولا يوثق بقول ما لم يرتبط بالله من حلف بالله أو عهد مع الله ، ولذلك فالوكيل أيضا هو الله ، وثقة يعقوب بموثقهم وقد نقضوه من قبل علهّا لأنهم تحولوا عن حالتهم الأولى إلى الحسنى ، ثم ولم يكن منهم فيها موثق إلّا (إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) كمعاهدة معه لا مع الله.

وعلى أية حال أصبح واثقا بموثقهم بسائر الوثائق التي تحوطه لحدّ يرسله معهم غير مجازف ولا هارف أو خارف ، وإنما إرسال نبي على بصيرة مما يجوز عما لا يجوز.

ولماذا (اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) دون «شهيد»؟ علّه لأنه يعني رباط موثقهم بالله في تحقيقه ، كما نيط بالله في عقده (فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).

١٥٤

فإرساله ـ إذا ـ كان على ضوء شرعة الله ، والتكلان فيه على الله ، فمهما لا يأمنهم يعقوب على ابنه فهو مؤمن بالله متكل على الله فيما يقدم عليه ، وقد سمح له في شرعة الله ، فليس الاتكال على الله مما تتعامى معه الأسباب وتبطل ولا التوسل بالأسباب مما يغني عن الله ، فإنه على كل شيء وكيل ، وهو القائل (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) بجنب القول (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

لذلك نرى نبي الله يعقوب يأخذ في إرساله ابنه بكلّ حائطة ، دون اتكالية فيها إبطال الأسباب والتغاضي عنها ، ودون تحتيم عليهم أن يأتوه به باستقلال الأسباب ، فمحاولة منهم كما يقدرون (إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ) فلا تستطيعون حيطة بكم فلا ترجعون ، أم لا يرجع أخوكم ، فإنما المحظور التقصير في واجب الإتيان به لا القصور.

(وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ)(٦٧).

وترى ما هو باب واحد وأبواب متفرقة؟ هل هي أبواب القصر؟ فما هو الفارق بين دخولهم من أبواب متفرقة أم باب واحد كما دخلوا من ذي قبل ، أمّا هيه من أبواب؟

قد تعني أبواب القصر المتفرقة خوفة من عين او حسد ، ان يحاط بهم جميعا أو الثلاثة كلها فإنها كلها مخيفة ، إلا أن (ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) لا تلائم الأولين ، إذ لم يحسدوا ولا اخذتهم عين ، بل أحيط بهم في أخيهم.

(وَما أُغْنِي عَنْكُمْ) دليل على خيفة ما عليهم لا مردّ لها ، و «ان الحكم ـ المتوكلون» تبصرة لهم منه أن هذه الحائطة ليست لتغني عنكم من الله من شيء ، ولكن التوسل بالأسباب لزام كل سلب وإيجاب ، على علم أنه (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) لا للأسباب ، لذلك «وعليه» لا

١٥٥

سواه (فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) فالمسموح لنا إنما هو التوسل بالأسباب ، لا والتوكل عليها ، بل هو على الله ف (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ).

فالإتكال ـ الاستقلال ـ على الأسباب إشراك بالله ، والاتكال على الله فيما له أسباب دون توسل بها انعطال لها يخالف أمر الله : (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) ويخالف تكوين الأسباب في دار الأسباب ، فإنما هو توسل صالح بالأسباب المناسبة المعنية لما تروم متوكلا على الله ، عارفا بأنه (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ).

ف «العين حق» (١) وتأثير الحسد حق : (وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ) شرا بفعله عن حسد ، ام تأثيرا من نفس الحاسد وكما تؤثر العين ، فليست أسباب الشر لتنحصر في أعمال الجوارح ، وتنحسر عن أعمال الجوانح ، بل هي أقوى منها أحيانا ، وكلما كانت الأرواح أقوى في خير أو شر فتأثيراتها كذلك أقوى من خير أو شر ، في تقوى أم طغوى.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ١٨ : ١٧٣ قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) والعين حق ولو كان شيء يسبق القدر لسبقت العين القدر» وفيه ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعوذ الحسن والحسين فيقول : أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة ، وفيه روى عبادة بن الصامت قال دخلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أول النهار فرأيته شديد الوجع ثم عدت اليه آخر النهار فرأيته معافى فقال : ان جبرئيل (عليه السلام) أتاني فرقاني فقال : بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك ومن كل عين وحاسد الله يشفيك قال (صلى الله عليه وآله وسلم) فأفقت وفيه روى ان بني جعفر بن أبي طالب كانوا غلمانا بيضا فقالت اسماء يا رسول الله ان العين إليهم سريعة فأسترقي لهم من العين فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) لها : نعم وفيه دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بيت ام سلمة وعندها صبي يشتكي فقالوا : يا رسول الله أصابته العين فقال : أفلا تسترقون من العين.

وفي المجمع عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ان العين حق والعين تستنزل الحالق.

١٥٦

ولئن سئلنا كيف تؤثر العين وأضرابها و (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ)؟ فالجواب أن «لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين» فكما أن سائر الشرور من سائر الأشرار ليس ليمنعها الله تكوينا إلّا لحكمة كما في نار إبراهيم ، كذلك شر العين والحسد أماذا.

ومع كل هذه التفاصيل في تأثير العين والحسد ، فلا عين ولا أثر من عين ولا حسد إلّا حاجة في نفس يعقوب قضاها :

(وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(٦٨).

دخولهم من حيث أمرهم أبوهم من أبواب متفرقة (ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) حيث أحيط بهم في أخيهم من أبيهم ، بل وهكذا دخول فسح المجال ل (حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها) وهو لقيا يوسف ولا معدّله ظاهريا إلّا (آوى إِلَيْهِ أَخاهُ) وليس أمرا عاديا إلّا أن يدخل هو من غير الأبواب التي دخلوها ، فله أن يستقبل أخاه ويؤويه إليه دونهم من حيث لا يعلمون ، ثم (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ) قد لا تمت بصلة لحاجة في نفس يعقوب إلّا أن يكون لقيا يوسف مما علمه كخلفيّة من خلفيات إرسال ابنه ودخولهم من أبواب متفرقة ، وهنا يتأكد انه لم يرسله لمجرد موثقهم ليأتنّه به.

أما أن دخولهم من أبواب متفرقة مخافة عين أو حسد أو حيطة ، هو ـ فقط ـ (حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها) فلا يناسب (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ) وهو كسبب ل «حاجة» وتعليل لها ، ولا أن حاجته قضيت بذلك إذ (ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) وليست هذه الحائطة التي تخلفت عن النتيجة حاجة مقضية.

إذا فاللامح من جنبات الآية هو أن دخولهم من أبواب متفرقة قضى حاجة في نفس يعقوب ، حيث سهل أمر المكيدة الصالحة ليوسف في إبقاء أخيه عنده وإلى لقيا والديه معه.

١٥٧

(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) أن هذه الأسباب والحياطات في ترتيبها لا يغني عن أصحابها من الله من شيء ف (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) وأن دخولهم هكذا قضى حاجة في نفس يعقوب ، وأن يعقوب (لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ) من طريقة لقضاء حاجته.

واحتمال آخر هو الآخر ، أن دخولهم كما أمر ما كان يغني إلّا حاجة في نفس يعقوب قضاها دون أن يعلم ، فقد قدم حيطة لرجوع ابنه ما لم يقضه ، بل قضى حاجته الأصيلة دون أن يعلم ، (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ ..) إذا يعني ان أمره أيّا كان كان عن تعليم إلهي مهما لم يعلم أن النتيجة هي حصول أصل الحاجة.

وهذه من الرحمات الخفية الإلهية أنه قد يبتلي عباده الصالحين بما ظاهره العذاب ولكن باطنه من قبله الرحمة ، يطلب أمرا ويدعو له ويقدم للحصول عليه كل إمكانياته ، ويقضي الله له أمرا آخر دونه وهو حاجة أصلية ، وما تطلّبه بالنسبة لها كمقدمة من حيث هو لا يعلمها.

وهنا ندرس ألّا مغني عن الإنسان أيا كان من الله من شيء في الأسباب التي يتوسل بها ، حيث الإذن تكوينا في كل خير أو شر انما هو من الله ف (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) دون أية علة او اسباب ، فهو تمام العلل ومتممها ، كما هو خالقها ومعلّلها ، دون ان يكون هناك جبر كما لا تفويض ، وانما امر بين أمرين.

كما وندرس ان على الإنسان تقديم كافة المحاولات والإمكانيات والحائطات للوصول الى مرامه ومرامه دون استقلالية فيها ولا اتكالية عليها ولا على الله بترك الأسباب ، اللهم إلّا فيما لا حول له ولا قوة فالدعاء من الله والاستدعاء.

وأخيرا ندرس من (لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ) أن الحائطة في قضاء الحاجة ، لا سيما الملتوية الخطرة ، أن تؤتى من أبواب متفرقة ، فان سدّت باب او أبواب ، فهنالك أبواب أخرى او باب.

وهذه الحائطة الحكيمة تحلّق على كافة المتطلبات الهامة سلبا وإيجابا ، فالذي عنده نقود يخاف عليها ، عليه أن يحافظ عليها في مكانات متفرقة ،

١٥٨

حتى إذا سرقت ام ضاعت من مكان ، تظل البقية الباقية محفوظة.

إذا فهذه الحائطة ضابطة سارية المفعول في كل الحقول ، تبعّد عامليها عن الخسار ، ويقربه إلى اليسار ، كسبب ظاهري ، والله من وراءه حفيظ.

(وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)(٦٩).

(وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ) من أبواب متفرقة كما أمرهم أبوهم ، وطبعا من إحدى عشر بابا (آوى إِلَيْهِ أَخاهُ) من أبويه ، أتراه يعجل بإيوائه قبل استقبالهم جميعا وقبل كل شيء ، وفور دخولهم عليه؟ لا شك انّ ذلك أوّل خاطر يساور يوسف عند دخولهم عليه ورؤيته لأخيه بعد الفراق الطويل ، ولا يكاد يصبر لشيء إلا أن يؤويه إليه ، ففي دخولهم عليه من أبواب متفرقة ـ وهو عليهم رقيب ـ مجال له غير مريب أن يؤوي إليه أخاه قبل أن يستقبلهم ، وقد آواه وكلمه غير طائل : (قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ) تعريفا له بنفسه في تأكيدات ثلاث ، وفرع عليه : (فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ) فاترك كل أسى وبؤسى بما كانوا منذ ذلك الزمن الطويل يفعلون بي وبك وبأبينا ، فقد حظوت الحظوة التي رأيتها في رؤياي وأولها أبونا (وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ..).

هنا يطوي السياق كلما حصل مما ليس له أصل في القصص وعبرة لأولي الألباب ، ليواصل ماله أصل ، وهو الدرس الذي يلقيه على أخوته ليعتبروا به إن كانوا من أولي الألباب.

(فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ)(٧٠).

١٥٩

السقاية هي المشربة وطبعا كان لها قيمتها الغالية ، لولاها لم يؤذن مؤذن بما أذّن حيث الرخيص لا أذان فيه عند الملك الذي يرد عليهم بضاعتهم من ذي قبل ، فلتكن ذهبيته مرّصعة أماهيه؟

والرحل هو ما يوضع على البعير للركوب والحمل ، والعير هم القوم الذين معهم أحمال

الميرة أماهيه ، اسما للرحال والجمال الحاملة للأحمال ميرة وغير ميرة ، فليس العير حميرا لذلك ولمكان (لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ) خلاف ما يروى ، وكما في التورات.

وهنا جاعل السقاية هو يوسف حيث الضمائر المفردة كلها راجعة إليه ، ولكن المؤذن هو غيره لمكان «مؤذن» دون «أذن» كما «جعل» وليس مؤذن ـ بطبيعة الحال ـ يؤذن في هذه المهمة الفادحة إلّا بأمره الصراح (١) إذا فذلك من أذانه حيث كان بإذنه (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) وحتى إذا لم يكن باذنه فسكوته عن ذلك إذن منه صراح وهو الممكّن في الأرض ، فكيف يترك النهي عن المنكر ، وتقريرات الأنبياء كمقالاتهم وأفعالهم حجة ، فسواء أكان الأذان الإعلام بإذنه الصّراح وهو طبيعة الحال في موقفه العظيم ، أم لم يكن ، بخلاف الحال ، فهو على أية حال مرضي عنده مباح.

لقد كانت حيلة من الصديق حيث يدس صواع الملك في رحل أخيه ،

__________________

(١) المصدر ج ١٣٤ في كتاب علل الشرايع باسناده الى صالح بن سعيد من رجل من أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : سألته عن قول الله عز وجل في يوسف (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) قال انهم سرقوا يوسف من أبيه الا ترى .. أقول : فقول الله في يوسف أيتها العير ، دليل انه من مقاله لا المؤذن من عند نفسه ، وكذا قول أبي جعفر (عليه السلام) فيما مضى ولقد قال يوسف (أَيَّتُهَا الْعِيرُ ..).

١٦٠