المحكم في أصول الفقه - ج ٥

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٨

تارة : يكون للشك في عروض المانع من استمراره مع إحراز المقتضي له ، كما لو علم بشروع القارئ في القراءة لداع يقتضي استمراره ساعة ، ثم احتمل عروض ما يمنعه من الاستمرار المذكور.

واخرى : يكون للشك في مقدار اقتضاء المقتضي الأول.

وثالثة : يكون لاحتمال تجدد مقتض آخر للاستمرار مع القطع بانتهاء أمد اقتضاء المقتضي الأول.

ولا إشكال في تحقق الوحدة العرفية في الصورتين الاوليين ، فيجري الاستصحاب فيها معا بناء على عموم حجيته ، وفي الأولى فقط بناء على اختصاصه بالشك في الرافع ، كما أشار إليه بعض الأعاظم.

وما يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه من جريانه فيها لا يناسب مبناه في الاختصاص المذكور ، إلا أن يكون نظره لجريانه من حيثية الوحدة المعتبرة فيه مع قطع النظر عن التفصيل المذكور.

كما أنه قد يظهر منه جريان الاستصحاب مع الشك في مقدار اقتضاء المقتضي ولو مع العلم بالانقطاع إذا احتمل ارتفاع ما أوجبه وعود المعلول ..

قال قدّس سرّه : «وكذا لو شك بعد انقطاع دم الحيض في عوده في زمان يحكم عليه بالحيضية أم لا ، فيمكن إجراء الاستصحاب ، نظرا إلى أن الشك في اقتضاء طبيعة الرحم لقذف الدم في أي مقدار من الزمان ، فالأصل عدم انقطاعه. وكذا لو شك في اليأس فرأت الدم ، فإنه قد يقال باستصحاب الحيض ، نظرا إلى كون الشك في اقتضاء ما اقتضته الطبيعة من قذف الحيض في كل شهر».

وفيه : أنه بعد فرض الانقطاع لا معنى لاستصحاب عدمه في المثال ، ولا لاستصحاب نفس الأمر المنقطع ـ كالحيض ـ في المثال الثاني ، بل المتعين استصحاب عدم الأمر المنقطع. ومجرد احتمال سعة اقتضاء المقتضي الأول لا يمنع منه بعد تمامية ركنيه.

٢٤١

نعم ، لو جرى الاستصحاب في نفس الاقتضاء كان حاكما على الاستصحاب المذكور في المثال الثاني ، لأنه سببي بالإضافة إليه ، دون المثال الأول ، لأن الاقتضاء بنفسه لا يستلزم فعلية المعلول فيه إلا بضميمة عدم المانع ، والمفروض سبق اليقين بوجوده.

كما أنه بناء على جريان الاستصحاب التعليقي ، أو استصحاب عدم بلوغ سن اليأس ، يمكن الرجوع إليهما في المثال الثاني أيضا ، لأن الدم كان لو خرج يحكم عليه بالحيضية ، والمرأة لم تكن في سن اليأس.

إلا أن استصحاب الاقتضاء مثبت ، لأن الأثر للمقتضي ـ وهو الحيض ـ وترتبه على الاقتضاء خارجي لا شرعي. والاستصحابان الأخيران خارجان عن محل الكلام. فما ذكره قدّس سرّه غير ظاهر الوجه ، وإن لم يظهر منه الجزم به.

وأما الصورة الثالثة فقد منع شيخنا الأعظم قدّس سرّه من جريان الاستصحاب فيها ووافقه بعض الأعاظم قدّس سرّه بدعوى : أن اختلاف المقتضي يوجب تعدد الوجود والفرد عرفا ، فيمتنع الاستصحاب ، لأنه يكون من الصورة الأولى للقسم الثالث لاستصحاب الكلي.

ويشكل : بأن المعيار في الوحدة ليس إلا على اتصال الأجزاء وتعاقبها بالنحو الخاص ، واختلاف المقتضي لا أثر له في تعدد الوجود ولا يمنع من صدق البقاء ، كما لا يمنع منه في الامور القارة ، فالبناء على جريان الاستصحاب متعين.

وأما استصحاب عدم حدوث المقتضي الآخر ـ الذي يحكى عن بعضهم التمسك به في المقام ـ فهو إنما يحكم على الاستصحاب المذكور لو كان الترتب بين المقتضي والمقتضى شرعيا ، حيث يكون من صغريات حكومة الأصل السببي على المسببي ، أما لو لم يكن شرعيا كان الأصل مثبتا ليس بحجة كي يصلح للحكومة.

٢٤٢

الفصل الخامس

في استصحاب الزمان والزمانيات

لما كان الزمان بنفسه وبما له من عناوين خاصة ـ كالليل والنهار والشهر ـ ظرفا للأحكام الشرعية ولمتعلقاتها ـ كالواجبات والمحرمات ـ وشروطها ..

فتارة : يعلم بعدم أخذه قيدا فيها.

واخرى : يعلم بأخذه قيدا فيها ، ويشك فيه تبعا للشك فيه بنحو الشبهة الموضوعية ، كما لو علم بوجوب الجلوس في المسجد إلى الزوال ، وبوجوب الصلاة أداء ، والإمساك قبل الغروب ، وبأن الاستطاعة التي تكون شرطا لوجوب الحج هي الاستطاعة في أشهر الحج ، ثم شك في شيء من ذلك للشك في حصول الزوال أو الغروب أو أشهر الحج.

وثالثة : يشك في تقييدها به من جهة الشبهة الحكمية مع العلم بحال الزمان وتحقق عنوانه.

أما في الصورة الاولى فلا إشكال في جريان الاستصحاب في الحكم أو متعلقه أو شرطه لو تمت أركانه فيها.

وأما الثانية فهي التي يحتاج فيها لاستصحاب الزمان ، لفرض الشك فيه. وأما الثالثة فلا مجال إلا لاستصحاب نفس الحكم أو الموضوع ، وهو المراد باستصحاب الزمانيات ، ولا معنى لاستصحاب نفس الزمان بعد فرض العلم به ، بل حتى لو فرض الشك فيه ، لعدم إحراز دخله في الأثر.

فيقع الكلام في مقامين ..

٢٤٣

المقام الأول

في استصحاب الزمان

وحيث كان الزمان من الامور التدريجية المتصرمة جرى فيه ما تقدم في الفصل السابق من الكلام.

وقد اتضح به إمكان استصحاب نفس العنوان الزماني المتصرم ، كاليوم والشهر ، كما يمكن جريانه في نفس الحد الزماني ، كعدم طلوع الهلال وعدم زوال الشمس ، لأنه كسائر الحوادث الواقعة في الزمان.

كما يمكن استصحاب ما ينتزع من الحدين الزمانيين ، كاستصحاب بقاء الشمس في القوس النهاري ، نظير ما تقدم في استصحاب الحركة التوسطية. ويخرج على الأخيرين عن استصحاب الامور التدريجية.

وتعيين أحد هذه الوجوه تابع لتعيين موضوع الأثر الشرعي منها ، حسبما يستفاد من الأدلة ، كما تقدم نظيره. وليس شيء من ذلك محلا للكلام بعد ما تقدم في الفصل السابق وغيره.

وإنما المهم هنا الكلام في أمرين ..

الأمر الأول : ما أشار إليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أن استصحاب الزمان إنما ينفع في ما إذا كان الدخيل في الأثر هو وجوده بمفاد كان التامة ، دون ما إذا كان المعتبر ظرفيته زائدا على وجوده بمفاد كان الناقصة.

فإذا كان الواجب ـ مثلا ـ هو الصوم والنهار موجود ، أمكن استصحاب النهار لإحراز الامتثال بالصوم المقارن له.

٢٤٤

أما إذا كان الواجب هو الصوم في النهار ، فاستصحاب النهار لا يحرز ظرفيته للصوم الواقع في الزمان المشكوك ، لأن الظرفية أمر زائد على وجود النهار قائم به وبالصوم لا وجود له قبل وجودهما معا ، فالاستصحاب المذكور لا ينفع فيها إلا بناء على الأصل المثبت ، لاستلزام بقاء النهار لوقوع الصوم فيه. فهو نظير استصحاب بقاء الغرفة لو شك في انهدامها لإحراز كون الصلاة على أرضها صلاة في الغرفة.

كما أن استصحاب النهار لا يحرز كون الزمان الخاص الذي يقع فيه الصوم نهارا ، بل هو نظير استصحاب بقاء الكر في الحوض ، حيث لا يحرز به كرية الماء الموجود فيه.

ومن هنا يشكل الأمر في استصحاب الموقتات مما كان ظاهر دليله أخذ الزمان ظرفا في الواجب ، لا التقييد بمحض وجوده حينه.

هذا ، وظاهر بعضهم وصريح آخرين اختصاص الإشكال بما إذا أخذ الزمان قيدا في الواجب ـ كالصوم ـ دون ما إذا اخذ قيدا في نفس الحكم الشرعي التكليفي أو الوضعي ، وأن مرجع تقييد الحكم بالزمان ليس إلا إلى اعتبار وجوده بمفاد كان التامة.

ولم يتضح وجه الفرق بينهما بعد وحدة لسان الدليل في المقامين ، لأن محل الكلام فيهما ما إذا تضمن لسان الدليل التوقيت بمثل أداة الظرف ، نحو (عند) و (في) ونحوهما.

وكيف كان ، فقد تصدى غير واحد للتخلص عن الإشكال المذكور ، وما يستفاد منهم أو ينبغي ذكره وجوه ..

الأول : ما اعتمده بعض الأعاظم قدّس سرّه في الدورة الثانية.

وحاصله : أن تقييد الفعل بالزمان كما يمكن أن يكون بمفاد كان الناقصة الراجع إلى اعتبار ظرفيته له ، يمكن أن يكون بمفاد كان التامة الراجع إلى محض

٢٤٥

وجوده حينه ، إذ ليس الزمان والفعل من قبيل العرض ومحله ، حتى يدعى أن التركيب فيهما يرجع إلى مفاد كان الناقصة ، وحينئذ فلا يستفاد من التقييد به إلا مجرد اجتماعهما في الوجود ، لأن ارادة الظرفية تحتاج إلى عناية اخرى زائدة على التقييد.

ويشكل : بأن مجرد التقييد وإن لم يستلزم اعتبار الظرفية ومفاد كان الناقصة لا في المقام ولا في العرض ومحله ، لإمكان أن يكون الدخيل هو وجود العرض دون ارتباطه بالموضوع وإن كان لازما لوجوده ، إلا أن محل الكلام هو التقييد في الموقتات التي كان ظاهر أدلتها لحاظ الظرفية المبنية على نحو من الارتباط بين طرفيها زائدا على وجودهما. فالظرفية وإن كانت محتاجة إلى عناية زائدة إلا أن ظهور الأدلة فيها كاف في البناء على مقتضى العناية المذكورة.

وقد نبه قدّس سرّه في الدورة الأولى لذلك ودفع به الوجه المذكور ، ولم يتضح منشأ إغفاله في الدورة الأخيرة واعتماده على هذا الوجه.

الثاني : ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه من أنه يمكن استصحاب العنوان الزماني للزمان بلحاظ اليقين بثبوته سابقا لبعض أجزائه المتصرمة ، نظير استصحاب وجود الزمان ونحوه من الامور التدريجية ، فكما يصح استصحاب وجود الليل أو النهار لليقين بوجود بعض أجزائهما بلحاظ الوحدة الاعتبارية بين الأجزاء المتعاقبة ، كذلك يصح استصحاب كون الزمان ليلا أو نهارا مع اليقين باتصاف بعض أجزائه بأحدهما بلحاظ الوحدة المذكورة في نفس الزمان بمجموعه ، فيلحظ الزمان أمرا واحدا يتصف تارة بالليلية واخرى بالنهارية ، ويستصحب له أحدهما بعد اليقين بحدوثه والشك في بقائه ، فإذا احرز ليلية الزمان أو نهاريته احرز ظرفية الليل أو النهار لما يقع فيه من الأفعال ، كما يحرز باستصحاب ملكية الأرض كون ما يقع فيها واقعا في الملك.

ويشكل : بأن الاستصحاب بلحاظ الوحدة الاعتبارية المذكورة موقوف

٢٤٦

على ملاحظة الشارع لها في مقام جعل الأثر ـ ولا يكفي التسامح العرفي بملاحظتها في مقام إجراء الاستصحاب ، لما ذكرناه آنفا من عدم التعويل على التسامح العرفي ـ ومن الظاهر عدم نهوض الأدلة الشرعية بإثبات ملاحظة الوحدة المذكورة ، بل الظاهر منها ملاحظة القطع الزمانية متباينة في أنفسها ، وأن المعتبر هو اتصاف الزمان الخاص الذي يقع فيه الفصل بالعنوان الزماني من ليل أو نهار أو غيرهما ، وهو أمر غير قابل للاحراز بالاستصحاب ، لعدم الحالة السابقة.

وهذا بخلاف استصحاب وجود الأمر التدريجي من زمان أو غيره ، لوضوح أن فرض الواجد للأمر التدريجي لا يكون إلا بلحاظ الوحدة الاعتبارية المذكورة ، فأخذه في موضوع الأثر شرعا لا بد أن يبتني عليها ، وبها يصح الاستصحاب بلا حاجة للتسامح العرفي.

الثالث : ما ذكره سيدنا الأعظم قدّس سرّه من أن العناوين الزمانية لما كانت منتزعة من حوادث خاصة ، كوجود الشمس في القوس النهاري الذي ينتزع منه النهار ، ووجود الهلال في الدور الخاص الذي ينتزع منه الشهر ونحوهما ، فمن الظاهر أن الاستصحاب الحوادث المذكورة كسائر الحوادث التدريجية كسير زيد وسيلان النهر لا معنى لكونها ظرفا لفعل المكلف الذى هو حادث مثلها ، بل لا بد من رجوع التقييد بها إلى أخذ محض وجودها بمفاد كان التامة ، من دون نظر لظرفيتها.

نعم ، الأمد الموهوم ظرف لجميع الحوادث حتى ما كان منشأ للعناوين الخاصة كحركة الشمس ، لكن لم يؤخذ التقييد به في شيء من الأدلة.

وفيه : أن العناوين المذكورة وإن كانت منتزعة من حوادث خاصة واقعة في الأمد الموهوم ، إلا أنها ليس حاكية عن نفس الحوادث ، بل عما وقعت فيه من الأمد الموهوم المفروض كونه ظرفا ، فليس النهر مثلا شروق الشمس ، بل

٢٤٧

الأمد الموهوم الذي وقع فيه الشروق ، فيعود الإشكال.

وأما ما ذكره شيخنا الأستاذ قدّس سرّه في دفع الوجه هذا من أن المدار في الاستصحاب على النظر العرفي ، والظرفية وإن لم يكن لها واقع حقيقي ، إلا أنها لما كانت دخيلة عرفا فالمعيار عليها في جريان الاستصحاب.

فهو كما ترى! إذ بعد فرض امتناع الظرفية لا معنى للتعويل في دخلها على نظر العرف للقطع بخطئه ، وقد تقدم أن الرجوع للعرف إنما هو لاستكشاف موضوع المستصحب ومعروضه مع لزوم البقاء الحقيقي بنظر العرف لذلك الموضوع ، لا التعويل على تخيلاته في موضوع الحكم الشرعي على تخيلاته الأولية مع ثبوت خطئه فيها.

الرابع : ما ذكره شيخنا الاستاذ قدّس سرّه من إرجاع تقييد الفعل بالزمان إلى تقييد نفس التكليف به مع إطلاق متعلقه ، لأن إطلاق التكليف مع تقييد المكلف به ممتنع بناء على مختاره من امتناع الواجب المعلق ، وتقييد المتعلق مع تقييد التكليف لغو ، فيتعين إرجاع القيد الزماني للتكليف وحده ، ولا معنى لتقييد التكليف بالزمان إلا وجوده معه مقارنا له ، فيكفي في ترتب أثره استصحابه بمفاد كان التامة.

وفيه : أنه ـ مع ابتنائه على امتناع الواجب المعلق ، وهو محل الكلام ، وعلى اختصاص الإشكال بما إذا كان الزمان قيدا للواجب دون التكليف ، وقد أشرنا آنفا إلى عدم وضوح الفرق بينهما ـ مختص بما إذا كان الفعل المقيد بالزمان متعلقا للتكليف ، دون ما لو كان موضوعا للتكليف أو لغيره من الأحكام ، حيث لا مانع من تقييده حينئذ بالزمان ، كالإفطار في نهار شهر رمضان الذي هو موضوع لوجوب الكفارة ، والتزويج في العدة الذي هو موضوع للتحريم المؤبد ونحوهما ، مع جريان ما تقدم فيها ، حيث يقع الكلام في جريان الاستصحاب لإحراز القيد الزماني حينئذ.

٢٤٨

الخامس : ما ذكره بعض مشايخنا وحاصله : أن الموضوع المركب من الامور المتقارنة التي لا ربط بينها مع قطع النظر عن الوحدة الاعتبارية ـ كالطهارة والصلاة ـ يكفي في إحرازه إحراز أحد جزئيه بالوجدان والآخر بالأصل بمفاد كان التامة ، بلا حاجة إلى إحراز نفس انضمام أحد الجزءين للآخر وتقيده به بالوجدان أو الأصل ، إذ ليس الانضمام أمرا زائدا على تحقق نفس الجزءين. والتقييد بالزمان من هذا القبيل ، ضرورة أن الزمان ليس عرضا لما يعتبر فيه ـ كالصلاة ـ ولا قائما به ، وإنّما المعتبر وقوع الفعل فيه ، بحيث يكون مقارنا له ، فلو استصحب الوقت وتحقق الفعل تم الموضوع واحرز الامتثال بضم التعبد للوجدان في جزئيه.

نعم ، لو كان الموضوع مركبا من العرض ومحله القائم به منتزعا منهما ـ كالعالم ـ لم يكف إحراز أحد جزئيه ـ كالعلمية ـ بمفاد كان التامة ، لأنه لا يحرز العنوان المنتزع إلا بناء على الأصل المثبت.

ويندفع : بأن الزمان وإن لم يكن عرضا قائما بما قيد به ، إلا أن ظرفيته له أمر زائد على محض وجوده ، وهي من سنخ العرض القائم بمحله ، فلا وجه لترتيب آثارها بمجرد استصحاب الزمان ، وهل يتوهم جريان ما ذكره في الظرفية المكانية ، فيقال ـ مثلا ـ في ما إذا كان الواجب هو الصلاة في الغرفة : إن استصحاب بقاء الغرفة ـ لو شك في انهدامها ـ يكفي في تصحيح الصلاة ، لعدم كون الغرفة عرضا قائما بالصلاة؟

وهذا بخلاف مثل الصلاة والطهارة ، فان القيد ليس إلا الطهارة ، فيكفي استصحابها بمفاد كان التامة في إحراز الموضوع المركب من الأمرين.

إلا أن يرجع ما ذكره إلى ما سبق من بعض الأعاظم من أن مجرد التقييد بالزمان لا يستلزم اعتبار ظرفيته. فيجري فيه ما تقدم.

السادس : ما نقله بعض المشايخ المعاصرين رحمه الله واستجوده وعبر عنه

٢٤٩

بخفاء الواسطة ، وحاصله : أن التلازم بين بقاء الزمان الخاص ووقوع الفعل فيه من الوضوح بحد يقتضي التلازم بينهما في مقام التعبد عرفا ويوجب ظهور دليل التعبد بأحدهما في إرادة ترتيب كل ما لهما من الآثار.

وهو مبني على ما تقدم في المستثنى الثالث من الأصل المثبت ، وتقدم دفعه. كما تقدم أنه أمر آخر غير خفاء الواسطة.

السابع : ما اعتمده قدّس سرّه من أنه لا ملزم بإحراز القيد الزماني بالاستصحاب ، للأمن من العقاب مع متابعة احتمال وجوده والإتيان بالواجب المقيد به ، إذ على تقدير وجوده فقد حصل بذلك الامتثال بفعل المقيد ، وعلى تقدير عدمه لا تكليف حتى يلزم مخالفته.

وفيه .. أولا : أن هذا إنما يقتضي جواز الإتيان بالفعل لاحتمال تحقق الامتثال به ، لا وجوبه ، بل حيث يشك في فعلية التكليف ، لاحتمال انتهاء أمد المكلف به ، فالأصل البراءة منه.

ودعوى : أن اللازم الاحتياط ، للشك في القدرة.

مدفوعة : بأنه يختص بما إذا كان التعذر موجبا لسقوط فعلية التكليف مع بقاء ملاكه ، فلا يجري في مثل سقوط التكليف بأداء الصوم لخروج وقته ، كما يختص بالشك في سعة قدرة المكلف ، لا في حال الفعل المقدور له ، كما في المقام.

وثانيا : بأنه مختص بما إذا كان الشك في بقاء القيد الزماني ملازما للشك في بقاء التكليف ، كما لو شك في بقاء النهار ليترتب وجوب الإمساك على الصائم فيه ، ولا يجري في ما إذا علم بالتكليف وشك في الامتثال مع وجود فرد آخر يعلم بتحقق القيد فيه ، كما لو نذر صوم يوم من رجب وشك في آخر رجب ، فان مقتضى قاعدة الاشتغال بالنذر وجوب الانتظار إلى رجب الثاني وعدم الاكتفاء بصوم يوم الشك مع عدم إحراز كونه من رجب.

٢٥٠

وكذا لو وجب القضاء أو الفدية بترك امتثال التكليف بالمقيد ، فإن مقتضى استصحاب عدم الإتيان به وجوبهما ، إلا أن يحرز القيد الزماني ، أو لم يكن القيد متعلقا للتكليف ، بل موضوعا للحكم الشرعي التكليفي أو الوضعي ، كالإفطار في نهار شهر رمضان الذى هو موضوع لوجوب الكفارة ، فانه لو لا إحراز القيد الزماني لا مجال لترتيب الأثر في ذلك ، كما لا يخفى. فلا مجال للاستغناء عن الاستصحاب المذكور.

هذا ما تيسر لنا الاطلاع عليه من كلماتهم في المقام ، وقد ظهر عدم نهوضه بدفع الإشكال.

ولعل الأولى أن يقال : إنه لا حقيقة للظرفية الزمانية إلا وجود الحادث مقارنا للزمان ، وليست هي كالظرفية المكانية مبنية زائدا على ذلك على اشتمال الظرف على المظروف ، ودخول المظروف في الظرف ، الذي هو أمر حقيقي زائد على وجودهما واقترانهما.

ولذا لا إشكال في أن تقييد الحادث بحصة من الزمان كالنهار أو الشهر لا يراد به كون الحصة المذكورة أوسع منه ومشتملة عليه ، فإذا وجب إيقاع الصوم في النهار وجب استيعاب الصوم له ولا يكتفي بصوم ما عدا طرفية ، وإذا وجب إيقاع الصلاة في نصف النهار الثاني كفى البدء بها عند أول جزء منه ، كما يكفي الانتهاء منها عند آخر جزء منه.

كما لا فرق عرفا بين التقييد بالعنوان الزماني بما يظهر في الظرفية ، بمثل : صم في النهار ، والتقييد بحدّيه بما يقتضي محض المقارنة ، بمثل قوله تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ)(١).

__________________

(١) سورة البقرة : ١٨٧.

٢٥١

ومما يشهد بذلك ما تقدم من تسالمهم على أن تقييد الحكم بالزمان لا يقتضي إلا إناطته به بمفاد كان التامة ، من دون أن تؤخذ ظرفيته له ، مع ما أشرنا إليه من عدم الفرق بين الحكم ومتعلقه الذي هو فعل المكلف ، وأنهما كسائر الحوادث الواقعة في الزمان.

وأما المقارنة الزمانية فليس لها ما بإزاء في الخارج زائدا على اجتماع الطرفين في الوجود ، وليست هي كالمقارنة المكانية منتزعة من نحو نسبة خاصة موقوفة على ملاحظة جهة خاصة غير الاجتماع في الوجود ، ومن الظاهر أن الاجتماع في الوجود يحرز بالاستصحاب وغيره من أنحاء التعبد.

وبالجملة : دليل التوقيت وإن كان متضمنا لظرفية الوقت للموقّت ، إلا أنه لا يراد به إلا محض التحديد وبيان الأمد الذي يقارنه الموقت ، ولا يعتبر إلا محض اجتماعهما في الوجود ، المحرز بضم الوجدان للأصل ، من دون أن يحتاج إلى معنى زائد على ذلك يراد بالظرفية ، ولا مجال لقياس ذلك بالظرفية المكانية التي هي منتزعة من أمر حقيقي زائد على وجود الطرفين قائم بهما لا يحرز بالأصل. فلاحظ.

بقي في المقام شيء ، وهو أنه قد تصدى غير واحد لتوجيه الرجوع للاستصحاب بوجه آخر غير استصحاب نفس العنوان الزماني يستغنى به عنه.

والمذكور في كلماتهم وجوه ..

الأول : ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من التمسك بالاستصحاب الحكمي بعد تعذر الرجوع للاستصحاب الموضوعي ، فيحرز وجوب الصوم أو الإمساك أو نحوهما ، وإن لم يحرز الزمان الذي قيد به المتعلق.

وفيه .. أولا : أن المستصحب إن كان هو التكليف بالمقيد بالوقت ، فهو لا ينفع في إحراز انطباق المأتي به عليه ، بل لا بد فيه من إحراز القيد الزماني.

وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه في الدورة الأخيرة من درسه ، من أن

٢٥٢

المستصحب هو التكليف بجميع ما يعتبر فيه ، ومنه خصوصية القيد ، فهي مستصحبة في ضمن استصحاب الحكم.

فيندفع : بأن استصحاب التكليف على المقيد لا يحرز تحقق المقيد خارجا ، بل يدعو إليه. إلا أن يرجع إلى استصحاب الحكم والقيد معا ، فيأتي فيه ما سبق في استصحاب القيد الزماني.

وإن كان المستصحب هو التكليف بالمطلق المنطبق على ما يشك في وجود القيد الزماني له ، فهو غير متيقن سابقا ، كي يتجه استصحابه ، بل متيقن العدم.

نعم ، قد يتجه ما ذكره قدّس سرّه بناء على التسامح العرفي في موضوع الاستصحاب ، فيستصحب التكليف بالفعل في الجملة لا بنحو الإطلاق ولا التقييد ، نظير استصحاب التكليف بالواجب الارتباطي عند تعذر بعض أجزائه.

لكن تكرر غير مرة أنه لا عبرة بذلك.

وثانيا : أنه لا يطرد في جميع الأحكام ، إذ قد يتخلل العدم بين أجزاء الوقت ، كوجوب الصوم في رمضان الذي يتخلل عدمه ليلا ، ووجوب صوم اليوم الثاني تكليف حادث لا مجال لاستصحابه ، كما اعترف قدّس سرّه به في الجملة.

كما أنه لا يفي بجميع آثار الاستصحاب الموضوعي فهو لا يحرز وجوب الكفارة لو تناول المفطر ونحوه من آثار المقيد المترتبة عليه الحادثة بعد سبق عدمها.

الثاني : ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه من استصحاب وجود القيد للفعل بمفاد كان الناقصة ، فتستصحب مثلا النهارية للامساك ، ويقال : كان الامساك في النهار فهو كما كان. ويحرز بذلك الامتثال به ، كما تستصحب الطهارة للماء لإحراز الامتثال بالوضوء به.

وفيه : ـ مع اختصاصه بما إذا كان الفعل أمرا مستمرا قد اتصف بالقيد حين

٢٥٣

حدوثه كالامساك في النهار ، دون ما لم يقع بعد ، كالصلاة التي يراد إيقاعها ويشك في بقاء وقتها ، وتناول المفطر الذي يراد إيقاعه مع الشك في بقاء النهار ، أو وقع وانقطع ، كالصوم عند الشك في بقاء رمضان ـ أن الاستصحاب المذكور لا يصح بالإضافة إلى الحصة الخاصة من الفعل الاستمراري ، كالإمساك الحاصل في الزمان المشكوك ، لعدم الحالة السابقة له ، وإنما يتجه بالإضافة إلى أصل الفعل بلحاظ وحدته الاعتبارية ، بان يلاحظ امرا واحدا تطرؤه النهارية تارة والليلية اخرى ، لا أنه قطع متباينة بعضها ليلي وبعضها نهاري.

وهو موقوف على ملاحظة الشارع للوحدة الاعتبارية المذكورة في مقام جعل الأثر. وهي خلاف ظاهر الأدلة ، كما تقدم نظير ذلك في رد الوجه الثاني لاستصحاب الزمان الذي يشبه هذا الوجه.

نعم ، لو كان لسان الجعل هكذا : يجب الإمساك ما دام نهاريا ، تم ما ذكره ، لكنه خلاف ظاهر الأدلة.

الثالث : ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه من استصحاب وجود القيد للفعل تقديرا ، فيقال : هذا الامساك أو الأكل لو اتي به سابقا لكان نهاريا فهو الآن كما كان ، وهذا الصوم لو اتي به سابقا لكان في رمضان فهو الآن كما كان.

وكأنه يرجع إلى الاستصحاب التعليقي ، الذي هو محل إشكال ، بل منع في القضايا الشرعية الجعلية ـ كما يأتي ـ فضلا عن القضايا الخارجية الانتزاعية ، كما في المقام ، لوضوح أن كون الإمساك نهاريا أمر خارجي تكويني ، والحكم به بنحو التعليق انتزاعي ، وليس الأمر الحقيقي الا الاتصاف به فعلا.

الأمر الثاني : ما تعرض له غير واحد من أن استصحاب الشهر السابق وعدم الشهر اللاحق في يوم الشك لا ينفع في إحراز كون اليوم المذكور آخر الشهر السابق ، ولا كون اليوم الآتي أول الشهر اللاحق ، ولا ما بعده من الأيام معنونة بعنوانها العددي فيه ، فاستصحاب بقاء رمضان يوم السبت لا يحرز كونه

٢٥٤

آخره ، ولا كون يوم الأحد أول شوال ، أو يوم الاثنين ثانيه ، وهكذا : فلا مجال لترتيب أحكام خصوصيات الأيام ، كيوم عيد الفطر الذي هو أول شوال ، ويوم عرفة الذي هو تاسع ذي الحجة ، وغيرهما مما هو كثير جدا ، ومبنى المتشرعة على ترتيبه ، لوضوح أن هذه عناوين وجودية ، ليست من آثار المستصحب شرعا ، بل من لوازمه الخارجية ، فلا تحرز إلا بناء على الأصل المثبت.

نعم ، لو كانت العناوين المذكورة مركبة مفهوما من بقاء الشهر السابق في يوم الشك ووجود الشهر اللاحق بعده اتجه إحرازها ، فمثلا لو كان آخر رمضان هو اليوم الذي يكون منه وليس بعده منه يوم آخر اتجه إحرازه يوم السبت باستصحاب بقاء رمضان فيه بضميمة اليقين بعدم وجود رمضان يوم الأحد.

كما أنه لو كان أول شوال هو اليوم الذي يوجد شوال فيه ولا يوجد قبله كان استصحاب بقاء رمضان وعدم وجود شوال يوم السبت محرزا لكون يوم الأحد أول شوال بضميمة اليقين بوجود شوال فيه ، وكذا لو كان ثاني شوال هو اليوم الذي يوجد فيه شوال ، ولا يوجد قبل يومين منه ، وهكذا بقية الأيام.

لكن لا مجال لدعوى ذلك ، بل الظاهر أن العناوين المذكورة بسيطة منتزعة من نحو نسب خاصة لإجزاء المركبات كالشهر والاسبوع ، وليست مركبة بالنحو المذكور.

ومن هنا تصدى غير واحد لتوجيه إحراز العناوين المذكورة ..

وقد سبق من شيخنا الأعظم قدّس سرّه في المستثنى الأول من مستثنيات الأصل المثبت بناء ذلك على الرجوع للأصل المثبت مع خفاء الواسطة.

كما سبق الإشكال في ذلك صغرى وكبرى.

ومثله ما ذكره بعض المشايخ المعاصرين رحمه الله من أن التلازم بين المستصحب وموضوع الأثر بحد من الوضوح لا يمكن معه التفكيك بينهما عرفا في مقام التعبد.

٢٥٥

فإنه ـ لو تم في المقام ـ مبني على ما سبق في المستثنى الثالث من مستثنيات الأصل المثبت ، وسبق دفعه. فراجع.

فلا بد من التعرض للوجوه الاخرى التي اعتمد عليها غير واحد في خصوص المقام ..

الأول : ما يظهر من بعض الأعاظم وبعض الأعيان المحققين (قدهما) من أن أول الشهر وإن كان هو اليوم الذي يوجد الهلال في ليلته واقعا ، إلا أنه بهذا المعنى ليس موضوعا للأحكام الخاصة من وجوب الصوم والإفطار وغيرهما ، والذي هو الموضوع لها ـ حسبما يستفاد من الأدلة ـ هو الأول بمعنى يوم ليلة الرؤية أو ما يكون بعد مضيّ ثلاثين يوما من الشهر السابق ، فمع عدم الرؤية يتعين ترتيب آثار الأول والثاني ونحوهما على ما يطابق تمامية الشهر السابق بلا حاجة للاستصحاب.

وفيه : أنه لا مجال للخروج في مفهوم الأول ونحوه من خصوصيات أيام الشهر مما هو موضوع الأحكام الخاصة عن معناه العرفي التابع لوجود الهلال واقعا ، لعدم الدليل على ذلك ، بل هو خلاف ظاهر ما دل على وجوب القضاء بالتخلف عن الهلال واقعا.

كيف! ولازمه عدم مشروعية الاحتياط في الأحكام المذكورة لو احتمل وجود الهلال من دون رؤية ، ولا يظن التزام أحد به. والانصاف أن وضوح بطلان ذلك مغن عن الاستدلال عليه.

نعم ، لا ريب في أن الرؤية طريق لثبوت الشهر ، ومن دونهما يجب البناء على عدمه وإكمال الشهر السابق ثلاثين يوما ، لما دل على إناطة الصيام والإفطار بذلك ظاهرا ، وهو بالإضافة إلى وجوب الصوم والإفطار ـ اللذين هما من أحكام أصل وجود الشهر ومورد النصوص ـ مطابق للاستصحاب ، وبالإضافة إلى غيرهما من أحكام خصوصيات أيام الشهر مورد الكلام في المقام ، فلا بد من

٢٥٦

توجيهه.

الثاني : ما ذكره بعض مشايخنا من أنه بعد مضي ان من ثاني يومي الترديد في أول الشهر يقطع بتحقق أول الشهر ويشك في انتهائه ، لتردده بين الأول المنقضي واللاحق الباقي ، فيستصحب وتترتب أحكامه ، وهكذا بقية أيام الشهر.

وفيه .. أولا : أن ذلك لا ينهض إلا بإثبات أحكام محض وجود اليوم الأول ، دون إثبات استيعابه لو فرض كونه موردا للأثر ، كوجوب الصوم أو استحبابه ، لوضوح أن الصوم الواجب أو المستصحب هو المستوعب لليوم الأول ، ومن الظاهر أن استصحاب اليوم الأول في ثاني يومي الترديد لا يثبت كون صومه صوما لتمام اليوم الأول ، بعد احتمال انطباقه على أول يومي الترديد.

كما لا ينهض بإثبات أحكام العناوين غير القابلة للبقاء ، كما لو فرض استحباب الجلوس عند ظهر اليوم الأول في المسجد ، فإن الظهر لا يحتمل فيه البقاء ، بل ليس في البين إلا التردد فيه بين ظهري اليومين ، وبتحقق ظهر اليوم الثاني يعلم بتحققه سابقا أو لاحقا ، من دون أن يشك في بقائه ، كي يستصحب.

وثانيا : أنه لا مجال للاستصحاب من الآن الأول من اليوم المذكور ، لأن الآن المذكور زمان للعلم بتحقق اليوم الأول ، لا زمان للمعلوم ، وهو نفس اليوم الأول ، الذي يراد استصحابه ، بل هو متردد بين اليومين المعلوم انقضاء أحدهما وابتداء الآخر ، فالعلم في الآن المذكور بوجود اليوم الأول ليس بمعنى العلم بفعلية وجوده في الجملة إما سابقا مع انقضائه ، أو فعلا حين الشك فيه.

واحتمال بقاء اليوم الأول في اليوم المذكور إنما هو بمعنى احتمال انطباق اليوم المعلوم الوجود عليه ، لا بمعنى احتمال امتداده إليه واستمراره فيه الذي هو موضع الاستصحاب.

٢٥٧

وبعبارة اخرى : يعتبر في الاستصحاب أن يكون هناك متيقن ومشكوك متحد معه ذاتا ، ومباين له زمانا ، ومتصل به ، ليكون بقاء له ـ كما تقدم ـ والمشكوك في المقام لا يعلم بمباينته للمتيقن ، بل لا يحتمل كونه بقاء له ، بل يحتمل اتحاده معه ، لتردد المتيقن بين اليومين ، وفي مثل ذلك لا يجري الاستصحاب ، إذ ليس مفاده تعيين المعلوم بالإجمال ، بل التعبد ببقاء المعلوم واستمراره وطول أمده عند الشك فيه. فلاحظ.

وثالثا : أن فصل الليل بين يومي الترديد موجب لكون المقام من تعاقب الحالتين المتضادتين مع العلم بتاريخ إحداهما والجهل بتاريخ الاخرى ، وهي اليوم الأول في المقام ، ويأتي في محله عدم جريان الاستصحاب في مجهولة التاريخ منهما إما ذاتا ، أو للمعارضة بالاستصحاب الجاري في معلومة التاريخ ، وهو في المقام استصحاب عدم وجود اليوم الأول ، للعلم به في الليلة المتوسطة.

الثالث : ما ذكره بعض الأفاضل من السادة المعاصرين رحمه الله من أن المستفاد من أدلة إناطة الصوم والإفطار بالرؤية كون عدمها أمارة على تمامية الشهر وكونه ثلاثين يوما ، وكأنه مبني على ما في كلماتهم من حجية الأمارة في لازم مؤداها ، بخلاف الأصل.

وفيه .. أولا : أنه لا إشعار في النصوص المذكورة بأمارية عدم الرؤية على تمامية الشهر ، بل المتيقن منها بضميمة ارتكاز كون الرؤية دليلا على النقض أن البناء على التمامية مع عدمها لعدم الدليل على الخلاف ، حيث يكون مقتضى الأصل البناء على البقاء ، لما هو المعلوم من احتياج الأمارية إلى عناية زائدة لا اشعار في النصوص بها.

وثانيا : أنه تقدم إنكار عموم حجية الأمارة في لازم مؤداها ، وأنها كالأصل تحتاج في ذلك إلى دليل خاص ، فمع فرض عدم قيام الدليل على ذلك لا تنفع الأمارية في الحجية في لازم المؤدى ، ومع قيام الدليل عليه لا يضر فيه كون

٢٥٨

التعبد بمفاد الأصل. فاللازم بعد الاعتراف بكون العناوين المذكورة ملازمة لمفاد التعبد هو النظر في عموم دليل التعبد لها أمارة كان أو أصلا.

إذا عرفت هذا ، فالدليل في المقام لا ينحصر بعمومات الاستصحاب ، ليدعى اختصاصه باحراز بقاء الشهر في يوم الشك ، دون لوازمه من خصوصيات الأيام للشهر اللاحق.

بل من الظاهر من بناء العرف والمتشرعة كون الأصل في الشهر الهلالي التمامية ، بنحو تحرز جميع العناوين المذكورة ، لا خصوص بقاء الشهر ، فتترتب آثار أول الشهر ، وثانيه ، وآخره ونحوها من خصوصيات أيامه ولياليه.

والمستفاد عرفا من نصوص إناطة الصوم والإفطار بالرؤية الجري على ذلك ، فهي واردة لبيان ما يخرج به عن مقتضى الأصل المذكور.

ولذا لا ريب عندهم في ترتيب أحكام العيد والحج وعاشوراء ونحوها من المواسم الدينية والمناسبات الشرعية والعرفية المنوطة بخصوصيات أيام الشهر ، فهو من موارد الأصل المثبت التي دل الدليل عليها بالخصوص ، وقد تقدم أنه أمر ممكن في نفسه. وهذا هو العمدة في المقام.

٢٥٩

المقام الثاني

في استصحاب الزّمانيّات

وهي التي يشك في بقائها مع فرض عدم الرجوع لاستصحاب الزمان فيها.

إما مع العلم بأخذه فيها مع عدم جريان الاستصحاب فيه ، إما مع الشبهة الموضوعية ، للشبهة المتقدمة في الأمر الأول من المقام السابق ، أو لإجمال العنوان الزماني وتردده بين ما هو مقطوع الزوال ومقطوع البقاء ، كتردد اليوم بين ما ينتهي بسقوط القرص وما ينتهي بزوال الحمرة المشرقية ، حيث يمتنع استصحابه بعد سقوط القرص ، لما تقدم من عدم جريان الاستصحاب في المفهوم المردد.

وإما مع الشك في أخذه أو أخذ بعض ما يقع فيه من الحوادث فيها ، لترددها بين الإطلاق المستلزم للاستمرار والتقييد المستلزم للانقطاع.

ومنه ما إذا احتمل كون القيد مأخوذا بنحو تعدد المطلوب ، حيث يحتمل معه كون أصل المطلوب مطلقا باقيا بتعذر القيد ، كما في موارد وجوب القضاء.

ولا إشكال عندهم في جريان الاستصحاب في نفس الموضوعات الخارجية لتمامية أركانه فيها ، وإنما الإشكال في الأحكام القابلة للإطلاق والتقييد تكليفية كانت أو وضعية.

وقد استشكل فيها من وجهين ..

الأول : عدم اتحاد المتيقن مع المشكوك ، لتباينهما ، لأن المتيقن هو المقيد بالزمان المفروض انقضاؤه ، فإثبات الحكم لما بعده نقل الحكم إلى موضوع آخر غير المتيقن ، وليس هو من الاستصحاب في شيء.

٢٦٠