المحكم في أصول الفقه - ج ٥

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٨

ذكروه في مبحث التداعي من أنه لو اختلف المتداعيان في عين وكانت في يد أحدهما كلف الآخر بالبينة ، وغير ذلك مما يحتاج لاستيعاب لا يسعه الوقت.

وأما الإجماع العملي الذي هو عبارة عن سيرة المتشرعة الملتزمين بالدين فهو أوضح من أن يحتاج للإثبات ، كاتصاله بعصر المعصومين عليهم السّلام حيث لا إشكال في بناء المسلمين على ترتيب آثار الملكية ظاهرا باليد ، يشترك في ذلك صالحهم وطالحهم ، من دون أن يبتني بنظرهم على نحو من التسامح والتساهل ، بل لو لا ذلك لاختل نظامهم ، كما اشير إليه في موثقة حفص بن غياث المتقدمة.

وهذه السيرة صالحة للاستدلال في المقام.

ولا يقدح ابتناؤها على سيرة العقلاء الآتية ، وأن بناء المسلمين على ذلك للجري على مرتكزاتهم العقلائية ، لا التعبدية الدينية.

لكشفها مع ذلك عن رضى الشارع بها ، وإلا لزمه النكير عليها والردع عنها ، ولو صدر ذلك منه لشاع وذاع بسبب كثرة الابتلاء بالحكم فارتدع عن ذلك المتدينون المحافظون على تعاليم الشرع الاقدس ولم تتم السيرة بالوجه الذي تمت به.

الثالث : سيرة العقلاء بما هم عقلاء على اختلاف مللهم ونحلهم وأمصارهم وعصورهم ، وهي سيرة ارتكازية عامة ناشئة عن إدراكهم بحسب فطرتهم التي فطرهم الله تعالى عليها نحوا من المناسبة بين اليد والحكم بالملكية ، وليست ناشئة عن محض التباني والاصطلاح.

ومن ثم لا يبعد عدم احتياجها للامضاء ، بل يكفي عدم ثبوت الردع عنها. على ما تقدم نظيره في مبحث حجية خبر الواحد.

على أنه لا ينبغي الريب في الامضاء بالنظر لما تقدم من النصوص الكثيرة والإجماع القولي والعملي.

٣٦١

ومن هنا كانت هذه القاعدة من الضروريات المسلمة المستغنية عن تكلف الاستدلال لو لا بعض النكات والخصوصيات التي قد ينفع فيها سطر الأدلة واستيعابها ، على ما قد يتضح بما يأتي إن شاء الله تعالى.

المقام الثاني : في تحديد مفهوم القاعدة.

وحيث كان مضمونها الاعتماد على اليد في البناء على الملكية ، كانت متقومة باليد ، والملكية ، والنسبة بينهما المصححة للاعتماد المذكور.

فينبغي الكلام في تحديد كل منها بذكر أمور ..

الأمر الأول : قد اخذت اليد بعنوانها في بعض النصوص المتقدمة ، وهي لغة الجارية ، وقد استعيرت للنعمة والقدرة والجاه والحوزة وغير ذلك.

والظاهر أن المعيار فيها في المقام كون الشيء في حوزة الشخص بنحو يكون من توابعه الملحقة به.

لا كونه تحت يده الحقيقية كالدرهم المقبوض باليد ، لتحققها في ما يمتنع الاستيلاء عليه بها ، كالضياع والعقار وقطعان الماشية ، وعدم صدقها بمجرد قبض الانسان الشيء بيده ، كما لو قبض ثوب غيره الذي قد لبسه ، فان صاحب اليد عرفا هو اللابس وحده ، لا مع القابض ولا القابض وحده.

كما لا يكفي فيها القدرة والقوة على الشيء ، لوضوح عدم كون الملك صاحب يد على أموال رعيته وإن كان أقدر عليها منهم.

وكذا لا يكفي مجرد كون الشيء في حوزة الانسان إذا كان استيلاؤه مبنيا على تسليط الغير له عليه ، مع عدم كونه عرفا من توابعه ، بل من توابع من سلّطه ، لكون سلطنته عليه في طول سلطنته.

ولهذا لا تنسب اليد للوكيل على المال وإن كان في حوزته ، بل تنسب للموكل المسلط ، حيث يكون المال من توابعه عرفا.

وإن شئت قلت : الجهة الارتكازية المقتضية لحجية المالك هي الجهة

٣٦٢

الجامعة بين يد الأصيل المباشر ويد الموكل المستولي بالواسطة ، لا بين يد الأصيل المباشر ويد الوكيل المستولي بالمباشرة ، فصاحب اليد هو المتسلط على الشيء استقلالا ، لا المسلط عليه من غيره في طول سلطنته.

نعم ، لا يبعد كون الأصل في الحيازة أن تكون مبنية على الاستقلال لا التبعية ، بنحو يكون المحاز من توابع الحائز ، لا من توابع غيره ، لتفرع حيازته على حيازة غيره ، لابتناء ذلك على عناية ليس بناء العقلاء عليها في مقام ترتيب الأثر.

ويناسب ما ذكرنا في معيار اليد ما في صحيح عثمان وحماد المتقدم ، فإنه عليه السّلام قد فرض نفسه صاحب يد على فدك من دون أن يقبضها بيده ، مع كون الغلبة والسلطان لغيره ، كما تعرض عليه السّلام لفرض كون اليد للمسلمين مع وضوح أن فعلية يدهم على الشيء بصيرورته في حوزة وليهم الذي يقوم مقامهم ، حيث لا يبتني استيلاؤه على الشيء على كونه من توابعه ، بل من توابع المسلمين. بل هو المناسب لجميع أدلة المقام بعد تنزيل بعضها على بعض وتحكيم سيرتي العقلاء والمتشرعة عليها. وعليه يلزم تنزيل الاستيلاء في موثقة يونس المتضمنة لحكم متاع البيت.

هذا ، والمرجع في تحقق اليد وتشخيص صغرياتها هو العرف ، لاختلاف الاموال والموارد في ذلك اختلافا فاحشا. والمعيار فيها أن تكون مبنية على التصرف في العين استقلالا تصرف المالك في ملكه ، كسكنى الدار وحفظ المتاع وقبض المال ونحوها.

وربما يكون الشيء الواحد محققا لليد في حالة دون اخرى ، كالاستيلاء على مفتاح الدار ، فانه يكفي في حصول اليد مع عدم وجود من يسكنها أو يتصرف فيها ، ولا يكفي مع أحدهما ، بل يكون صاحب اليد هو الساكن والمتصرف ، لتبعية الدار له في هذا الحال ، لا للمستولي على المفتاح.

٣٦٣

ثم إن اليد ..

تارة : تكون شخصية.

واخرى : تكون نوعية ، لأن الحائز للمال الذي يكون ذلك المال من توابعه ولواحقه قد يكون شخصا معينا يتصرف فيه بنفسه أو بتوسط وكيله أو وليه ، وقد يكون عنوانا يشتمل على أفراد كثيرة ، كالحجاج والزوار والفقراء وغيرهم ، سواء كان استيلاؤهم بتوسط الولي ، أم بلا واسطة ، كما لو تصرف أفراد العنوان بأنفسهم في العين تصرف المستحق غير المختص.

ومن ثم ذكرنا في فروع أحكام الخلوة والوضوء أنه يجوز التصرف في الموقوفات العامة التي لم يعلم كيفية وقفها مع جريان العادة بالتصرف فيها إذا كشفت عن يد نوعية ، لابتنائها على استحقاق المتصرفين ، لا محض الاباحة لهم باذن الولي أو غفلتهم عن ذلك.

كما أنها .. تارة : تكون مختصة.

واخرى : تكون مشتركة.

لأن المعيار في اليد لما كان هو تبعية ما تحتها لصاحب اليد ، بحيث يكون من لواحقه ، فقد يكون الشيء تابعا لمستول واحد ، كما قد يكون تابعا لاكثر ، وهو يقتضي ملكيته ظاهرا لهم كلهم الراجع الى ملكية كل منهم لشقص منه بالنسبة ، فليس في المقام الا يد واحدة للكل على الكل مقتضية لملكيتهم ظاهرا للكل المستلزم للتوزيع والشركة نظير البينة الواحدة المتضمنة لملكيتهم للمال.

ولا مجال في ذلك لدعوى تعدد الايدي على الكل مع كون كل منها حجة على ملكيته لكل منهم استقلالا ، لتتعارض مقتضياتها ، كالبينات المتعددة المتضمنة لملكية كل منهم.

أو دعوى : تعددها مع كون كل منها أمارة على الملكية الناقصة الذي مرجعها الى ملكية الشقص.

٣٦٤

أو دعوى ثبوت كل يد على الشقص التي هي أمارة على ملكيته لا غير ، كما لو أقام كل منهم بينة على ملكيته للشقص.

لاندفاع الأولى بعدم لحوق الشيء عرفا بكل منهم ، بل بمجموعهم ، وعدم تعارض الأيدي المذكورة ارتكازا ، لقصورها عن اثبات الملكية الاستقلالية الذي هو منشأ التعارض.

واندفاع الثالثة ـ مضافا الى ما ذكرناه من عدم لحوق الشيء عرفا بكل منهم ، بل بمجموعهم المناسب لوحدة اليد ـ بأن ملكية الشخص لا ترجع إلى نقص في الملكية ، بل في المملوك.

وأما الثالثة فتشكل : بأن التشقيص أمر اعتباري صرف ، واليد منتزعة من نحو من الاستيلاء الحقيقي الخارجي ، ولا سنخية بينهما ، فلا مجال لفرض اليد على الشقص. فما ذكرنا هو الاقرب ارتكازا.

ومن هنا يظهر أنه لو ادعى كل من أصحاب اليد ملكية العين استقلالا فالتعارض بين الدعاوى لا بين الأيدي ، فمع سقوط الدعاوى بالتعارض يرجع إلى مقتضى اليد من الشركة ، ويكون مدعي خلافها مدعيا بالإضافة إلى ما زاد عن مقتضى الشركة ، فتكون قسمتها بينهم عملا بمقتضى اليد ، لا بمقتضى قاعدة العدل والانصاف أو نحوها.

وقد أطال غير واحد الكلام في المقام بما لا مجال لمتابعتهم فيه. فراجع وتأمل جيدا.

الأمر الثاني : الظاهر أن الملكية المحرزة باليد هي ملكية المال ، لا محض السلطنة على التصرف فيه ولو بولاية أو وكالة أو إباحة.

ويقتضيه ـ مضافا إلى المرتكزات العقلائية التي هي المنشأ لسيرتهم ـ ظاهر كثير من النصوص المتقدمة ، لأن ظاهر إضافة المال للشخص باللام هو الملكية ، لا محض السلطنة على التصرف ، بل هو كالصريح من صحيح عثمان

٣٦٥

وحماد وموثق حفص ، للحكم فيهما بالملكية ، وأظهر منهما موثقة يونس إذ لا معنى لملكية التصرف مع موت صاحب اليد.

وعليه لا يتوقف البناء على ملكية صاحب اليد على دعواه لها ، لموت أو نحوه ، كما هو مقتضى إطلاق صحيحي محمد بن مسلم الواردين في المال المدفون في الدار العامرة ، بل هو صريح صحيح جميل الوارد في ما يوجد في الصندوق المختص ، المفروض فيه شك صاحب اليد ، وموثق يونس المفروض فيه موته.

وعليه لو فرض العلم بعدم ملكية صاحب اليد لما تحت يده لا مجال للبناء على سلطنته على التصرف فيه.

نعم ، الظاهر قبول خبر صاحب اليد الفعلية حينئذ في السلطنة على التصرف ، كما يقبل خبره في كثير من الامور المتعلقة بما تحت اليد ، كطهارته ونجاسته وثبوت الحق فيه ـ كحق الرهانة ـ أو سقوطه عنه أو غير ذلك.

لسيرة العقلاء بل المتشرعة على ترتيب الأثر بمجرد دعوى ذلك منه ، بل يكفي ظهور حاله في البناء على ذلك بترتيب الأثر من قبله وإن لم يخبر به صريحا ، فاذا عرض الدلال المتاع في السوق يشتري منه من دون أن يطالب بالبينة على وكالته من قبل المالك ، وكذا إذا عرض الراهن أو المرتهن العين المرهونة للبيع.

وإنما يتعمد المشتري الاستيثاق في بعض الموارد احتياطا منه لما له ، كما قد يستوثق من ملكية صاحب اليد ، لا لعدم الاعتماد عليه بنظرهم.

لكن هذا لا يرجع إلى حجية اليد ، إذ الكلام في حجيتها بنفسها لا بضميمة دعوى صاحبها ، ولذا كانت حجة على ملكيته للعين مع عدم ادعائه لها لموت ونحوه.

كما أن الظاهر تقديم قول المالك عليه لو اختلف معه ، لنظير ما يأتي إن

٣٦٦

شاء الله تعالى في اليد المسبوقة بيد اخرى :

بقي في المقام شيء ، وهو أن المتيقن من الاعتماد على اليد في البناء على الملكية إنما هو الأعيان ، وأما المنافع فيشكل عموم ذلك لها ، لعدم تحقق اليد بالإضافة إليها ـ كما عن المستند ـ لعدم تقررها في الوجود ، وإنما توجد عنه استيفائها ، فاذا علم بعدم ملكية صاحب اليد للعين واحتمل ملكيته للمنفعة باجارة أو نحوها لم يحكم له بها ، وإنما يحكم بملكيتها لصاحب اليد الذي يحتمل كونه مالكا لها ، لتبعيتها للعين المفروض حجية يده عليها في ملكيتها ، لا لكونه صاحب يد على المنفعة رأسا.

ودعوى : تحقق اليد عليها ، للاستيلاء عليها بتبع الاستيلاء على العين.

ممنوعة ، لأن مجرد الاستيلاء على المنفعة ، بمعنى إناطة تحققها باختيار المستولي على العين ، لا يكفي في تحقق اليد التي هي محل الكلام بالإضافة إليها عرفا. كيف وقد يتحقق هذا المعنى بالإضافة إلى غير صاحب اليد على العين لو فرض منعه لصاحب اليد من استيفائها ، مع أنه لا يكون صاحب يد على المنفعة قطعا.

وأما ما ذكره بعض المحققين قدّس سرّه من أن للمنفعة نحوا من الوجود ، لأن منافع الأعيان حيثيات وشئون قائمة بها موجودة بوجودها على حدّ وجود المقبول بوجود القابل ، وليست هي عبارة عن استيفاء المنفعة بالمعنى الفاعلي ، كسكنى الدار وركوب الدابة ، الذي ليس له وجود متقرر ، بل ذلك من أعراض المنتفع.

ففيه .. أولا : أن المقبول لا يوجد فعلا بمحض وجود القابل ، بل هو موقوف على تمامية أجزاء علته ، بل ليس الفعلي إلا القابلية ، وهي أمر انتزاعي لا يتحد مع المنفعة ولا يقبل الملكية ، بل ليس المملوك إلا المعنى الحدثي القائم بالعين حين الانتفاع ، فان المنفعة أمر إضافي قائم بالمنتفع والمنتفع به ، ومرجع

٣٦٧

ملكيته إلى ملكية صدوره من المنتفع به المقابل لاستيفائه من المنتفع بالمعنى الفاعلي ، ومن الظاهر أن الأمر المذكور تدريجي ليس له وجود متقرر قابل لأن يكون تحت اليد.

وثانيا : أنه لو فرض أن للمنفعة نحوا من الوجود القار القابل للاستيلاء في الجملة إلا أن ذلك لا يستلزم صدق اليد التي هي محل الكلام ـ بالإضافة إليها عرفا زائدا على صدقها على العين ، لإمكان أخذ نحو خاص من الاستيلاء في مفهومها ، فيلزم الاقتصار على الأعيان ، لأنها المتيقن من الإجماع والسيرة. بل النصوص ، لاختصاص موارد أكثرها بها.

وكذا صحيحة عثمان وحماد وموثقة حفص ، إذ لا مجال للتعويل على متعلق اليد فيهما مع الشك في صدق اليد ، لقصور الإطلاق عن غير مورد متعلقه.

بل لما لم يكونا واردين لبيان حجية اليد بل لبيان عدم تكليف صاحب الحجة بالبينة وجواز الشهادة على مقتضى اليد مع المفروغية عن حجتها على الملكية ، فلا إطلاق لهما في حجية اليد على الملكية ، بل لعل منشأ المفروغية السيرة ، فلا عموم لهما لغير موردها.

ولا سيما مع اشتمال الموثقة على فرض شراء ما تحت اليد ، المنصرف لخصوص الأعيان ، ومن ثم يشكل دخول الاعراض ـ كاللون ـ تحت اليد تبعا للعين ، لو فرض إمكان ملكيتها لغير مالك العين. ومجرد كونها ذات وجود قار لا يكفي في ذلك.

وأشكل من ذلك إمكان فرض اليد على المنفعة استقلالا ، لا بتبع العين ، وذلك بالتصرف الاعتباري فيها بمثل التصدي لاجارة العين والصلح على منفعتها.

إذ فيه أن التصدي للتصرف ، بل التصرف بنفسه من دون أن يكون المتصرف به تحت اليد لا يكون منشأ لصدق اليد ، لا في الأعيان ولا في المنافع ،

٣٦٨

حقيقيا كان ـ كهدم الدار ، واستيفاء منفعتها بالسكنى ـ أو اعتباريا ـ كبيع الدار وتمليك منفعتها باجارة ونحوها ـ وليس التصرف الاعتباري بأولى من التصرف الحقيقي ، ولا التصرف في المنفعة بأولى من التصرف في العين ، مع أنه لا ريب في عدم كون التصرف الحقيقي في العين ـ كخرق الثوب وكسر الاناء ـ منشأ لصدق اليد إذا لم يكن متفرعا على الاستيلاء بالنحو الخاص الذي سبق تحديده.

نعم ، مع كون العين تحت اليد ينفذ التصرف في المنفعة ، لما سبق من نفوذ تصرف صاحب اليد الفعلية في ما تحت يده وقبول قوله فيه وإن لم يكن مالكا.

لكن التصرف المذكور إنما يحرز السلطنة على المنفعة ، ولا يحرز ملكيتها ، إلا أن يدعيها زائدا على ذلك. وهو خارج عن محل الكلام ، إذ الكلام في حجية اليد بنفسها على الملكية مع قطع النظر عن ادعائها.

وأما ما ذكره السيد الطباطبائي قدّس سرّه في كتاب القضاء من فرض اليد على المنفعة استقلالا في مثل ثمرة الوقف لو قبضها الموقوف عليها ولم يكن الوقف تحت يده.

فهو خارج عن محل الكلام ، إذ الكلام في المنافع المقابلة للاعيان ، لا في العين التي هي نماء عين اخرى ، لعموم دخول الأعيان تحت اليد لها بلا إشكال.

ثم إن لازم دخول المنافع تحت اليد تبعا لدخول العين هو دخول تمام المنافع في جميع أزمنة وجود العين ، لا خصوص منفعة يوم أو شهر أو سنة ، لعدم المعين ، فلصاحب اليد دعوى أي مقدار شاء منها ، وهو لا يخلو من غرابة.

هذا ، ولا يبعد قبول قول صاحب اليد الفعلية في ملكية المنفعة ، لكونه صاحب يد على العين ، فيقبل قوله في شئونها المتعلقة بها ، كما تقدم نظيره في دعوى السلطنة على التصرف ، لا بملاك كونه صاحب يد على المنفعة ، ولذا لا بدّ

٣٦٩

في البناء على ملكيته للمنفعة من دعواه ذلك زائدا على يده.

نعم ، الظاهر تقديم قول مالك العين لو اختلفا ، كما تقدم ويأتي نظيره في اليد المسبوقة بيد اخرى.

ومن هنا تظهر ثمرة النزاع المذكور ، فانه على القول بعدم ثبوت اليد على المنفعة يقدم قول المالك لتبعية المنفعة للعين في الملكية بحسب الأصل ، أما على القول بثبوت اليد على المنفعة زائدا على ثبوتها على العين فالمتعين تقديم قول صاحب اليد على قول المالك ، إذا لم ترجع دعواه إلى تملكه المنفعة منه باجارة ونحوها ، كما لو ادعى أنه استأجر العين من المالك السابق ، وأن المالك اشتراها مسلوبة المنفعة. نعم ، لو رجعت دعواه إلى أخذها منه قدم قول المالك.

وقد ذكر ذلك السيد الطباطبائي من دون أن ينبه إلى كونه ثمرة للنزاع في المقام.

كما تظهر ثمرة النزاع أيضا لو علم بعدم ملكية صاحب اليد للعين ، واحتمل ملكيته للمنفعة من دون أن يدعي ذلك.

ومن جميع ما ذكرنا يظهر الحال في الحقوق المتعلقة بالعين ، كحق الرهانة والجنابة وغيرها ، فان الظاهر عدم دخولها تحت اليد ، لا استقلالا ولا تبعا ، ولا تكون اليد حجة على ثبوتها لصاحبها ، وإنما يقبل قول صاحب اليد الفعليّة عليها ، لما تقدم.

نعم ، الظاهر ثبوت حق الاختصاص باليد لو علم بعدم ملكية العين ، كالخمر المتخذ للتخليل ، بناء على عدم قابليتها للملكية ، لأن الظاهر كون الحق المذكور مرتبة من مراتب الملكية ونحوا من أنحائها.

والتفكيك بينهما عرفا مما تأباه المرتكزات جدا ، فلا يتوقف الحكم بثبوت حق الاختصاص لصاحب اليد على دعواه له أو ترتيب آثاره.

٣٧٠

كما أن المعيار فيه ليس على اليد الفعلية ولو كانت متفرعة على يد اخرى وفي طولها ، كيد الوكيل ، بل على اليد المستقلة ، على ما ذكرناه في تحديد اليد في محل الكلام.

تعقيب وتلخيص :

قد ظهر من جميع ما ذكرنا أن اليد تطلق ..

تارة : بلحاظ الاستيلاء ودخول الشيء في الحوزة المبني على كون المستولى عليه من توابع المستولي ولواحقه.

واخرى : بلحاظ الاستيلاء الفعلي والحوزة وإن لم يكن المستولى عليه من توابع المستولي ، بل كان تابعا لشخص آخر ، لتفرع الاستيلاء المذكور على تسليط ذلك الشخص ، بحيث يكون مظهرا له. وباللحاظ الأول تكون يد الوكيل يد الموكل ، وباللحاظ الثاني تكون يدا له بنفسه.

واليد الأولى مصححة للبناء على ملكية صاحبها أو ثبوت حق الاختصاص له ، من دون حاجة إلى دعواهما أو ترتيب آثارهما من قبله.

وهي المرادة في محل الكلام ، ولا تكون بنفسها حجة على غير الملكية من شئون ما تحت اليد ، وإنما تترتب آثار الملكية من السلطنة وملكية المنفعة تبعا لاحراز ملكية العين ، لا لنهوض اليد بنفسها لاحرازها.

واليد الثانية مصححة للبناء على نفوذ تصرف صاحبها في ما تحت يده وقبول قوله فيه وفي شئونه من السلطنة على التصرف والحقوق والمنافع وغيرها ، وليست هي حجة بنفسها مع قطع النظر عن التصرف والقول المذكورين.

ولا يفرق فيها بين يد المالك والوكيل والأمين والولي وغيرها حتى من يعلم بكونه غاصبا ، فيقبل قوله في تعيين مالك العين وصاحب الحق فيها ونحو

٣٧١

ذلك.

وهي أعم من الأولى ، لانفرادها عنها في المستولي بالفعل الذي يعلم بعدم ملكيته ، ويجتمعان في المستولي بنفسه أو بوكيله إذا احتمل ملكيته ، فيحكم بملكيته لما تحت يده وإن لم يدّعها ، ويقبل قوله وينفذ تصرفه فيه.

وكلاهما يختص بالأعيان ولا يجري في المنافع ، وإنما يبنى على ملكية المنفعة في الأولى تبعا لإحراز ملكية العين ، ويقبل قول صاحب اليد الثانية فيها لأنها من شئون العين.

وكأن ذلك هو منشأ الخلاف المتقدم في دخول المنافع تحت اليد. ومحل الكلام بالأصل هو اليد الأولى ، والتعرض للثانية بتبعها.

الأمر الثالث : لا إشكال ظاهرا في أن اليد مصححة للبناء عملا على الملكية والتعبد بها ، وليست متمحضة في ترتيب آثار الملكية عملا الراجع إلى مقام التعذير والتنجيز ، من دون تعبد بها. بل الظاهر أنها منشأ لاحراز الملكية ، لا لمحض التعبد بها من دون توسط المحرز ـ كما في أصالتي الحل والطهارة ـ لان النصوص بنفسها وإن كانت قاصرة عن إثبات ذلك ، إلا أنه يكفي في إثباته المرتكزات التي هي المنشأ في سيرة العقلاء والمتشرعة ، بل التي يظهر من بعض النصوص الجري عليها ، كصحيح عثمان وحماد وموثقة حفص ، كما أشرنا إليه آنفا.

وقد أشرنا إلى الفرق بين الأصول التعبدية والإحرازية في ذيل الكلام في أدلة الاستصحاب ، وربما يأتي في أوائل مبحث التعارض.

وإنما الكلام في أن إحراز اليد للملكية هل يرجع إلى أماريتها عليها ، أو لا ، بل هي أصل إحرازي؟.

وحيث كان الفرق بين الأصل والأمارة متمحضا في ابتناء اعتبار الأمارة على فرض كاشفيتها زائدا على كونها مصححة للتعبد بالمؤدى ، كانت الأماريّة

٣٧٢

محتاجة إلى عناية زائدة على أصل التعبد بالمؤدى لا بدّ من إثباتها من دليل الاعتبار.

ومن الظاهر أن النصوص غير صالحة في نفسها لاثبات ذلك ، إذ لم يتعرض فيها إلا للتعبد بملكية صاحب اليد.

كما أن مجرد بناء العقلاء على الملكية من جهة اليد لا يستلزم أماريتها ، حيث قد تكون أصلا عقلائيا ، كأصالة عدم المانع التي يبني العقلاء عليها في بعض الموارد ، فلا بد في إثبات أمارية اليد من دعوى ابتناء المرتكزات العقلائية التي هي المنشأ للسيرة عليه.

وقد يقرب بما ادعاه غير واحد من أن منشأ بناء العقلاء على العمل باليد هو غلبة كون ما تحتها ملكا لصاحبها.

وقد استشكل فيه بعض المحققين قدّس سرّه : بأن المسلّم غلبة كون اليد غير عادية ، لا غلبة كونها مالكية ، لكثرة أيدي الأولياء الوكلاء ونحوهم من غير المالكين الذين لهم الحق في وضع اليد. فراجع كلامه.

بل الإنصاف : أن ملاحظة حال الناس وشدة تسامحهم في الأموال ، وجهلهم قصورا أو تقصيرا بطرق حلها مانع من دعوى غلبة كون اليد غير عادية ، لكثرة الابتلاء بالغصب ، والعقود الفاسدة المستلزم لحرمة المال وحرمة نمائه ونماء نمائه مهما تعاقب ، وهو كما يوجب عدوان يد الأصيل يوجب عدوان اليد المتفرعة عليها بوكالة أو ولاية أو نحوهما. فالغالب في اليد العدوان ولو مع الجهل أو الغافلة الموجبين للعذر.

اللهم إلا أن يقال : هذا بالنظر الى الملكية شرعا ، لكثرة قيودها وشروطها ، أما بالنظر إلى أسباب الملكية السائدة بين الناس بلحاظ أعرافهم أو قوانين دولهم قبل الشريعة فغلبة اليد المالكة غير بعيدة ، لتسامحهم في أسباب الانتقال.

ومخالفة الشارع للعرف في أسباب الملكية ثبوتا لا ينافي إمضاءه لما

٣٧٣

جروا عليه من أمارية اليد على الملكية إثباتا بالنظر للغلبة المذكورة عندهم.

هذا ، مضافا إلى أن أمارية اليد ارتكازية وإن لم تبتن على الغلبة المدعاة ، فيتعين البناء عليها وإن لم يعلم منشؤها. فلاحظ.

ثم إنه لا ينافي أماريتها المفروغية عن تقديم بعض الأمارات عليها كالبينة ، إذ لا مانع من تقديم بعض الأمارات على بعض ، تبعا لأدلتها ، كما يقدم الإقرار على البينة.

بل قد يدعى أن حجية اليد قد تكون سببا في تحقق موضوع بعض الأمارات ، وحجيتها بنحو تقدم على اليد في الرتبة اللاحقة ، كما هو الحال في إقرار صاحب اليد بملكية الغير. فإن حجية اليد على ملكية صاحبها توجب صدق الإقرار على إخباره بملكية الغير المقتضي لقبوله على خلاف مقتضى اليد في الرتبة الثانية.

لكن الظاهر اندفاعه : بأن اعتراف صاحب اليد بملكية الغير راجع إلى عدم ملكيته لما تحت يده ، وملكية المقرّ له به. والإخبار بالأول هو الذي يصدق عليه عنوان الإقرار ، وهو لا يتوقف على حجية اليد ، بل يصدق حتى من غير صاحبها. والإخبار الثاني ليس إقرارا منه ، بل شهادة صرفة ، وقبوله منه ليس بملاك حجية الإقرار ، بل بملاك حجية خبر صاحب اليد الفعلية ، كقبول خبر الوكيل والأمين.

وينبغي التنبيه على أمور :

الأول : تقدم أن اليد الفعلية مصححة للبناء على صحة تصرف صاحبها وقبول خبره في ما تحت يده.

والظاهر أنها أمارة على نفوذ التصرف ، كأمارية اليد على الملكية في محل الكلام ، لاشتراكهما في الجهات الارتكازية المناسبة للأمارية.

كما لا ينبغي الإشكال في أمارية خبر صاحب اليد ، فإنه كسائر الأخبار المبنية على الحكاية والكشف والتي يبتني قبولها على التصديق والمتابعة.

٣٧٤

الثاني : لا ريب في تقديم اليد على الاستصحاب ، سواء كانت أمارة أم أصلا ، لأن مورد اليد ..

تارة : لا يكون مجرى لاستصحاب الملكية ولا عدمها ، كما لو علم بسبق الملكية وعدمها مع الجهل بالتاريخ.

واخرى : يكون مجرى لاستصحاب الملكية ، بأن علم بسبقها.

وثالثة : يكون مجرى لاستصحاب عدم الملكية ، للعلم بسبقه ولو أزلا ، كما هو الغالب.

فلو فرض انحصار دليل اليد بعموم يقتضيه ، فالنسبة بينه وبين عموم دليل الاستصحاب وإن كانت هي العموم من وجه ، ويتنافيان في الصورة الثالثة ، إلا أنه يلزم تقديم عموم اليد في الصورة المذكورة ، إذ لو قدم عموم الاستصحاب انحصر العمل بعموم اليد بالصورتين الاوليين ، وهو في معنى إلغائه عرفا ، لإغناء الاستصحاب عن اليد في الصورة الثانية ، وندرة الأولى.

أما بلحاظ الأدلة الخاصة فلا ينبغي التأمل في تقديم اليد ، لأن أكثر النصوص المتقدمة ، بل كلها واردة في مورد استصحاب عدم الملكية ولو كان هو العدم الأزلي. بل لا ينبغي الإشكال في ذلك بلحاظ السيرة.

ومنه يظهر تقديم اليد على استصحاب عدم تحقق سبب الملكية ، كالبيع ونحوه ، لأن المتيقن من عموم أدلتها وخصوصها حجيتها في مورده.

ثم إن ما تقدم في وجه تقديم الأمارة على الاستصحاب من ورودها عليه بنحو من أنحاء الورود جار هنا ، لأنه لا يختص بالامارة ، بل يجري في الأصل الإحرازي الذي اخذ في موضوعه أمر زائد على الشك ، كاليد في المقام ، حيث عرفت أن اليد محرزة للملكية وإن لم تكن أمارة عليها.

نعم ، ذلك إنما يتم بالإضافة إلى استصحاب عدم الملكية ، أما بالإضافة إلى استصحاب عدم تحقق سببها من البيع ونحوه الذي هو حاكم على

٣٧٥

استصحاب الملكية فلا مجال لدعوى الورود ، لما يأتي من أن اليد لا تنهض بإحراز لوازم الملكية وملزوماتها ، فتقديم اليد لا يكون إلا لإهمال دليل الاستصحاب بالإضافة إلى الملكية التي هي أثر الاستصحاب المذكور ، الذي هو نحو من التخصيص ، حتى بناء على كون اليد من الأمارات.

الثالث : الظاهر عدم حجية اليد في غير الملكية وآثارها الشرعية من لوازمها وملزوماتها ، كموت المورث ، وبيع المالك السابق ، ونحوهما ، لاختصاص النصوص بالملكية ، وهو المتيقن من السيرة.

وهو لا ينافي ما تقدم من أماريتها ، لما تقدم في مبحث الأصل المثبت من عدم استلزام الأمارية للحجية في لازم المؤدى ، وأنه محتاج إلى دليل خاص. ومعه يبنى على ذلك في الأمارة والأصل معا.

المقام الثالث : في سعة كبرى قاعدة اليد.

والكلام فيه في ضمن مسائل ..

المسألة الأولى : لا إشكال في حجية اليد على ملكية صاحبها وإن كانت الملكية متوقفة على تجدد سبب ، كالشراء من الغير والاتهاب منه ، سواء كان ذلك الغير معلوما بالتفصيل أم بالإجمال ، وسواء ادعى صاحب اليد تحقق السبب المذكور أم لم يتعرض له ، لدخوله في إطلاق بعض النصوص المتقدمة ، بل في المتيقن من موارد بعضها ، كصحيح حماد وعثمان وغيره.

نعم ، المتيقن من ذلك ما إذا لم ينكر المالك السابق ملكية صاحب اليد ، لإنكاره لسبب الانتقال.

أما إذا أنكر ذلك فربما يستشكل في حجية اليد حينئذ ، ويدعى انقلاب صاحبها مدعيا ، ويكون المنكر هو المالك السابق ، لموافقة قوله لاستصحاب عدم تحقق سبب الانتقال ، فقد ذهب إلى ذلك جماعة ، ونسب في كلام غير واحد للمشهور ، على كلام بينهم ..

٣٧٦

تارة : في اختصاص ذلك بما اذا كان المثبت لملكية السابق هو إقرار صاحب اليد ، أو يعم ما إذا ثبت بالبينة ، أو يعم أيضا ما إذا ثبت بعلم الحاكم.

واخرى : في اختصاصه بما إذا ادعى صاحب اليد تحقق السبب المذكور ، أو يعم ما إذا أغفل ذلك. قال في الجواهر : «صرح غير واحد بانتزاع العين من يد من أقر بأنها ملك المدعي أمس ، بل في الكفاية : وفي كلامهم القطع بأن صاحب اليد لو أقر أمس أن الملك له ، أو شهدت البينة باقراره له أمس ، أو أقر بأن هذا له أمس ، قضي له به ، وإن استشكل هو في إطلاق ذلك. ودعوى : ظهور الفرق بين ثبوت الملك بالاقرار وبين ثبوته بالبينة ... كما ترى!».

كما أنه وقع الكلام منهم في أن إنكار من يترتب ملكه على بقاء ملكية المالك السابق كالوارث والموصى له ، هل يقوم مقام إنكار المالك السابق أو لا؟.

لكن نسب في المستند والعروة الوثقى إلى الأكثر تقديم اليد.

وقد أطالوا الكلام في ذلك نقضا وإبراما بما لا مجال لمتابعتهم في خصوصياته.

وينبغي لتوضيح حال محل الكلام التعرض لامور ..

الأول : أن إنكار المالك الأول لسبب الانتقال واستصحاب عدم تحقق السبب المذكور لا أثر له في موارد التداعي إلا بلحاظ ثبوت ملكيته حين اليد وعدم ملكية صاحبها حينها ، وأما سبق الملكية فهو بنفسه خارج عن مورد التداعي ، فلا يكون موردا للأثر.

وحينئذ فإن فرض عموم دليل حجية اليد للمورد لم ينهض الاستصحاب لمعارضته ولزم البناء على تخصيص عمومه في الفرض ، كما هو الحال في سائر موارد اليد ، ومنها ما لو ادعى صاحب اليد الشراء من غير المدعي ، أما لو فرض جريان الاستصحاب المذكور ، بحيث يكون المالك الأول المنكر للانتقال منكرا وصاحب اليد المدعي له مدعيا ، لموافقة الحجة للأول دون الثاني ، لزم عدم

٣٧٧

حجية اليد وقصور دليلها في الفرض تخصيصا أو تخصصا.

فلا مجال لما ذكره غير واحد من الجمع بين انقلاب الدعوى وصيرورة المالك الأول منكرا ، وحجية اليد ، مع حكومتها على الاستصحاب أو التساقط ، كما نبه له بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه.

وأشكل منه ما في المستند من دعوى التعارض بين مقتضى اليد والاستصحاب المذكور المقتضي للتساقط ، إلا أن اليد المشاهدة الموجودة بالعيان باقية بلا معارض ، والأصل عدم التسلط على انتزاع العين من يد ذيها وعدم جواز منعه من التصرفات حتى مثل البيع والإجارة ، إذ غاية الأمر عدم الدليل على ملكيته ، ولكن لا دليل على عدمها أيضا.

إذ فيه : أنه بعد فرض سقوط اليد بالمعارضة مع الاستصحاب لا معنى لملاحظتها.

كما أن مقتضى الأصل جواز انتزاع العين من يد ذيها بعد عدم ثبوت استحقاقه لها بسبب سقوط يده عن الحجية ، إلا أن يستلزم التصرف في نفس صاحب اليد أو مال آخر له ، لحرمته ذاتا ، وعدم ثبوت اعتدائه بالاستيلاء على العين لتسقط حرمته.

وأصالة عدم جواز منعه عن التصرف لا تقتضي نفوذ تصرفه ، بل هو مخالف للأصل.

الثاني : أن اعتراف صاحب اليد بملكية الغير سابقا ودعواه الملكية مع وضوح امتناع انتقال الملك من دون سبب ناقل ظاهر عرفا في دعواه تحقق السبب الناقل ضمنا وإن لم يذكره صريحا.

نعم ، لو صرح بعدم دعواه لذلك وإعراضه عنه أو قامت قرينة خاصة عليه منع ذلك من الظهور العرفي المذكور.

ولا يكون بمجرد ذلك مكذبا لدعواه الملكية الفعلية ، ولا مسقطا ليده لو

٣٧٨

فرض حجيتها ذاتا ، خلافا لما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه ، لأن امتناع ملكيته فعلا بعد ملكية السابق من دون سبب ناقل إنما يوجب توقفها على وجود السبب الناقل واقعا ، لا على دعواه.

نعم ، لو ادعى عدم السبب الناقل كان مكذبا لدعواه ومسقطا ليده عن الحجية ، لمنافاة مقتضاها لاقراره.

ثم إنه لو فرض التنافي بين دعوى الملكية الفعلية التي هي مقتضى اليد والإقرار بملكية الغير سابقا من دون دعوى السبب الناقل ، فحيث كان منشأ التنافي هو امتناع انتقال المال من دون سبب ناقل ، فلا فرق بين الإقرار والبينة وعلم الحاكم بسبق ملكية الغير ، وحيث كانت كلها مقدمة على اليد ، ولا يختص الإقرار بينها بذلك ، فالفرق بينه وبينها لا تقتضيه القواعد المعول عليها ، بل يحتاج لدليل خاص.

وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه في وجه الفرق من أن انقلاب الدعوى (١) ليس من آثار الواقع ، بل من آثار نفس الإقرار ، حيث يؤخذ المرء بإقراره ولو مع العلم بمخالفته للواقع ، كما لو أقر بعين لاثنين على التعاقب.

فهو كما ترى لا يرجع إلى محصل ظاهر ، فإن الإقرار من الطرق الظاهرية ، فلا يقدم على العلم.

والإقرار بعين واحدة لاثنين على التعاقب إنما يكون نافذا في حق كل منهما ، لعدم الأثر للعلم الإجمالي بكذب أحد الإقرارين في حق كل منهما ، كي يمنع من نفوذ الإقرار في حقه ، فلو كان له أثر لم ينفذ له إلا أحد الإقرارين ، كما

__________________

(١) مصب كلامه هنا وإن كان في انقلاب الدعوى لا في تكذيب اليد ، إلا أنه ذكر انقلاب الدعوى فرارا عن محذور التكذيب ، بزعم ان دعوى الملكية الفعلية لا بدّ أن ترجع إلى دعوى حصول السبب الناقل ، إذ لو لم ترجع لذلك لزم تكذيب اليد وسقوط الدعوى رأسا ، لاستحالة انتقال المال من دون سبب ، وهذا جار ـ كما عرفت ـ في غير الإقرار ، ولا بدّ في الفرق من فارق ، فلاحظ.

٣٧٩

كما لو ورث أحد الشخصين المقر لهما الآخر.

على أن المفروض في المقام أن تقديم الإقرار ليس مع العلم بكذبه ، كي يتجه الاعتماد على الفرق المذكور ، بل لمنافاة المقرّ به لليد ، وتقديم الإقرار عليها ، والمفروض مشاركة البينة وعلم الحاكم له في ذلك.

الثالث : أن صاحب اليد في المقام إن ادعى تحقق السبب الناقل صريحا أو ضمنا ـ تبعا لإقراره بسبق الملكية ، على ما سبق ـ لا يكون مدعيا إلا مع فرض عدم حجية يده على الملكية الفعلية ، لأن وجود السبب الناقل ليس بنفسه موردا للدعوى ، وإنما يتوجه ذكره بلحاظ ترتب فعلية الملكية عليه ، فمع فرض حجية اليد في ثبوت الملكية يبقى مدعيه منكرا وإن لم يثبت ما ادعاه بخصوصيته ، نظير ما لو ادعى الشراء من شخص آخر غير المدعي. ومع فرض عدم حجية اليد تنقلب الدعوى وإن لم يدع السبب الناقل ، لاستصحاب الملكية السابقة.

فما يظهر من بعضهم من الفرق في محل الكلام بين دعواه السبب الناقل وعدمها ، وأن انقلاب الدعوى مختص بالأول ، في غير محله.

إذا عرفت هذا ، فنقول : حيث ظهر مما تقدم أن الحكم في المقام يبتني على حجية اليد في صورة إنكار المالك السابق للسبب الناقل وادعائه بقاء الملكية السابقة ، وعدمها ، فقد تصدى بعضهم لتقريب حجيتها بعموم الأدلة السابقة المقدم على عموم الاستصحاب.

ولازم ذلك عدم انقلاب الدعوى ولا سقوطها مطلقا.

وأما دعوى : سقوطها لو شهدت البينة بالملكية السابقة وببقائها استنادا للاستصحاب ، لتقديم البينة على اليد في فرض التنافي بينهما.

فهي مدفوعة : بأنه لا يجوز للبينة الشهادة اعتمادا على الاستصحاب بعد فرض حجية اليد وتقديمها عليه ، بل تكون مدلسة بذلك ، كما نبه له بعض الأعاظم قدّس سرّه.

٣٨٠