المحكم في أصول الفقه - ج ٥

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٨

ترتيب آثار الرق على ما تحت اليد ، وإن احتمل حريته ، بل وإن ادعاها ، مع أن الحرية هي مقتضى الأصل ، والحر لا يقبل الملكية ، بل هو أشد من الوقف.

وقد فرق قدّس سرّه بينهما بأن المفروض في المقام العلم بسبق الوقفية ، ولا يعلم بسبق الحرية لمن هو تحت اليد ، بل ليس فيه إلا أصالة الحرية المختصة بغير ما يكون تحت اليد ، ولا تجري في ما يكون تحت اليد ، بل اليد أمارة على رقيته.

لكنه مخدوش ...

أولا : بأن مقتضى ما ذكره لزوم إحراز قابلية المال للتملك في حجية اليد على ملكيته ، لا مجرد عدم إحراز خروجه عن القابلية المذكورة ، ومن الظاهر أنه لا محرز للرقية لو لا اليد.

وثانيا : بأن اختصاص أصالة الحرية بغير ما يكون تحت اليد ليس لقصورها ذاتا عن مورد اليد ، لإطلاق نصوصها ، بل لتقديم اليد عليها ، الكاشف عن نهوض اليد باثبات قابلية المال للتملك.

ولذا لا ريب في أنه لو سقطت اليد عن الحجية ولو بالمعارضة لكان الأصل الحرية ، كما تضمنه صحيح حمران : «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن جارية لم تدرك بنت سبع سنين مع رجل وامرأة ، ادعى الرجل أنها مملوكة له ، وادعت المرأة أنها ابنتها. فقال : قد قضى في هذا علي عليه السّلام ... كان يقول : الناس كلهم أحرار إلا من أقر على نفسه بالرق وهو مدرك ، ومن أقام بينة على من ادعى ـ من عبد أو أمة ـ فإنه يدفع إليه ...» (١).

وأما ما ذكره قدّس سرّه من أن استصحاب الخمرية مانع من البناء على ملكية ما تحت اليد.

فليس الوجه فيه قصور اليد عن إثبات الملكية عند الشك في قابلية المال للتملك ، بل لأن اليد لا تحرز الملكية بخصوصيتها ، ولذا لا تكون اليد على مثل

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٨ باب : ١٢ من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى حديث : ٩.

٤٠١

الخمر القابل للتخليل كاذبة ، بل تحرز أحد الأمرين من الملكية وحق الاختصاص ، الذي هو نحو من الملكية عرفا ومن مراتبها ـ كما تقدم ـ وتعيين أحد الأمرين تابع لحال المال الذي تحت اليد ، لا لليد ، فإذا كان هناك أصل يحرز عدم قابلية المال للتملك لم يكن البناء على ثبوت حق الاختصاص فيه دون الملكية منافيا لليد ، كي يرجع إلى تقديم الأصل على اليد ، بل هو شارح لحال موضوعها ، بخلاف المقام ، لأن بقاء الوقفية مناف لمؤدى اليد ، لرجوعه إلى كونها أجنبية وبلاحق.

وبالجملة : لا مجال في المقام لدعوى قصور اليد عن إحراز الملكية ، بل هي تنهض بذلك. ومجرد كون منشأ الشك في الملكية الشك في قابلية المال للتملك ـ بالمعنى المذكور ـ غير ضائر ، لعموم حجية اليد لمثل ذلك.

نعم ، لا بدّ في حجية اليد في محل الكلام من عدم دعوى الموقوف عليهم بقاء الوقف ، وعدم سبق استيلاء صاحب اليد بوجه غير مملك من أمانة أو عدوان بنحو يحتمل كون يده الفعلية بقاء لتلك اليد ، وإلا جرى ما تقدم في المسألة الأولى والثانية ، لعدم اختصاص ملاكهما بفرض ملكية العين للغير سابقا ، بل يعم مثل المقام ، مما كان المال فيه موردا لحق الغير.

٤٠٢

خاتمة :

تعرض غير واحد ممن كتب في هذه القاعدة لامور خارجة عن حجية اليد على الملكية ، كجواز الشهادة اعتمادا على اليد ، وحكم اليد في التداعي من حيثية تعيين المدعي من المنكر ، وحجية اليد في غير الملكية كالولاية والعرض والنسب ، وحجية يد المسلم على التذكية ، وحجية إقرار ذي اليد للغير ، وقبول قوله في شئون ما تحت يده من طهارته ونجاسته ونحوهما ، وسببية اليد للضمان.

والبحث عن هذه الامور وإن كان موردا للفائدة ، إلا أن خروجها عما هو محل الكلام في هذه القاعدة ، وعدم مسانختها له في الأدلة ، وطول الكلام فيها ، وتحرير كثير منها في محالها من أبواب الفقه ، حدانا لإهمالها في المقام.

كما أنهم تعرضوا أيضا لأحكام التعارض بينها وبين غيرها ، كالاستصحاب والبينة والاستفاضة.

وذلك وان كان من المهمات المتعلقة بما نحن فيه ، إلا أن البحث في تقديمها على الاستصحاب قد تقدم في المقام الثاني.

وتقديم البينة عليها من الوضوح بحد يستغنى معه عن البحث ، كتقديم الاستفاضة العلمية عليها.

وأما الاستفاضة غير العلمية فالبحث في حالها معها مبني على حجيتها مطلقا أو في خصوص بعض الموارد ، وهو أجنبي عن محل الكلام ، فلا مجال للبحث عنه هنا.

نعم ، لو لم يكن هناك عموم يقتضي حجية اليد ، بل المتيقن حجيتها في الجملة لم يكن البحث المذكور مبنيا على حجية الاستفاضة ، لرجوعه إلى حجية اليد في مورد الاستفاضة ذاتا ، لا سقوط إحداهما بالمعارضة.

٤٠٣

لكن ما تقدم من الأدلة واف بالعموم من هذه الجهة ، فلا بد من البناء على عدم الخروج عنها إلا في مورد يعلم بتقديم الاستفاضة عليها ، لأن دليل حجية الاستفاضة لو تم في مورد فهو لبي يقتصر فيه على المتيقن ، فعمومه لمورد اليد مساوق للعلم بعدم حجية اليد على خلافها لقصور عمومها أو تخصيصه.

وهذا جار في جميع الحجج التي لا عموم في دليلها إذا عارضت اليد. أما لو كان لدليلها عموم كما لدليل اليد عموم لزم النظر في ما يعيّن أحد العمومين للعمل في مورد التنافي من المميزات الدلالية والخارجية ولا ضابط لذلك ، كما لا يسعنا تحري الموارد وتشخيص حالها ، بل يوكل لوقت الابتلاء بذلك. والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق والتسديد ، والحمد له وحده. والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وآله الطيبين الطاهرين.

٤٠٤

الفصل الثاني

في قاعدة التجاوز والفراغ

إنما جعلنا هذا العنوان لهذه القاعدة لوقوع الكلام بينهم في أن مفاد الأدلة قاعدتان موضوع إحداهما الفراغ وموضوع الاخرى التجاوز ، أو قاعدة واحدة موضوعها الجامع بين الأمرين. ويأتي الكلام في ذلك في المقام الثاني عند الكلام في مفهوم القاعدة.

وهي من القواعد المشهورة المعول عليها في مقام العمل الراجعة إلى أنه لا يعتنى بالشك في العمل إلا أن يكون في المحل قبل صدق التجاوز والفراغ.

وحيث كان موضوعها العمل الخارجي الشخصي فهي تجري في الشبهة الموضوعية ، دون الحكمية ، فلا تكون مسألة اصولية ، بل قاعدة فقهية ظاهرية.

والكلام فيها ..

تارة : في دليلها.

واخرى : في تحديد مفهومها تفصيلا.

وثالثة : في سعة كبراها. فالبحث في مقامات ثلاثة ، على نحو ما جرينا عليه في قاعدة اليد.

المقام الأول : في دليل القاعدة ، وقد يستدل عليها بامور ..

الأول : النصوص الكثيرة العامة والخاصة ببعض الموارد. فمن النصوص العامة موثق محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام : «قال : كل ما شككت فيه مما قد

٤٠٥

مضى فأمضه كما هو» (١) ، وصحيح زرارة : «قلت لأبي عبد الله عليه السّلام : رجل شك في الأذان وقد دخل في الإقامة. قال : يمضي. قلت : رجل شك في الأذان والاقامة وقد كبّر. قال : يمضي ... ثم قال : يا زرارة إذا خرجت من شيء ثم دخلت في غيره فشكك ليس بشيء» (٢) وصحيح إسماعيل بن جابر : «قال أبو جعفر عليه السّلام : إن شك في الركوع بعد ما سجد فليمض ، وإن شك في السجود بعد ما قام فليمض. كل شيء شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه» (٣). ولا يصلح الصدر في الأخيرين لتخصيص عموم الذيل فيهما بأفعال الصلاة ، لأن المورد لا يخصص الوارد ، ولا سيما مع كون العموم ارتكازيا.

وفي موثق ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه السّلام : «قال : إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فشكك ليس بشيء ، إنما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه» (٤).

لكنه يشكل : بأنه لا مجال للعمل به في مورده ، وهو الوضوء ، لوجوب الاعتناء بالشك في أجزائه قبل الفراغ منه ، كما يأتي إن شاء الله تعالى ، ولا يكفي مضي محل الجزء ما دام مشغولا بالوضوء ، والعام المخصص في مورده ليس بحجة.

اللهم إلا أن يحمل التبعيض في قوله عليه السّلام : «من الوضوء» على التبعيض بلحاظ الوحدة النوعية ، لا بلحاظ الوحدة الاعتبارية ، فيكون البعض هو الفرد من الكلي ، لا الجزء من الكل ، ويكون مفاد الصدر الذي هو مورد العموم الذي في الذيل عدم الاعتناء بالشك في الوضوء بعد الفراغ منه ، وهو مما اتفق فيه النص

__________________

(١) الوسائل ، ج ٥ باب : ٢٣ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث : ٣.

(٢) الوسائل باب : ٢٣ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث : ١.

(٣) الوسائل باب : ١٣ من أبواب الركوع حديث : ٤.

(٤) الوسائل باب : ٤٢ من أبواب الوضوء حديث : ٢.

٤٠٦

والفتوى ، لا عدم الاعتناء بالشك في بعض أجزائه عند الدخول في ما بعده منها ، كي يستلزم البناء على الاعتناء بالشك فيه خروج المورد.

نعم ، لما كان هذا من أفراد العام أيضا لزم تخصيص العام في فرد غير المورد ، وليس هو محذورا مسقطا للعموم عن الحجية.

لكن لا بدّ من كون الحمل المذكور عرفيا ولو للجمع بينه وبين ما دل على الاعتناء بالشك في أجزاء الوضوء ، ولا يكفي الالتجاء إليه لأنه أولى من الطرح ، ولا يخلو عن إشكال.

ويأتي إن شاء الله تعالى تمام الكلام في الحديث في المقام الثالث عند الكلام في جريان القاعدة في الوضوء.

ومما يستفاد منه العموم ما عن مستطرفات السرائر نقلا من كتاب حريز عن زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام : «قال : إذا جاء يقين بعد حائل قضاه ومضى على اليقين ، ويقضي الحائل والشك جميعا ، فإن شك في الظهر فيما بينه وبين أن يصلي العصر قضاها ، وإن دخله الشك بعد أن يصلي العصر فقد مضت إلا أن يستيقن ، لأن العصر حائل فيما بينه وبين الظهر ، فلا يدع الحائل لما كان من الشك إلا بيقين» (١) وصحيح زرارة والفضيل عنه عليه السّلام : «فإن شككت بعد ما خرج وقت الفوت فقد دخل حائل ، فلا إعادة عليك من شك حتى تستيقن» (٢). لظهورهما ـ ولا سيما الأول ـ في أن الحائل علة لعدم التدارك ، فيتعدى عن مورده لكل حائل يتحقق معه مضي محل الشك ، أو التجاوز عنه ، على ما يأتي توضيحه.

هذا ما عثرنا عليه من النصوص العامة.

وهناك جملة من النصوص المختصة ببعض الموارد الصالحة لتأييد

__________________

(١) الوسائل ، ج ٣ باب : ٦ من أبواب المواقيت من كتاب الصلاة حديث : ٢.

(٢) الوسائل ، ج ٣ باب : ٦ من أبواب المواقيت حديث : ١.

٤٠٧

العموم ، كموثق بكير أو صحيحه : «قلت له : الرجل يشك بعد ما يتوضأ. قال : هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك» (١) وغيره مما ورد في الشك في الوضوء وفي أفعال الصلاة (٢).

الثاني : الإجماع.

ولا يخفى أنه لا مجال لدعوى الإجماع الفتوائي ، لعدم تحرير القاعدة في كلامهم ، إلا أن ملاحظة كلماتهم في أبواب الفقه قد تشهد بالإجماع الارتكازي منهم ، فقد صرحوا بعدم الاعتناء بالشك في عدد الأشواط بعد الفراغ من الطواف ، بل نفي الخلاف في ذلك مع عدم النص المعتد به فيه.

كما أن الظاهر رجوع قاعدة الصحة في العقود والإيقاعات التي ينحصر دليلها بالإجماع والسيرة إليها.

لكن المتيقن من ذلك الشك بعد الفراغ من العمل الارتباطي ، ولا طريق لتحصيل الإجماع على عدم الاعتناء بالشك في حصول الجزء بعد الدخول في غيره قبل الفراغ من المركب الارتباطي الذي هو مورد قاعدة التجاوز بناء على تعدد القاعدتين ، لعدم تصريح لهم بذلك معتد به إلا في الصلاة التي هي مورد النصوص الخاصة.

نعم ، قد يتجه ذلك بناء على اتحاد القاعدتين ورجوعهما لجامع ارتكازي واحد.

لكنه لا يبلغ مرتبة الاستدلال بعد فرض قصور تصريحاتهم ، بل في صلوح الإجماع للاستدلال حتى بالإضافة إلى ما بعد الفراغ إشكال.

الثالث : سيرة العقلاء الارتكازية على عدم الاعتناء بالشك بعد مضي

__________________

(١) الوسائل ، ج ١ باب : ٤٢ من أبواب الوضوء حديث : ٧.

(٢) راجع الوسائل ، ج ١ باب : ٤٣ من أبواب الوضوء. وج ٤ باب : ١٣ من أبواب الركوع وج ٥ باب : ٢٣ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.

٤٠٨

محل المشكوك.

ولا مجال لإنكارها بعد التأمل في المرتكزات وملاحظة مبانيهم في موارد قاعدة الصحة التي يجمعها معها جامع ارتكازي واحد ، فإن الظاهر ابتناء الإجماع على قاعدة الصحة على الارتكازيات العقلائية ، فهي قاعدة إمضائية لا تأسيسية ، ولا سيما مع فقد الأدلة النقلية التعبدية فيكشف عن قوة الجهة الارتكازية المذكورة ووضوحها بنحو أوجب تسالم الفقهاء عليها في مقام العمل.

هذا تمام ما يمكن الاستدلال به للقاعدة ، وعمدته النصوص العامة التامة السند والدلالة ، وإنما تعرضنا لما عداها لتأييد عمومها وتقريب مضمونها.

المقام الثاني : في تحديد مفهوم القاعدة تفصيلا.

والكلام في ذلك يبتني على الكلام في أن المستفاد من نصوص المقام قاعدتان مختلفتان بالحدود المفهومية ، أو قاعدة واحدة تعمّ بمفهومها كلا القاعدتين ، أو تختص بإحداهما مع إهمال الاخرى ، أو مع رجوعها إليها ، لكونها من جملة صغرياتها الحقيقية ، أو التنزيلية التعبدية.

وقد اختلفت كلماتهم في ذلك أشد الاختلاف ، وكثر منهم النقض والإبرام.

ومدعى القائل بالتعدد أن بعض النصوص قد تضمّن قاعدة التجاوز التي مفادها التعبد بوجود المشكوك بمفاد كان التامة بعد التجاوز عنه ، وبعضها قد تضمن قاعدة الفراغ التي مفادها التعبد بصحة الموجود وتماميته بمفاد كان الناقصة بعد الفراغ عنه ومضيه ، فهما مختلفان موضوعا ومفادا.

كما أنه حيث كان الشك في تمامية الموجود وصحته بمفاد كان الناقصة مسببا عن الشك في وجود جزئه وشرطه بمفاد كان التامة فالتعبد بالثاني مغن عن التعبد بالأول.

٤٠٩

ومن ثمّ لزم حكومة قاعدة التجاوز في مورد جريانها في الأجزاء والشرائط على قاعدة الفراغ في المركب ، فتختص قاعدة الفراغ بما إذا لم تجر قاعدة التجاوز.

أما الاتحاد فيمكن تصويره بوجوه ..

الوجه الأول : أن المضروب في جميع النصوص قاعدة واحدة عامة لكلتا القاعدتين لعموم موضوعها ومفادها ، بأن يراد بالشك في الشيء الشك في شأنه الذي يهتم به لترتيب العمل عليه واقتضائه التدارك ، من دون فرق بين وجوده وتماميته ، فيعم موضوعي كلتا القاعدتين ، ويكون المضي في كل شيء بحسبه ، فمضي العمل الخارجي الذي علم بتحققه وشك في صحته بالفراغ عنه ، ومضي العمل الكلي الذي شك في أصل وجوده بمضي محله.

أما مفاد هذه القاعدة فهو عدم الاعتناء بالشك ، بل يبنى على تحقق الجهة المشكوك فيها المتعلقة بالشيء ولا يحتاج للرجوع والتدارك.

وقد تعرّض غير واحد للإشكال في ذلك وأفاض بعض الأعاظم قدّس سرّه فيه بذكر خمسة وجوه اقتصرنا على أربعة منها مع نحو من الاختلاف في تقرير بعضها ..

الأول : أنه لا جامع بين مفاد (كان) التامة ومفاد (كان) الناقصة ، لترتبهما تبعا لترتب موضوعيهما ، لكون الوجود محكوما به في الأول ، وقيدا للمحكوم عليه في الثاني.

ويندفع : بأن الترتب بين موضوعي المفادين إنما يمنع من جمعهما بلحاظ واحد بحدودهما المفهومية ، ولا يمنع من فرض جامع بينهما مبني على الغاء مميزاتهما ، وهو عنوان الشيء الذي اخذ في الأدلة ، إذ لا ترتب بينهما في صدق عنوان الشيء عليهما ، ولا مانع من عمومه لها.

وحيث لا تصح إضافة الشك للشيء إلا بلحاظ نحو نسبة متعلقة به أمكن

٤١٠

عموم النسبة المصححة للاضافة المذكورة في المقام لكلتا النسبتين المناسبتين لكلا الموضوعين.

غايته أن قرينة المقام تقتضي تخصيص النسب المذكورة بخصوص ما يترتب عليه العمل ويكون منشأ للرجوع والتدارك ، وهو جامع عرفي مناسب للمقام.

الثاني : أن متعلق الشك في قاعدة الفراغ هو المركب وفي قاعدة التجاوز أجزاؤه ، ولا يمكن إرادة الكل والجزء من لفظ الشيء في الاستعمال الواحد ، إذ في ظرف لحاظ الكل يكون الجزء بعض الشيء ، وفي ظرف لحاظ الجزء يكون الكل أشياء متعددة ، لا شيئا واحدا.

ويظهر اندفاعه مما تقدم ، فإن خصوصية الكل والجزء ملغية في مقام إطلاق الشيء ، وانطباقه على كل منهما تابع لتعلق الشك به بالنحو الذي يترتب عليه العمل.

كيف! والظاهر عموم كلتا القاعدتين لو فرض التعدد للجزء والكل معا ، فتجري قاعدة الفراغ في الجزء مع العلم بوجوده والشك في صحته ، كما تجري قاعدة التجاوز في المركب لو شك في أصل وجوده وفرض صدق التجاوز عنه بالدخول في غيره أو مضي وقته.

الثالث : أنه يلزم التناقض في تطبيق القاعدة بالإضافة إلى الشك في الجزء بعد مضي محله قبل الفراغ من المركب ، إذ مقتضى تطبيقها على الجزء عدم الاعتناء بالشك لمضيه ، ومقتضى تطبيقها على الكل الاعتناء به ، لعدم مضيه.

وفيه : أنه لو تم لم يندفع التنافي بتعدد القاعدة ، لوضوح أن قاعدة الشك في المحل مباينة لهذه القاعدة اتحدت أم تعددت ، وتطبيق تلك على الكل ينافي عملا تطبيق هذه على الجزء اتحدت أم تعددت ، فلا بد في رفع التنافي من دعوى حكومة تطبيق هذه القاعدة على الجزء على تطبيق تلك على الكل ، لأن

٤١١

الشك في الكل مسبب عن الشك في الجزء.

الرابع : أن تطبيق المضي في مورد قاعدة الفراغ حقيقي ، لمضي العمل حقيقة بالفراغ عنه ، وفي مورد قاعدة التجاوز ادعائي بلحاظ مضي محله ، حيث لم يعلم بوجوده ليحرز مضيه حقيقة.

وفيه : أنه لو سلم كون تطبيق المضي في مورد قاعدة الفراغ حقيقيا ، إلا أنه لا مانع من إرادة الجامع بينه وبين مضي المحل ، بلحاظ مضي محل الشك فيهما معا ، ويكون إطلاقه ادعائيا ، لأن الإطلاق على الجامع بين المعنى الحقيقي والادعائي ادعائي ، غايته أنه محتاج إلى قرينة ، وهو أمر آخر يأتي الكلام فيه عند التعرض لمفاد النصوص إن شاء الله تعالى.

وبالجملة : الظاهر أنه لا محذور في هذا الوجه ثبوتا. والكلام في إثباته يأتي بعد النظر في بقية الوجوه ، وبيان حالها ثبوتا ولوازمها ، كي يتضح ما ينبغي النظر في دلالة النصوص عليه من غيره.

الوجه الثاني : أن المضروب في جميع النصوص قاعدة واحدة مفادها التعبد بوجود الشيء المشكوك بمفاد كان التامة بعد مضيه ولو لمضي محله. وأما الشك في صحة الموجود فهو ملحق بذلك ، لرجوعه إلى الشك في وجود الصحيح.

وهو الذي يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه في صدر كلامه ، وإن ظهر منه التشكيك فيه بعد ذلك.

وقد استشكل فيه بعض الأعاظم قدّس سرّه وغيره : بأن مجرد وجود الصحيح وإن كان موضوعا للأثر في التكاليف ، لكفايته في براءة الذمة ، إلا أن القاعدة لا تختص بها ، بل تجري في الوضعيات من العقود والإيقاعات ، حيث يترب الأثر فيها على صحة العقد أو الإيقاع بمفاد (كان) الناقصة ، لا على وجود الصحيح منها بمفاد (كان) التامة.

٤١٢

وزاد بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه قضاء السجدة ، وسجدتي السهو ، وما لو كان الشك في صحة الموجود ناشئا من الشك في الترتيب والموالاة مما لا يصدق عليه الشيء عرفا ، حيث لا يصدق على الكل أنه شيء مشكوك ، لأنه بلحاظ الأجزاء الحقيقية المقومة لشيئيته عرفا مقطوع الوجود ، وبلحاظ الترتيب والموالاة لا يصدق عليه الشيء عرفا.

ويندفع : بأن الأثر في جميع ذلك لوجود الصحيح بمفاد كان التامة ، لأن مقتضى سببية الأسباب الخاصة في الوضعيات تبعية الآثار لوجودها بمفاد كان التامة ، ولا أهمية لإحراز صحة الموجود منها إلا لإحراز وجود الصحيح.

نعم ، لما لم يكن التلازم بين الأمرين شرعيا كان الانتقال من التعبد بالأول للثاني مبنيا على الأصل المثبت ، ولا مانع منه في قاعدة الفراغ رفعا للغوية دليلها ، لانحصار العمل المترتب عليها بذلك على ما يأتي في ذيل الكلام في مفاد القاعدة ، بخلاف مثل الاستصحاب مما يمكن حمل دليله على موارد اخرى.

ومن ثمّ كان هذا من وجوه الإشكال في استصحاب الصحة وعدمها.

كما أن الترتيب والموالاة لا يبعد صدق الشيء عليهما عرفا. ولو سلم عدم صدقه عليها فهو يصدق على المقيد بهما الذي هو موضوع الأثر ، وحيث كان الشك فيهما مستلزما للشك فيه أمكن تطبيق القاعدة عليه ، وإن علم بوجود الاجزاء الحقيقية ، لأن المعلوم ليس هو المقيد.

وأما قضاء السجدة وسجود السهو فهما وإن توقفا على صحة الصلاة ، إذ لا يكفي تحقق موضوعهما في الصلاة الباطلة ، إلا أنه يمكن إحراز صحة الصلاة بإحراز وجود الأجزاء والشرائط بمفاد كان التامة بلا حاجة إلى تطبيق القاعدة على نفس الصلاة ، كي يتوقف على نهوضها باحراز صحة الموجود بمفاد كان الناقصة.

نعم ، لو فرض عدم انطباقها على بعض الشرائط ، كما سبق منه قدّس سرّه في

٤١٣

الترتيب والموالاة احتيج إلى ذلك.

ولعله هو مراده في المقام ، بأن يكون مقصوده توجيه نقض واحد مبتن على الأمثلة المذكورة ، كما قد يشهد به كلامه في بيان ثمرة النزاع في الوحدة والتعدد ، لا النقض بكل منها ، كما يظهر منه عند التعرض لهذا الوجه ، وجرينا عليه في بيان مراده. فراجع.

ولعل الأولى الإشكال على الوجه المذكور : بأن لازمه عدم انطباق القاعدة بمجرد الفراغ عن العمل الذي يشك في صحته مع بقاء الوقت وعدم الدخول في ما يترتب عليه ، إذ لا تنطبق على كلي العمل الصحيح لإثبات وجوده بمفاد كان التامة ، لعدم صدق المضي والتجاوز بالإضافة إليه بعد فرض بقاء وقته ، ولا على العمل الخاص وإن صدق عليه المضي ، لفرض اليقين بوجوده وليس الشك إلا في صحته.

الوجه الثالث : ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه فرارا عن محذور الجمع بين إرادة الكل والجزء من عموم الشيء ـ الذي تقدم منه الإيراد به على الوجه الأول ـ من أن مفاد النصوص قاعدة واحدة هي عدم الاعتناء بالشك في وجود الشيء بمفاد كان التامة ، إلا أن لهذه القاعدة فردين : حقيقي ، وهو الشك في المركب بعد تماميته ، وتعبدي تنزيلي وهو الشك في الجزء ، حيث يستفاد من صحيحي زرارة وإسماعيل بن جابر التعبد بتنزيل الجزء منزلة الكل بلحاظ ذاته مع قطع النظر عن التركيب.

ويرد عليه ما أورد على الوجه السابق من أن لازمه عدم انطباق القاعدة على العمل بمجرد الفراغ عنه قبل خروج وقته.

وما ذكره من صدق التجاوز فيه عن محل المشكوك فيه وهو الجزء ، الذي كان الشك فيه سببا للشك في وجود الكل ، راجع إلى تطبيق القاعدة على الجزء ، لا على الكل ، وإن لزم منه التعبد بصحة الكل ، لأنها مسببة عنه.

٤١٤

مضافا إلى أن الصحيحين لم يتضمنا التعبد بشيئية الجزء ولا تنزيله منزلة الكل ، بل تطبيق عنوان الشيء عليه والحكم عليه بمفاد القاعدة.

فإن كان المراد بالنصوص الاخرى ما يعم الجزء رجع إلى إمكان إرادة الكل والجزء من إطلاق لفظ الشيء فيها ، وإن اريد بها خصوص الكل كان مفادها مباينا لمفاد الصحيحين لتباين موضوعيهما ، ولزم تعدد القاعدة.

الوجه الرابع : ما يظهر من بعض مشايخنا إمكان وحدة القاعدة ، وهي قاعدة التجاوز ، مع رجوع قاعدة الفراغ إليها ، بلحاظ أن الشك في صحة العمل لا بدّ أن يكون ناشئا من الشك في تحقق جزئه أو شرطه ، فالتعبد إنما هو بوجود المشكوك ، لمضي محله ، لا بصحة العمل لمضيه بنفسه.

وفيه : أن مجرد كون منشأ الشك في صحة المركب ذلك لا ينافي التعبد بصحته في قبال التعبد بوجود الجزء أو الشرط ، لا بسبب التعبد المذكور وفي طوله.

فإن أراد عدم سوق الأدلة لبيان التعبد بصحة المركب ابتداء لمضيه بنفسه ، بل التعبد بصحته بسبب التعبد بمنشئها ، وهو وجود الجزء ، لمضي محله ، فهو راجع إلى انكار قاعدة الفراغ ، وهو ـ مع خروجه عن مفروض كلامه في تقريب الجامع بين القاعدتين ، لا في إغناء إحداهما عن الاخرى ـ لا يناسب النصوص الآتية الظاهرة في التعبد بصحة المركب رأسا ، لا بسبب التعبد بوجود الجزء ، فإن المهم هو النظر في وحدة القاعدة التي تعرضت لها جميع نصوص المقام ، لا بعضها.

مع أن لازمه عدم تحقق موضوع القاعدة بعد الفراغ من العمل قبل خروج الوقت لو كان الشك في الصحة ناشئا من الشك في الشرط ، بناء على ما ذكره من أن التعبد معه ليس بوجود الشرط ، بل بوجود المشروط ، لوضوح أن المشروط لم يمض محله قبل خروج الوقت ، نظير ما سبق في الوجهين السابقين.

٤١٥

وإن أراد أن التعبد بصحة العمل رأسا عند الشك فيها وإن كان ثابتا ـ كما هو مفاد قاعدة الفراغ ـ إلا أن الشك المذكور ناشئ دائما عن الشك في وجود الجزء أو الشرط ، الذي هو موضوع قاعدة التجاوز ، فليس معنى هذا رجوع وحدة القاعدة ولا رجوع قاعدة الفراغ لقاعدة التجاوز ، بل تلازم موضوعيهما ، وهو أجنبي عما نحن فيه.

الوجه الخامس : ما قد يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه من احتمال اختصاص نصوص المقام بقاعدة التجاوز المتضمنة للتعبد بوجود الشيء بمفاد كان التامة ، وأن البناء على صحة العمل الواقع عند الشك في حاله مبني على أصل آخر أجنبي عن مفاد هذه النصوص ، وهو أصالة الصحة في فعل الفاعل القاصد للصحيح.

ويظهر الإشكال فيه مما تقدم من ظهور بعض نصوص المقام في التعبد بصحة العمل رأسا.

وقد تحصل من جميع ما ذكرنا : أنه لا مجال لتخصيص مفاد النصوص بإحدى القاعدتين ، وأن الاتحاد لا بدّ أن يرجع إلى فرض دلالتها على قاعدة تعمهما معا ، كما هو مفاد الوجه الأول ، الذي تقدم إمكانه ثبوتا ، فلا بد من النظر في حاله إثباتا ، وأن النصوص تفي به ، أو بتعدد القاعدة.

وقد يقرب القول بالتعدد بأن ظاهر الشك في الشيء هو الشك في وجوده ، لأنه المنصرف عند حذف المتعلق بعد امتناع تعلق الشك بمفاد المفرد ، بل لا بدّ من تعلقه بالنسبة ، ولا سيما في صحيحي زرارة وإسماعيل بن جابر لما في صدرهما من فرض الشك في الأجزاء الظاهر منه الشك في وجودها لا في صحتها مع فرض وجودها ، ولا سيما مثل الركوع والسجود ، حيث لا يحتمل فيهما البطلان ، لإجزاء مسماهما ، فلا بد من حمل الخروج والتجاوز فيهما على التجاوز عن محل المشكوك ، لا عن نفسه.

٤١٦

وكذا ما ورد في الشك بعد الحائل ، لأن الحائل المذكور فيه إنما يحتاج له عند الشك في وجود الشيء بمفاد كان التامة ، وأما الشك في صحة الموجود فيكفي فيه الفراغ عنه ، ولأجل ذلك يتعين حمل هذه الصحاح وغيرها من النصوص الخاصة على التعبد بتحقق المشكوك بمفاد كان التامة ، الذي هو مفاد قاعدة التجاوز.

كما أن ظاهر بعض النصوص فرض مضي العمل بنفسه مع وجوده ، فلا بد من حمل الشك فيه على الشك في صحته ، كموثق محمد بن مسلم المتقدم ، فإنّ فرض مضي الأمر المشكوك ، والأمر بإمضائه كما هو ، ظاهر في المفروغية عن وقوعه والتردد في حاله.

ومثله موثق ابن أبي يعفور ، بناء على حمله على الشك في نفس الوضوء ، لا في أجزائه ، كما تقدم ، وكذا جملة من النصوص الخاصة ، كخبر بكير المتقدم ، وصحيح محمد بن مسلم : «قلت لأبي عبد الله عليه السّلام : رجل شك في الوضوء بعد ما فرغ من الصلاة قال : يمض (يمضي ظ) على صلاته ولا يعيد» (١) ، وصحيحه الآخر عنه عليه السّلام : «في الرجل يشك بعد ما ينصرف من صلاته. قال : فقال : لا يعيد ولا شيء عليه» (٢) وغيرها.

هذا ، ولكن ظهور الشك في الشيء في الشك في خصوص وجوده إنما يتجه لو تردد الأمر بينه وبين غيره وامتنع إرادة الجامع بينهما ، لا في مثل المقام مما أمكن فيه إرادة الجامع المناسب للمقام ، وهو الشك في ما يتعلق بالشيء من شئونه التي يهتم بها ، الذي يقتضي الرجوع والتدارك ، فإن الحمل عليه ليس بعيدا عن ظاهر التركيب.

كما أن فرض مضي الشيء في موثق محمد بن مسلم لا يمتنع أن يراد منه

__________________

(١) الوسائل ج : ١ ، باب : ٤٢ من أبواب الوضوء حديث : ٥.

(٢) الوسائل ج : ٥ ، باب : ٢٧ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث : ١.

٤١٧

الأعم من مضي الشيء بنفسه ومضي محله ، والأمر بإمضائه كما هو لا يعين الأول ، لأنه وإن كان صريحا في التردد في حال الشيء الذي مضى ، إلا أن التردد في وجود ما مضى محله وعدمه تردد في حاله بمعنى ، فهو كناية عن إلغاء الشك المتعلق به عملا ، فإذا أمكن عموم الشك للشك في الوجود والشك في الصحة ، أمكن عموم الإمضاء فيه لإلغاء كلا الشكين.

فما سبق لا ينهض باثبات صراحة النصوص العامة في تعدد القاعدة وتباين مؤدى كل طائفة مع مؤدى الاخرى.

نعم ، لا يبعد صلوحه لإثبات أن المتيقن من كل طائفة مباين للمتيقن من الاخرى ، بحيث يمنع من دعوى ظهور كل منها في نفسه في العموم ، ويوجب انصرافه لخصوص أحد المفادين ، بل قد يكون صالحا لإثبات نحو من الظهور البدوي في تعدد القاعدة بمقتضى الجمود على مدلول كل منها في نفسه.

إلا أن الظاهر الخروج عن ذلك بعد سبر جميع نصوص المقام العامة والخاصة ، والالتفات لوجود الجامع الارتكازي بين القاعدتين ، فإن تعددهما مع وجود الجامع المذكور يحتاج إلى عناية في البيان ، وهو لا يناسب تشابه ألسنة النصوص ، بسبب اشتمال كلتا الطائفتين على عنوان الشك في الشيء ، وعلى ما يقتضي مضي محل الشك ، من المضي ، والتجاوز ، والخروج ، والفراغ ، ونحوها.

فلو اريد بكل طائفة منها إحدى القاعدتين بخصوصيتها لكان المناسب التعرض لموضوعها بوجه مميز له عن موضوع الاخرى ، ولا يتكل على القرائن المتصيدة من المورد ونحوه لتحديده.

بل قد لا تنهض قرينة بتحديده ، كما في صحيح محمد بن مسلم الثاني المتقدم قريبا ، حيث لم يبين فيه أن المراد من الشك بعد الانصراف من الصلاة ، هو الشك في وجود جزئها أو شرطها ، أو الشك في صحتها.

كما قد اشتمل بعض النصوص على أحد جزئي موضوع كلتا القاعدتين ،

٤١٨

كصحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام : «قال : كل ما شككت فيه بعد ما تفرغ من صلاتك فامض ولا تعد» (١) ، لظهور الشك فيه في الشك في وجود الجزء أو الشرط ، الذي هو أحد جزئي موضوع قاعدة التجاوز لا الشك في صحة الصلاة المأخوذ في قاعدة الفراغ ، مع أن الفراغ من الصلاة أحد جزئي موضوع قاعدة الفراغ ، فلو اريد إعمال قاعدة التجاوز بخصوصيتها لكان المناسب ذكر مضي محل الجزء المشكوك ، ولو اريد إعمال قاعدة الفراغ لكان المناسب فرض الشك في صحة الصلاة ، وكذا الحال في الدخول في الغير الذي اشتملت عليه بعض نصوص كلتا الطائفتين ، حيث يأتي أن الجهة الارتكازية المذكورة ملزمة باعتباره في مورد يتوقف عليه فيه مضي محل الشك ، دون غيره ، ولا بدّ من تنزيل النصوص المتضمنة له في المورد الذي لا يتوقف عليه فيه المضي على كون ذكره لتأكيد اعتبار المضي ، لا للتقييد به زائدا عليه ، الى غير ذلك مما يظهر منه عدم الاهتمام في النصوص بتحديد إحدى القاعدتين وتمييزها عن الاخرى ، بل كلها تشير للجامع بينهما ، الذي هو أمر ارتكازي ، وليس الاختلاف بينها إلا في الخصوصيات الفردية.

إذا عرفت هذا ، فاللازم النظر في تحديد القاعدة المستفادة من النصوص ، وهو إنما يكون بتحديد موضوعها ثم مفادها. فالكلام في جهتين ..

الجهة الأولى : في موضوع القاعدة.

وقد ظهر من جميع ما سبق أنه لا بدّ فيه من أمرين :

الأول : مضي الشك في الشيء ، بمعنى الشك في شئونه التي يهتم بها من حيثية العمل والتدارك ، سواء كانت وجودا أم غيره.

وقد عرفت تضمن جميع نصوص المقام لعنوان الشك في الشيء ، وأن الجهة الارتكازية تقضي بحمله على العموم المذكور.

__________________

(١) الوسائل ج : ٥ ، باب : ٢٨ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث : ٢.

٤١٩

الثاني : مضي محل الشك ، بحيث يكون الاعتناء به رجوعا وتداركا بعد الفوت ، وهذا المعنى وإن لم يصرح به في النصوص ، وإنما اخذ فيها مضي الشيء والتجاوز عنه والخروج منه والدخول في الغير والفراغ من العمل ووجود الحائل ونحوها ، إلا أنه الجامع الارتكازي بين جميع هذه العناوين عرفا ، فيحمل ذكرها على كونها محققة له في مواردها ، ففي ما شك في صحته مع العلم بوجوده يكون مضي محل الشك بالفراغ منه ، وفي ما شك في أصل وجوده يكون مضي الشك بالدخول في ما يترتب على المشكوك ، أو بخروج وقته ، وبهما يتحقق التجاوز ويصدق الحائل.

أما بناء على التعدد فهما يختلفان في الأمر المشكوك فيه ، كما يختلفان في مضيه ، على ما سبق. وهذا كله ظاهر ، وإنما وقع الكلام في أمور تتعلق بذلك ينبغي التعرض لها تبعا لهم وتوضيحا لمحل الكلام.

الأمر الأول : أشرنا إلى أن الدخول في الغير المترتب على العمل إنما يعتبر حيث يتوقف عليه مضي المحل ، فلا يحتاج له إلا عند الشك في وجود الشيء مع بقاء الوقت.

فلو شك في وجوده بعد خروج الوقت لا يعتنى بالشك وإن لم يدخل في الغير المترتب عليه ، وكذا لو شك في صحة العمل وتماميته بعد الفراغ منه ، لكفاية خروج الوقت والفراغ في تحقق المضي بالمعنى المذكور.

ويشهد بالأول صحيح زرارة والفضيل المتقدم في أدلة القاعدة ، وبالثاني إطلاق موثق محمد بن مسلم وخبر بكير المتقدمين هناك أيضا وغيرهما من النصوص الخاصة.

ولأجلها ترفع اليد عما قد يظهر منه اعتبار الدخول في الغير ، كموثق ابن أبي يعفور ، المتقدم هناك ، وصحيح زرارة الوارد في الوضوء ، المتضمن لقوله عليه السّلام : «فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه وقد صرت في حال اخرى في

٤٢٠