المحكم في أصول الفقه - ج ٥

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٨

مسرح له في مفاهيم الألفاظ وما يستفاد من دليل الحكم وخطاب : «لا تنقض» ، كما لا مجال للرجوع لظاهر الدليل ، إذ بعد الالتفات للمناسبات الارتكازية العرفية لا يبقى للدليل ظهور على خلافها ، بل يستقر ظهوره على طبقها ، لأنها من سنخ القرائن المتصلة به.

وفيه : أن الرجوع للعقل ليس في مفهوم عدم النقض ، بل في بقاء ما يعلم أو يحتمل أنه الموضوع ، ليعلم صدق النقض حقيقة ، وقد تقدم أن لازمه عدم الاكتفاء في جريان الاستصحاب بالبقاء التسامحي في مثل استصحاب الكرية ، وفي عدم جريانه بالارتفاع في مثل الاستحالة.

كما أن الرجوع للدليل ليس بالنظر لظهوره البدوي ، بل ظهوره المستقر الثابت بعد ملاحظة جميع القرائن ، ومنها المناسبات الارتكازية مما لا يبتني على التسامح المحتاج للعناية.

الثالث : ما قد يظهر من بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه ـ على طول كلامه ـ من أن المستفاد من نصوص الاستصحاب ، بلحاظ التطبيقات الواردة فيها كون فرض اتحاد المتيقن والمشكوك مبنيا على التسامح العرفي ، لأنه بعد لزوم المسامحة في إرجاع القضية المشكوكة إلى المتيقنة بإلغاء خصوصية الزمان لتنطبق الأخبار على الاستصحاب يستكشف ابتناء الاتحاد فيها على التسامح بالوجه المذكور.

وفيه : أن التسامح في الاتحاد بالغاء خصوصية الزمان وإرادة البقاء لا يستلزم عقلا ولا عرفا إرادة التسامح في صدق البقاء.

نعم ، مقتضى تطبيق كبرى الاستصحاب في النصوص على استصحاب الطهارة عند الشك في النوم وإصابة النجاسة عدم الاعتبار بالدقة العقلية بنحو يمنع من جريان الاستصحاب في الأحكام.

١٠١

كما أن تطبيقها في مكاتبة القاساني على استصحاب الشهر ـ لو تم ـ كاشف عن الاكتفاء بالاستمرار في الامور المتصرمة التي لا تجتمع أجزاؤها في الوجود.

إلا أن هذا لا يقتضي الرجوع للعرف بالنحو الذي هو محل الكلام.

هذا ما وسعنا التعرض له من كلماتهم في المقام ، وهي ـ كما عرفت ـ لا تنهض بإثبات المدعى.

والذي ينبغي التنبيه عليه هو أن مرادهم من الموضوع لا يخلو عن اضطراب ، حيث يريدون منه ..

تارة : ما هو الدخيل في ترتب الحكم وفعليته ، الذي يكون نسبته له نسبة المعلول لعلته كالاستطاعة لوجوب الحج ، والتغير لنجاسة الماء والزوجية لوجوب الإنفاق.

واخرى : ما هو المعروض للحكم ، الذي يقوم الحكم به ويحمل عليه ، كالماء المعروض للنجاسة والصلاة المعروضة للوجوب ، وهو الذي يقابل المحمول في القضية.

فإن ما تقدم في الرجوع للنظر العقلي الدقي من ملازمة الشك في الحكم للشك في موضوعه يبتني على المعنى الأول للموضوع ، وما تقدم في الرجوع لمفاد الدليل أو النظر العرفي مبني على المعنى الثاني له ، غايته أن الرجوع لمفاد الدليل مبني على ملاحظة الموضوع العنواني في الكبرى الشرعية الواردة في مقام الجعل ، والرجوع للنظر العرفي مبني على ملاحظة الموضوع في الصغرى الجزئية في مقام فعلية الحكم.

ومنه يظهر أنه لا مجال للفرق بالوجه المتقدم في جريان الاستصحابات الحكمية بين كون المرجع في الموضوع هو العقل ، والدليل ، والعرف ، لأن

١٠٢

النجاسة ـ مثلا ـ لما كانت من العوارض الاعتبارية الموجودة فعلا فهي إنما تعرض الجسم الخارجي الخاص من ماء أو ثوب أو غيرهما ، وليست الملاقاة ولا التغير إلا علة في ذلك ، فإن اريد بالموضوع المعنى الأول فالملاقاة والتغير مقومان للموضوع ، وإن اريد به المعنى الثاني فهما خارجان عنه ، من دون خلاف في ذلك بين العقل والعرف والدليل ، ولا بين كون أخذهما في الدليل بلسان التقييد للماء وأخذهما بلسان الشرط أو التعليل ، لأن التقييد إنما يتعقل في الكلي ، وهو الماء المأخوذ في القضية الكلية ، دون الماء الخارجي الجزئي الذي يتصف فعلا بالنجاسة ، لعدم قابلية الجزئي للتقييد.

هذا ، وحيث كان الغرض من تحديد الموضوع تحصيل الضابط لاتحاد القضية المشكوكة مع المتيقنة بحيث تكون بقاء لها تعين كون المعيار على الموضوع بالمعنى الأول ، لأنه المقوم للقضية الذي يكون تعدده موجبا لتعددها ووحدته مستلزمة لوحدتها واستمرارها ، ولا أثر لاختلاف العلة في ذلك.

نعم ، للحكم في عالم التشريع ومقام جعل الكبرى الشرعية شرطية كانت أو حملية ـ مع قطع النظر عن فعليته بفعلية صغراه ـ نحو من الوجود الانشائي قائم بتمام ما هو الدخيل فيه مما هو مأخوذ في القضية المجعولة من شرط ، أو ظرف ، أو وصف ، أو حال أو غيرها من قيود الموضوع أو النسبة ، بحيث يكون تبدل أي شيء منها موجبا لتبدل الحكم الإنشائي.

إلا أن الشك في بقاء الحكم الإنشائي المذكور لا يكون إلا للشك في نسخه ، وهو خارج عن محل الكلام.

وليس محل الكلام إلا استصحاب الحكم الجزئي الفعلي الذي تحكي عنه القضية الفعلية الشخصية التي لا تقبل التقييد ، لأن التقييد والإناطة إنما يكونان في القضايا الإنشائية ، لا الفعلية ، وليست القيود المأخوذة في الكبريات

١٠٣

إلا عللا للقضايا الجزئية ، خارجة عنها غير مقومة لها.

ولتوضيح المعيار في موضوع الحكم المذكور وجريان استصحاب القضية المذكورة ينبغي التعرض لامور يبتني بعضها على بعض ..

الأول : أن الشك في العنوان المأخوذ في القضايا الشرعية التي تقع موردا لعمل المكلف ..

تارة : يتعلق بمفهومه ، كالشك في مفهوم الحج ، والصلاة ، والصعيد ، والغناء.

واخرى : بتطبيقه مع وضوح مفهومه ، كالشك في تحقق البيع ، والإقالة ، والطلاق ببعض الألفاظ الخاصة.

وفي كليهما إن أمكن الرجوع للشارع ، لتعرضه للجهة المشكوك فيها فهو ، وإلا كان مقتضى الإطلاقات المقامية الإيكال للعرف فيهما ، لأنه بعد فرض كون القضية عملية وتوقف العمل بها على تطبيق العناوين المأخوذة فيها ، وفرض عدم تعرضه لذلك ، فالظاهر منه إيكال تطبيقها للعرف المخاطبين بها بحسب ما يتيسر لهم ويصلون إليه بالوجه المتعارف لهم. وإرادة خلاف ذلك تحتاج إلى عناية وتنبيه ولا مجال للبناء عليها بدونه.

نعم ، لا بد من كون التطبيق حقيقيا بنظر العرف ، ولا مجال للاكتفاء بتطبيقاتهم التسامحية المبنية على نحو من المجاز وإعمال العناية ، لخروجها عن ظاهر الإطلاق ، حيث لا يعولون عليها في خطاباتهم وأحكامهم وامتثالاتهم. ومن هنا أفتى الفقهاء بعدم التسامح في موارد التحديد ، كالاوزان او المسافات ونحوها.

كما لا مجال للبناء على أن المعيار هي التطبيقات العقلية المبنية على البحث والتدقيق المغفول عنه عند العرف بحسب طبعهم المتعارف لهم ،

١٠٤

لخروجه عن مقتضى الإطلاق المقامي المشار إليه ، لأن الغافلة المذكورة لا تمنع من التطبيق الحقيقي على خلاف التطبيق الدقي ، بخلاف التسامح ، فإن التطبيق معه مجازي.

ومن ثمّ لا إشكال ظاهرا في جواز امتثال التكليف بصاع الحنطة ـ مثلا ـ بما يكون منها مخلوطا بقليل من التراب أو التبن بالوجه المتعارف ، وإن كان دون الصاع دقة ، وكذا الحال في سائر موارد الاستهلاك.

ولو فرض عدم تيسر تشخيص المفهوم أو المصداق للعرف لخفاء الحال عليهم في مورد لزم التوقف عن العمل بالدليل فيه والرجوع لمقتضى الأصول والقواعد الأخر.

الثاني : من الظاهر أنه لا إجمال في مفهوم النقض في أدلة الاستصحاب ، بعد ما تقدم من لزوم حملها على إرادة الاستمرار ، فليس المراد به إلا رفع اليد عن استمرار الشيء عند الشك فيه.

إلا أنه حيث كان ذلك موقوفا على اتحاد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة المتوقف على اتحاد موضوعهما المتفرع على تعيين القضية المتيقنة كان صدق النقض موقوفا ..

أولا : على تعيين موضوع القضية المتيقنة.

وثانيا : على إحراز اتحاد القضية المشكوكة في ذلك ، وبقائه حين الشك.

وعلى هذا يتعين الجري في كلا الأمرين على ما ذكرناه في الأمر السابق ، فيرجع في تعيين موضوع القضية المتيقنة إلى ما يستفاد من الأدلة الشرعية بحسب ما يفهمه العرف منها ، فإن لم تف ببيانه أو لم تكن القضية شرعية ، بل خارجية ، كما في استصحاب كرية الماء ، تعين الرجوع في تحديد الموضوع للعرف بحسب ما يدركونه بطبعهم ، وإن لم يتيسر لهم في مورد تعيينه لزم

١٠٥

التوقف ولم يجر الاستصحاب ، لعدم إحراز موضوعه.

وكذا الحال في اتحاد موضوع القضية المشكوكة مع موضوع القضية المتيقنة إلا أنه حيث لم يتصد الشارع لبيان الاتحاد ، لتكفل الأدلة الاجتهادية بتشريع الأحكام ثبوتا من دون نظر لمقام الشك ، وتكفل دليل الاستصحاب بحكم الشك بعد الفراغ عن الاتحاد وصدق البقاء ، تعين الرجوع فيه للعرف لا غير.

فإن فرض توقفهم عن الجزم بالاتحاد لم يجر الاستصحاب ، والمتبع في المقامين التطبيق الحقيقي بنظرهم ، دون التسامحي أو الدقي ، كما ذكرنا.

الثالث : أن الموضوع بمعنى المعروض يختلف باختلاف القضايا المستصحبة ، فقد يكون جزئيا ، كالماء في استصحاب طهارته وكريته ، وقد يكون كليا ، كالدينار في استصحاب انشغال الذمة به ، والصلاة في استصحاب وجوبها وغيرها من موضوعات الأحكام التكليفية ، لوضوح أن التكليف يرد على الماهيات الكلية ذات الأفراد الكثيرة ، وليس وجود الفرد في مقام الامتثال إلا مسقطا للتكليف ، كما يكون تسليم الفرد في مقام الوفاء مسقطا للدين.

وحمل التكليف على بعض الأمور الجزئية كنسبة التحريم للمرأة ، ووجوب الإكرام لزيد لا يخلو عن تسامح ، بل الامور الجزئية في ذلك قيود لموضوع التكليف ، وهو فعل المكلف المتعلق بها.

كما أن الموضوع قد يكون أمرا واحدا ، لكون العرض المحمول في القضية من الامور الحقيقية ، كالكرية والطهارة القائمتين بالماء ، والعدالة والفسق القائمين بزيد ، وقد يكون متعددا ، لكون العرض أمرا إضافيا لا يقوم بشيء واحد ، كالمجاورة القائمة بالمتجاورين ، والزوجية القائمة بالزوجين ، والتكليف القائم بالمكلّف والمكلّف والمكلّف به ، والدين القائم بالدائن والمدين والمال

١٠٦

المستحق.

إذا عرفت ذلك ، وعرفت الضوابط العامة في جريان الاستصحاب فاللازم النظر في القضية الفعلية المتيقنة التي يراد استصحابها ، فإن كانت شرعية ، كزوجية المرأة ، ونجاسة الماء المتغير ، ووجوب الصلاة ، لزم النظر في موضوعها واحدا كان أو متعددا ، فإن كان جزئيا ـ كالإنسان المعروض للتكليف ، والمرأة المعروضة للزوجية ، والماء المعروض للنجاسة ـ فاختلاف حالاته لا يمنع من الاستصحاب ، لأنه لا يوجب تعدده ، وإن احتمل دخلها في التكليف ، لما ذكرناه آنفا من امتناع تقييد الجزئي ، وعدم تقومه بالحالات الطارئة عليه ، فلو كانت دخيلة في التكليف كانت من سنخ العلل ، التي لا يوجب تعددها تعدد الموضوع ولا الحكم حقيقة بنظر العرف ، وإن كان قد يوجب تعددهما تسامحا ومجازا ، لعدم الاعتداد بذلك.

إلا أن يكون الطارئ موجبا لانعدامه عرفا ، وإن كان باقيا دقة ، كصيرورة البخار ماء ، والثوب رمادا ، لعدم الاعتداد بالبقاء الدقي ، كما لا يعتد بالبقاء التسامحي.

وإن كان الموضوع كليا ـ كالمال الذي تنشغل به الذمة في الدين ، والفعل الذي يكون موردا للتكليف ـ فمن الظاهر أن الكلي يقبل الإطلاق والتقييد ، وأن تقييد موضوع الحكم موجب لمباينته لفاقد القيد.

فإن علم بتقييد الموضوع بقيد مفقود حين الشك ، واحتمل التكليف بالفاقد حينئذ ـ ولو لأنه الميسور ـ فلا مجال للاستصحاب ، لتعدد الموضوع حقيقة ، خلافا لما يظهر منهم في بعض الموارد من الرجوع له ، اكتفاء منهم بالتسامح العرفي ، إما في نفس موضوع القضية المتيقنة ، بفرضه الأعم من واجد القيد وفاقده ، تغافلا عن أخذ القيد ، أو في اتحاد فاقد القيد مع الواجد ، تنزيلا له

١٠٧

منزلته. وقد ذكرنا أنه لا تعويل على التسامح في المقامين.

وإن احتمل تقييد الموضوع بالقيد المفقود لزم الرجوع لأدلة الحكم الشرعي ، ونحوها ، كسبب انشغال الذمة في الدين ، فإن احرز منها الإطلاق فهو ، وإلا فحيث لا مجال للرجوع للعرف ، لعدم الطريق لهم لمعرفة مثل ذلك ، يتعين التوقف وعدم الرجوع للاستصحاب ، لعدم إحراز الموضوع.

هذا كله إذا كانت القضية المتيقنة شرعية.

ومنه يظهر حال ما لو كانت خارجية ، ككرية الماء ، وبياض الثوب ونحوهما ، فإنه حيث لم يكن للشارع دخل فيها يتعين الرجوع في تعيين موضوعها واتحاده مع موضوع القضية المشكوكة للعرف ، ويكون المعيار على تطبيقه الحقيقي ، دون التسامحي ، كما لا اعتماد على النظر العقلي الدقي. فإن لم يتسن للعرف تحديد الموضوع أو الحكم بالاتحاد لم يجر الاستصحاب.

هذا تمام الكلام في المعيار في الموضوع ، الذي يبتني عليه الكلام في الاستصحاب في كثير من الموارد ، وقد خرجنا فيه عن كثير مما ذكروه. ويتلخص الفرق بيننا وبينهم بملاحظة أمور ..

الأول : أن المراد بالموضوع المعروض ، لا مطلق ما له دخل في الحكم. وقد وقع الخلط منهم في ذلك.

الثاني : أن الكلام في معيار الاستصحاب من نظر عقلي أو عرفي أو دليل شرعي ليس بالإضافة إلى نفس النقض ، لعدم الشك في مفهومه ، بل ولا في مصداقه ، بل في منشأ صدقه ، وهو تحديد موضوع القضية المتيقنة ، واتحاده مع موضوع القضية المشكوكة.

الثالث : أنه لا يعتد بالتسامح العرفي ، بل المعيار على ما يفهمه العرف من دليل الحكم ، أو بنفسه في مورد فقد الدليل مع ملاحظة تطبيقه الحقيقي. كما لا

١٠٨

يعتد بالنظر الدقي ، وما يظهر منهم من التقابل بين النظر التسامحي ، والتدقيق العقلي ، ومفاد الدليل في غير محله ، بل هناك واسطة بين الجميع ، وهو النظر الحقيقي العرفي بعد الرجوع للدليل أو للارتكازيات عند فقده ، كما هو الحال في تطبيق سائر العناوين الشرعية.

الرابع : أن محل الكلام هو الموضوع في القضية الفعلية المتيقنة ، لا ما يكون عنوانا للموضوع في القضية الكلية الإنشائية.

الخامس : أن التقييد إنما يتعقل في الموضوعات الكلية ، دون الموضوعات الجزئية ، بل كل ما يكون دخيلا في ثبوت الحكم لها يكون خارجا عن الموضوع بمعنى المعروض ، الذي هو محل الكلام.

وهذه الامور وإن كان من القريب بناؤهم عليها ، إلا أن إغفالها في المقام أوجب كثيرا من الاضطراب. ونسأله سبحانه وتعالى التوفيق والتسديد ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

تذنيب

ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه أنه لا بد في جريان الاستصحاب من إحراز بقاء الموضوع ـ الذي هو بمعنى معروض المستصحب ـ على النحو الذي كان معروضا في السابق من تقرره ذهنا أو وجوده خارجا ، قال : «فزيد معروض للقيام في السابق بوصف وجوده الخارجي ، وللوجود بوصف تقرره ذهنا ، لا وجوده الخارجي».

واستدل على اعتبار هذا الشرط بأنه لو لم يعلم لاحقا بتحقق الموضوع بالوجه المذكور فإذا اريد بقاء المستصحب العارض له ، فإما أن يبقى في غير محل وموضوع ، وهو محال ، لاستحالة قيام العرض بنفسه ، أو يبقى في موضوع

١٠٩

آخر ، ولا مجال له إما لامتناع انتقال العرض عن محله ، أو لعدم كونه مورد الأثر ، لأن الأثر قائم بوجوده في الموضوع الأول ، بل وجوده في الموضوع الثاني أمر حادث مسبوق بالعدم ، فلا مجال لاستصحابه ، بل يتعين استصحاب عدمه.

وقد استشكل في ذلك المحقق الخراساني قدّس سرّه في الكفاية بما أوضحه في حاشيته على الرسائل بقوله : «فإن المحال إنما هو الانتقال والكون في الخارج بلا موضوع بحسب وجود العرض حقيقة ، لا بحسب وجوده تعبدا ، كما هو قضية الاستصحاب ، ولا حقيقة لوجوده كذلك إلا ترتيب آثاره الشرعية وأحكامه العملية ، ومن المعلوم أن مئونة هذا الوجود خفيفة ...».

وهو بظاهره كما ترى! ضرورة أن التعبد إنما يكون بالوجود الحقيقي في ظرف الشك فيه ، فما هو موضوع الأثر واقعا ـ وهو الوجود الحقيقي ـ يكون موضوعا للتعبد وهو مورد الأثر والعمل ، لا أمر آخر غيره ، فمع فرض امتناع استمرار الوجود الحقيقي ـ لعدم الموضوع ـ يقطع بعدمه ، فكيف يمكن التعبد به ظاهرا؟!.

نعم ، يمكن التعبد بوجود آخر ليس بقاء للوجود الأول ، وهو خارج عن محل الكلام.

فالأولى في الجواب عما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه : أنه إنما يقتضي امتناع التعبد ببقاء المستصحب إذا علم بارتفاع الموضوع ، وليس هو موردا للشك من أحد.

كما أنه ليس موردا للاستدلال المذكور ، بل محل الكلام ـ كما يظهر من صدر كلامه وذيله ـ هو صورة الشك في بقاء الموضوع ، والدليل المذكور لا ينهض به ، إذ مع الشك المذكور يحتمل بقاء المتيقن سابقا ، ولو لاحتمال بقاء موضوعه ، وهو كاف في الاستصحاب.

١١٠

ولذا لا إشكال ظاهرا في أن الأثر لو كان مترتبا على بقاء العرض بمفاد كان التامة من دون أخذ انتسابه للموضوع الخاص أمكن استصحابه مع الشك في بقاء موضوعه ، فيقال : كان البياض موجودا فهو كما كان ، وإن احتمل انعدام موضوعه الذي علم سابقا وجوده فيه.

نعم ، لو علم بانعدامه علم بانعدام العرض ، بناء على امتناع قيام العرض بنفسه وانتقاله عن محله ، فيمتنع استصحابه.

هذا ، ولا ينبغي الإشكال في لزوم إحراز بقاء الموضوع لو كان أثر المستصحب متعلقا عملا به ، كما في استصحاب عدالة زيد لإثبات جواز الائتمام به ، واستصحاب طهارة الماء لإثبات جواز شربه ، فإنه ما لم يحرز بقاء زيد والماء لم ينفع استصحاب الطهارة والعدالة في ترتيب الأثرين المذكورين ، بل لا بد فيه أيضا من إحراز اتحادهما مع مورد العمل ، كالشخص الذي يؤتمّ به ، والماء الذي يشرب ، ولا يكفي إحراز بقائهما ، إلا أن لزوم إحراز البقاء والاتحاد ناشئ من خصوصية في الأثر ، وإن تمت أركان الاستصحاب وشروطه بدونه.

والمهم في المقام هو الكلام في لزوم وجود الموضوع مع قطع النظر عن خصوصية الأثر ، كما لو ورد : إن كان ماء الكوز طاهرا فتصدق بدرهم ، واريد استصحاب طهارة ماء الكوز عند الشك في وجود ماء في الكوز ، وحاصل الكلام في ذلك : أن القضية الحملية وإن كانت مركبة من الموضوع والمحمول والنسبة ، إلا أن مفادها لما كان هو الحكم بثبوت المحمول للموضوع فهي تقتضي المفروغية عن وجود الموضوع بنحو يصلح لانتساب المحمول إليه وحمله عليه ، فليس حال الموضوع فيها حال المحمول في كون وجوده جزءاً من مضمونها ، بل هو خارج عنه يستفاد منه التزاما ، لتوقفه عليه عقلا.

من دون فرق في ذلك بين القضية الخبرية في مثل زيد قائم ، والانشائية

١١١

في مثل هند طالق ، والتعبدية الظاهرية كمفاد الاستصحاب ، لأن اختلاف سنخ الحكم في القضية لا أثر له في اختلاف مفادها.

ومن ثمّ لا يكون مفاد قولنا في مقام الانشاء : جعلت زيدا وليا على هذا الوقف ، إلا جعل الولاية بعد المفروغية عن ثبوت الوقف ، لا جعل الشيء وقفا وجعل الولاية عليه معا.

وعلى هذا يكون وجود الموضوع بالنحو المصحح لانتساب المحمول إليه شرطا في جريان استصحاب القضية الحملية ، فلا بد من فرضه في رتبة سابقة عليه.

إن قلت : النسبة لما كانت قائمة بالموضوع موقوفة عليه فالتعبّد بها يستلزم التعبد به ولو تبعا ، ولذا كانت القضية الخبرية كاشفة عن تحقق موضوعها.

قلت : التعبد بالموضوع تبعا لا دليل عليه. وأدلة الاستصحاب لا تقتضي إلا التعبد بانتساب المحمول اليه ـ الذي هو مفاد القضية الحملية وموضوع الأثر العملي ـ في ظرف تحقق الموضوع وبعد المفروغية عنه ، فمع عدم ذلك لا مجال للتعبد بالقضية ، لعدم تحقق شرطه ، ولا بالموضوع ، لعدم سوق الاستصحاب له.

ومجرد ملازمة التعبد بالمستصحب له لا يقتضيه مع الشك في فعلية التعبد لعدم إحراز شرطه.

نعم ، لو ورد دليل خاص يقتضي جريان الاستصحاب في مثل ذلك كان كاشفا عن التعبد بالموضوع تبعا ، دفعا للغوية ، بخلاف ما لو كان الدليل هو الإطلاق ، حيث يكفي في رفع لغويته إعماله في الموارد التي يحرز فيها الموضوع.

١١٢

وكذا الحال في الجملة الخبرية ، فانها وإن كانت تكشف عن وجود الموضوع للملازمة المفروضة ، إلا أن مفادها ـ وهو الإخبار والحكاية ـ لا يتعلق به حتى تبعا ، إلا مع عناية خاصة من الخبر.

إن قلت : لم لا يجري الاستصحاب في نفس الموضوع المفروض سبق اليقين به ، ليكون محرزا بنفسه تمهيدا لجريان استصحاب القضية ، فيقال في مثل استصحاب طهارة ماء الكوز عند الشك في وجود ماء في الكوز : كان ماء الكوز موجودا فهو كما كان ، أو : كان في الكوز ماء فهو كما كان.

قلت : الموضوع بنفسه وإن كان مما له الدخل في الأثر الشرعي ، إلا أن أخذه فيه ليس شرعيا مستندا إلى أخذه في كبرى شرعية ، لفرض عدم تعرض الكبرى الشرعية في مقام جعل الأثر إلا لمفاد القضية الحملية التي يراد استصحابها ، وإنما هو عقلي ناشئ من تفرع القضية على موضوعها ، وترتب الحكم فيها عليه ، وهو لا يكفي في جريان الأصل ، لما يأتي في مبحث الأصل المثبت من انصراف أدلة التعبد إلى النظر للكبريات الشرعية.

نعم ، لو فرض أخذ ذلك في الكبرى الشرعية اتجه الرجوع للاستصحاب ، كما لو ورد : إن كان في الكوز ماء وكان طاهرا فتصدق بدرهم ، تعين جريان الاستصحاب في الموضوع ، كما يجري في المحمول ، إذ يكون موضوع الأثر مركبا من جزءين يجري الاستصحاب في كل منهما. وهو خارج عن محل الكلام.

ثم إن هذا لا يختص بالموضوع الذي هو بمعنى المبتدأ ، بل يجري في جميع ما يقوم به المحمول مما لا يصح حمله بنفسه ، وإن اخذ في لسان القضية قيدا في المحمول ، فقولنا : زيد أعلم من عمرو ، كما يقتضي في رتبة سابقة المفروغية عن زيد يقتضي المفروغية عن عمرو.

١١٣

وحيث كانت النسب في القضايا مختلفة في ذلك لزم النظر فيها على اختلافها والاستعانة بالمرتكزات في التفريق بينها.

لكن هذا كله إنما يقتضي لزوم إحراز وجود الموضوع في ما إذا كان تقرره وقيامه بحدوده بنحو يصح الحمل عليه موقوفا على وجوده ، أما لو لم يتوقف تقرره عليه ، بل كان له من نحو من التقرر المصحح للحمل عليه بدونه ، فلا ملزم باحراز الوجود وإن توقفت فعلية الاتصاف بالمحمول عليه.

وتوضيح ذلك : أن الأعراض المحمولة في القضايا مختلفة في شرائط عروضها على الموضوع وصحة نسبتها إليه ، فيكفي في صحة انتساب بعضها تقرر الذات بما لها من حد وماهية كلية أو شخصية ، كالوجود والعدم والامكان والامتناع ، ويتوقف بعضها ـ زائدا على ذلك ـ على وجود الموضوع خارجا ، كالثقل والهيئة ، وبعضها يتوقف مع ذلك على أمور أخر ، من شئون الموضوع ، كالتعجب الذي يتوقف اتصاف الإنسان به على التفاته ، أو خارجة عنه ، كالحرارة التي يتوقف اتصاف الجسم بها على النار.

إلا أن الاختلاف في ذلك لا يوجب الاختلاف في موضوع القضية ، بل ليس موضوعها في الجميع إلا الذات المتقررة في نفسها المتميزة عن غيرها بحدودها ، وليست الامور الزائدة على ذلك من وجود وغيره إلا شرطا في فعلية النسبة وصدق القضية ، من دون أن تكون مقومة للموضوع المعتبر في القضية.

ولذا لا إشكال في أن موضوع القضية الاستقبالية هو موضوع القضية الحالية مع وضوح صدق بعض القضايا الاستقبالية قبل وجود الموضوع في ما لو كان محدد الذات حين صدور القضية ، كما في إخبار النبي صلّى الله عليه وآله والأئمة عليهم السّلام بكثير من القضايا المستقبلة قبل وجود موضوعها ، كولادة الحجة عليه السّلام وقيام الدول الظالمة والملاحم وغيرها.

١١٤

وعليه لا يكون الحكم في القضية متفرعا على وجود الموضوع أو غيره مما تقدم ، بل يكفي فيه تقرره في نفسه ، وقيامه بحدوده الماهوية الخاصة به.

غاية ما في الأمر أن صدق القضية وفعليه النسبة يتوقف على تحقق الأمور المذكورة ، وذلك لا يقتضي لزوم إحرازها ، فإن اللازم هو إحراز شرط التعبد ، لا شرط الأمر المتعبد به.

فبعد فرض تحديد الموضوع في نفسه لو شك في وجوده لا مانع من استصحاب القضية المتيقنة التي كانت صادقة حين وجوده كما لا مانع من استصحابها عند الشك في تحقق سائر ما له الدخل في اتصاف الموضوع بالمحمول ، فكما يصح استصحاب التعجب لزيد مع احتمال غفلته ، واستصحاب الحرارة للماء عند الشك في النار ، يصح استصحابهما عند الشك في وجود زيد والماء رأسا.

نعم ، لو كان تقرر الموضوع وقيامه بحدوده موقوفا على وجوده لزم إحراز الوجود ، كما لو كان الموضوع هو العنوان بما له من الوجود الخارجي ، وما هو بالحمل الشائع ، من دون أن تؤخذ فيه خصوصية خاصة شخصية محدودة ، فإن الموضوع حينئذ لا يتقوم إلا بوجوده ، ولا حدّ له قائم به مستغن عن الوجود ، بخلاف ما إذا قام بحد شخصي خاص ، كالأعلام الشخصية ، والمعهودات الخارجية الجزئية ، فإن حدودها لا تناط بوجودها ، بل الوجود طارئ على الحد.

ومن هنا يظهر أن استصحاب طهارة ماء الكوز عند الشك في وجوده إنما يجري إذا كان موضوع الأثر هو طهارة الماء الخاص الذي كان موجودا في الكوز سابقا ، فإنه قائم بحدوده الشخصية التي كان عليها حين وجوده سابقا ، وانعدامه لا يمنع من الإشارة للحدود المذكورة في القضية المستصحبة.

أما إذا كان موضوعه هو طهارة الماء المقيد بكونه في الكوز بما هو أمر

١١٥

كلي قابل للانطباق على كثيرين ، والذي يكون بالحمل الشائع معروضا للطهارة ، فهو قائم بالوجود الخارجي ، إذ هو بدونه مفهوم لا يكون معروضا للطهارة ، ولا موضوعا لها ، فمع عدم إحراز الوجود الخارجي لا يحرز الموضوع الذي تتفرع عليه القضية ، فلا مجال للاستصحاب.

إلا أن يفهم من الأدلة أن كونه في الكوز أمر زائد على الموضوع دخيل في الحكم ، كالطهارة ، فيتجه حينئذ استصحابه مثلها ، للعلم به سابقا ، فيقال : كان الماء في الكوز ، وكان طاهرا ، فهو كما كان. فلاحظ.

١١٦

الفصل الثاني

في شروط الاستصحاب

والمراد بالشرط هنا كل ما هو خارج عن أركان الاستصحاب المقومة لمفهومه ودخيل في جريانه وفعلية ترتب العمل عليه ، سواء كان وجوديا ـ وهو الذي يختص اصطلاحا باسم الشرط ـ أم عدميا ـ وهو عدم المانع ـ فانهما معا محل الكلام في المقام.

والكلام في ذلك يقع في مبحثين ..

المبحث الأول

في أثر الاستصحاب

الاستصحاب كسائر التعبدات الشرعية في الحجج والأصول العملية إنما يصح مع ترتب العمل عليه ، فلا يجري مع عدم ترتب العمل ، لخروج الواقعة عن ابتلاء المكلف ، سواء كان المتعبد به موضوعا خارجيا أم حكما شرعيا وضعيا أو تكليفيا ، إذ ما لم ينته إلى مقام العمل يكون التعبد لاغيا عرفا وعقلا.

مضافا إلى ظهور عدم النقض في ذلك بعد تعذر حمله على النقض الحقيقي ، كما لعله ظاهر.

نعم ، لا إشكال في أنه لا يعتبر ترتب العمل على المستصحب بلا واسطة ،

١١٧

بل يكفي ترتبه بواسطة مترتبة على المستصحب ، لوضوح أن ما يترتب عليه العمل بلا واسطة هو الحكم التكليفي ، حيث يكون موضوعا للإطاعة والمعصية.

أما الموضوع الخارجي ـ كالخمرية ـ والحكم الوضعي ـ كالزوجية والطهارة ـ فترتب العمل عليهما إنما يكون بتوسط ما يترتب عليهما من حكم تكليفي ولو بواسطة ، مع وضوح تضمن صحيحتي زرارة جريان الاستصحاب في الطهارة الحدثية والخبثية.

بل لا ، إشكال في أن ذلك هو مقتضى إطلاق النقض في أدلة الاستصحاب ، لصدقه مع الواسطة عرفا كما يصدق بدونها.

هذا ، ولا يخفى أن المراد بالواسطة ما يكون وجوده لازما لوجود المستصحب.

ومن الظاهر أن الملازمة قد تكون اتفاقية ، كما لو علم إجمالا بوجود أحد رجلين في الدار ، حيث يكون انتفاء أحدهما مستلزما لوجود الآخر.

وقد تكون حقيقية ناشئة عن علاقة بين الأمرين ، إما لكون المستصحب سببا للازمه ، كاستصحاب السفر المستلزم لوجوب القصر في الصلاة ، واستصحاب وجود النار المستلزم لتلف المضمون ووجوب تداركه بدفع بدله ، أو مسببا عن ملزومه ، كاستصحاب حرمة وطء المرأة عند بلوغها تسع سنين ، المستلزم لحيضها حينئذ ، واستصحاب عدم حيض الجارية ، المستلزم لكونها معيبة يجوز فسخ بيعها.

أو لكونهما مسببين عن سبب واحد أو سببين متلازمين ، كاستصحاب وجوب الصلاة على المرأة عند احتمال حيضها حين العقد عليها ، المستلزم لجواز وطئها ، واستصحاب عدم تلف الحطب عند احتمال طبخ اللحم المستلزم لتعفنه ، حيث يشترك تعفن اللحم وعدم تلف الحطب في علة واحدة وهي عدم النار.

١١٨

كما أن منشأ الملازمة قد يكون شرعيا ، كالمثال الأول والثالث والخامس ، وقد لا يكون كذلك كبقية الأمثلة.

وقد تردد في كلماتهم نهوض الأمارة بإثبات الأثر العملي مع الواسطة في جميع موارد الملازمة المتقدمة ، أما الاستصحاب وسائر الأصول فقد وقع الكلام منهم فيها ، فالمعروف بين المتأخرين عدم نهوضها إلا بإثبات الأثر العملي المترتب مع الملازمة الشرعية في مورد تكون الواسطة مسببة عن مجرى الأصل ، فلا يحرز بالأصل إلا مجراه أو ما يترتب على مجراه شرعا من أحكام وآثار ولو مع تعدد الوسائط ، دون ما يكون سببا لمجراه شرعا ، أو يترتب عليه بملازمة غير شرعية ، وهي المسألة المعبر عنها في كلماتهم بعدم حجية الأصل المثبت.

أما القدماء فقد يظهر منهم التوسع في العمل بالأصل والتمسك به في بعض موارد الملازمات غير الشرعية.

ولعله ناشئ عن الغافلة عن حالها ، حيث لم يتوجهوا لذلك ولا اهتموا بضبط موارده ، وإلا فمن البعيد جدا ذهابهم إلى عموم العمل بالأصل مع الملازمة ، بل لا ريب في عدم بنائهم على العموم المذكور على سعته بعد النظر في طريقتهم في الرجوع للأصول.

وكيف كان فالكلام في توجيه عدم الرجوع للأصل المثبت قد يبتني على الكلام في مفاد الاستصحاب ونحوه من الأصول الإحرازية.

ولهم في ذلك مبان مختلفة ينبغي التعرض لها ، مع الكلام في توجيه المطلوب عليها ..

الأول : أن مفاد الاستصحاب تنزيل مؤداه منزلة الواقع ، حيث قد يدعى أن مقتضى إطلاق التنزيل ترتب جميع آثار الواقع الشرعية المقتضي لترتب آثارها وآثار آثارها ، وهكذا مهما تسلسلت الآثار الشرعية ، لتبعية الأثر لموضوعه.

١١٩

أما الآثار واللوازم غير الشرعية فلا مجال لترتبها ، لقصور التنزيل الشرعي عنها.

كما لا مجال لترتب الآثار الشرعية المترتبة بواسطتها ، لأن استفادة جعل الآثار إنما هو في طول جعل موضوعاتها ، فمع فرض قصور التنزيل عن جعل تلك الموضوعات لا مجال لاستفادة جعل آثارها.

ويشكل : بأن لازم ذلك عدم جريان الاستصحاب في الأحكام التكليفية ، لعدم الأثر الشرعي لها غالبا ، بل يختص أثرها بوجوب الإطاعة وترك المعصية ، الذي هو أمر عقلي ، وحيث لا إشكال في جريانها فيها ، فلا بد أن يكون مبنيا على التوسع في الأثر الملحوظ في التنزيل وتعميمه لمثل هذا الأثر العقلي. ويبقى سؤال الفرق بين مثل هذا الأثر وغيره من الآثار غير الشرعية.

الثاني : أن مفاد الاستصحاب جعل المؤدى بنفسه ظاهرا لا غير. حيث قد يقال حينئذ : ان ترتب آثار المؤدى الشرعية ولو مع تعدد الواسطة إنما هو لتبعية الحكم لموضوعه ، حتى مثل وجوب الإطاعة ، لأن موضوعه عقلا أعم من التكليف الواقعي والظاهري ، أما غير ذلك من اللوازم غير الشرعية فحيث كانت لازمة للوجود الواقعي فلا مجال لترتبها ، كما لا مجال لترتب آثارها الشرعية ، لعدم تعرض الأصل للأثر ابتداء ، بل بتبع موضوعه. والمفروض عدم جعله هنا.

ويشكل : بأن لازم ذلك عدم جريان الاستصحاب في الموضوعات الخارجية ، كالخمرية ، لعدم قابليتها للجعل الشرعي ، وحيث لا إشكال في جريانه فيها ، فلا بد من كون جعل الأثر هو المصحح لنسبة الجعل إليها بعلاقة الملازمة ، وذلك كما يجري في الأثر الشرعي المترتب عليها بلا واسطة يجري في الأثر الشرعي المترتب عليها بواسطة اللازم غير الشرعي ، لاشتراكهما في الملازمة المصححة للنسبة مجازا.

وأما ما ذكره المحقق الخراساني في توجيه قصور الدليل عن شمول الأثر

١٢٠