المحكم في أصول الفقه - ج ٥

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٨

المترتب بواسطة غير شرعية من أنه خارج عن المتيقن من الإطلاق ، لأن المتيقن إنما هو لحاظ آثار نفسه المقتضي لترتيب آثارها الشرعية ، دون آثار لوازمه.

فيندفع : بأن المتيقن بسبب مورد الصحيحين اللذين هما عمدة الدليل في المقام هو ترتيب آثار المستصحب فيما إذا كان المستصحب بنفسه حكما قابلا للجعل ، وهو الطهارة الحدثية والخبيثة ، ولا طريق لاثبات عمومه لكل من الموضوع الخارجي بلحاظ أثره الشرعي المترتب عليه بلا واسطة ، والحكم التكليفي الذي يختص بالأثر العقلي ، بل إن كان مفاد الاستصحاب جعل المؤدى كان قاصرا عن الموضوع الخارجي ، وإن كان مفاده التنزيل بلحاظ الآثار الشرعية كان قاصرا عن الحكم التكليفي ، كما ذكرنا.

ثم إن هذين الوجهين مبنيان على كون مجرى الأصل مجعولا إن كان قابلا للجعل ، وكذا أثره بتبعه أو بمقتضى التنزيل.

وقد يستشكل في ذلك بما ذكره بعض الأعيان المحققين وسيدنا الأعظم قدّس سرّهما : من أنه يمنع جعل الأثر أو مجرى الأصل حقيقة لانعدام موضوعه ، كما لو شك في نجاسة الماء المغسول به الثوب بعد تلف الماء ، وكما لو نذر المكلف أن يصوم يوم الخميس إن بقي ولده حيّا ، وأن يتصدق بدرهم على تقدير وجوب صوم يوم الخميس عليه ، فغافل عن ذلك إلى يوم الجمعة ، حيث لا مجال لجعل طهارة الماء بعد تلفه ، ولا لجعل وجوب صوم يوم الخميس بعد انقضائه ، مع وضوح جريان الاستصحابين ، بنحو يترتب عليهما طهارة الثوب ووجوب الصدقة.

لكنه يندفع : بأن جعل مجرى الأصل أو الأثر مع انعدام الموضوع إنما يمتنع إذا كان انعدام الموضوع ظرفا للمجعول ، أما إذا كان ظرفا للجعل مع كون ظرف المجعول هو حال وجود الموضوع ، نظير الكشف الانقلابي ، فلا مانع منه ولا محذور فيه بعد فرض ترتب الأثر الفعلي عليه.

١٢١

الثالث : أن مفاد الاستصحاب تنزيل الشك منزلة العلم في وجوب العمل معه على طبق اليقين السابق.

ولعله مراد بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه من أن مفاده وجوب العمل حال الشك عمل المتيقّن من دون أن يستتبع جعلا لشيء من المؤدى أو الأثر.

بل قد يرجع إليه ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه من أنّ مفاده ـ كسائر الأصول الإحرازية ـ مجرد تطبيق العمل على مؤدى الأصل ، للبناء على أحد طرفي الشك.

وقد ذكر بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه أن وجوب العمل حال الشك عمل المتيقّن يمكن شمولاه في نفسه للآثار غير الشرعية بلحاظ العمل بآثارها الشرعية ، وأنه لا وجه حينئذ لقصور الدليل عنها إلا انصرافه إلى تطبيق القضايا الشرعية ، فهو وارد لإحراز صغرى تلك الكبريات ، دون غيرها من الكبريات والملازمات غير الشرعية.

ويشكل : بما تقدم في الوجه الأول من أن الاستصحاب الجاري في الأحكام التكليفية ، لا يكون غالبا بلحاظ تطبيق الكبريات الشرعية ، لان وجوب العمل عليها وإطاعتها عقلي ، فلا بد من بيان الفارق بين مثل هذا الأثر وغيره من الآثار غير الشرعية.

وأما ما ذكره قدّس سرّه من أن منشأ ترتب مثل ذلك كون موضوعه العقلي هو الأعم من الواقع والظاهر.

فهو ـ لو تم ـ متفرع على جريان الاستصحاب في موضوع الأثر ، ومقتضى الانصراف المدعى عدم جريانه ، لعدم الكبرى الشرعية ، فليس في المقام ظاهر يكون موضوعا للحكم العقلي.

أما بعض الأعاظم قدّس سرّه فقد وجه عدم حجية الأصل المثبت : بأن مفاد الأصل الإحرازي هو تطبيق العمل على مؤدى الأصل للبناء على أحد طرفي الشك ،

١٢٢

فالمؤدى إن كان حكما شرعيا فهو المتعبد به ، وإن كان موضوعا خارجيا فالمتعبد به إنما هو ما يترتب عليه من الحكم الشرعي ، فإن الموضوع الخارجي ـ بما هو ـ غير قابل للتعبد. وحينئذ لا مجال للتعبد بأثر الواسطة غير الشرعية ، لعدم التعبد بموضوعه.

ودعوى : أنه أثر لمجرى الأصل ، لأن أثر الأثر أثر ، فيترتب تبعا للتعبد بمجرى الأصل.

مدفوعة : بأن التعبد بمجرى الأصل لا يقتضي التعبد بكل أثر له ، ولو كان بواسطة غير شرعية ، بل يختص بما يترتب بلا واسطة أو بواسطة شرعية.

لكن التأمل في ما ذكره يشهد بأنه عين المدعى ، وليس توجيها له ، لان اختصاص التعبد بالشيء بالتعبد بأثره الشرعي ولو بواسطة شرعية عبارة أخرى عن عدم صلوحه للتعبد بأثر الواسطة غير الشرعية الذي هو المدعى. فالمهم هو توجيه الاختصاص المذكور ، ولم يتعرض له.

مع أن امتناع التعبد بالموضوع الخارجي بنفسه إنما يلزم بحمله على التعبد بأثره الشرعي إذا ورد الدليل فيه بالخصوص ، صونا للدليل المذكور عن اللغوية ، نظير ما اعترف به من لزوم حجية الأصل المثبت في ما لو اختص دليل التعبد بمورد ينحصر فيه الأثر الشرعي بما يترتب بالواسطة غير الشرعية.

أما إذا كان الدليل هو الإطلاق الشامل له وللحكم القابل للتعبد بنفسه ، فلا مجال للبناء عليه ، لأنه يكفي في تصحيح الإطلاق إعماله في الحكم ، ولا يكون الإطلاق حجة في الموضوع بعد توقف شمولاه له على العناية المذكورة.

وإلا كان حجة في ما لو انحصر الأثر بما يترتب بالواسطة غير الشرعية ، لتوقف تصحيح شمولاه للمورد المذكور على التعبد بالأثر المذكور.

والتحقيق : أنه كما يمكن التعبد الظاهري بالحكم الشرعي يمكن التعبد بالموضوع الخارجي ، إذ ليس المراد بالتعبد جعل الأمر المتعبد به ثبوتا شرعا ،

١٢٣

ليكون امتناع جعل الأمر الخارجي راجعا إلى امتناع التعبد به ، بل المراد به جعله إثباتا ، الراجع إلى إحرازه شرعا ، المقتضي للبناء عليه عملا ، وذلك كما يمكن في الأحكام الشرعية يمكن في الموضوعات الخارجية ، بل هو مقتضى إطلاق دليل التعبد بعد تمامية أركانه فيه.

نعم ، لا بد من ترتب العمل عليه بنحو يصحح الجعل عقلا ولا يكون لغوا ، ولو بلحاظ أثره. وقد تقدم في مباحث القطع الموضوعي ما له نفع تام في المقام.

وحينئذ فإن كان المستصحب حكما تكليفيا ، فحيث كان الإحراز التعبدي كافيا في المنجزية والمعذرية المستتبعين للعمل عقلا ، تحقق شرط التعبد ، وليس العمل المذكور موردا للتعبد الظاهري ، بل هو مما يقطع به تبعا للقطع بموضوعه العقلي ، وهو تعبد الشارع بالحكم.

وإن كان حكما وضعيا أو موضوعا خارجيا كان الاستصحاب مقتضيا للتعبد بأثره الشرعي المستتبع للتعبد بأثر الأثر ، حتى ينتهي إلى الحكم التكليفي العملي ، لتنقيح صغرى كبريات الآثار الشرعية بسبب الاستصحاب ، لأن إحراز الموضوع مستتبع لإحراز أثره ، لتبعية التعبد بالأثر للتعبد بموضوعه عرفا.

وأما اللوازم غير الشرعية فلا مجال لإحرازها ، لعدم الملازمة العقلية ولا العرفية بين التعبد الشرعي بالشيء والتعبد بأثره ولوازمه غير الشرعية ، بل استفادة التعبد بها تبعا له محتاج إلى عناية لا يقتضيها الإطلاق.

كما لا مجال لإحراز آثار تلك اللوازم بعد عدم إحراز موضوعاتها ، لانها وإن كانت آثارا للمستصحب في الجملة ، من باب أن أثر الأثر أثر ، إلا أن الانتقال من المستصحب لآثاره مهما تسلسلت إنما هو بتبع إحراز موضوعاتها من جهة الملازمة المذكورة ، لا ابتداء ، فمع فرض عدم إحراز موضوعات تلك الآثار ، لكونها لازمة غير شرعية للمستصحب ، لا مجال لإحراز تلك الآثار. وترتبها على المستصحب في الجملة لا يجعله موضوعا لها ، لأن موضوعية الموضوع للأثر

١٢٤

منوطة بأخذه في دليل جعله ، ولا يكفي ترتبه عليه في الجملة ، ولذا كان إحراز الآثار المترتبة بالوسائط الشرعية في طول إحراز موضوعاتها على تسلسلها ، لا بسبب إحراز المستصحب والتعبد به رأسا.

كما لا مجال أيضا لترتب السبب الشرعي للمستصحب ـ كالحيض في استصحاب حرمة الوطء ـ لعدم تبعية التعبد بالسبب للتعبد بالمسبب ، ولا ملازمة بينهما لا عرفا ولا عقلا. ولا أقل من خروجه عن المتيقن. فلاحظ.

ثم إنه قد يستدل على عدم حجية الأصل المثبت بأنه لا ثمرة للنزاع في حجيته في مورد تكون الواسطة غير الشرعية التي هي موضوع الأثر شرعا بنفسها موردا لاستصحاب موافق له عملا ، لتمامية أركانه فيها ، للاستغناء باستصحابها عن استصحاب ملزومها ، كما لو شك في وجود النار المستلزم للتلف الموجب للضمان ، فإن استصحاب عدم التلف لإثبات عدم الضمان يغني عن استصحاب عدم النار لإثباته.

وكذا لو كان الأثر الشرعي المترتب بالواسطة غير الشرعية بنفسه موردا للاستصحاب المذكور.

وإنما تظهر الثمرة في ما لو لم يكن هو ولا الواسطة مجرى له ، والالتزام بحجية الأصل المثبت في مثل ذلك مستلزم لسقوطه غالبا بالمعارضة ، لجريان الاستصحاب المعارض في الواسطة أو الأثر ، فكما يكون مقتضى استصحاب النار ـ بناء على الأصل المثبت ـ ثبوت الضمان ، كذلك يكون مقتضى استصحاب عدم التلف هو عدم الضمان ، فلا أثر لحجية الأصل المثبت.

بل بناء على ذلك كما يكون الاستصحاب في المذكور معارضا للاستصحاب في الأثر المترتب بالواسطة غير الشرعية ، فإنه يكون معارضا له في الأثر المترتب بلا واسطة ، أو بواسطة شرعية ، للملازمة الواقعية بين مفاد الاستصحاب المذكور وانتفاء الأثر المذكور ، فيكون حجة بناء على الأصل

١٢٥

المثبت ، ويعارض مفاد الأصل فيه ، فكما يكون استصحاب النار المستلزمة للتلف والضمان حجة في إثبات الضمان يكون استصحاب عدم الضمان أو عدم التلف المستلزم لعدم النار حجة في اثبات عدم النار وعدم ترتب آثارها الشرعية المترتبة باستصحابها ، وذلك يوجب قلة الفائدة في الاستصحاب ، بل ندرتها ، لاختصاصها بما إذا لم تتم أركان الاستصحاب المعارض في شيء من الأثر ولوازمه.

ولعله إلى هذا نظر من استدل على عدم حجية الأصل المثبت ـ تبعا لكاشف الغطاء ـ بلزوم التعارض في جانب الثابت والمثبت ، كما حكاه شيخنا الأعظم قدّس سرّه.

لكن هذا كله مبني على كون مرجع القول بالأصل المثبت إلى حجية الأصل في جميع لوازم مجراه على اختلاف أقسامها المشار إليها في صدر المبحث ، على نحو حجية بعض الأمارات ، كالبينة ، لدعوى : أن التلازم بين الشيئين يقتضي التلازم بينهما في التعبد ، كما قد يناسب بعض موارد تمسكهم بالأصل المثبت.

أما لو كان مبنى القول بحجية الأصل المثبت أن تبعية التعبد بالشيء للتعبد بآثاره تشمل الآثار غير الشرعية ، أو الآثار الشرعية المترتبة بوسائط غير شرعية ، فإن ذلك يقتضي اختصاص حجية الأصل المثبت بما إذا كان اللازم مسببا عن مجرى الأصل وأثرا له ، كالتلف المسبب عن النار المستصحبة ، دون غيره ، بأن كانت الملازمة اتفاقية ، أو حقيقية ناشئة عن كون مجرى الأصل مسببا عن اللازم ، أو كونهما مسببين عن سبب واحد.

وحينئذ فإشكال المعارضة كما يجري في الأصل المثبت يجري في غيره ، لان الأثر الشرعي أيضا قد يكون مجرى لأصل معارض للأصل الجاري في موضوعه.

١٢٦

وينحصر دفعه في المقامين بما تقرر في محله من أن الأصل الجاري في السبب حاكم على الأصل الجاري في المسبب.

فكما يكون استصحاب طهارة الماء حاكما على استصحاب نجاسة الثوب ، للسببية بينهما شرعا ، فليكن استصحاب النار حاكما على استصحاب عدم التلف ، للسببية بينهما واقعا. فلاحظ.

بقي في المقام أمور ..

الأمر الأول : قد يستثنى من عدم ترتب الأثر المترتب على المستصحب بواسطة أو بملازمة غير شرعية موارد ..

الأول : ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه وتبعه غير واحد من أن الواسطة التي يترتب عليها الأثر حقيقة إذا كانت خفية بحيث يعد الأثر عرفا من آثار المستصحب ، إغفالا للواسطة فلا يبعد صلوح الاستصحاب للتعبد بالأثر المذكور ، ويكون ذلك مستثنى من عدم حجية الأصل المثبت.

وقد مثل قدّس سرّه لذلك بأمرين ..

الأول : استصحاب بقاء رطوبة أحد المتلاقيين إذا كان أحدهما نجسا ، لإحراز تنجس الآخر ، مع أن تنجسه من آثار سراية النجاسة الملازمة لبقاء الرطوبة.

الثاني : استصحاب عدم دخول شوّال يوم الشك لإحراز كون غده عيدا ، ليترتب عليه أحكامه من الصلاة والفطرة وغيرهما ، مع كون التلازم بين الأمرين خارجيا لا شرعيا.

ويشكل .. أولا : بأنه لا ضابط لخفاء الواسطة ، إذ لا يتضح الفرق بين الاستصحابين المذكورين واستصحاب بقاء الماء في الحوض لاثبات طهارة ما وقع فيه ، التي هي من آثار لازمه الخارجي ، وهو إصابة الماء له ، واستصحاب بقاء حياة المورث إلى حين إسلام الوارث ، لإثبات إرثه منه ، الذي هو من آثار لازمه ،

١٢٧

وهو موته بعد إسلامه ، مع اعترافه قدّس سرّه بأن الاستصحابين المذكورين من الأصل المثبت الذي لا يجري.

بل لا يحتمل من أحد توهم خفاء الواسطة في مثل آثار العيد ، حيث لا ريب في نسبتها عرفا لموضوعها الشرعي ، وهو العيد ، لا للمستصحب ، وهو بقاء رمضان في اليوم السابق ، فلا بد من كون منشأ التمسك بالأصل المذكور أمرا آخر غير خفاء الواسطة.

وثانيا : بما يستفاد من غير واحد مما. حاصله : أن النظر العرفي إن رجع إلى فهم العرف من الكبرى الشرعية أن الموضوع هو المستصحب لا الواسطة فلا إشكال في العمل عليه ، لأن المرجع في فهم القضايا والكبريات الشرعية هو العرف ، ويخرج عن الأصل المثبت ، كما لا يخفى.

وإن رجع إلى التسامح في نسبة الأثر بعد فرض كون موضوع الأثر هو الواسطة فلا وجه له بعد خروجه عما يستفاد من كبرى الاستصحاب من التعبد بالمستصحب المستتبع للتعبد بآثاره لا غير ، ولا عبرة بالتسامح العرفي في نسبة الأثر ، الراجع إلى التسامح في كبرى تطبيق الاستصحاب ، كما تقدم منا نظيره في بحث موضوع الاستصحاب.

وقد أجاب عن ذلك المحقق الخراساني قدّس سرّه في حاشيته على الرسائل : بأن المستفاد من كبرى الاستصحاب هو لزوم ترتيب ما يعد عرفا من آثار المستصحب وإن لم يكن كذلك حقيقة ، لان حمل التنزيل في دليل الاستصحاب على كونه بلحاظ الأثر إنما هو بمقدمات الحكمة ، ولا تفاوت بحسبها بين آثار المستصحب وآثار الواسطة إذ عدت من آثار المستصحب عرفا.

فالتسامح العرفي في نسبة الأثر للمستصحب موجب لكونه من الصغريات الحقيقية لكبرى الاستصحاب ، لا التسامحية ، ليتوجه الإشكال فيه

١٢٨

بعدم العبرة بالتسامح العرفي في التطبيق.

وفيه : أن الأثر لم يؤخذ بمفهومه في كبرى الاستصحاب ، كي ينظر في إطلاقه بضميمة مقدمات الحكمة ، بل ليس مفاد كبرى الاستصحاب إلا التعبد بالمستصحب ، والانتقال للأثر إنما هو بضميمة ما أشرنا إليه من تبعية التعبد بالأثر للتعبد بموضوعه بنحو لا يمكن التفكيك بينهما عرفا ، ولا إطلاق لذلك يعم جميع الآثار ، بل هو مختص بالآثار الشرعية الحقيقية التي تضمنتها الكبريات الشرعية ، ولا أقل من كونه المتيقن من الملازمة المذكورة ، فالتسامح العرفي في نسبة الأثر للمستصحب لا يوجب إلا صحة تطبيق المورد بلحاظ الملازمة المذكورة تسامحا.

ومنه يظهر اندفاع ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه من أن الانصراف الموجب لقصور كبرى الاستصحاب عن الآثار المترتبة بواسطة غير شرعية مختص بصورة عدم خفاء الواسطة ، بنحو يعدّ الأثر أثرا لها ، لا للمستصحب.

وجه الاندفاع : أن الانصراف فرع الإطلاق ، وقد عرفت منعه.

مع أن الانصراف الذي ادعاه هناك هو انصراف التنزيل في دليل الاستصحاب إلى تطبيق الكبريات الشرعية ، ومن الظاهر أن التسامح في نسبة الأثر للمستصحب لا يجعله مفاد الكبرى الشرعية.

إلا أن يرجع إلى دعوى أن المراد بالكبريات الشرعية ما يعم الكبريات التسامحية. وهو ممنوع.

الثاني : ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه : وهو أن يكون وضوح التلازم بين الواسطة والمستصحب بنحو يعد معه أثر الواسطة أثرا للمستصحب.

وقد استدل عليه بما تقدم منه في خفاء الواسطة من عموم الإطلاق له ، حسبما يستفاد منه عرفا.

ويظهر الجواب عنه مما تقدم في خفاء الواسطة ، بل هو أولى بالإشكال

١٢٩

منه ، لأن فرض وضوح الملازمة ملازم لفرض عدم الغافلة عن الواسطة ، فتتمحض نسبة أثرها للمستصحب في المجاز الذي لا إشكال في عدم العبرة به في أمثال المقام.

الثالث : ما ذكره هو قدّس سرّه أيضا ، وهو أن يكون التلازم من الوضوح بحيث يوجب التلازم بينهما في مقام التنزيل عرفا ، فيكون الدليل على التنزيل في المستصحب دليلا على التنزيل في الواسطة ، فترتب أثر الواسطة في ذلك ليس ناشئا من التنزيل في المستصحب ابتداء ـ كما هو المدعى في الموردين السابقين ـ بل من جهة استلزام التنزيل فيه للتنزيل في الواسطة الموجب لترتب أثرها.

ولا يخفى ابتناء ما ذكره على أن مفاد الاستصحاب التنزيل بلحاظ الأثر.

ومن ثمّ استشكل في ذلك : بأنه موقوف على فرض الأثر للمستصحب بنفسه ، كي يمكن فرض التنزيل فيه بلحاظه ويستفاد بتبعه التنزيل في الواسطة أما مع عدم الأثر له ، فلا موضوع للتنزيل فيه ، كي يستلزم التنزيل في الواسطة.

وقد دفع ذلك ـ مضافا إلى عدم الفصل ـ بامكان دعوى : أن التلازم بين الشيئين بالنحو الموجب للتلازم بينهما في مقام التنزيل يورث أن يلاحظا شيئا واحدا ذا وجهين كان له الأثر بأحدهما ، أو شيئين لهما أثر واحد ، فيصح تنزيل كليهما بلحاظ هذا الأثر.

لكنه كما ترى! إذ لا يجدي عدم الفصل ، ولا سيما في مثل هذه المسألة مما هو حديث التحرير لا مجال لمعرفة رأي القدماء فيه.

واقتضاء التلازم بين الشيئين لملاحظتهما شيئا واحدا ذا وجهين ، أو شيئين لهما أثر واحد ، مبتن على التسامح الذي تقدم غير مرة عدم التعويل عليه في العمل بالأدلة.

نعم ، قد يندفع الإشكال المذكور بناء على ما تقدم من أن مفاد

١٣٠

الاستصحاب ـ كسائر الأصول الإحرازية ـ ليس هو التنزيل ، بل التعبد الذي لا يبتني على ملاحظة الأثر ، وإنما يلزم ترتب العمل عليه دفعا للغويته ، حيث قد يدعى حينئذ أنه يكفي في رفع لغويته ترتب العمل عليه بلحاظ أثر لازمه المذكور ، ويأتي تمام الكلام فيه.

هذا ، ولكن الملازمة المدعاة في المقام إن كانت عرفية واقعية مع قطع النظر عن شخص الدليل في المسألة ، بمعنى : أن العرف بمرتكزاته يرى أن التعبد بالشيء كما يقتضي بطبعه التعبد بأثره الشرعي يقتضي التعبد بلازمه مع وضوح الملازمة.

فهي ممنوعة جدا ، بل وضوح الملازمة من الجهات الإثباتية ، والتبعية المذكورة من الجهات الثبوتية ، فلا سنخية بينهما ارتكازا.

وإن كانت قائمة بمفاد الدليل ، بمعنى : أن وضوح الملازمة لما كان موجبا لانتقال الذهن من الملزوم إلى اللازم فهو يستتبع ظهور دليل التعبد بالملزوم في التعبد باللازم ، فهي لا تنفع مع كون دليل التعبد بالملزوم هو الإطلاق ، كما هو الحال في استصحابه المستفاد من إطلاق عدم نقض اليقين بالشك ، لعدم ظهور الملزوم في خصوصية الملزوم بعنوانه ، كي ينتقل بسبب وضوح الملازمة إلى لازمه المذكور ، وإنما تنفع مع اختصاص دليل التعبد بالملزوم بعنوانه الذي تقوم به الملازمة.

ومنه استفادة التعبد بعدم النجاسة وعدم الحرمة من دليل قاعدتي الطهارة والحل ، فإن الدليلين وإن تضمنا بالمطابقة التعبد بالطهارة والحل ، إلا أن ظهور ملازمتهما للعدمين المذكورين يوجب ظهورهما بدلالتهما الالتزامية في التعبد بهما ، بنحو يترتب الأثر المعلق عليهما.

لكن هذا راجع في الحقيقة إلى سعة مفاد دليل الأصل وحجية دلالته الالتزامية التي لا إشكال فيها ، لا حجية الأصل المثبت.

١٣١

ومنه يظهر حال ما ذكرنا من الجواب عن إشكال اختصاص ذلك بما إذا كان للملزوم أثر يصح التعبد بلحاظه. فإن ارتفاع لغوية التعبد بالملزوم بلحاظ أثر لازمه المذكور إنما يصلح للاستدلال مع اختصاص الدليل بالملزوم المذكور ، لانحصار ارتفاع اللغوية به حينئذ ، أما إذا كان الدليل هو الإطلاق فيكفي في رفع لغويته تنزيله على غير المورد المذكور.

هذا كله مع أن عدم التفكيك بين المستصحب والواسطة في التعبد لوضوح الملازمة بينهما ـ كما في المتضايفين ـ ملازم لعدم التفكيك بينهما في اليقين والشك ، فيجري الاستصحاب في نفس الواسطة ويغني عن استصحاب ملزومها.

ولو فرض عدم التلازم بين الأمرين في اليقين ، لتوقف التلازم بينهما على أمر خارج عنهما غير موجود حال اليقين بالملزوم موجود حال الشك فيه ، فلا وجه لعدم التفكيك بينهما عرفا في التعبد ، لأن الملازمة الاتفاقية بين الشيئين ، بسبب بعض الطوارئ الخارجية لا توجب ذلك ، وإلا كان الأصل المثبت حجة مطلقا.

نعم ، قد يكون ملاك التلازم بين الأمرين موجبا للتلازم بينهما في التعبد عقلا ، فثبوت التعبد بأحدهما ولو بإطلاق الدليل كاشف عقلا عن التعبد بالآخر.

ولا مانع من إثبات مثل هذه العناية بالإطلاق.

وليس نظيرا لما سبق في ما لو انحصر الأثر بلازم المستصحب ، فإن العناية هناك شرط في شمول الإطلاق للمورد ، فلا يصلح الإطلاق لاثباتها. أما هنا فهي تابعة لشمولاه له ، فمع فرض شمولاه لحجية الإطلاق يتعين البناء عليها.

وليس المعيار في الملازمة المذكورة بين التعبّدين وضوح الملازمة بين الأمرين المتعبد بهما ـ كما ذكره قدّس سرّه ـ بل يكفي ما ذكرنا من كون منشأ الملازمة بينهما ثبوتا يقتضي الملازمة بينهما تعبدا ، وإن كانت الملازمة خفية.

١٣٢

ولعل منه التلازم بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته أو حرمة ضده ، وفعلية التكليف بالأهم وسقوط التكليف بالمهم ، ونحوها. لقرب أن تكون الجهات العقلية الارتكازية التي قيل لأجلها بالملازمة ثبوتا تقتضي الملازمة تبعدا. فتأمل جيدا.

لكن ذكر المحقق الخراساني قدّس سرّه في حاشيته على الرسائل في توجيه ترتب مثل هذه الآثار ومثل وجوب الإطاعة مع أن ترتبها ليس شرعيا : أن موضوع الملازمة عقلا هو الأعم من الوجود الواقعي والتعبدي الظاهري ، فيكون الاستصحاب محققا للملزوم واقعا المستتبع لتحقق اللازم واقعا أيضا ، لا تعبدا.

وهو كما ترى! إذ كيف يمكن دعوى وجوب المقدمة أو حرمة الضد شرعا واقعا ، مع عدم وجوب ذي المقدمة أو الضد شرعا إلا ظاهرا؟! بل حتى وجوب الإطاعة الذي هو من الامور العقلية الثابتة بملاك شكر المنعم تابع للتكليف الواقعي.

نعم ، فعلية العمل على طبق التكليف ووجوب إطاعته بملاك دفع الضرر المحتمل تابعان لتنجزه ، والمعيار في التنجز مطلق الإحراز وجدانيا كان بالقطع ، أو تعبديا بالاستصحاب أو غيره ، فتأمل جيدا.

الأمر الثاني : قد تضمنت بعض الأدلة الشرعية بيان التلازم بين أمرين من دون أن يكون أحدهما أثرا للآخر ، بل قد يكونان أثرين لموضوع واحد ، مثل قوله عليه السّلام : «إذا قصرت أفطرت ، وإذا أفطرت قصرت» (١).

والظاهر أن استصحاب أحد اللازمين في مثل ذلك يقتضي ترتب الآخر ، فإن الملازمة المذكورة سيقت لبيان التعبد بأحدهما عند ثبوت الآخر ، فأحدهما

__________________

(١) الوسائل ج : ٥ ، باب : ١٥ من أبواب صلاة المسافر حديث : ١٧ وج : ٧ ، باب : ٤ من أبواب من يصح منه الصوم حديث : ١ ، وقريب منه في حديث : ٢ من الباب المذكور.

١٣٣

وإن لم يكن موضوعا للآخر ، إلا أنه موضوع للتعبد به ، فاستصحاب أحدهما كما يقتضي التعبد به يقتضي التعبد بالتعبد بالآخر ، لأنه أثر له ، فهو كاستصحاب عدالة الشاهدين المقتضي للتعبد بالتعبد بالمشهود به.

وبالجملة : المقام لا يخرج عما سبق من استتباع التعبد بالشيء للتعبد بأثره الشرعي ، غايته أن الأثر في المقام ليس هو اللازم ، بل التعبد به.

نعم ، لو استفيد من الأدلة محض التلازم بين الشيئين من دون أن يساق مساق أمارية أحدهما على الآخر شرعا فلا مجال للتمسك باستصحاب أحدهما في إثبات الآخر.

الأمر الثالث : من الظاهر أن الأمور الدخيلة في موضوع الأثر الشرعي قد اخذت في لسان الأدلة بعناوينها العامة الكلية ، كالبلوغ المأخوذ في موضوع التكليف ، والاستطاعة المأخوذة في وجوب الحج ، والطهارة المأخوذة في المكلف به ، والنجاسة المأخوذة في حرمة الأكل.

ومن الظاهر أن الاستصحاب في الموضوعات الخارجية إنما يكون للافراد الخاصة التي ينطبق عليها الكلي ، ويكون ترتب الأثر عليها بتوسطه. إلا أن هذا ليس من الأصل المثبت ، لوضوح أن أخذ الكلي في موضوع الأثر إنما هو بلحاظ حكايته عن أفراده الخارجية ، فهي الموضوع في الحقيقة.

نعم ، لا بد في استصحاب الفرد من استصحابه بحيثيّته العنوانية المأخوذة في موضوع الحكم ، فلا بد من سبق اليقين به بالحيثية المذكورة ، ولا يكفي استصحابه بذاته مع قطع النظر عن الجهة المذكورة وإن كانت ملازمة له ، فلو كان موضوع الأثر هو الإنسان أو الأبيض اعتبر استصحاب الإنسان الخاص أو الابيض الخاص ، ولا يكفي استصحاب زيد بمفهومه الخاص ، وإن كان ملازما للإنسان أو الابيض.

وعليه لا بد من إحراز منشأ انتزاع العنوان ، لتوقف اليقين بخصوصية

١٣٤

العنوان عليه. من دون فرق في ذلك بين العنوان الذاتي ، كالإنسان ، والعرضي الحقيقي ، كالأبيض ، أو الاعتباري ، كالزوج ، أو الانتزاعي كالجزء والشرط.

والظاهر عدم الإشكال في شيء مما ذكرنا بعد التأمل في المباني المتقدمة ، والنظر في حال الأدلة.

لكن قال المحقق الخراساني قدّس سرّه في كفايته : «لا تفاوت في الأثر المترتب على المستصحب بين أن يكون مترتبا عليه بلا وساطة شيء ، أو بوساطة عنوان كلي ينطبق عليه ، ويحمل عليه بالحمل الشائع ويتحد معه وجودا ، كان منتزعا عن مرتبة ذاته أو بملاحظة بعض عوارضه ، مما هو خارج المحمول ، لا المحمول بالضميمة ، فإن الأثر في الصورتين إنما يكون له حقيقة ، حيث لا يكون بحذاء ذلك الكلي في الخارج سواه ، لا لغيره مما كان مبائنا معه أو من أعراضه مما كان محمولا عليه بالضميمة ، كسواده ـ مثلا ـ أو بياضه. وذلك لان الطبيعي إنما يوجد بعين وجود فرده ، كما أن العرضي ـ كالملكية والغصبية ونحوهما ـ لا وجود له إلا بمعنى وجود منشأ انتزاعه ، فالفرد أو منشأ الانتزاع في الخارج هو عين ما رتب عليه الأثر ، لا شيء آخر ، فاستصحابه لترتيبه لا يكون بمثبت ، كما توهم».

فإنه قد يظهر منه خصوصية العناوين الذاتية والعرضية الاعتبارية المنتزعة مما هو خارج المحمول من بين العناوين المذكورة. بل يظهر من صدر كلامه إمكان ترتب الأثر على المستصحب من دون توسط عنوان كلي ، مع وضوح امتناع ذلك بعد النظر في حال أدلة الأحكام ، لوضوح كون المأخوذ فيها هو العناوين الكلية ولذا كان كلامه في غاية الغموض والاشكال.

ومن ثمّ لم يبعد كون مراده من توسط العنوان ليس هو العنوان المستصحب ، بل عنوان آخر يلازم المستصحب وهو ينتزع منه ، ويكون قد أشار بكلامه هذا ـ على قصور فيه ـ إلى ما ذكره في حاشية الرسائل في توجيه

١٣٥

جريان بعض الأصول التي قد يدعى أنها مثبتة ،

قال قدّس سرّه : «أحدها : ما لو نذر التصدق بدرهم ما دام ولده حيا ، حيث توهم أن استصحاب حياته في يوم شك فيها لإثبات وجوب التصدق مثبت ، فإنه يكون أثر الالتزام به في يوم كان ولده حيا فيه ، فإن نذره كذلك مع حياته في يوم يلازم الالتزام بوجوبه فيه عقلا ، فلا يحكم بوجوب التصدق باستصحابها إلا بواسطة ما لازمها عقلا ، وهو نذره والالتزام به من باب وجوب الوفاء بالنذر ، وإلا فوجوب التصدق ما كان مرتبا على حياة الولد في خطاب ، فيترتب عليها مع الشك بالاستصحاب ...».

وعبارته وإن كانت لا تخلو عن غموض ـ لعل بعضه ناشئ عن خطأ النسخة التي بأيدينا ـ إلا أن الظاهر منها الإشارة إلى ما إذا لم يكن المستصحب بعنوانه موضوعا للأثر في الكبرى الشرعية ، بل كان موجبا لتحقق عنوان آخر هو الموضوع للأثر في الكبرى ، كما في المثال الذي ذكره ، فإن حياة الولد ليست موضوعا لوجوب التصدق في كبرى شرعية ، بل هي موجبة عقلا لكون الصدقة حينها داخلة في المنذور ووفاء بالنذر الذي هو موضوع الكبرى ، وليس بنفسه مستصحبا.

ونظير النذر في ذلك اليمين والعهد. وكذا الشرط والعقد ، كما لو ملك على زيد منفعة يوم الجمعة بإجارة أو شرط ، فشك في بقاء يوم الجمعة في ساعة ، فاستصحاب بقائه فيها لإثبات ملكية منفعتها لا يكون إلا بتوسط صدق عنوان الوفاء بالعقد أو الشرط ، من دون أن يكون يوم الجمعة بنفسه موضوعا لملكية المنفعة في كبرى شرعية.

بل يجري ذلك في مثل إطاعة المولى أو الأب أو الزوج ـ لو وجبت شرعا ـ في ما لو كان الاستصحاب منقحا لموضوعها ، كما لو أمر الأب بالصدقة على زيد ما دام فقيرا ، فشك في بقاء فقره ، فإن استصحاب فقره لا يقتضي

١٣٦

وجوب الصدقة عليه إلا بتوسط صدق عنوان إطاعة الأب عليها الذي هو لازم عقلي لبقاء الفقر ، من دون أن يكون الفقر موضوعا لوجوب الصدقة شرعا.

بل عمم قدّس سرّه ذلك لمثل استصحاب حياة زيد لإثبات وجوب الإنفاق من ماله على زوجته واستحقاقه من الوقف ، مع أن الأثرين المذكورين لا يثبتان بالاستصحاب المذكور إلا بتوسط ما يلازم الحياة عقلا من العنوان ، وهو عنوان كونه زوجا أو موقوفا عليه.

لكن الظاهر اندفاع ذلك : بأن الموضوع في المثالين مركب من الحياة والزوجية أو الدخول في الموقوف عليهم ، فمع القطع بالأخيرين يكفي استصحاب الحياة. مع إمكان استصحاب الحياة للفرد بخصوصيته وعنوانه المأخوذ في الموضوع ، فيستصحب حياة زيد ، لا بذاته ، بل بما هو زوج أو موقوف عليه ، أو يستصحب حياته المقيدة بزوجيته أو الوقف عليه ، لسبق اليقين بذلك.

ولذا لا يكفي استصحاب حياته بذاته مع عدم إحراز الخصوصية المذكور لا بالوجدان ولا بالأصل لو فرض ملازمتها لبقاء الحياة ، كما لو علم من الخارج أن زيدا لو بقي حيا لتزوج هندا.

وكيف كان ، فيكفي في محل الكلام الأمثلة المتقدمة المبنية على كون دخل الأمر المستصحب في الأثر غير مستفاد من الكبريات الشرعية ، بل من صغرياتها المجعولة للمكلف.

ومن الظاهر أنه لا مجال للبناء على مانعية توسط العناوين المذكورة فيها من العمل بالأصل ، كيف! ولازمه عدم الرجوع لاستصحاب الطهارة لإحراز وقوع الصلاة وفاء عن النذر أو الاجارة أو نحوهما ، فإن ترتب صحة الصلاة على الطهارة مثلا ، وإن كان مستفادا من كبرى شرعية ، مثل : «لا صلاة إلا بطهور» ، إلا أن ترتب سقوط الأمر بالوفاء عليها ليس إلا بتوسط صدق عنوان الوفاء بها عقلا

١٣٧

بعد فرض كون المنذور أو نحوه هو الصلاة المشروعة المشروطة بالطهارة.

فلا بد من النظر في وجه عدم إخلال توسط مثل هذه العناوين في العمل بالأصل ، وخروجه عما تقدم في الأصل المثبت.

وقد ذكر قدّس سرّه في وجهه أن الحكم في الكبريات الشرعية لم يرد على العنوان المذكور إلا لمحض الحكاية عن الأفراد الخاصة التي هي مجرى الأصل ، من دون أن يكون دخيلا في الحكم.

قال قدّس سرّه : «والتحقيق في دفع هذه الغائلة أن يقال : ان مثل الولد في المثال وإن لم يترتب على حياته أثر في خصوص خطاب ، إلا أن وجوب التصدق قد رتب عليه ، لعموم الخطاب الدال على وجوب الوفاء بالنذر ، فإنه يدل على وجوب ما التزم به الناذر بعنوانه الخاص على ما التزم به من قيوده وخصوصياته ، فإنه لا يكون وفاء لنذره إلا ذلك.

وبالجملة : إنما يجب بهذا الخطاب ما يصدق عليه الوفاء بالحمل الشائع ، وما يصدق عليه الوفاء بهذا الحمل ليس إلا ما التزم به بعنوانه الخاص على ما التزم به بعنوانه بخصوصياته ، فيكون وجوب التصدق بالدرهم ما دام الولد حيا في المثال مدلولا عليه بالخطاب ، لأجل كون التصدق به كذلك وفاء لنذره ، فاستصحاب الحياة لإثبات وجوب التصدق به غير مثبت.

ووجه ذلك : ـ أي سراية الحكم من عنوان الوفاء ... إلى تلك العناوين الخاصة ... ـ هو أن الوفاء ليس إلا منتزعا عنها ، وتحققه يكون بتحققها ، وإنما اخذ في موضوع الخطاب مع ذلك دونها لأنه جامع مع شتاتها وعدم انضباطها ، بحيث لا يكاد أن يندرج تحت ميزان أو يحكى عنها بعنوان غيره جامعا ومانعا ، كما لا يخفى.

وهذا حال كل عنوان منتزع عن العناوين المختلفة المتفقة في الملاك للحكم عليها المصحح لانتزاعه عنها ، كالمقدمية والضدية ونحوهما ...».

١٣٨

وهو كما ترى! فإن جميع العناوين المذكورة في الكبريات الشرعية إنما يراد بها الحكاية عن المصاديق ولا خصوصية لعنوان الوفاء في ذلك ، وهو لا ينافي دخلها في الحكم بنحو يلزم إحرازها بالأصل ، حيث لا بد من جريان الأصل في المصداق من حيثيتها.

وأما ما ذكره من كون عنوان الوفاء منتزعا من الأفراد المذكورة ، فإن أراد به كون تعلق الحكم به بلحاظ وجوده الخارجي الذي لا يكون إلا بوجود الفرد ، فهو يجري في كل عنوان يؤخذ في كبريات الأحكام العملية.

وإن أراد به عدم دخله في الحكم لسوقه لمحض الحكاية عن الأفراد مع كون موضوع الحكم هو الأفراد بخصوصيتها لا بحيثية العنوان ، فلا يكون واسطة في ثبوت الحكم الذي يراد إحرازه بالأصل ، كما يناسبه تنظيره بالمقدمية والضدية. فهو خروج عن ظواهر الأدلة ، بل عما هو المقطوع به منها من دخله كسائر العناوين المأخوذة في القضايا الشرعية ، بل مطلق القضايا الحقيقية.

كيف! ولازمه عدم جريان الأصل في نفس وجوب الوفاء أو شرطه أو مانعة ، كوقوع النذر وحل الأب أو الزوج له ونحوه مما يرجع إلى كبرى وجوب الوفاء ولا مجال لقياسه بعنوان المقدمية والضدية ، لوضوح عدم أخذهما في موضوع الحكم في أدلة شرعية ، وإنما استفيد ثبوت الحكم الشرعي لهما بحكم العقل الذي لا نظر له إلا إلى المصداق بنفسه ، وليست المقدمية أو الضدية إلا جهة تعليلية أو انتزاعية.

على أن مصداق الوفاء وما يصح حمله عليه بالحمل الشائع ليس هو ما التزم به الناذر بعنوانه وخصوصياته القابلة للاستصحاب ، وهو عنوان التصدق على تقدير الحياة ، بل هو فعل المكلف وهو ذات التصدق الخاص المقارن للخصوصيات الخاصة الفردية ، وليس مثل الحياة قيدا فيه ، بل دخيل في فرديته كسائر ما يتوقف عليه فردية الفرد ، ومن الظاهر أن الفرد المذكور لا مجال

١٣٩

لاستصحابه بنفسه ، لعدم سبق اليقين به ، والاستصحاب إنما هو للحياة الملازمة لفرديته لعنوان الوفاء ، وهو أجنبي عما ذكره قدّس سرّه.

إلا أن يرجع كلامه إلى أن قضية وجوب الوفاء بالنذر مثلا قضية منتزعة من القضايا المنذورة المتفرقة ، قد سيقت لمحض الحكاية عنها ، وليس المجهول شرعا إلا تلك القضايا على ما هي عليه من الخصوصيات والقيود والشروط ، نظير قضية وجوب أداء الواجبات التي لا يراد بها إلا الإشارة إلى القضايا التشريعية المتفرقة المتضمنة للواجبات الشرعية ، كوجوب الصلاة عند الزوال ، والحج عند الاستطاعة ، والخمس في الغنيمة ، والزكاة في النصاب.

فإن لازم ذلك جريان الأصل في الخصوصيات المأخوذة في القضايا المنذورة بأشخاصها ، من حياة الولد ونحوها ، لانها هي الكبريات الشرعية المجعولة للشارع ، دون قضية وجوب الوفاء الانتزاعية ، كما يجري في خصوصيات القضايا الشرعية المتضمنة للواجبات ، كالزوال والاستطاعة والغنيمة والنصاب ، دون قضية وجوب أداء الواجبات الانتزاعية.

لكنه ـ مع قصور كلامه عنه ـ واضح البطلان في نفسه ، حيث يقطع بعدم كون القضايا المنذورة كبريات شرعية ، بل صغريات لكبرى وجوب الوفاء بالنذر ، التي هي ليست انتزاعية ـ ككبرى وجوب أداء الواجبات التي لو وردت في كلام الشارع لكانت إرشادية ـ بل هي قضية شرعية سيقت لبيان حكم شرعي كسائر القضايا الشرعية ، فيصح استصحابها واستصحاب قيودها وشروطها وسائر ما أخذ فيها. فما ذكره قدّس سرّه لا يرجع إلى محصل صالح لتوجيه المدعى.

فلعل الأولى أن يقال : لا يلزم أن يكون مجرى الأصل مأخوذا في كبرى شرعية ، بل يكفي كونه موضوعا للأثر الشرعي ، ليدخل في ما تقدم من أن التعبد بالموضوع يستتبع التعبد بأثره ، سواء كان ذلك مفاد الكبرى الشرعية ، كاستصحاب زوجية المرأة لإثبات وجوب الإنفاق عليها أو عدم حل الزوج

١٤٠