المحكم في أصول الفقه - ج ٥

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٨

الصلاة أو غيرها ، فشككت في بعض ما سمى الله مما أوجب الله عليك فيه وضوءه ، لا شيء عليك فيه» (١).

فإن الجهة الارتكازية تقضي بأن المدار على صدق المضي بالمعنى المذكور ، فتكون قرينة على أن ذكره فيهما لتأكيد اعتباره ، لا للتقييد به زائدا عليه ، بخلاف ما إذا كان الشك في وجود الشيء مع بقاء الوقت ، حيث يتوقف صدق المضي بالمعنى المذكور على الدخول في الغير ، فلا بد من اعتباره ، كما هو ظاهر صحيحي زرارة وإسماعيل بن جابر وما عن مستطرفات السرائر ، المتقدمة في أدلة القاعدة ، بل لا بدّ من كون الغير مترتبا على المشكوك ، إذ مع عدم ترتبه لا يصدق مضي محله ، وعليه ينزل إطلاق الصحيحين ، لصلوح الجهة الارتكازية قرينة على ذلك.

وقد جرى على ذلك أيضا غير واحد ممن بنى على تعدد القاعدة ، محاولين في ذلك إعمال الجمع العرفي بين النصوص ، وكأنه لاستحكام الجهة الارتكازية التي أشرنا إليها الملزمة بتنزيل جميع النصوص على ما يطابقها ، مضافا إلى بعض القرائن في النصوص قد تناسب ذلك.

الأمر الثاني : أشرنا إلى أنه لو كان المضي موقوفا على الدخول في الغير فلا بد من كون ذلك الغير مترتبا على المشكوك.

والظاهر أن المعيار في المقام الترتب الشرعي ، كالترتب بين الأذان والصلاة ، وبين الركوع والسجود ، وبين الظهر والعصر ، دون الترتب العادي أو العقلي ، فلا يكفي في صدق المضي على الاستبراء تحقق الاستنجاء ، بلحاظ تعوّد تقديم الاستبراء عليه ، كما لا يصدق المضي على السجود بالشروع في النهوض للقيام بلحاظ عدم كونه عقلا مقدمة للقيام الصلاتي إلا بعد تحقق السجود ، إذ بدونه يكون مقدمة لقيام غير صلاتي ولا مشروع.

__________________

(١) الوسائل باب ٤٢ من أبواب الوضوء حديث : ١.

٤٢١

والوجه في ذلك : أن كون شيء محلا لشيء ليس تابعا لعلاقة حقيقية بينهما لا تقبل الاختلاف والتبدل ، بل هو أمر إضافي يختلف وجودا وعدما باختلاف جهة الإضافة ، من اعتبار شرعي ، أو عرفي ، أو عادة ، أو عقل ، أو نحوها ، فلا بد من ملاحظة خصوص جهة تصلح لانتزاع النسبة المذكورة ، والمناسب للشارع إرادة ما يتعلق به ويرجع إليه ، وهو خصوص المحل الشرعي.

وتوهم : أن مقتضى الإطلاق الاكتفاء بكل جهة صالحة لانتزاع عنوان المحل شرعية كانت أم غيرها.

مدفوع : بأن الإطلاق إنما ينهض بإلغاء القيود الزائدة على المفهوم ، وخصوصية الجهات المختلفة ليست مقيدة لمفهوم المحل ، بل معيار في صدقه ومصحّح لانتزاعه ، وإطلاق العنوان لا يتكفل بذلك ، بل المتكفل به الإطلاق المقامي ، وهو يقتضي كون المعيار المحل العرفي لو لم يكن هناك محل شرعي ، وإلا كان هو المتعين ، كما ذكرنا.

ومنه يظهر أنه لا مجال لدعوى : أن القاعدة في المقام لما لم تكن تعبدية محضة بل ارتكازية عقلائية فالجهة الارتكازية المقتضية لها تقتضي الاكتفاء بالمحل العادي ونحوه مما يصدق معه المضي عرفا ، والاكتفاء بالمحل الشرعي إنما هو لرجوعه إليه ، بسبب بناء المكلف على متابعة الجعل الشرعي ، فيكون إتيانه بالشيء في محل المذكور مقتضى قصده الارتكازي تبعا لقصد الامتثال ، الذي هو كالقصد الارتكازي التابع للعادة مصحح لصدق المضي عرفا.

ولا مجال مع ذلك للجمود على خصوص المحل الشرعي التعبدي ، لأن الجهات الارتكازية لا تناط بالامور التعبدية.

لاندفاعها : بأن موضوع الجهة الارتكازية ليس إلّا المضي ، وجري الشارع عليها إنما يقتضي جعل كبرى مطابقة لها من قبله ، وإناطة صدق المضي بجهة

٤٢٢

خاصة لا دخل له بالكبرى المذكورة ، ولا يستلزم التصرف فيها ، بل هو راجع لتنقيح الصغرى لها ، كما تقدم ، وتقدم أنه أمر لا يتكفل به دليل جعل الكبرى بنفسه ، بل بإطلاقه المقامي ، وأنه يقتضي الحمل على المضي الشرعي لا غير.

نعم ، قد يستدل على إرادة المحل العادي بموثق بكير أو صحيحه المتقدم في أدلة القاعدة ، لمناسبته للتعليل فيه بالأذكرية ، لما هو الظاهر من أن الإنسان لمقتضى عادته أذكر منه لما يخالفها.

وقريب منه صحيح محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السّلام : «أنه قال : إذا شك الرجل بعد ما صلى فلم يدر أثلاثا صلى أم أربعا ، وكان يقينه حين انصرف أنه كان قد أتم ، لم يعد الصلاة ، وكان حين انصرف أقرب إلى الحق منه بعد ذلك» (١).

ويشكل : بعدم ظهورهما في التعليل بالعلة المنحصرة التي يدور الحكم مدارها وجودا وعدما ، لعدم اقترانهما بأداة التعليل ونحوها مما يظهر منه بيان الغرض من الحكم والداعي له ، أو موضوعه.

بل لعل ذكره للتنبيه الى بعض الجهات التي تردع عن الاعتناء بالشك المذكور ، فهو أشبه بالحكمة التي يوجب الالتفات إليها وضوح الحكم في نفس المخاطب ، نظير ما ورد في تقريب جواز الشهادة اعتمادا على اليد من قوله عليه السّلام : «لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق» على ما تقدم التنبيه له في المسألة الأولى من مسائل المقام الثالث في قاعدة اليد.

كيف! ولو استظهر التعليل بالنحو المذكور في المقام لزم التعدي عنه لكل مورد يكون الإنسان فيه أذكر وأقرب للحق وإن لم يكن الشك في صحة المركب أو أجزائه ، بل في أصل الإتيان بالعمل أو غيره ، لعدم خصوصية المورد في ذلك ارتكازا ، ولا يظن بأحد الالتزام ذلك ، لرجوعه إلى حجية كل ظن ولو

__________________

(١) الوسائل ج : ٥ ، باب : ٢٧ من أبواب الخلل في الصلاة : حديث : ٣.

٤٢٣

كان نوعيا.

بل لزم قصور القاعدة عن غير مورد العادة ، فمن لم يتعود الأذان والإقامة لو شك في الإتيان بهما بعد الدخول في الصلاة لا يبني على الإتيان بهما ، بل له قطع الصلاة لأجلهما ، لعدم تحقق الأذكرية في المقام.

فلا بد من الاقتصار على مورد التعليل وعدم التعدي عنه.

بل لا يظن بأحد الالتزام بعموم الاكتفاء بمضى المحل العادي ـ كما نبه لذلك شيخنا الأعظم قدّس سرّه ـ وإنما حكي عن جماعة التعرض لمسألة معتاد الموالاة في غسل الجنابة إذا شك في الجزء الأخير ، وأنه لا يعتني بالشك.

ولعله يمكن توجيهه بأمر آخر راجع إلى صدق المضي حقيقة ، على ما يأتي التعرض له.

هذا ، وفي صحيح عبد الرحمن بن أبى عبد الله : «قلت لأبي عبد الله عليه السّلام :

رجل أهوى إلى السجود فلم يدر أركع أم لم يركع. قال : قد ركع» (١) وقد يستظهر منه الاكتفاء في المضي بالدخول في مقدمات ما يترتب شرعا على المشكوك.

ولكن ذكر بعض الأعاظم قدّس سرّه أنه لا بدّ من تقييده وحمله على آخر مراتب الهوي الذي يتحقق به السجود ، جمعا بينه وبين صحيح إسماعيل بن جابر المتضمن لفرض التجاوز عن الركوع بنفس السجود ، لا بالهوي إليه.

وفيه : أن دلالة صحيح إسماعيل إن كانت بلحاظ مفهوم الشرطية فيه ، فلا مفهوم للشرطية ، لسوقها لتحقيق الموضوع.

وإن كانت بلحاظ أن سوق المثالين في الصحيح قبل ضرب القاعدة إنما هو للتوطئة والتمهيد لها ، فيكونان واردين مورد التحديد للغير المذكور فيها ، وذلك يقتضي عدم صدقه بالهوي قبل صدق السجود لأجل مفهوم التحديد لا الشرط.

__________________

(١) الوسائل ج : ٤ ، باب : ١٣ من أبواب الركوع حديث : ٦.

٤٢٤

ففيه : أنه لا ظهور لسوق الصغريات قبل الكبرى في تحديد موضوعها ، بل في محض التمهيد لها.

وإن كانت بلحاظ أن التخطي للسجود وإهمال الهوي مع أنه أقرب للركوع ظاهر في عدم الاعتداد به.

ففيه : أن التخطي عن الهوي لعله لندرة الشك حينه ، لعدم الاستقرار فيه بحال يتوجه فيه المكلف للشك.

على أن ذلك لو تم لا يخرج عن الإشعار الذي لا يبلغ مرتبة الحجية ، ليصلح لتقييد الإطلاق.

مع أن المقام أجنبي عن التقييد ، بل هو في الحقيقة إلغاء لموضوعية الهوي وجعل الموضوع هو السجود لا غير.

ومثله ما ذكره بعض مشايخنا من ظهور صحيح عبد الرحمن بنفسه في إرادة الوصول لحد السجود ، لأن التعبير فيه عن الهوي بالفعل الماضي ظاهر في مضيه حين الشك في الركوع ، وهو إنما يكون بالوصول لحد السجود.

لاندفاعه : بأنه يكفي في صدق نسبة الفعل الماضي على الهوي تحقق أول مراتبه ، ولذا يصح أن يقال : أهوى إلى السجود فلم يستطيعه.

فالعمدة في المقام : أن الصحيح معارض بصحيح عبد الرحمن الآخر : «قلت لأبي عبد الله عليه السّلام : رجل رفع رأسه من السجود فشك قبل أن يستوي جالسا فلم يدر أسجد أم لم يسجد. قال : يسجد. قلت : فرجل نهض من سجوده فشك قبل أن يستوي قائما فلم يدر أسجد أم لم يسجد. قال : يسجد» (١). وهو نص في عدم الاكتفاء بحال النهوض قبل الوصول لحدّ القيام.

فاما أن يجمع بينهما بجعل الهوي للسجود في الصحيح الأول عبرة لنفس السجود.

__________________

(١) الوسائل ج : ٤ ، باب : ١٥ من أبواب السجود حديث : ٦.

٤٢٥

وإما أن يقتصر فيه على مورده ، ويرجع في غيره للقاعدة التي عرفتها المطابقة للصحيح الآخر.

هذا ، بناء على أن الهوي للسجود والنهوض للقيام ونحوهما مقدمات للأفعال الواجبة ، أما بناء على أنها بأنفسها من الواجب ، وأن مرجع وجود السجود مثلا إلى وجوب الهوي له من مبدأ التقوس انقلب تطبيق القاعدة. وتنقيح ذلك في محله ، ولا دخل له بتنقيح القاعدة الذي هو محل الكلام.

الأمر الثالث : المتبادر من مضي محل المشكوك بسبب الدخول في الغير هو فوته ، بحيث يتعذر تدارك المشكوك مع المحافظة على خصوصية محله ، وذلك في مثل أجزاء الصلاة انما يكون بالدخول في الركن اللاحق ، حيث يلزم من تدارك المشكوك والمحافظة على خصوصية محله ـ باعادة ما جاء به مما يكون بعده ـ زيادة الركن المبطلة للصلاة.

نعم ، لو أمكن تداركه بعد الإتيان بالغير مع الإخلال بخصوصية محله ، كما في قضاء الأجزاء المنسية في محلها بعد الصلاة ، أو في قضاء القنوت بعد الركوع لم يناف صدق مضي المحل بالمعنى المذكور ، لأن المشكوك هو الفعل الموظف. ولعله لذا حكي عن بعضهم الاقتصار في الغير على الركن.

لكنه ـ كما ترى ـ مخالف لصريح نصوص المقام ، فقد تضمن صحيح زرارة عدم الاعتداد بالشك في الأذان وهو في الإقامة ، كما تضمن هو وغيره عدم الاعتداد بالشك في الركوع وهو في السجود الشامل لسجدة واحدة ، كما تضمن صحيح إسماعيل عدم الاعتداد بالشك في السجود بعد القيام ، وتضمن ما تقدم عن مستطرفات السرائر عدم الاعتداد بالشك في الظهر بعد فعل العصر ، مع وضوح عدم فوت محل الظهر بالمعنى المذكور بمجرد ذلك مع بقاء الوقت.

فإن بني على العمل بنصوص المقام لم يتجه الاقتصار على الركن ، وإن بني على إهمالها والرجوع لأصالة عدم الإتيان بالمشكوك لزم عدم إجراء

٤٢٦

القاعدة حتى بعد الدخول في الركن ، بل يعتنى بالشك حينئذ ، باستئناف الصلاة لو كان المشكوك ركنا ، وقضائه لو كان مما يقضى ، وسجود السهو ـ بناء على وجوبه لكل زيادة ونقيصة ـ لو كان غيره ، كما هو الحال لو بان نسيانه بعد الدخول في الركن اللاحق.

ومنه يتضح أنه لا مجال لما ذكره سيدنا الأعظم قدّس سرّه حيث قال في توجيه القول المذكور : «وكأنه ناش عن إهمال أدلة القاعدة والرجوع إلى أصالة عدم الإتيان بالمشكوك ، فيكون الحكم فيه حكم النسيان».

مضافا إلى أن أدلة القاعدة لم تتضمن عنوان مضي المحل ـ كما نبه له سيدنا الأعظم قدّس سرّه ـ كي يحمل على فوته بالوجه المذكور ، وإنما تضمنت الدخول في الغير ، وحيث لا يمكن إبقاؤه على إطلاقه ـ إذ لا إشكال في عدم الاكتفاء بالدخول في ما لا يترتب على المشكوك من الأفعال المشروعة في المركب كالتكبير المستحب ، أو الخارجة عنه كالذكر المطلق ـ تعين حمله على خصوص ما يترتب عليه مما يصدق بالدخول فيه ما تضمنته النصوص من عنوان التجاوز والخروج عن المشكوك ، والدخول في الحائل ، ولو بلحاظ الوضع الطبيعي ، لا الحقيقي.

وإليه يرجع ما تقدم منا من اعتبار مضي محل الشك ، بحيث يكون الاعتناء به رجوعا وتداركا عرفا. ومقتضاه الاكتفاء في الغير بكل ما يترتب على المشكوك بأن يكون مقتضى الوظيفة الشرعية الإتيان بالمشكوك قبله وعدم تأخيره عنه ، ولا خصوصية للركن في ذلك.

ومنه يظهر أنه لا مجال لما ذكره بعضهم من اختصاص الغير المحقق للتجاوز بالأجزاء المفردة بالتبويب من الفقهاء ، كالتكبير والقراءة والركوع والسجود ، دون أجزائها ، فإنه تخصيص لعموم صحيحي زرارة وإسماعيل والتعليل في ما عن مستطرفات السرائر من دون وجه.

٤٢٧

ومجرد اختصاص الأمثلة التي تضمنها الصحيحان بذلك لا يصلح له ، ولا سيما مع قرب إلغاء خصوصيتها عرفا بملاحظة الجامع الارتكازي الذي يستفاد من مجموع النصوص ، كما تقدم.

ودعوى : أن الأمثلة المذكورة تمنع من عموم الغير في ذيل الصحيحين وتقتضي تضيق مصبه ، لسوقها للتمهيد والتوطئة له.

كما ترى! إذ شأن ضرب العموم بعد عدّ الأمثلة رفع الخصوصية المتوهمة منها.

ولا سيما بعد اشتمال صدر صحيح زرارة على أكثر الأجزاء المذكورة ، إذ من البعيد جدا كون ضرب العموم لأجل خصوص القليل المتبقي منها.

ومثلها دعوى : امتناع تطبيق العموم بلحاظ كل من الأجزاء المذكورة وأجزائها ، لعدم الجامع بين الكل والجزء ، ولاستلزامه التدافع في تطبيق القاعدة عند الشك في جزء الجزء حين الانشغال بجزئه الآخر ، إذ بلحاظ مجموع الجزء يكون من الشك قبل الدخول في الغير ، وبلحاظ جزئه يكون من الشك بعد الدخول في الغير.

لظهور اندفاعها بمراجعة ما تقدم في الوجه الأول من وجوه وحدة القاعدة.

وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه من أن لازمه التعميم لأول الكلمة وآخرها ، ولا قائل به ظاهرا.

فهو ـ لو تم ـ ناشئ من انصراف الشيء عنه ، لعدم تقرر الكلمة عرفا إلا بمجموعها ، ولا استقلال لا جزائها عرفا ، لينطبق عليها عنوانه ، ولا يكشف عن اختصاص الغير بالاجزاء المختصة بالتبويب.

بل لا مجال لاحتمال ذلك بعد كون تبويب الأجزاء بالنحو المذكور غير مستفاد من أدلة التشريع ، بل جرى عليه الفقهاء بعد تصيده منها.

٤٢٨

هذا ، وقد ذكر بعض مشايخنا أن المعيار في الترتب الموجب لصدق مضي محل السابق بالدخول في اللاحق أخذ كل منهما شرطا في صحة الآخر ، فلا يصح السابق لو لم يترتب اللاحق ، ولا يصح اللاحق لو لم يسبق السابق ، كما هو الحال في أجزاء الصلاة المترتبة.

ولا يكفي مجرد كون ظرف الأخير متأخرا عن السابق ، لترتبه عليه ، من دون أن يكون دخيلا في صحة السابق لترتبه عليه ، كالقنوت بالإضافة للقراءة ، سواء كان مستحبا مستقلا في ضمنها ، أم جزءا مستحبا في الصلاة ، وجميع الأجزاء المستحبة ، والتعقيب بالإضافة للتسليم ، وصلاة العصر بالإضافة للتسليم في صلاة الظهر.

وكأن مراده من توقف صحة أحد المترتبين على الآخر هو التوقف بملاحظة الجعل الاولي ، وإن أمكنت صحة أحدهما بدون الآخر لجهة ثانوية ، كما في موارد حديث : «لا تعاد ...» ، وإلا لم ينطبق على مثل القراءة مما لا يكون الإخلال به سهوا مبطلا للعمل ، مع أنه مورد صحيح زرارة.

وفيه .. أولا : أنه لم يتضح وجه التقييد بذلك ، فإن مضي المحل حقيقة لا يتحقق إلا بتعذر التدارك بمثل الدخول في الركن اللاحق ، كما تقدم ، ومضي المحل بالمعنى المستفاد من النصوص ، الراجع إلى العبور عن الشيء والتجاوز عنه بمقتضى الجعل الشرعي ، لأجل الدخول في ما لحقه ، حاصل في جميع ما تقدم ونحوه مما يكون مترتبا على المشكوك.

وثانيا : أن الترتب في أجزاء الصلاة التي هي مورد النصوص ليس بالنحو الذي ذكره ، بل هو مبني على توقف صحه اللاحق على السابق ـ ولذا يبطل لو وقع بدونه ، ويجب تكراره في مورد إمكان التدارك ـ دون العكس ، لأن ذلك هو الظاهر من دليل الترتيب في سائر الموارد ، وإنما يبطل تمام العمل بفقد الجزء عمدا مثلا لأجل الارتباطية في نفس العمل ، لا لأخذه في صحة الأجزاء السابقة

٤٢٩

عليه ، فمع فقد الجزء يكون بطلان العمل مستندا لفقده وفقد ما بعده ، لوقوعه في غير محله ، لا لفقد الكل.

بل صحيح زرارة المتقدم عن مستطرفات السرائر قد صرح فيه بجريان القاعدة بالإضافة إلى صلاة الظهر بعد صلاة العصر ، مع وضوح عدم توقف صحة الظهر عليها.

ودعوى : أن مفاده مباين لقاعدة التجاوز التي هي محل الكلام.

لا تناسب عموم التعليل ، حيث كان مقتضى ارتكازيته حمله على ما يساوق قاعدة التجاوز ، بل يعمها ويعم قاعدة الفراغ وقاعدة الشك بعد الوقت ، كما هو المناسب لما سبق منا في تقريب وحدة القاعدة.

وثالثا : أنه ذكر أنه يكفي الترتب بالوجه المذكور بلحاظ الوظيفة الاستحبابية ، لأجل توجيه جريان القاعدة في الأذان والإقامة ، ومن الظاهر أن مقتضى ذلك الاكتفاء بجميع ما يكون مبنى تشريعه على دخله في العمل بلحاظ بعض مراتب فضيلته ، كبعض أفراد التعقيب أو كلها ، فضلا عن الاجزاء المستحبة التي هي دخيلة في الفرد الأكمل ، حيث يكون الجزء المستحب دخيلا في صحة المركب بلحاظ الوظيفة الاستحبابية ، وإن لم يكن دخيلا فيه بلحاظ الوظيفة الوجوبية.

وقد تحصل من جميع ما تقدم : أن المعيار في الغير الذي يكون الدخول فيه محققا لموضوع قاعدة التجاوز بناء على تعدد القاعدة ، ولمضي محل الشك بناء على وحدتها هو مطلق ما يترتب على المشكوك ، سواء كان جزءا من المركب واجبا أو مستحبا ، أم مطلوبا في ضمنه كذلك ، أم أمرا مستقلا عن المشكوك ، كالظهر والعصر ، فيكون العمل على ذلك ما لم يدل الدليل على خلافه في خصوص مورد.

نعم ، لا عبرة بالدخول في أمور ..

٤٣٠

أحدها : ما لا يترتب على المشكوك بمقتضى دليل جعله ، بل يكون محله ما يترتب عليه ، كما لو شك المصلي في أنه في السجدة الأولى أو الثانية ، وقد انشغل بدعاء السجدة الثانية ، فإن الدعاء المفروض لم يؤخذ فيه الترتيب بينه وبين السجدة الأولى ، ليتحقق به مضي محلها والتجاوز عنها ، بل غاية الأمر أن محله السجدة الثانية ، ولا طريق لإحراز وقوعه في محله بنحو يحرز به أن السجدة التي بيده هي الثانية وأن الأولى قد تحققت قبلها ، بل مقتضى قاعدة الالتفات للشك في المحل لزوم البناء على عدم الإتيان بها ، وأن التي بيده هي الأولى.

ومنه يظهر عدم تحقق المضي والتجاوز بالمنافي المبطل للعمل ، كالكلام والحدث بالإضافة للسلام ، لأنه وإن كان مقتضى مبطليته عدم إيقاعه قبل الإتيان بالجزء الأخير ممن هو في مقام الامتثال والإتيان بالعمل التام ، إلا أنه لما لم يكن مترتبا شرعا على الجزء الأخير لم يصدق به التجاوز عنه ومضي محله إلا بناء على أن المراد بمضي محل المشكوك تعذر تداركه ، أو مضي المحل العادي ، وقد عرفت ضعف المبنيين ، غاية ما يلزم في المقام هو إيقاع المنافي في غير محله ، وقد ذكرنا أنه لا طريق لإحراز وقوع الشيء في محله ، بنحو يحرز به تمامية العمل وتحقق المشكوك.

ثانيها : ما كان الترتيب بينه وبين المشكوك هو الأفضل من دون أن يؤخذ في أصل مشروعيته كما هو الحال في ما لو شك في قضاء الفائتة عند الانشغال بالحاضرة ، بناء على استحباب الترتيب بينهما.

لعدم صدق المضي بالإضافة إلى الفعل المشروع ، لفرض عدم أخذ الترتيب في مشروعيته ، بل في المطلوبية الزائدة عليها.

وما تقدم من الاكتفاء بالمترتب بمقتضى الوظيفة الاستحبابية إنما هو في ما لو ابتنى تشريع الفعل الدخيل في الوظيفة الاستحبابية على الترتيب بينه وبين

٤٣١

المشكوك ، بحيث لا يشرع بدونه ، كالقنوت بالإضافة للقراءة ، ولا يعم محل الكلام.

ومنه يظهر الوجه في عدم تحقق المضي بمضي وقت الفضيلة ، وأنه لا بدّ فيه من وقت الفوت ، كما تضمنه صحيح زرارة والفضيل المتقدم (١).

ثالثها : ما يكون الترتيب بينه وبين المشكوك واجبا تكليفا من دون أن يكون شرطا فيه ، حيث لا يكون الإتيان به قبله إتيانا به في غير محله ، بنحو يصدق الخروج عن محل المشكوك بالدخول فيه ، إذ لا محل لكل منهما بمقتضى تشريعه ، وإن لزم تقديمه بمقتضى التكليف بالترتيب زائدا على أصل التشريع ، ولا محرز لامتثال التكليف المذكور.

ومنه يظهر أنه لا مجال لدعوى : تحقق التجاوز بفعل المنافي في ما يحرم قطعه ، كالصلاة ، خلافا لما يظهر من بعض الأعاظم قدّس سرّه.

الأمر الرابع : تقدم أن مضي محل الشك بناء على وحدة القاعدة قد يكون بالفراغ عن العمل ، وذلك في ما لو كان الشك في تمامية العمل المفروض الحصول ، لأن تمامية العمل قائمة به ، فبالفراغ عنه يصدق مضيه ومضي جميع شئونه القائمة به. وهو موضوع قاعدة الفراغ بناء على تعدد القاعدة.

والمعيار في تحقق الفراغ عن العمل ومضيه الذي تضمنته النصوص ليس على الفراغ الحقيقي عن العمل المشروع المطلوب من المكلف. إذ لا يجتمع فرضه مع فرض الشك في تمامية العمل.

ولا على الفراغ البنائي الاعتقادي وإن احتمل خطؤه ـ كما يظهر من غير واحد ـ لمخالفته لظاهر اطلاق الفراغ والمضي من دون قرينة. بل ظاهر صحيح محمد بن مسلم المتقدم في الأمر الثاني أنه أمر زائد على الفراغ ، لأخذه قيدا فيه.

ولا على فعل معظم الأجزاء وإن كان من عادة المكلف التتابع والموالاة

__________________

(١) الوسائل : ج ٣ ، باب : ٦ من أبواب المواقيت حديث : ١.

٤٣٢

بين الأجزاء ـ خلافا لما يظهر من بعض الاعاظم قدّس سرّه ـ لأنه فراغ منها ، لا من تمام العمل الذي هو الموضوع في نصوص المقام. مع أنه لم يعهد منهم تقييد القاعدة بصورة إحراز تحقق المعظم.

ولا على صيرورة الشيء بحيث لا يمكن تداركه ، للدخول في المنافي ونحوه ـ كما يظهر من بعض مشايخنا ـ لعدم المناسبة بينه وبين المضي والفراغ ، ليصح حملهما عليه فضلا عن أن يكونا ظاهرين فيه.

ولا على فعل الجزء الأخير ـ كما يظهر من كلام له آخر ـ لأنه إنما يكون فراغا حقيقيا عن العمل المطلوب في ظرف فعل بقية الأجزاء ، ومع قطع النظر عن ذلك لا تميز له عن غيره من الأجزاء.

بل الظاهر أن المعيار فيه هو الفراغ الحقيقي عن العمل الخارجي المأتي به بعنوانه الخاص من غسل أو وضوء أو صلاة أو نحوها. وذلك لأن موضوع الشك في الصحة هو العمل الخارجي ، لا كلي العمل ، كما أن المضي والفراغ قد طبقا في النصوص عليه ، فيلزم صدقهما بالإضافة إليه حقيقة ، بالمعنى المقابل للانشغال به ولقطعه.

لوضوح أن من يشرع في العمل لا يخرج عن إحدى حالات ثلاث : الانشغال به ، وقطعه معرضا عنه ، والفراغ عنه منصرفا منه ، وما هو موضوع القاعدة الأخير المقابل للأولين.

فليس التسامح إلا في صدق العنوان على العمل المأتي به بلحاظ قصده منه بناء على الصحيح ، وهو تسامح شايع ، أما بناء على الأعم فلا تسامح حتى في ذلك. وهو يجتمع مع احتمال نقصه ، بل مع العلم به ، لأن نقصه عما يجب لا ينافي وحدته والفراغ منه بعد الانشغال به بقصد تحقيق الفعل المشروع به لتخيل انطباقه عليه ، وإن كان القصد المذكور في غير محله. ولذا كان صريح بعض النصوص فرض تحقق العمل من المكلف مع فرض العلم ببطلانه.

٤٣٣

نعم ، احتمال النقص لا يجتمع مع إحراز الفراغ عن العمل المشروع. وهو غير مهم لعدم اتصافه بالصحة والبطلان ، بل بالوجود والعدم ، فهو خارج عن محل الكلام والنصوص.

وعليه لا بدّ في الاكتفاء بأحد الامور المتقدمة في كلماتهم من رجوعه لما ذكرنا وملازمته له ، ومع تحققه لا ملزم بتحقق شيء مما ذكروه ، فالمدار عليه لا عليها.

فلو لم يحرز المكلف الفراغ عن عمله الذي شرع فيه بعنوانه الخاص ، بل احتمل قطعه له وإعراضه عنه ، لم تجر القاعدة ، وإن أحرز من نفسه سبق البناء منه على الفراغ والاعتقاد بإكمال العمل واحتمل خطأ البناء المذكور ، أو جاء بمعظم الأجزاء وكان من عادته التتابع فيها ، أو تعذر منه التدارك ، لتحقق المنافي ، أو أحرز الإتيان بالجزء الأخير ـ كالسلام ـ ولا لتخيل عدم جواز القطع بدونه ، وقد نبه لذلك غير واحد على اختلاف مبانيهم.

وبناه سيدنا الأعظم قدّس سرّه على اعتبار الفراغ البنائي مدعيا أنه غير محرز في الفرض.

لكنه غير ظاهر ، لإمكان اعتقاد المكلف بعد مدة من تركه للعمل فراغه منه ، ويتحدد احتمال القطع عنده بعد ذلك. إلا أن يريد من الفراغ البنائي هو الاعتقاد بالفراغ حين الإعراض عن العمل وترك الانشغال به ، فيلازم الفراغ الحقيقي بالمعنى الذي ذكرناه.

كما أنه لو أحرز من نفسه الفراغ عنه بالمعنى المذكور جرت القاعدة وإن لم يحرز الإتيان بمعظم الاجزاء ، أو لم يكن من عادته التتابع فيها ، أو لم يتعذر في حقه التدارك ، أو لم يحرز الإتيان بالجزء الأخير.

نعم ، الفراغ بالمعنى المذكور ملازم للفراغ البنائي. لكن المدار على الملزوم لا اللازم.

٤٣٤

ومن ذلك يظهر الحال في ما لو شك في الإتيان بالجزء الأخير في المترتبات ، أو ببعض الاجزاء في ما لا ترتيب فيه ، ولم يمكن إحرازه بالدخول في ما يترتب عليه ـ كالتعقيب ـ سواء تحقق المنافي المانع من تتميم العمل أم لا ، حيث يكون المدار في جريان القاعدة فيه على إحراز الفراغ بالمعنى المتقدم ، بأن يحرز الانشغال بالعمل بعنوانه الخاص ، ثم إنهاؤه والفراغ منه بذلك العنوان ، وإن احتمل نقصه عما يجب فيه.

أما لو لم يحرز ذلك فلا تجري القاعدة ، لعدم إحراز موضوعها.

وذلك في ما تعتبر فيه الموالاة إنما يكون لاحتمال الاعراض عن العمل بعد الشروع فيه.

وفي ما لا تعتبر فيه ـ كالغسل ـ قد يكون لذلك ، بأن يعلم المكلف من نفسه أنه قصد مجموع العمل حين الشروع فيه مواليا ، وقد يكون لعدم القصد من أول الأمر لمجموع العمل ، بل قصد بعضه عازما على إكماله بعد ذلك بقصد استقلالي آخر ، فيحتمل الغافلة عن الاكمال ، حيث لا يحرز حينئذ الانشغال بتمام العمل ، بل ببعضه ، فلا يحرز الفراغ إلا عن البعض المذكور ، ويحتمل الشروع في غيره والأصل عدمه.

ولعل هذا هو مراد من بنى على جريان القاعدة في الغسل إذا كان من عادة المكلف الموالاة فيه ، كما أشرنا لذلك عند الكلام في وجه عدم الاعتداد بالمحل العادي في صدق المضي والتجاوز.

نعم ، لو علم بالفراغ عن كل الأجزاء ولو مع قصدها متفرقا صدق الفراغ عن المجموع وإن احتمل الاخلال ببعض ما قصده وانشغل به من الأجزاء ، كما لو علم بأنه قد اغتسل مفرقا للاعضاء وأكمل غسله ذلك ، ثم احتمل اخلاله ببعض عضو عند إرادة غسله.

وهذا هو المعيار في الامور غير الارتباطية ، كالتطهير من الخبث ، ووفاء

٤٣٥

الدين لو شك في تحقق بعض أجزائها ، فإنه إن كان مع إحراز الفراغ من الكل ، إما للانشغال بالمجموع ابتداء ، أو للانشغال بالاجزاء بنحو التعاقب حتى استوفيت وفرغ من المجموع ، وكان مرجع احتمال النقص إلى احتمال الغافلة منه عن تحقيق بعض ما قصده ، حين الانشغال بما قصده ، جرت القاعدة ، وإلا لم تجر ، كما لو احتمل إعراضه عن الكل بعد شروعه فيه ، أو علم بعدم القصد من أول الأمر للكل ، وإنما قصد الأجزاء بنحو التفريق ، واحتمل الغافلة عن الإتيان ببعضها.

الجهة الثانية : في مفاد القاعدة.

اقتصر في أكثر النصوص العامة والخاصة على عدم الاعتناء بالشك في مورد القاعدة وعدم وجوب الرجوع والتدارك بسببه ، مثل ما تضمن أن الشك ليس بشيء ، وأنه لا شيء بسببه على الشاكّ ، وأنه يمضي ولا يعيد.

وهو بنفسه لا يقتضي التعبد بالمشكوك ، فضلا عن إحرازه أو فرض قيام الامارة عليه ، بل غايته تطبيق العمل في مقام الفراغ والامتثال على ما يناسب أحد طرفي الشك ، نظير تطبيقه في مقام الاشتغال ووصول التكليف على ما يناسب أحد طرفي الشك في أدلة البراءة والاحتياط فيكون مضمون القاعدة أصلا عمليا محضا ، لا تعبديا ، أو إحرازيا ، فضلا عن أن يبتني على أمارية شيء.

نعم ، بناء على امتناع اكتفاء الشارع بالفراغ الاحتمالي ، لأن قاعدة وجوب الفراغ اليقيني بعد الاشتغال اليقيني عقلية غير قابلة للتخصيص ، بل له التعبد بالفراغ مع الشك ليتحقق موضوع القاعدة المذكورة ، يتعين حمل المضامين المذكورة على التعبد بالفراغ ، صونا لها عن اللغوية ، فتكون قاعدة تعبدية.

لكن تقدم في التنبيه الثاني من تنبيهات البراءة إمكان اكتفاء الشارع بالامتثال الاحتمالي ، وأن حكم العقل بلزوم إحرازه إنما هو مع عدم ثبوت اكتفاء الشارع بذلك.

٤٣٦

هذا ، كله بالنظر المفاد هذه النصوص ، أما بالنظر لغيرها فقد يستفاد التعبد بالمشكوك من بعض ما ورد في الشك في الركوع حال الهوي للسجود ، أو حال للسجود ، كقوله عليه السّلام في صحيح عبد الرحمن المتقدم : «قد ركع» (١) ، وفي صحيح حماد : «قد ركعت أمضه» (٢) ، وغيرهما. بل قد يستفاد من صحيح زرارة المتقدم عن مستطرفات السرائر كون وجود الحائل من سنخ المحرز ، فتكون القاعدة إحرازية ، لا تعبدية محضة ، لأن قوله (٣) : «فلا يدع الحائل لما كان من الشك إلا بيقين» ظاهر في كون الحائل محرزا للمشكوك كاليقين السابق في الاستصحاب ، بحيث يكون الاعتناء بالشك والتدارك لأجله تركا للحائل وإعراضا عن مقتضاه ، لا تركا لحكم الشارع معه بالتعبد بالمشكوك لا غير.

بل قد تقرب أمارية القاعدة لما فيها من الكاشفية بلحاظ غلبة جري المكلف في مقام العمل على طبق ما قصده ارتكازا ، بالاتيان بالعمل تام الاجزاء والشرائط ، لأن مخالفته لذلك عمدا ينافي كونه في مقام الامتثال ، وسهوا مخالف لظهور حال المدرك الملتفت ، فالقصد الارتكازي للعمل التام من سنخ الامارة بنظر العقلاء على مطابقة العمل الخارجي له.

لكنه يشكل : بأنه ليس في النصوص العامة على كثرتها إشارة للارتكاز المذكور ، بل ظاهرها إرادة عدم الاعتناء بالشك الذي مضى محله من حيث هو ، ولذا ورد بعضها في مورد الشك في أصل الامتثال لا في كيفيته ، كصحيح زرارة والفضيل الوارد في الشك بعد خروج وقت الفوت ، ومن الظاهر أن الأمر المذكور ارتكازي أيضا قد يبتني على مراعاة مصلحة التسهيل وحفظ النظام ، لعدم تيسر حفظ ما مضى وضبط حاله.

__________________

(١) الوسائل ج : ٤ ، باب : ١٣ من أبواب الركوع حديث : ٦. وقد تقدم ذكر في الأمر الثاني من الجهة الأولى.

(٢) الوسائل ج : ٤ ، باب : ١٣ من أبواب الركوع حديث : ٢.

(٣) الوسائل ج : ٤ ، باب : ١٣ من أبواب الركوع حديث : ٢.

٤٣٧

نعم ، قد يظهر ابتناء الحكم على الارتكاز المشار إليه من حديث بكير المتقدم في أدلة المسألة ، المتضمن أنه حين يتوضأ أذكر منه حين يشك وصحيح محمد بن مسلم المتقدم في الأمر الثاني من الجهة الأولى المتضمن أنه حين ينصرف أقرب إلى الحق منه بعد ذلك.

لكن تقدم في الأمر المذكور عدم ظهورهما في التعليل بالعلة المنحصرة ، التي هي بمنزلة موضوع الحكم والتي تكشف عن سنخه ومنشئه.

ومن هنا يشكل البناء على الأمارية في المقام ، بل غايته البناء على كون القاعدة إحرازية لصحيح زرارة المشار إليه بعد إلغاء خصوصية مورده والتعدي لجميع صغريات القاعدة ، بناء على وحدتها.

بقي في المقام أمران ..

الأول : أنه لا ريب في تقديم القاعدة على الاستصحاب ، سواء كانت أصلا عمليا محضا ، أم تعبديا ، أم إحرازيا ، أم أمارة. وإلا لزم إلغاؤها وإهمال دليلها رأسا ، لأنها أخص من الاستصحاب موردا ، ومخالفة له عملا دائما ، لأن وجود المشكوك على خلاف الحالة السابقة. وأما صحته فهي وإن كانت على خلاف الحالة السابقة أيضا بلحاظ العدم الأزلي ، إلا أن الأثر ليس لها ، بل للازمها وهو وجود الصحيح ، والاستصحاب يقتضي عدمه ، وحيث لا يكون التلازم بين الأمرين شرعيا يكون الاستصحاب معارضا للقاعدة ، لا محكوما لها ، كي يتوهم انفرادها بالجريان. فالأمر في المقام أظهر منه فى اليد. لأنها قد تطابق الاستصحاب عملا ، كما أنه قد لا يجري في موردها لتعاقب الحالتين مع الجهل بتاريخهما ، على ما تقدم.

أما في المقام فلا يتصور الجهل بالتاريخ في نفس مورد القاعدة ، غاية الأمر أنه قد يتم في نفس الشرط المجهول ـ كالطهارة ـ وهو إنما يمنع من الاستصحاب السببي الجاري في الشرط ، دون المسببي الجاري في المشروط ،

٤٣٨

الذي مقتضاه مخالف لمقتضى القاعدة دائما.

اللهم إلا أن يقال : لا مجال لجريان الاستصحاب في المشروط ، للعلم بتحقق ذاته ، والشك انما هو في شرطه ، وليس مرجع الاشتراط إلى أخذ التقييد في المأمور به ، بنحو يكون المطلوب مفهوما بسيطا منتزعا عن وجود الذات والقيد ، كي لا يكون العلم بتحقق الذات منافيا للشك فيه ، وإلا لامتنع إحرازه بإحراز القيد ، بل إلى كون المطلوب هو الفصل حال وجود القيد ، بنحو التركب المفهومي ، فمع إحراز أحد الأمرين بالوجدان لا مجال لاستصحاب عدم المركب.

مضافا إلى أن الاستصحاب قد يوافق القاعدة عملا ، كما في مورد استصحاب الشرط. نعم لا مجال لحمل أدلة القاعدة على خصوص هذا المورد ، لأنه في معنى إلغائها ، نظير ما تقدم في اليد.

وكيف كان ، فلا ريب في تقديم القاعدة على الاستصحاب ، ولا أثر لاختلاف الوجوه المتقدمة في ذلك.

غاية الأمر اختلاف وجه التقديم باختلاف الوجوه المذكورة ..

فعلى القول بأماريتها يجري ما تقدم من الكلام في وجه تقديم الأمارة على الاستصحاب ، وقد سبق منا تقريب نحو من الورود لها عليه يجري هنا ، بل يجري بناء على كونها أصلا إحرازيا أيضا ، كما يظهر بملاحظته والتأمل فيه.

وأما بناء على كونها أصلا تعبديا أو عمليا محضا فقد تقرب حكومة القاعدة على الاستصحاب بوجهين ..

أحدهما : ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه من أن موضوع الاستصحاب لما كان هو الشك في بقاء الحالة السابقة المسبب عن الشك في حدوث ما يرفعها ، ومفاد القاعدة حدوث ما يوجب رفعها ، كانت رافعة لموضوعه.

وفيه : أن التعبد بحدوث ما يرفع الحالة السابقة وإن كان موجبا للحكومة

٤٣٩

عندهم ، وعليه جروا في تقديم الأصل السببي على المسببي ، إلا أن المراد ما يرفعها ثبوتا ، كطهارة الماء الذي يغسل به الثوب بالإضافة إلى نجاسة الثوب ، والقاعدة في المقام لا تقتضي التعبد بالرافع للحالة السابقة بالمعنى المذكور ، بل تقتضي التعبد بنقيض الحالة السابقة ، وهو مضاد للتعبد بنفس الحالة السابقة ـ الذي هو مفاد الاستصحاب ـ لا حاكم عليه.

نعم ، لو كان التعبد المذكور مستندا لطريق يؤدي لارتفاع الحالة السابقة إثباتا كان ذلك الطريق حاكما على التعبد الاستصحابي عندهم ، على ما فصل الكلام فيه في وجه حكومة الأمارة ، لكن المفروض في محل الكلام عدم أمارية القاعدة.

ثانيهما : ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه من أن أدلة القاعدة لما كانت ناظرة إلى نفي الشك وأنه ليس بشيء صالح للعمل على وفق احتمال بقاء الحالة السابقة ، كانت رافعة لموضوع الاستصحاب ، فتكون حاكمة عليه ، بخلاف دليل الاستصحاب ، فإنه لا يقتضي نفي الشك ، بل التعبد بالمتيقن في ظرفه ، فلا يرفع موضوع القاعدة.

وفيه : أن مفاد أدلة القاعدة ليس هو نفي الشك ، وإلا كانت بلسان الامارة أشبه ، بل عدم الاعتناء به في مقام العمل ، وهو مفاد دليل الاستصحاب أيضا ، غايته أن عدم الاعتناء بالشك مسوق في دليل الاستصحاب لبيان وجوب العمل على طبق الحالة السابقة ، وفي دليل القاعدة لبيان وجوب العمل على خلافها ، فيتنافيان ، ولا يرفع أحدهما موضوع الآخر ، ليحكم عليه.

ومن هنا كان الظاهر انحصار وجه التقديم حينئذ بالتخصيص (١).

__________________

(١) اختلف تقريرا درس بعض مشايخنا (مصباح الأصول) و (مباني الاستنباط) في مبنى تقديم القاعدة على الاستصحاب ، بعد اتفاقهما في لزومه دفعا للغوية دليلها ، وفي عدم حكومتها ، فقد جرى في الأول على ما ذكرناه من التخصيص ، وانكره في الثاني ، لدعوى إباء أدلة الاستصحاب

٤٤٠