المحكم في أصول الفقه - ج ٥

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٨

الثاني : الظاهر أن القاعدة ليست حجة في لازم مؤداها ، سواء كانت أمارة أم أصلا إحرازيا أم غيره ، لعدم الدليل على ذلك.

وقد تقدم في مبحث الأصل المثبت أنه لا ملزم بحجية الأمارة في لازم مؤداها ، بل لا بدّ فيه من دليل خاص ، ومعه يبنى على ذلك في الأمارة والأصل معا.

نعم ، تطبيق القاعدة في مورد الشك في صحة الموجود الذي هو مورد قاعدة الفراغ عندهم يبتني على الانتقال للّازم غير الشرعي ، لأن الأثر لوجود الصحيح بمفاد كان التامة ، وليس التلازم بينه وبين صحة الموجود شرعيا ، بل عقلي ، ومن ثمّ لا يجري الاستصحاب في صحة الموجود أو عدمها ، كما أشرنا لذلك عند الكلام في الوجه الأول من وجوه وحدة القاعدة.

وإنما يرجع للاستصحاب في مورد الشك في صحة الموجود لإحراز منشأ انتزاع الصحة ، وهو وجود الجزء أو الشرط ، أو عدمه ، حيث يحرز به تحقق الصحيح وهو المركب التام ـ بمفاد كان التامة ـ لإحراز بعضه بالوجدان وبعضه بالأصل ، أو إحراز عدمه ، فيكون موضوع الاستصحاب هو الجزء أو الشرط لاتمام المركب.

ولا مجال لذلك في المقام ، لما تقدم عند الكلام في الوجه الرابع من وجوه وحدة القاعدة من ظهور بعض النصوص في تطبيق القاعدة على نفس المركب الخارجي لإحراز صحته ، فلا بد أن يبتني على الانتقال منه إلى لازمه غير

__________________

عنه.

وهو كما ترى! فإن الآبي عنه هو عدم نقض اليقين الفعلي بالشك ، لامتناع رفع حجية القطع ، أما عدم رفع اليقين السابق بالشك فهو قابل للتخصيص دون محذور ، بل قد ثبت في كثير من الموارد تخصيصه بالتعبد بارتفاع الحالة السابقة ، كما في البلل الخارج قبل الاستبراء ، أو بالاحتياط ، كما في موارد وجوب الفحص. بل لما اعترف بعدم الحكومة في المقام انحصر وجه التقديم بالتخصيص. (منه. عفي عنه).

٤٤١

الشرعي ، وهو وجود الصحيح ، الذي هو موضوع الأثر العملي ، دفعا للغوية ، سواء كانت القاعدة أصلا أم أمارة ، ولا مجال للتعدي لغير ذلك من اللوازم.

ومن هنا يتضح أنه لا ثمرة عملية للنزاع في أمارية القاعدة. فلاحظ.

المقام الثالث : في سعة كبرى القاعدة.

والظاهر ثبوت العموم في أدلة القاعدة بلحاظ جميع الأبواب في فرض وجود الموضوع المتقدم ، بنحو يكون الخروج عنه في بعضها محتاجا لدليل مخصص.

وهو المصرح به في كلام غير واحد ممن ادعى تعدد القاعدة أيضا ، فحكموا بعموم كلتا القاعدتين.

لكن بعض الأعاظم ادعى اختصاص قاعدة التجاوز بأجزاء الصلاة.

وكأنه لاختصاص مورد صحيحي زرارة وإسماعيل بن جابر بها بلحاظ الأمثلة المذكورة في صدرهما ، لسوقها للتمهيد والتوطئة للقاعدة.

لكن المورد لا يخصص الوارد ، ولا سيما في مثل المقام ما كان العموم فيه ارتكازيا ، لارتكازية القاعدة ، ولا دخل للمورد في الجهة الارتكازية المبتنية عليها.

بل لا ينبغي التأمل في ذلك بالنظر للتعليل بالحائل في صحيح زرارة والفضيل الوارد في الشك في الصلاة بعد خروج وقت الفوت ، وفي صحيح زرارة المروي عن مستطرفات السرائر الوارد في الشك في الظهر بعد العصر.

فالبناء على العموم من هذه الحيثية متعين.

نعم ، لا إشكال في خروج الوضوء عنها ، كما وقع الكلام في إلحاق غيره من الطهارات به. والبحث في ذلك بمسائل الفقه أنسب.

ومن هنا ينبغي النظر في بعض الموارد التي وقع أو يقع الكلام في جريان القاعدة فيها لدعوى قصوره عنها رأسا أو انصرافا ، لأنها ترجع لحيثيات أخر غير

٤٤٢

الحيثية المتقدمة.

ويتم استقصاؤها بذكر مسائل ..

المسألة الأولى : في منشأ الشك

الشك في صحة العمل يكون من إحدى جهتين.

الأولى : الشبهة الحكمية ، كما لو توضأ بالماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر ثم شك في مانعية الاستعمال المذكور من الوضوء بالماء.

ومحل الكلام هنا ما إذا حصل الشك المذكور بعد الفراغ من العمل أو مضي محل المشكوك.

أما لو حصل قبله خرج عن موضوع القاعدة. ولذا تقدم أن القاعدة ليست من المسائل الاصولية التي تقع في طريق استنباط الحكم الكلي الذي يتفرع عليه العمل ، بل هي متفرعة على العمل الشخصي.

إذا عرفت هذا ، فالظاهر عدم جريان القاعدة حينئذ ، لاختصاص دليلها بالشك في الجريان على مقتضى التشريع مع تعيين مقتضاه ، ولا يعم الشك في مطابقة التشريع لما وقع مع تعيين ما وقع ، لأن ذلك هو المتيقن من الجهة الارتكازية التي اشير إليها في نصوص القاعدة.

كما أن النصوص المذكورة مختصة بذلك.

أما نصوص الشك في وجود المشكوك ـ الذي هو مجرى قاعدة الفراغ عندهم ـ فلأن صحة العمل وفساده وإن أمكن فرضهما من جهة الشبهة الحكمية إلا أن الأدلة لم تتضمن عنوان الشك في الصحة ، بل الشك في نفس العمل الخارجي ، وظاهره إرادة الشك في الخصوصية التي وقع عليها مما يهتم به لكونه موردا للأثر ومأخوذا في التشريع ، لا ما يعم الشك في الخصوصية المأخوذة في الحكم الشرعي ، فانها أجنبية عن العمل.

وأما المطابقة للمشروع فهي وإن كانت من خصوصيات العمل ، إلا أنها

٤٤٣

أمر انتزاعي متفرع على التشريع ليست موردا للأثر ، فينصرف إطلاق الشك في العمل عنها.

نعم ، لو لم ترجع الشبهة الحكمية للشك في أخذ شيء في الفعل ـ كأخذ الترتيب في غسل الجنابة ـ بل للشك في تحقق الأمر المأخوذ فيه ، كما لو شك بعد الوضوء بالماء الذي زال تغيره من قبل نفسه في طهارته لم يمنع الوجه المذكور من جريان القاعدة فيها ، لأن الشك حينئذ في خصوصية في فعل المكلف مورد للأثر ومحط للغرض ، فلا بد في توجيه قصور القاعدة حينئذ من دعوى انصراف أدلتها عن الشبهة الحكمية واختصاصها بالشبهة الموضوعية ، والظاهر تسالمهم على ذلك. فلاحظ.

الثانية : الشبهة الموضوعية ، وللشك معها وجوه ، لأنه يرجع ..

تارة : للشك في صورة العمل مع العلم بما هو المشروع.

واخرى : للشك في انطباق العمل على المشروع مع العلم بصورة العمل.

وثالثة : للشك في أصل مشروعية العمل.

أما الأول فكما لو شك المكلف في موالاته في الوضوء ، أو في طهارته حين الصلاة. وهو المتيقن من أدلة القاعدة.

وأما الثاني فكما لو علم المكلف أنه صلى لجهة معينة وشك في أنها القبلة أولا. ومقتضى إطلاق النصوص جريان القاعدة ، لأن الشك في ذلك راجع للشك في خصوصية راجعة للعمل مقارنة له ، كخصوصية الوقوع للقبلة في المثال.

وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه من أن الشك المذكور لا يتمحض في جهة انطباق المأتي به ، لأن كون الجهة التي صلى إليها القبلة لا دخل لها بعمله الذي هو موضوع القاعدة وهو الصلاة.

ففيه : أنه وإن لم يتمحض في ذلك إلا أنه راجع إليه ، لأن الشك في كون

٤٤٤

الجهة الخاصة قبلة يستلزم الشك في وقوع صلاته للقبلة على مقتضى الأمر ، وبلحاظه تجري القاعدة ، فيبنى على صحة العمل ، وإن لم تجر بلحاظ الأول ، فلا يحرز كون الجهة المذكورة قبلة تجوز الصلاة إليها.

ومجرد كون منشأ الشك في الانطباق شكا أجنبيا عنه ، لا يمنع من دخوله تحت القاعدة ، إذ قد يتأتى ذلك مع الشك في صورة العمل.

بل الشك في المقام لا يخرج عن الشك في صورة العمل ، إذ لا يراد بصورة العمل خصوص مادته ـ وهي الأجزاء ـ وهيئته ـ وهي الموالاة والترتيب ـ بل ما يعم قيوده المقارنة له ، كطهارة المصلي وتستره ، وهي بالمعنى المذكور مجهولة في المقام.

ثم إنه لا يفرق في ما نحن فيه بين كون الخصوصية المشكوكة ـ تبعا للشك الخارج عن العمل ـ دخيلة في نوع العمل ، كالاستقبال في الصلاة ، وكونها دخيلة في صنفه ، كالحضر الدخيل في صحة التمام ، بأن علم المكلف بأنه صلى تماما ، وشك في أنه كان حاضرا أو مسافرا حين الصلاة.

كما لا يفرق بين كون الصنف الذي يعلم بدخل الخصوصية المشكوكة فيه اختيارا ـ كالتمام في المثال ـ وكونه اضطراريا ، كالوضوء الجبيري ، بان علم المتوضئ أنه مسح على العصابة وشك في مشروعيته ، لاحتمال عدم الجرح الذي هو موضوع الوضوء الجبيري. كل ذلك لإطلاق أدلة القاعدة.

هذا ، وقد عدّ غير واحد مما نحن فيه ما لو علم المتوضئ أنه لم يحرك خاتمه وشك في وصول الماء لما تحته.

وهو في غير محله ، لأن عمل المكلف الذي هو المشروع والمجزي ليس هو صب الماء على العضو المعلوم الصورة ، بل ايصال الماء له المسبب عن ذلك ، وهو مجرى القاعدة ، ومن الظاهر أن إيصاله لما تحت الخاتم جزء من العمل المذكور ، فالشك فيه شك في صورة العمل ، لأن المراد منها ما يعم الجزء

٤٤٥

قطعا ، فيدخل في الوجه الأول الذي عرفت أنه المتيقن من القاعدة.

نعم ، كلا الوجهين ، بل الوجه الثالث أيضا ، قد تكون مع احتمال الالتفات لجهة الشك ومنشئه ، بحيث يستند الإتيان بالمشكوك لقصد المكلف ، وقد تكون مع القطع بالغافلة بحيث يكون حصول المشكوك اتفاقيا ، وربما يشكل عموم القاعدة للثاني.

وهو أمر آخر يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى في المسألة الثانية.

وكأن إشكال شيخنا الأعظم قدّس سرّه في عموم القاعدة مع انحفاظ صورة العمل مبني على القطع بالغافلة ، كما يناسبه استدلاله ، فمراده انحفاظ صورة العمل الملتفت إليه.

بل من القريب ابتناء منع بعض الأعاظم قدّس سرّه من جريان القاعدة في هذا القسم على ملاحظة هذه الصورة ، وإلا فالالتزام بعدم جريانها في صورة احتمال الالتفات بعيد عن مرتكزات المتشرعة جدا.

وأما الثالث فكما إذا احتمل بطلان الصلاة لاحتمال عدم دخول الوقت ، أو احتمل بطلان غسل الجنابة لاحتمال عدم الجنابة.

وقد جزم سيدنا الأعظم قدّس سرّه بعدم جريان القاعدة فيه ، لخروجه عن مورد أدلتها.

وكأنه لأن الخصوصية المشكوكة ليست مطلوبة لنفسها ولا يتعلق بها الغرض ، بل هي علة لتعلق الفرض بالعمل ومشروعيته. واهتمام المكلف بحصولها إنما هو بلحاظ ترتب الأجزاء عليها ، وليس هو أثرا شرعيا ، بل عقلي ، فينصرف عنه إطلاق الأدلة.

لكن لم يتضح الوجه في تقييد الخصوصية المشكوكة بما إذا كانت موردا للطلب ، وعدم عمومها لما إذا كانت علة للطلب والمشروعية ، بعد أن كانت عليتها شرعية ، وبعد أن كانت مما يهتم المكلف بها لأجل إحراز صحة العمل

٤٤٦

ومشروعيته ، فالبناء على العموم هو الأوفق بالإطلاق والمناسب للارتكازيات المتشرعية.

نعم ، لو حصل الشك المذكور قبل اليقين بدخول الوقت فمقتضى الاستصحاب عدم الموضوع للقاعدة ، لعدم انشغال الذمة بالعمل بعد ، كي يحرز بها الفراغ عنه ، فلا مجال لجريانها لعدم الأثر ، فبعد تجدد اليقين بالوقت يعلم بانشغال الذمة بالتكليف ، فلا بد من إحراز الفراغ عنه ، ولا تنفع القاعدة في ذلك بعد عدم جريانها من أول الأمر حين حدوث الشك. والمسألة محتاجة للتأمل.

المسألة الثانية : في عموم القاعدة من حيثية وقت الشك.

تكرر منا أن موضوع القاعدة هو الشك الذي مضى محله ، إما للشك في الوجود بعد مضي محل المشكوك ، أو للشك في الصحة بعد الفراغ من العمل.

فلو حدث الشك في المحل أو قبل الوصول إليه فلا موضوع للقاعدة ولزم الاعتناء بالشك ـ بمقتضى الاستصحاب ، أو قاعدة الاشتغال ـ فلو لم يعتن به ومضى عليه لم يجزئ بالعمل سواء كان عدم الاعتناء مع الالتفات للشك ـ عمدا أو للجهل بحكمه ـ أم مع الغافلة عنه ، فإن الغافلة عنه كالجهل بحكمه لا ينافي عدم مضي محل الشك الموجب لقصور القاعدة عنه.

غاية الأمر أن الغافلة عن الشك الذي هو موضوع الاستصحاب والجهل العذري بحكمه يوجب عدم تنجزه حين العمل ، وهو لا يهم مع تنجزه حين الالتفات بعد الفراغ عنه بعد فرض عدم جريان القاعدة المانعة من الرجوع إليه.

وأما لو غفل عن المشكوك فأتى بالعمل ومضى فيه ثم التفت فتجدد له الشك بعد مضي محله فإن احتمل الإتيان بالمشكوك بعد الشك الأول فلا ريب في جريان القاعدة بلحاظ الشك المتجدد ، لمباينة الشك المذكور للشك السابق ، لفرض تعدد موضوعهما.

وما ذكره بعض الأعيان المحققين من عدم جريان القاعدة ، لاختصاصها

٤٤٧

بالشك الحادث بعد الفراغ غير المسبوق بالشك قبل العمل.

غريب جدا ، إذ لا يزيد الشك قبل العمل عن اليقين بعدم الإتيان بالمشكوك ، مع جريان القاعدة معه لو فرض احتمال الإتيان به بعد ذلك ، والتقييد المذكور في كلامه مما لا يمكن الالتزام به مع فرض تباين الشكين بسبب تعدد موضوعيهما.

وإن علم بعدم الإتيان بالمشكوك بعد الشك الأول ، بحيث يستند احتمال صحة العمل لما استند له الشك الأول لا غير ، فربما يدعى جريان القاعدة أيضا بلحاظ الشك المتجدد ، لأنه وإن اتحد مع الشك السابق موضوعا ، إلا أنه مباين له بسبب فصل الغافلة المفروضة بينهما ، فلا يكون الثاني بقاء للأول ، بل هو شك جديد حاصل بعد مضي محله ، فتشمله القاعدة وإن لم تشمل الشك الأول.

لكن ذكر غير واحد أن الشك المذكور غير مشمول لأدلة القاعدة ، بل ظاهر غير واحد المفروغية عن ذلك ، وظاهر بعض الأعيان المحققين تسالم الأصحاب عليه.

ويظهر من سيدنا الأعظم قدّس سرّه أن الوجه فيه قصور دليل القاعدة عن الشك المسبوق بمثله قبل العمل. وذكر بعض مشايخنا في توجيه ذلك أن تباين الشكين لتخلل الغافلة بينهما إنما هو دقي ، وإلّا فهما بنظر العرف شك واحد سابق على الفراغ من العمل ومضيه خارج عن موضوع القاعدة.

بل قد يقال : ان الشك عرفا كالعلم يصدق بمجرد حصوله ، ولا يضر بصدقه طروء الغافلة ، فكما أن العالم لو غفل عما علمه لا يصح عرفا سلب العلم عنه ، بل يصدق عليه الذاهل أو الناسي ، دون الجاهل ، كذلك الشاك لو غفل عما شك فيه لا يصح سلب الشك عنه.

والفرق بينه وبين ما ذكره بعض مشايخنا أن وحدة الشك على ما ذكرنا حقيقية مستلزمة لقصور إطلاق دليل القاعدة عن المورد حقيقة ، وعلى ما ذكره

٤٤٨

تسامحية فلا بد من دعوى انصراف إطلاق الدليل ، لا قصوره.

لكن لا يخلو كلا الوجهين عن الإشكال ، خصوصا في مثل الشك الحاصل قبل الشروع في العمل ، كالشك في الطهارة قبل الصلاة ، لوضوح أن المشكوك فيه هو الطهارة قبل الصلاة ، وليست هي موضوعا للأثر ، بل ليس موضوعه إلا الطهارة حين الصلاة التي هي موضوع الشك الثاني الحادث بعد الفراغ ، فالشكان متباينان تبعا لتباين موضوعيهما ، وإن كانا متلازمين. ومنه يظهر عدم تمامية ما تقدم من سيدنا الأعظم قدّس سرّه.

نعم ، قد يقال : إن بقاء اليقين والشك وعدم ارتفاعهما بالغافلة مستلزم لبقاء حكمهما ، وهو الاستصحاب وإن لم يتنجز بسبب الغافلة عن موضوعه ، وإنما يتنجز بعد الالتفات ، والمتيقن من تقديم القاعدة على الاستصحاب هو تقديمها عليه بلحاظ تطبيقه على الشك الحاصل بعد مضي المحل ، أما بلحاظ الشك الحاصل قبله فلا ملزم بتقديمها عليه ، لعدم لزوم لغويتها لو قدّم عليها ، فالمتيقن هو منع القاعدة من الاستصحاب الذي يكون موضوعه مقارنا لموضوعها ، لا رفعها للاستصحاب الجاري قبلها ، لسبق موضوعه على موضوعها زمانا.

بل يتعين تقديمه عليها لو كان سببيا بالإضافة إليها ، لكون مجراه منشأ للشك الذي هو موضوعها ، بملاك تقديم الأصل السببي على المسببي ، فيكون استصحاب عدم الوضوء الجاري قبل الدخول في الصلاة في المثال المتقدم مقدما على قاعدة الفراغ الجارية بعدها.

ومن هنا يتعين تقديم الاستصحاب السببي الجاري سابقا وإن لم يكن المشكوك بعد مضي المحل ملتفتا إليه قبله ، بل كان مباينا للمشكوك فيه سابقا مسببا عنه ، كما لو شك المكلف في تطهير الإناء ، فاستصحب نجاسته ، ثم غفل ووضع فيه الماء وتوضأ به ثم التفت بعد الفراغ واحتمل صحة وضوئه لاحتمال تطهير الإناء ، فإن ما هو الشرط لصحة الوضوء هو طهارة الماء ، ولم يسبق الشك

٤٤٩

فيه قبل الوضوء ، كي يتمسك لعدم جريان القاعدة بوحدة الشك عرفا أو حقيقة ، وإنما سبق الشك بتطهير الإناء.

فإذا تم ما ذكرنا من حكومة الاستصحاب الجاري سابقا فيه على القاعدة اتجه عدم جريانها في الفرض ، كما هو المناسب للمرتكزات ، وإلا تعين جريانها لتحقق موضوعها بلا إشكال ، وهو الشك الحادث بعد الفراغ غير المسبوق بمثله.

وحيث كان جريانها فيه بعيدا عن المرتكزات كشف عن قرب ما ذكرناه من الوجه.

لكن الوجه المذكور لا ينفع لو لم يكن الشك الحاصل قبل مضي المحل سببيا بالإضافة للشك الحاصل بعده الذي يكون مجرى للقاعدة ، لعدم الترتب بين موضوعيهما ، كما لو شك في الركوع قبل السجود ، فوجب عليه ظاهرا الإتيان به ، ثم غفل وسجد ، وقطع بعد الالتفات بعدم الإتيان بالركوع بعد الشك المذكور ، حيث لا وجه لحكومة استصحاب عدم الإتيان بالركوع على القاعدة ، بل يتعين حكومتها عليه ، بناء على كونها إحرازية ، كما تقدم.

فلا بد من التشبث في منع جريان القاعدة فيه إما بما تقدم من وحدة الشك عرفا أو حقيقة ، أو بدعوى انصراف دليل القاعدة عما لو أحرز كون المضي في العمل على خلاف الوظيفة التي خوطب بها ولو ظاهرا ، وإن كانت المخالفة عن عذر بسبب الغافلة.

وهذا بخلاف ما لو لم يتلفت إلا بعد الفراغ ، لفرض عدم إحراز المخالفة للوظيفة الواقعية ، وعدم تحقق موضوع الوظيفة الظاهرية قبل الفراغ ، كي يكون المضي مخالفة لها.

هذا ، والظاهر أن منع الارتكاز عن جريان القاعدة كاف في البناء على عدمه ، والمهم إنما هو معرفة منشأ الارتكاز المذكور ، ولا يبعد صلوح ما ذكرنا له.

٤٥٠

نعم ، لا بد من إحراز أن جري المكلف على خلاف مقتضى الوظيفة الظاهرية لمحض الغافلة عن المشكوك ، أما لو احتمل تبدل الحال في نفس المكلف ، بحيث يكون عدم فعلية الشك منه لتبدل الشك في نفسه باليقين حين العمل ، وإن غفل بعده أيضا ، فالظاهر جريان القاعدة بسبب الشك الحاصل بعد الفراغ والالتفات ، لعدم إحراز المانع منها ، وهو الوظيفة الظاهرية المنافية للقاعدة ، كالاستصحاب الحاكم عليها أو الموجب لانصراف دليلها ، لأن بقاء الوظيفة المذكورة مشروط بعدم تبدل الشك باليقين ، كما لا يحرز مع ذلك وحدة الشك عرفا أو حقيقة بالتقريب المتقدم.

وأما احتمال بقاء الحال السابق وعدم التبدل ، فهو الشك متجدد بعد المضي ، ومبنى القاعدة على إهماله ، كما يهمل الشك بالإضافة إلى الواقع الذي يحتمل مخالفته وإن كان موافقا للأصل الأولي.

وأوضح من ذلك ما لو احتمل الإتيان بالمشكوك بعد الشك السابق. ولذا تقدم منهم الجزم بجريان القاعدة معه. فتأمل جيدا.

المسألة الثالثة : في عموم القاعدة من حيثية الالتفات حين العمل وعدمه.

أشرنا في المسألة الأولى إلى أن شيخنا الأعظم قدّس سرّه استشكل في جريان القاعدة مع حفظ صورة العمل ، وذكرنا أن التأمل في دليله قاض بأن نظره في ذلك لفرض غفلة المكلف عن جهة الشك حين العمل ، فمرجع ذلك منه إلى اعتبار احتمال التفات المكلف عن جهة الشك حين العمل ، فمرجع ذلك منه إلى اعتبار احتمال التفات المكلف لجهة الشك حين العمل في جريان القاعدة. وهو الذي أصر عليه بعض مشايخنا ونسبه لجملة من الأصحاب.

وغاية ما يوجه به ذلك : أن مبنى القاعدة ارتكازا على ملاحظة ظهور حال الممتثل في مطابقته للأمر الذي يريد امتثاله بالمحافظة على جميع الخصوصيات المعتبرة في العمل ، وذلك إنما يكون مع التفاته لجهة الشك ، ولو ارتكازا ، حيث يكون إخلاله معه عمدا منافيا لكونه في مقام الامتثال ، وسهوا

٤٥١

مخالفا للظهور الأولي في كل فاعل.

أما مع غفلته عن جهة الشك فاخلاله بالخصوصية المطلوبة لا ينحصر بالوجهين المذكورين بل يستند لغافلته ، وحصول الخصوصية المطلوبة معها إنما يكون اتفاقيا ، ولا ظهور لحال الممتثل فيه.

مضافا إلى التعليل بقوله عليه السّلام في حديث بكير المتقدم في أدلة القاعدة : «هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك» وفي صحيح محمد بن مسلم المتقدم في مبحث عدم الاعتداد بمضي المحل العادي : «وكان حين انصرف أقرب إلى الحق منه بعد ذلك».

لكن تقدم عند الكلام في أمارية القاعدة الإشكال في ابتناء القاعدة على الجري على الجهة الارتكازية المذكورة ، وقوة احتمال ابتنائها على جهة اخرى ارتكازية أيضا لا تقتضي اعتبار الالتفات.

كما تقدم في مبحث الاكتفاء بمضي المحل العادي الإشكال في التعليل المذكور في الموثق والصحيح بعدم ظهوره في بيان العلة المنحصرة التي يدور الحكم مدارها وجودا وعدما. فراجع.

مضافا إلى صحيح الحسين بن أبي العلاء : «سألت أبا عبد الله عليه السّلام عن الخاتم إذا اغتسلت. قال : حوله عن مكانه. وقال في الوضوء تدره ، فإن نسيت حتى تقوم في الصلاة فلا امرك أن تعيد الصلاة» (١). لظهوره في إهمال احتمال عدم وصول الماء لما تحت الخاتم ، والبناء على صحة الوضوء بعد الفراغ منه والالتفات لذلك.

وأما ما ذكره بعض مشايخنا من أنه وارد لبيان عدم شرطية تحويل الخاتم وإدارته بعنوانهما في الطهارة ، ودفع توهم بطلانها بتركهما ولو مع وصول الماء ، لا بلحاظ احتمال عدم وصول الماء لما تحت الخاتم ، لينفع في ما نحن فيه.

__________________

(١) الوسائل ج : ١ ، باب : ٤١ من أبواب الوضوء حديث : ٢.

٤٥٢

فهو بعيد جدا ، لعدم المنشأ الارتكازي للاحتمال المذكور كي ينصرف إطلاق السؤال إليه ، بخلاف وجوبهما طريقيا لإحراز وصول الماء.

ولا سيما بملاحظة صحيح علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام : «سألته عن المرأة عليها السوار أو الدملج في بعض ذراعها لا تدري يجري الماء تحته أم لا ، كيف تصنع إذا توضأت أو اغتسلت؟ قال : تحركه حتى يدخل الماء تحته أو تنزعه. وعن الخاتم الضيق لا يدري هل يجري الماء تحته إذا توضأ أم لا كيف تصنع؟ قال : إن علم أن الماء لا يدخله فليخرجه إذا توضأ» (١).

ودعوى : أن ذلك لا يناسب خصوصية التحويل والادارة اللتين تضمنهما صحيح الحسين ، بل يقتضي الاكتفاء بإيصال الماء بأي وجه كان.

مدفوعة : بإلغاء خصوصيتهما عرفا ، لفهم أن ذكرهما بلحاظ ملازمتهما لإحراز وصول الماء ، ولا سيما بملاحظة صحيح علي بن جعفر.

كيف! وإلا لزم البناء على شرطية التحويل والإدارة ذاتا ، وإن لم يخل تركهما نسيانا ، المستلزم للبطلان مع تركهما عمدا وإن أحرز وصول الماء ، فإن الذيل لا يدل على عدم الشرطية ذاتا ، ليجب رفع اليد به عن ظاهر الصدر المدعي ، بل على العفو مع النسيان الجامع لها.

بل هو مختص بالإدارة في الوضوء ، فلا موجب للبناء على العفو عن ترك النزع في الغسل حتى مع النسيان ، بعد كون الحكم تعبديا محضا يصعب الغاء خصوصية مورده.

على أنه لو سلم ما ذكره فاستفادة ما نحن فيه من الصحيح تبعا قريبة جدا ، لملازمة نسيان النزع والتحريك لاحتمال عدم وصول الماء بعد الفراغ غالبا ، فعدم التنبيه على وجوب الإعادة من الحيثية المذكورة مستلزم لظهور الكلام تبعا في عدم الاعتناء بالاحتمال المذكور.

__________________

(١) الوسائل ج : ١ ، باب : ٤١ من أبواب الوضوء حديث : ١.

٤٥٣

وبالجملة : لا ينبغي التأمل في ظهور الصحيح في ما نحن فيه ودلالته على عموم القاعدة من حيثية عدم الالتفات لجهة الشك.

هذا كله مع أنه يصعب البناء على التقييد بصورة الالتفات ، إذ كثيرا ما يتم المكلف عمله على نحو خاص قد تعوده مدة طويلة ويعتقد بتماميته ، ثم يلتفت لبعض الاحتمالات القريبة أو البعيدة ، الراجعة لخلل في عمله مما كان غافلا عنه حينه ، بحيث لو توجه إليه حينئذ لزمه الفحص عنه ، لاقتضاء الأصل عدم التمامية معه ، كعدم وصول الماء في الغسل لبعض المواضع ، لاحتياجه للدلك على غير الوجه الذي تعوده ، أو لوجود المانع ، أو مانعية الموجود ، ونحو ذلك مما ليس بناء المتشرعة على إعادة ما مضى بعد الالتفات إليه. فلا ينبغي مع ذلك التشكيك في عموم القاعدة.

ثم إن الاقتصار على ظهور حال الممتثل في تحقيق تمام ما هو الدخيل في المطلوب ، والتعليل المتقدم كما يقتضيان اعتبار الالتفات لجهة الشك كذلك يقتضيان اعتبار عدم ظهور كون الاعتقاد بالتمامية المقارن للالتفات السابق في غير محله ، لابتنائه على مقدمات غير صالحة للإثبات ، وإن احتمل مصادفته للواقع ، فلو فرض علم المكلف من نفسه أنه حين الوضوء كان يعتقد وصول الماء للبشرة مع وجود الخاتم وإن لم يحركه ، وبعد الفراغ شك في ذلك ، وظهر له أن اعتقاده السابق في غير محله ، لابتنائه على مقدمات غير منتجة ، كان بحكم غير الملتفت ، إذ لا أثر لمثل هذا الالتفات في ظهور حاله في إيصاله الماء للبشرة ، ولا في أذكريته وأقربيته للحق.

نعم ، لو خفي عليه وجه الاعتقاد ولم يظهر له صحة مقدماته ولا خطؤها ، كان ظاهر حاله حين الامتثال أنه أتم عمله ، كما هو مقتضى الأذكرية والاقربية للحق المعلل بهما ، بضميمة أصالة عدم الخطأ ، غير الجارية في الفرض الأول المبتني على العلم بخطإ الاستناد بوجه الاعتقاد.

٤٥٤

وهذا هو المعيار في كل جهة للشك. سواء كانت حكمية ـ كما لو مسح باصبع باعتقاد الاجزاء ـ أم موضوعية راجعة للشك في الإتيان بالمطلوب ـ كما لو شك في الإتيان بالركوع قبل السجود ، ثم اعتقد الإتيان به ومضى ، ثم تجدد له الشك في الإتيان به ـ أو للشك في مطابقة المأتي به للمطلوب ـ كما لو صلى تماما باعتقاد كونه حاضرا ، وبعد الفراغ احتمل كونه مسافرا ـ أو للشك في التوظيف به ، للشك في تحقق شرط مشروعيته ـ كالوقت ـ على ما أشرنا إليه في المسألة الأولى.

فلو ابتنى المنع في بعضها على اعتبار الالتفات كان اللازم التفصيل بين ظهور مستند الخطأ في الاستناد لوجه الاعتقاد وعدمه.

كما لا يفرق في ذلك بين القطع وغيره من الطرق الظاهرية ، فإذا قامت البينة على تطهير الماء ، فتوضأ به ، ثم شك في عدالة الشاهدين ، فإن خفي عليه وجه البناء منه سابقا على عدالتهما لحقه حكم الملتفت ، وإن علم بفسقهما ، أو احتمل ذلك لكن ظهر له أن وجه البناء منه على عدالتهما غير صالح لأن يعتمد عليه ، فلا أثر لمثل هذا الالتفات.

ومنه يظهر حال كثير من الفروع التي ذكروها في المقام مما لا مجال لاطالة الكلام فيه بعد معرفة الضابط المذكور.

المسألة الرابعة : في عموم القاعدة لاحتمال الترك العمدي وعدمه.

والظاهر أن احتمال الترك العمدي إن كان مانعا من إحراز موضوع القاعدة فلا ينبغي الإشكال في عدم جريانها ، كما لو احتمل تعمد الإعراض عن إكمال العمل ، بنحو لا يتحقق معه المضي فيه والفراغ عنه ، على ما تقدم عند الكلام في المعيار في الفراغ.

وإن لم يناف ذلك ، بل أحرز المكلف من نفسه أنه في مقام الامتثال وقد مضى في عمله وفرغ منه ، فإن احتمل تعمد ترك الجزء لتخيل عدم اعتباره في

٤٥٥

العمل ابتنى جريان القاعدة وعدمه على ما تقدم في المسألة السابقة ، فإن قيل باعتبار الالتفات لجهة الشك حين العمل تعين عدم جريانها ، لرجوع الشك للشك في الالتفات ، فالتمسك بعموم دليلها فيه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية ، وإلا تعين جريانها ، لعموم دليلها.

وإن احتمل تعمد تركه للإعراض عن العمل ثم العدول عن ذلك قبل فعل المنافي والغافلة عن الجزء ، فلا ينبغي الإشكال في جريان القاعدة ، لتحقق موضوعها ، حتى بناء على اعتبار الالتفات ، لابتناء القاعدة على ظهور حال الممتثل ، والتعليل بالأذكرية والأقربية للحق ، لوضوح شمول الوجهين المذكورين للمورد.

وكذا لو احتمل تعمد ترك الجزء تشريعا ، لمنافاته لظهور حال الممتثل.

نعم ، لا يشمله التعليل بالأذكرية ، لظهور أن ذكره في مقابل النسيان ، لا في مقابل التعمد ، إلا أن استفادته منه بالأولوية قريبة جدا. فلاحظ.

المسألة الخامسة : في عموم القاعدة للشك في الشروط.

وظاهر غير واحد وصريح آخرين العموم.

لكن ظاهر كشف اللثام في مسألة الشك في الطهارة في الطواف الاختصاص بالأجزاء ، لأنه بعد أن حكى عن العلامة في غير واحد من كتبه الحكم بعدم الالتفات للشك فيها بعد الفراغ منه قال : «والوجه : أنه إن شك في الطهارة بعد يقين الحدث فهو محدث يبطل طوافه ، شك قبله أو بعده أو فيه ... وليس ذلك من الشك في شيء من الأفعال».

ويحتمله أيضا ما في المدارك ، حيث وافقه في الحكم المذكور ، وإن لم يتعرض إلى أن الوجه فيه قصور القاعدة عن مثل الطواف واختصاصها بالطهارة والصلاة ، أو قصورها عن الشك في الشروط.

لكن تقدم عدم اختصاص القاعدة بالطهارة والصلاة.

٤٥٦

كما لا ينبغي الإشكال في عمومها للشك في الشروط ، لعموم أدلتها المتقدمة ، وخصوص صحيح محمد بن مسلم : «قلت لأبي عبد الله عليه السّلام : رجل شك في الوضوء بعد ما فرغ من الصلاة. قال : يمضي على صلاته ، ولا يعيد» (١) ، وقد يستفاد من غيره.

ثم إنه لا يفرق في جريان القاعدة في الشروط بين ما كان منها سابقا على العمل بها ـ كالأذان والإقامة بناء على شرطيتهما محضا ـ وما كان منها مقارنا له ، سواء كان قائما بتمام المركب ، بحيث يجب المحافظة عليه من حين الشروع فيه الى الفراغ منه ـ كالاستقبال والطهارة ـ على المشهور ، أم كان قائما بكل جزء جزء منه ، دون الأكوان المتخللة بينها ـ كالطمأنينة والترتيب والموالاة بين الاجزاء ـ أم كان قائما بخصوص بعض الاجزاء ـ كالجهر والإخفات في القراءة ـ

غاية الأمر أنه قد يظهر الفرق بينها عند الالتفات في أثناء العمل ، حيث قد يتعذر إحرازه في الأول بالإضافة إلى حال الشك ، وإن أمكن إحرازه بالإضافة إلى ما قبله بالقاعدة ، وبالإضافة إلى ما بعده بالوجدان ، بخلاف الأخيرين ، حيث لا يحتاج إلى إحرازه حال الشك لو فرض عدم الانشغال بالعمل حينه ، وهو أمر يختلف باختلاف الشروط ، خارج عما ذكرنا من جريان القاعدة عند الشك في الشرط ، لعموم دليلها.

نعم ، لا مجال لجريانه في خصوص بعض الشروط مما كان مقوما للمشروط غير زائد عليه عرفا ، كالموالاة بين أجزاء الكلمة ، وكالنية التي هي بمعنى تعيين نوع الفعل ، كنية كون الانحناء ركوعا أو سجودا ، ونية كون الصلاة ظهرا أو عصرا ، ونية كون المال المدفوع زكاة أو هدية.

لوضوح أن الشرط المذكور لما كان راجعا للشك في تحقق عنوان العمل

__________________

(١) الوسائل ج : ١ ، باب : ٤٢ من أبواب الوضوء حديث : ٥.

٤٥٧

الخارجي لم يحرز معه موضوع القاعدة وهو الفراغ عن العمل ذي العنوان الخاص ومضيه ، ليمكن معه إحراز صحته بها ، كما لا مجال معه لإحراز مضي محل الشرط ، لأن محله هو حال المشروط ذي العنوان الخاص ، فمع عدم إحراز العنوان لما وقع لا يحرز مضي محله ، فيرجع الشك في الشرط المذكور للشك في وجود المشروط من المركب أو جزئه ، فلا بد من تطبيق القاعدة بالإضافة إليه لو فرض مضي محله بخروج وقته ، أو الدخول في ما يترتب عليه ويتحقق به التجاوز عنه.

فمن شك في أن انحناءه كان بقصد الركوع أو لتناول شيء من الأرض لا مجال لإحرازه القصد للركوع بمضي محله تبعا لمضي الركوع المعتبر فيه ، لعدم إحراز الركوع مع الشك المذكور ، وإنما يتجه في حقه جريان القاعدة في نفس الركوع لو فرض مضي محله بالدخول في السجود.

هذا ، مضافا إلى ما قيل من أن شرطية مثل ذلك عقلية ، لتوقف العنوان عليها ، لا شرعية ، لتكون منشأ لصدق موضوع القاعدة من مضي المشكوك بنفسه أو بمحله.

وأما ما ذكره العلامة والشهيد وغيرهما من عدم الاعتناء بالشك في النية بعد تجاوز محلها.

فهو مبني على وجوب النية بمعنى إخطار صورة العمل متصلة بأوله أو مقارنة له ، ومن الظاهر أن الإخطار المذكور ليس مقوما لعنوان العمل ، بل يكفي في صدقه القصد الإجمالي الارتكازي الذي لا إشكال في كفايته حال الاستمرار في العمل ، ولا بدّ من فرض تحققه في المقام ، فلو كان الاخطار معتبرا فليس هو إلا جزءا من العمل أو شرطا زائدا عليه له محل خاص ، يمكن فرض التجاوز عنه بمضي محله والدخول في ما بعده.

وكذا الحال في النية بمعنى قصد التقرب داعيا ، فانها أمر زائد على العمل

٤٥٨

لا يتوقف عليه صدق عنوانه ، بل هي كسائر الشروط تجري فيها القاعدة ، بناء على ما هو التحقيق من أن شرطيتها شرعية لا عقلية.

بقي في المقام أمران ..

الأول : أن جريان القاعدة مع الشك في الشرط هل يكون بتطبيقها على نفس الشرط ، لاثبات وجوده بمفاد كان التامة ، بلحاظ مضي محله وهو المشروط ، أو على المشروط لإثبات صحته وواجديته للخصوصية المطلوبة بمفاد كان الناقصة ، بلحاظ مضيه بنفسه ، لفرض الفراغ عنه.

والفرق بين الوجهين : أنه على الثاني لا يكفي مضي الجزء الذي يجب تحقق الجزء حينه إلا أن يكون هو المشروط بالشرط.

أما لو كان محلا للشرط مع كون المشروط هو المركب فلا بد من مضي المركب بتمامه لأن مفاد القاعدة على الوجه المذكور هو إحراز الخصوصية المطلوبة في الفعل الذي مضى ، فإذا كانت الخصوصية مطلوبة في الكل لا في الجزء لم يكف مضي الجزء.

أما على الأول فيكفي مضي الجزء الذي هو محل الشرط مطلقا ، إذ المعيار فيه على مضي محل المشكوك. وتحقيق أن الشرط الذي محله الجزء شرط فيه أو في تمام المركب مما لا مجال له هنا ، بل يوكل للفقه حسبما يستفاد من الأدلة في كل مورد مورد.

نعم ، لازم كونه شرطا في الجزء أن الإخلال به في محله لا يبطل المركب ، بل يبطل الجزء لا غير ، فيصح المركب بتداركه واجدا لشرطه ـ إذ لم يلزم الخلل من جهة اخرى ، كالزيادة ونحوها ـ أما لو كان شرطا في المركب فلا مجال لتداركه ، لبطلان المركب رأسا بالاخلال به.

ولو فرض الشك في ذلك وعدم ثبوت أحد الوجهين لزم الاقتصار على المتيقن في الوجه الثاني من تطبيق القاعدة ، وهو خصوص حال ما بعد الفراغ

٤٥٩

من المركب.

ويظهر نظير الفرق المذكور بين التطبيقين في شرط المركب الذي محله قبل الدخول فيه ـ كالاذان والإقامة لو قيل بشرطيتهما للصلاة ـ فإنه على الأول يكفي في جريان القاعدة الدخول في المركب ، لمضي محله به ، وعلى الثاني لا بدّ فيه من الفراغ منه.

هذا ، ويظهر من بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه أن الوجه الأول من تطبيق القاعدة لما كان مبنيا على فرض المحل للشرط ، فلا يجري في الشروط المعتبر ايقاع المركب حينها ، كالطهارة والتستر ، بل يختص بما إذا كان للشرط محل خاص ، كالأذان والإقامة ـ بناء على شرطيتهما ـ حيث يجب إيقاعهما قبل الصلاة.

ويشكل : بأن للشرط محلا خاصّا يصدق المضي بالإضافة إليه ، فكما يصدق مع الترتب بالإضافة إلى المتقدم بالدخل في المتأخر ، يصدق في المتقارنين بالإضافة إلى أحدهما بالخروج عن الآخر ، ولا يظهر وجه للتفكيك بينهما.

إذا عرفت هذا ، فلا ينبغي الريب في صحة التطبيق الثاني ، لأن الشرط خصوصية في الفعل دخيلة في ترتب أثره الثابت له بعنوانه المقصود حين الامتثال والجري على مقتضى التشريع ، فيشملها إطلاق الشك في الشيء.

وأما الأول فقد يشكل : بأن الشرط بنفسه غير مطلوب ولا مرغوب فيه ولا مورد الأثر ، وليس المطلوب ومورد الأثر إلا الذات الواجدة له ، فهو مطلوب تبعا ، لمطلوبيتها لا بنفسه ، ولذا قد يكون أمرا خارجا عن اختيار المكلف ، كالخصوصيات الزمانية التي تكون قيدا في الواجب من الليل والنهار والظهر والعصر ونحوها ، إذ ليس الأمر الاختياري إلا إيقاع الفعل المطلوب حينه.

ومنه يظهر أن فرض المحل له ليس باعتبار أخذه فيه ـ كما في الواجبات

٤٦٠