المحكم في أصول الفقه - ج ٥

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٨

المترتبة ـ لعدم تشريعه بنفسه ، فضلا عن تشريع المحل له ، بل باعتبار تقييد ما هو المشروع به ، فيتعين عقلا حفظ الشرط في المحل الخاص.

ولأجل ذلك كله يقرب قصور الإطلاق عنه ، ولا أقل من انصرافه عنه ، أو خروجه عن المتيقن منه ، فيلزم الاقتصار على التطبيق الأول.

الثاني : أن جريان القاعدة مع الشك في الشرط لا يقتضي إحرازه مطلقا ومن جميع الجهات بنحو يترتب عليه جميع آثاره ، حتى ما لم يصدق مضي محل الشك بالإضافة إليه ، لأن المنصرف من أدلة التعبد بها مع الشك في الشرط أو الجزء هو التعبد بالمشكوك من حيثية الجهة التي يصدق المضي بالإضافة إليها ، دون غيرها ، فمن شك في الركوع بعد السجود مثلا إنما يبني على تحقق الركوع لإحراز تمامية الصلاة التي بيده التي اخذ فيها الترتيب بين الركوع والسجود ، لا لإحراز جميع آثار الركوع حتى ما ثبت له بعنوانه المطلق ، كما لو نذر أن يتصدق شكرا لكل ركوع يركعه. وهو لا ينافي ما تقدم من كون القاعدة إحرازية ، إذ لا مانع من اختصاص الإحراز بجهة دون اخرى.

وعلى هذا لا يكون جريان القاعدة مع الشك في الشرط وإحرازه بها مصححا للدخول في بقية ما يعتبر فيه مما لا يصدق بالإضافة إليه مضي محل الشك مما كان به تمام المركب ـ لو فرض الشك في الاثناء ـ فضلا عن الدخول في مركب آخر.

وقد أشرنا في أول المسألة إلى اختلاف حال الشرط ، حيث يكون ..

تارة : متقدما على العمل.

واخرى : مقارنا له مستوعبا لحال الانشغال به ، حتى الأكوان المتخللة بين أجزائه ، كالطهارة.

وثالثة : مختصا بحال الانشغال بالأجزاء ، كالطمأنينة.

ورابعة : مختصا بحال الانشغال ببعض الأجزاء ، كالجهر والاخفات.

٤٦١

كما ذكرنا في الأمر السابق أنه لو كان شرطا لتمام المركب فلا تجري القاعدة فيه مع الشك فيه في أثناء العمل حتى بالإضافة لما مضى منه ، بناء على التطبيق الثاني ، الذي عرفت أنه المتعين في المقام.

أما لو كان شرطا للجزء فيكفي مضي الشروط به في جريانها فيه ، ولا بدّ من إحرازه حينئذ لباقي العمل لو كان معتبرا فيه أيضا بالوجدان لعدم المضي بالإضافة إليه ، لما ذكرنا.

أما على التطبيق الأول فيكفي مضي محله مطلقا بالدخول في ما بعده أو بالفراغ مما يقارنه ، لكن لا يتعدى لبقية الآثار ، كما ذكرنا.

إن قلت : لازم ذلك وجوب تدارك الصلاة السابقة لو شك فيها بعد الفراغ من اللاحقة كما لو شك في الظهر بعد الفراغ من العصر ، لأن مقتضى الترتيب بينهما شرطية الأولى في الثانية ، ومقتضى جريان القاعدة في الثانية هو البناء على وجود الأولى من حيثية شرطيتها فيها لتصحيحها ، لا مطلقا ليبنى على فراغ الذمة منها بامتثالها.

بل حيث كان الترتيب بينهما شرطا ذكريا لم تجر القاعدة ، لعدم الأثر لها بعد العلم بصحة الثانية وعدم نهوضها بإثبات امتثال الأولى ، مع أن صريح صحيح زرارة المتقدم المنقول عن مستطرفات السرائر عدم وجود إعادة الظاهر لمن شك فيها بعد العصر.

قلت : جريان القاعدة في الصلاة السابقة ليس بلحاظ شرطيتها للّاحقة ، ليقتصر فيه على تصحيحها ، بل بلحاظ الترتيب بين الصلاتين بحسب جعلهما ، الموجب لمضي محل الأولى بفعل الثانية ، وإن لم تكن الثانية شرطا فيها ، فتجري القاعدة في الأولى لإثبات وجودها بما أنها مأمور بها بمفاد (كان) التامة ويترتب عليه أثر وجودها ، وهو سقوط أمرها ، لكفاية ذلك في تحقق مضي المحل ، على ما تقدم توضيحه عند الكلام في معيار الغير الذي يكون الدخول

٤٦٢

فيه محققا للتجاوز ومضي المحل.

ولا مجال لقياس ذلك بالشرط المتمحض في الشرطية الذي يكون المحل له منتزعا من شرطيته ، من دون أن يكون مبنيا على ملاحظة مشروعيته ، كالطهارة التي هي بحسب أصل تشريعها مستحبة بنفسها ، قبل الصلاة وحينها وبعدها. وكون محلها الصلاة ليس بلحاظ تشريعها المذكور ، ولذا بقي على عمومه ، بل لأجل شرطيتها للصلاة يلزم وجودها حينها.

وكذا الحال لو قيل بأن الشرط في الصلاة هو الوضوء قبلها ، لا الطهارة المسببة عنه حينها.

بل مقتضى ما ذكرنا هو جريان القاعدة في السابقة بمجرد الدخول في اللاحقة قبل الفراغ منها ، وهو المناسب لارتكازية التعليل بالحائل في الصحيح المذكور.

خاتمة فيها أمران :

الأول : أن الظاهر من أدلة القاعدة أن المضي عزيمة لا رخصة ، لا بمعنى عدم مشروعية الاحتياط ، لأن الاحتياط من آثار الاحتمال غير المرتفع مع جريان القاعدة ، كما لا يرتفع مع جريان جميع القواعد الظاهرية ، حتى الطرق ، وليس مفادها حكما واقعيا ليصلح لمزاحمة حسن الاحتياط الثابت مع الاحتمال.

بل بمعنى التعبد بآثار تحقق المشكوك الالزامية ، فلا يجوز الإتيان به إذا كان زيادة مبطلة مثلا ، لأن ذلك هو مقتضى إطلاق التعبد.

وهو ظاهر بناء على كون القاعدة تعبدية ، فضلا عن كونها إحرازية ، أما بناء على أنها عملية محضة فلأنها وإن لم تتضمن التعبد بالمشكوك ولا بآثاره ، إلا أنها تمنع من جريان استصحاب عدم الإتيان به ، فلا محرز لصحة العمل ، ولا مؤمن من احتمال بطلانه من جهة الزيادة على تقدير تدارك المشكوك ، بل

٤٦٣

مقتضى قاعدة الاشتغال عدم الاجتزاء به.

نعم ، لا منجز لاحتمال حرمة الإتيان به تكليفا لو فرض حرمة قطع العمل ، كالصلاة ، بل مقتضى الأصل البراءة ، لأن الشك في التكليف لا في سقوطه.

اللهم إلا أن يستفاد من الأمر بالمضي في النصوص تنجيز آثار الإتيان بالمشكوك الإلزامية أيضا ، المستلزم لوجوب المضي عقلا ، لا مجرد السعة والتعذير من آثار عدم الإتيان به فقط ، المستلزم لجواز المضي وعدم وجوب الإتيان بالمشكوك عقلا لا غير. فتأمل.

الثاني : لما كانت القاعدة من القواعد الظاهرية ، التي يكون حكمها طريقيا في طول الواقع لا ثانويا مستلزما لتبدل الواقع فهي لا تمنع من منجزية العلم الإجمالي لو فرض حصوله على خلافها بلحاظ أحد تطبيقين ، ولازم ذلك سقوطها بالمعارضة على الوجه المقرر في مورد مخالفة الأصل للعلم الإجمالي ، فاللازم النظر في حال العلم الإجمالي من حيثية منجزيته ذاتا وعدمها ، والنظر في حال كل من التطبيقين من حيثية ترتب الأثر عليه ، وكونه في عرض الآخر أو حاكما عليه ، وحيث لا ضابط لذلك ، لعدم انحصار فروعه بنحو خاص ، فلا مجال للبحث فيه هنا ، بل يوكل لمباحث الفقه عند الابتلاء بكل فرع بنفسه ، حيث يلزم مراعاة الضوابط المتقدمة في مباحث العلم الإجمالي ، مع مراعاة ما ذكرناه هنا في شروط جريان القاعدة وتحقيق موضوعها.

وهو الحال أيضا عند معارضة القاعدة بغيرها من القواعد والأصول ، حيث يتعين سقوط كلا المتعارضين أو حكومة أحدهما ، حسبما يقتضيه المقام.

والله سبحانه تعالى العالم وبه الاعتصام ، وله الحمد والمجد ، والصلاة والسلام على محمد وآل محمد ، أولياء الحل والعقد.

٤٦٤

الفصل الثالث

في قاعدة الصحة

وهي من القواعد المشهورة المعول عليها في مقام العمل ، الراجعة إلى عدم الاعتناء باحتمال الفساد في عمل الغير ، بل يبنى على صحته وترتب الأثر المطلوب منه عليه. وحيث كان موضوعها العمل الخارجي الشخصي الذي يكون حكمه جزئيا فهي قاعدة فقهية ظاهرية ، وليست مسألة اصولية لعدم وقوعها في طريق استنباط الحكم الكلي.

والكلام فيها ..

تارة : في دليلها.

واخرى : في تحديد موضوعها ومفهومها تفصيلا.

وثالثة : في سعة كبراها.

فالبحث في مقامات ثلاثة ، على نحو ما جرينا عليه في القاعدتين المتقدمتين.

المقام الأول : في دليل القاعدة.

تعرض شيخنا الأعظم وغيره للاستدلال ببعض الآيات والنصوص الآمرة بالقول الحسن في الناس ، وحسن الظن بهم ، وحمل فعل المؤمن على الأحسن ، والناهية عن اتهامه ، ونحو ذلك.

وهو أجنبي عن المقام ، لظهوره في الحمل على ما يناسب إيمان الفاعل

٤٦٥

من الحسن الفاعلي الراجع لنية الفاعل الخير والحسن ، دون الشر والقبيح ، دون الحسن الفعلي الراجع لحسن عمله واقعا ، فضلا عن الصحيح التام الذي يترتب أثره المطلوب منه ، المقابل للفاسد ، وإن لم يكن حسنا كالطلاق.

وأدنى تأمل في الأدلة المذكورة شاهد بذلك ، فلا حاجة لإطالة الكلام فيها ، بل يتعين صرفه لغيرها مما يناسب محل الكلام ، وهو أمور ..

الأول : عموم وجوب الوفاء بالعقود وصحة التجارة عن تراض ونحوهما.

فقد استدل في جامع المقاصد على صحة بيع العين المرهونة في ما لو اختلف الراهن والمرتهن في وقوعه قبل رجوع المرتهن عن الإذن أو بعده ، بأن الأصل في البيع الصحة واللزوم ووجوب الوفاء بالعقد.

وفيه : ـ مع اختصاصه بالعقود ونحوها مما ثبت صحته بإطلاق دليله ـ أن العموم المذكور لما كان مخصصا ، وكان الشك في صحة العقد الخاص مسببا عن الشك في دخوله في عنوان المخصص لم يصح التمسك بالعموم فيه ، لعدم حجية العام في الشبهة المصداقية على التحقيق ، ولا سيما لو كان مقتضى الأصل دخول موردها في عنوان الخاص ، حيث قد يقال بحجية أصالة الصحة في مورد يكون فقد العمل لبعض ما يعتبر فيه مطابقا للأصل.

ودعوى : أن الخارج عن عمومه ليس إلا ما علم فساده.

كما ترى! لوضوح أن عنوان الفساد منتزع من مخالفة العقد للمشروع ، فهو في رتبة متأخرة عن فرض التخصيص بالإضافة للعقد ، فلا يمكن أن يكون هو موضوع التخصص ، فضلا عن أن يكون الموضوع له هو ما علم فساده ، بل ليس موضوع التخصيص إلا العقد بعنوان آخر ، كالفارسي والفضولي ونحوهما. ومن الظاهر أن المأخوذ في الأدلة ليس إلا العناوين الواقعية لا المعلومة.

غاية ما يدعى أن العام حجة في المورد المشكوك دخوله في الخاص ،

٤٦٦

وقد عرفت أنه خلاف التحقيق.

الثاني : ما تضمنه موثق حفص من تعليل جواز الشهادة بالملك اعتمادا على اليد بقوله عليه السّلام : «لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق» (١).

بدعوى : ظهوره في أن كل ما يلزم من عدم الاعتماد عليه اختلال سوق المسلمين فالاعتماد عليه حق ، وهو حجة ، بل الاختلال الحاصل من ترك العمل بأصالة الصحة أشد مما يحصل من عدم الاعتماد على اليد.

وفيه : ـ مع اختصاصه بالعقود ونحوها مما له دخل بنظام السوق ، دون غيرها من العبادات والمعاملات ونحوهما ـ أنه لا ظهور لذلك في التعليل الذي يدور الحكم مداره وجودا وعدما. بل التعليل بمثل هذه الفوائد النوعية لا يصلح لبيان ملاك الحكم ، ليتعدى عن مورده ، بل لا بدّ من تنزيله على بيان الفائدة والحكمة ، كما أوضحناه في المسألة الأولى من مسائل المقام الثالث من الكلام في قاعدة اليد.

على أن توقف حفظ نظام السوق على قاعدة الصحة في غير موارد اليد لا يخلو عن خفاء ، إذ لا يظهر أثره إلا في ما لو شك في صحة المعاملة مع عدم استيلاء من يملك بسببها على المال ، إما لكونه ذميا ، أو لضياعه ـ كما في الآبق ـ أو لدعوى المالك الأول بطلان المعاملة ، وليس هو من الكثرة بحد يتضح أثره في اختلال السوق.

وأما في موارد اليد فتغني حجيتها في حفظ نظام السوق عن حجية أصالة الصحة

الثالث : وهو عمدة الوجوه في المقام ـ سيرة العقلاء من ذوي الأديان وغيرهم بمقتضى ارتكازياتهم على ترتيب آثار الصحة على عمل الغير وعدم

__________________

(١) الوسائل ج : ١٨ ، باب : ٢٥ من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى حديث : ٢ ، وقد تقدم الحديث بتمامه في أدلة قاعدة اليد.

٤٦٧

الفحص عن حاله ، المستكشف إمضاؤها من الإجماع وسيرة المتشرعة.

أما الإجماع فيظهر ممن تتبع فتاواهم في أبواب الفقه ، خصوصا في مسائل التنازع والقضاء ، حيث يظهر منهم التسالم على الرجوع لهذا الأصل على أنه أمر ارتكازي ، بنحو يمتنع عادة الخطأ منهم في ذلك مع كثرة الابتلاء به في جميع العصور.

لكن استشكل فيه بعض مشايخنا ..

تارة : بأنه يتعذر عادة الاطلاع على فتاوى العلماء في جميع موارد جريان أصالة الصحة من العبادات والمعاملات بالمعنى الأعم.

واخرى : بأنه لا يحرز كونه إجماعا تعبديا ، ليكشف عن رأي المعصوم ، لاحتمال كون مدركه بعض الوجوه المستدل بها في المقام ، فاللازم النظر فيها ، فإن تمت كانت هي الدليل دون الإجماع ، وإلا لم ينفع الإجماع في تماميتها.

ويندفع الأول : بأن عدم الاطلاع على فتاواهم في كل مورد مورد لا ينافي استفادة الكلية منهم من تصريحهم بها في بعض الموارد ، بنحو يظهر منه عدم الخصوصية لتلك الموارد وإرادة القاعدة الارتكازية التي هي مورد السيرة ، بنحو يكشف عن إمضاء السيرة على عمومها ، لإثبات الأصل المذكور ، بحيث يحتاج الخروج عنه إلى دليل.

والثاني : بأن كثرة الابتلاء بالمسألة وظهور التسالم فيها مع مطابقة الحكم للمرتكزات العقلائية كاشف عن جري الشارع على مقتضى المرتكزات المذكورة وعدم إعراضه عنها ، تمت الوجوه المذكورة في كلماتهم أو لم تتم ، ولا سيما مع إرسالهم الأصل المذكور إرسال المسلمات وعدم اهتمامهم بالاستدلال له إلا عابرا ببعض الوجوه التي ليست من القوة بنحو تناسب التسالم المذكور ، فهي من سنخ التعليل بعد الورود.

وأما سيرة المتشرعة فيكفي في وضوحها ملاحظة حالهم في أمور

٤٦٨

معاشهم ومعادهم ، حيث لا يرتابون في ترتيب آثار الصحة على فعل الغير عند تعلق عملهم به ، ولو لا ذلك لاختل نظامهم واضطربت أمورهم ، إذ لا يتسنى للانسان أن يحيط بفعل الغير وبما يقع عليه من خصوصيات.

وبهذا يمكن توجيه الاستدلال بالحرج في المقام ، بأن لا يراد به الاستدلال بكبرى نفي الحرج ، لوضوح أنها ـ مع اختصاصها بنفي الأحكام الحرجية ، ولا تنهض بتشريع الأحكام التي يتدارك بها الحرج ـ مختصة بالحرج الشخصي ، الذي يتسنى للمكلف تشخيصه ، دون النوعي الذي لا ضابط له ، والذي يلزم من عدم حجية قاعدة الصحة.

بل يراد أن سدّ باب قاعدة الصحة عند المتشرعة لما كان مستلزما للحرج ، بل لاختلال النظام ، فعدم لزومه خارجا كاشف عن جريهم عليها ووضوح حجيتها عندهم ، فيكون الاستدلال بسيرتهم المستكشفة من عدم لزوم الحرج خارجا ، لا بدليل نفي الحرج.

وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه من أن الحاجة إلى أصالة الصحة إنما هي في غير موارد اليد ، وليس إهمالها فيها مستلزما للحرج.

فكأنه مبني على النظر لأصالة الصحة في العقود ونحوها مما يتعلق بالأموال التي تكون تحت اليد. مع وضوح عدم اختصاصها بذلك ، بل تجري في غيرها من العقود والإيقاعات ـ كالنكاح والطلاق ـ والواجبات الكفائية ـ كأحكام الأموات ـ والأفعال التسبيبية ـ كالتطهير من الحدث والخبث والتذكية ـ وموارد النيابة والتبرع ، وصلاة الامام بالإضافة للمأمومين ، بل صلاة بعض المأمومين لبعض ممن يتوقف عليه اتصاله بالإمام ، وصلاة الأب وصيامه بالإضافة لوليه الذي يجب عليه القضاء عنه ، ونحو ذلك مما ليس هو موردا لليد ، مع وضوح لزوم الحرج ، بل الهرج والمرج واختلال النظام من إهمال قاعدة الصحة في جميع ذلك.

٤٦٩

ثم إنه حيث كان ظاهر الإجماع وسيرة المتشرعة في بنائهم على الأصل المذكور ليس على محض التعبد الشرعي ، بل الجري على مقتضى السيرة العقلائية الارتكازية كان مقتضاهما إمضاءها ، فيكون المتبع في عموم الحكم وخصوصه على مقتضاها ، نظير جريهم على حجية الظواهر اللفظية ، فلا يقدح خلافهم في بعض الموارد مع ثبوت السيرة المذكورة فيها ، لشبهة ترجع إلى دعوى قصور السيرة أو المانع من العمل بها كالردع الشرعي عنها ، نظير خلاف بعضهم في حجية الظواهر في حق من لم يقصد بالافهام ، أو في حجية ظواهر الكتاب المجيد. إلا أن يخرج المورد عن المتيقن من السيرة المذكورة.

ودعوى : أن إمضاء سيرة العقلاء إذا كان مستفادا من الإجماع وسيرة المتشرعة فلا محال لاستفادة عمومه لبعض الموارد مع فرض عدم إحرازهما فيها.

مدفوعة : بأن المستفاد من الإجماع وسيرة المتشرعة كون المعنى الارتكازي تبني عليه سيرة العقلاء مما من شأنه أن يعمل عليه لو لا المانع ، فموضوعه مقتض للحجية حتى عند المخالف في بعض الموارد ، وليس مرجع الخلاف إلا دعوى قصور الارتكاز المذكور عن ذلك المورد أو ثبوت المانع عنه ، فمع ثبوت عموم الارتكاز وعدم ثبوت المانع من العمل عليه لا مجال للخروج عن مقتضاه ، الذي استفيد إمضاؤه.

ولذا لم يكن البناء في استفادة الامضاء للقضايا الارتكازية على ثبوت الدليل عليه في كل مورد مورد.

هذا ، كله بناء على أن السيرة في المقام تحتاج للإمضاء ، أما بناء على أنه يكفي في حجيتها عدم ثبوت الردع عنها فالأمر أظهر. وهو غير بعيد لنظير ما تقدم في حجية اليد.

نعم ، لو غض النظر عن سيرة العقلاء الارتكازية ، وكان مفاد الإجماع

٤٧٠

وسيرة المتشرعة الرجوع للأصل المذكور تعبدا فلا مجال للعمل به في مورد الخلاف وعدم ثبوت سيرة المتشرعة ، بل يلزم الاقتصار على المتيقن من موردهما.

وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه من أنه مع عموم معقد الإجماع لا يضر الخلاف في بعض الموارد الجزئية ، بل يكون الإجماع المذكور حجة فيها.

فهو غير ظاهر ، إذ لا يجتمع الإجماع على الكبرى الكلية مع الخلاف في بعض الموارد ، بل هو راجع إلى تناقض كلمات بعض المجمعين المانع من تحصيل الإجماع منها.

إلا أن يفرض انعقاد الإجماع بالمقدار الكافي في استكشاف الحكم ، فيكشف عن بطلان الخلاف حتى لو كان في أصل الكبرى ، كما هو الحال في كثير من الموارد التي يشذ فيها المخالف.

المقام الثاني : في تحديد مفهوم القاعدة وموضوعها تفصيلا.

وهو يتم ببيان أمور ..

الأمر الأول : أن موضوع القاعدة هو عمل الغير ، في مقابل عمل النفس الذي هو موضوع قاعدة الفراغ والتجاوز المتقدمة.

كما يفترقان في توقف تلك القاعدة على مضي محل الشك ، بخلاف هذه القاعدة ، حيث لا يعتبر فيها حدوث الشك بعد مضي محله ، فتجري وإن حدث الشك في أثناء العمل.

بل لا يعتبر مضي محل الشك حتى في ترتيب الأثر ، فلو تعلق العمل بفعل الغير في أثنائه جاز ترتيب أثر الصحة عليه حينئذ ، كما في الائتمام ، حيث يرتب كل من الإمام والمأموم آثار الصحة على صلاة الآخر.

بل لا يبعد جواز البناء على صحة عمل العامل قبل تحققه ، فيجوز استنابته ونحوها ، ولا يعتنى باحتمال بطلان عمله.

٤٧١

لمناسبته للسيرة الارتكازية ، بل لسيرة المتشرعة ، حيث يرون أن الاهتمام بالفحص عن معرفة النائب لشروط العمل احتياط محض لا ملزم به.

ومن هنا افترقت القاعدتان ، وإن لم يبعد رجوعهما لجامع ارتكازي واحد ، كما سبق التنبيه له عند الاستدلال بسيرة العقلاء على تلك القاعدة ، بأن يكون مرجع القاعدتين إلى أن الشك الذي يعتنى به هو الشك الذي يكون من أهله في محله ، بحيث يكون مرجع الاعتناء به الى تحصيل المشكوك بالنحو الطبيعي ، لا بنحو يقتضي الرجوع ـ كما في مورد تلك القاعدة ـ ولا بنحو يقتضي البناء على بطلان العمل ، لعدم كون تحصيل المشكوك من وظيفة الشاك ، لكونه شاكا في عمل غيره ، كما في مورد هذه القاعدة ، فكما لا يعتنى بالشك في تلك القاعدة لكونه في غير محله ، لا يعتنى به في هذه ، لكونه ممن ليس من شأنه تحصيل المشكوك.

وإن لم يبعد كون الجهة الارتكازية المقتضية لإهمال الشك في هذه القاعدة أقوى منها في تلك القاعدة. ومن ثمّ كانت السيرة دليلا في المقام ومؤيدا هناك.

ثم إنه لا ريب بعد النظر في سيرتي العقلاء والمتشرعة في عموم الغير في المقام لغير المؤمن ، بل لغير المسلم ، لعدم ابتناء الحكم فيه على ملاحظة احترام الغير ، بل على إيكال إحراز خصوصيات العمل لمن يقوم به ، نظير البناء على نفوذ تصرف الإنسان في ما تحت يده ، وهو جار في كل من يقوم بعمل يمتاز بخصوصيات ينبغي منه المحافظة عليها ، ولذا يعم غير البالغ أيضا إذا كان مميزا ملتفتا لنوع عمله.

الأمر الثاني : الصحة قد تطلق في كلماتهم ويراد بها ما يساوق الحسن الفاعلي الراجع إلى حمل الفاعل على القصد الحسن ، وعدم نيته الشر والقبيح.

وهو يختص بالمؤمن المكلف الذي يكون مقتضى حرمته حسن الظن

٤٧٢

به ، كما أنه أجنبي عن المقام على ما أشرنا إليه وإلى دليله في أول المقام السابق.

وليس المراد بها في المقام إلا صحة نفس العمل بالنحو الملازم لترتب الأثر ، التي يقابلها الفساد الملازم لعدم ترتبه.

والظاهر أن الصحة بالمعنى المذكور منتزعة من مطابقة العمل الخارجي للماهية الخاصة ذات الآثار الخاصة المقصودة به. فهي راجعة لاستجماع العمل للأجزاء والشرائط المعتبرة في الماهية المذكورة ، سواء كانت تلك الماهية مطلوبة بنفسها شرعا ـ كما في العبادات وبعض المعاملات ، كوفاء الدين ـ أم لا ، بل كان الإتيان بها لأجل آثارها المترتبة عليها ـ كالتذكية وكثير من العقود والإيقاعات ـ بل وإن كانت مبغوضة شرعا كالطلاق والظهار.

والصحة بهذا المعنى وإن كانت ملازمة في الجملة لترتب الأثر العقلي ـ كالإجزاء في العبادات ـ أو الشرعي ـ كالملكية في البيع ، وجواز الاستمتاع في النكاح ، وحرمته في الطلاق والظهار ـ إلا أنها ليست عبارة عنه ، بحيث تكون منتزعة منه ، ويكون التعبد بها تعبدا به.

لوضوح أن مبنى التعبد بالصحة في القاعدة أنها مقتضى الأصل في فعل الفاعل ، وهو إنما يكون بلحاظ أن القصد إلى الشيء يقتضي تحقيقه ، بتحقيق تمام ما يعتبر فيه ، مع أن الفاعل قد يجهل الأثر المترتب على الفعل ، ليكون قاصدا له عند فعله ويحقق تمام ما يعتبر في تحققه ، بل لا يقصد إلا الماهية ، وقصدها لا يقتضي إلا تحقيق ما يعتبر فيها ، وترتب الأثر لازم لذلك.

وأما ما ذكره بعض المحققين قدّس سرّه من أن الصحة بهذا المعنى من الامور الواقعية غير القابلة للتعبد ، وليس القابل له إلا الأثر الشرعي ، وهو في المعاملات ظاهر ، وأما العبادات فحيث كانت آثارها واقعية غير جعلية فلا بد من إرجاع التعبد بالصحة فيها إلى التعبد بعدم وجوب الاعادة.

فهو مبني على أن مفاد التعبد بالشيء هو الحكم به ظاهرا في قبال الحكم

٤٧٣

به واقعا ، حيث لا بدّ حينئذ من كون الشيء جعليا قابلا لأن يحكم به.

وقد ذكرنا في محله أنه ليس كذلك ، بل ليس مفاده إلا التعبد بوجوده بنحو يقتضي البناء عليه ، فهو متفرع على وجوده الواقعي تفرع مقام الاثبات على مقام الثبوت ، وهو ممكن في الامور الحقيقية والجعلية.

على أن التفكيك بين العبادات والمعاملات في مفاد التعبد في المقام بعيد جدا.

ولا سيما بعد ابتناء التعبد على إمضاء السيرة العقلائية الارتكازية التي لا إشكال في عدم التفكيك فيها بين الموردين. بل لا إشكال في أن عدم وجوب الاعادة في العبادات إنما هو بملاك الاجزاء الذي هو من آثار الصحة فيها عقلا ، لا حكم شرعي تأسيسي راجع إلى إسقاط التكليف ظاهرا ، نظير سقوطه بالحرج واقعا ، ليكون حكما شرعيا.

فالظاهر أن التعبد في جميع موارد القاعدة إنما هو بالصحة بمعنى تمامية الاجزاء والشرائط. ويترتب عليه العمل عقلا بلا واسطة ، كما في موارد الإجزاء ، نظير سائر موارد التعبد بالامتثال ، أو بواسطة آثارها الشرعية ، كالملكية في المعاملات ، التي يترتب عليها التكليف أو عدمه شرعا ، فتكون موضوعا للعمل عقلا.

ثم إن ما ذكره من أن آثار العبادات واقعية مبني على إرادة الملاكات الواقعية أو الفوائد النوعية المترتبة عليها ، كالنهي عن الفحشاء ، حيث لا تكون قابلة للجعل الشرعي ، كالحكم بالإجزاء ، لأنه عقلي محض.

وهو إنما يتم في حق الفاعل نفسه ، بناء على ما قرّبه من شمول القاعدة لعمل النفس بعد الفراغ ، أما في حق غيره فقد يكون الأثر شرعيا محضا قابلا للجعل ، كجواز الائتمام به وعدم قضاء الولي عنه ونحوهما.

هذا ، ومما تقدم يظهر أنه لا حاجة لما تكلفه شيخنا الأعظم قدّس سرّه ـ في

٤٧٤

تقريب توجيه الصحة بمعنى ترتب الأثر بنحو ينطبق على الإيجاب من أن يحرز بها القبول مع وضوح عدم ترتب الأثر على الإيجاب إلا بالقبول ـ من دعوى : أن ترتب الأثر على الإيجاب لما كان معلقا على القبول كانت صحته عبارة عن كونه بحيث يترتب عليه الأثر لو تعقبه القبول ، لأن ذلك هو الأثر المقصود منه ، لا ترتب الأثر الفعلي عليه المتوقف على تمامية العقد ، ليحرز بأصالة الصحة تعقبه بالقبول.

ولا يخفى ما فيه من التكلف ، لأن العقد لما كان مركبا من الإيجاب والقبول ، فأثره الفعلي هو أثر كل منهما بشرط انضمامه للآخر ، لأن أثر الجزء هو أثر الكل ، فأثر الإيجاب المقصود منه ليس هو الإعداد لأثر العقد الفعلي ، المستغني عن القبول بل هو نفس أثر العقد المتوقف على القبول ، فعدم ترتب أثر العقد لعدم القبول راجع لعدم ترتب أثر الإيجاب. وإلا لجرى ذلك مع الشرط ، كالعلم بالعوضين ، فيدعى أن أثر العقد المطلوب منه ليس هو الملكية الفعلية ، بل الملكية على تقدير العلم بالعوضين ، فلا يخل بصحته عدم فعلية الملكية لعدم العلم بهما.

أما على ما ذكرنا فالصحة المتعبد بها في الإيجاب الخاص هي مطابقته للإيجاب المعتبر في المقصود للموجب ، بأن يكون واجدا للأجزاء والشرائط المعتبرة فيه لا في العقد ، ومن الظاهر أن القبول ليس دخيلا فيه ، بل في تحقق العقد الذي يستند له الأثر ، والشك في وجوده لا في صحته.

ثم إنه لا ينبغي التأمل في أن المراد بالصحة في المقام هي الصحة الواقعية ، لأنها موضوع الأثر ومحط الغرض ، لا الصحة بنظر الفاعل ، لعدم الأثر لها ، ليصح التعبد بها.

ومن ثمّ كان مرجع النزاع في الحمل على الصحة الواقعية أو الصحة بنظر الفاعل إلى النزاع في عموم القاعدة لما إذا أخطأ الفاعل في ما يعتبر في الصحة

٤٧٥

الواقعية ، وهو من شئون المقام الثالث الذي يكون البحث فيه في سعة كبرى القاعدة ، ولا يناسب محل الكلام في هذا المقام المتضمن للبحث في تحديد مفهوم القاعدة وموضوعها.

وما يظهر من بعض المحققين قدّس سرّه من الجمود على ظاهر تحرير النزاع المذكور ، بعيد جدا.

الأمر الثالث : أن العمل الذي يتصف بالصحة والفساد عرفا هو الماهيات الاعتبارية ، الشرعية أو العرفية ، وهي الامور التي لها وحدة اعتبارية بما لها من أجزاء وشرائط مأخوذة بنحو الارتباطية ، إما بلحاظ الأمر بها ـ كالصلاة ـ أو بلحاظ سببيتها اعتبارا لبعض الآثار ـ كالعقود والإيقاعات والتطهير من الحدث والخبث ونحوها ـ فتنتزع صحتها من تمامية أجزائها وشرائطها ، وفسادها من عدمها.

أما الامور البسيطة ، كالمسببات التوليدية الشرعية ـ كالطهارة ـ أو العرفية ـ كالملكية ـ أو الحقيقية ـ كالموت ـ فانها لا تتصف بالصحة والفساد ، بل بالوجود والعدم.

وكذا الامور المتكثرة التي لم تلحظ فيها الوحدة الاعتبارية لعدم أخذ الارتباطية فيها ، سواء اشتركت في مسبب واحد حقيقي لا دخل للاعتبار فيه ـ كأجزاء علة الحرارة والغليان ونحوهما ـ أم استقل كل منها بأثره الحقيقي أو الاعتباري ، كصلوات اليوم الواحد ، وصوم الشهر ، فانها عرفا لا تتصف بالصحة والفساد أيضا ، بل بالنقص والتمام.

نعم ، لا يبعد عموم القاعدة لها وإن عبر عنها بقاعدة الصحة ، لعدم كون القاعدة لفظية عنوانية ، ليقتصر على مفاد العناوين المأخوذة فيها ، بل هي لبية ارتكازية ، والجهة الارتكازية تقتضي التعميم للامور المذكورة.

فإذا احرز من شخص أنه قام بعمل بعنوان كونه قتلا وكانت وظيفته القيام

٤٧٦

به لم يلتفت لاحتمال خطئه فيه ، لنقصه عما يتحقق به القتل. كما أنه إذا احرز من المكلف أنه قضى جملة من الصلوات بعنوان كونها تمام الفوائت التي عليه أو على غيره ممن ينوب عنه ، لم يلتفت لاحتمال نقص ما أتى به عما قصده.

لكن يختص ذلك بما إذا شك في مقدار المأتي به ، لا في مقدار الفائت ، فلو علم بأنه أتى بخمس صلوات ، واحتمل زيادة الفائت على ذلك ، لم تنهض القاعدة بما لها من جهة ارتكازية بإهمال الاحتمال المذكور ، بل لا بدّ فيه من الرجوع لأصل آخر مؤمّن أو منجّز.

الأمر الرابع : المقصود إثبات الصحة والتمامية له بالقاعدة لما كان هو العمل الخارجي بلحاظ مطابقته للماهية الكلية المقصودة ، ففرض الصحة والتمامية والفساد والنقص فيه لا يكون إلا بلحاظ قصد الماهية منه ، فلو لم تقصد منه لا يكون عدم مطابقته لها منشأ لانتزاع الفساد والنقص له عرفا ، ليكون مقتضى القاعدة صحته وتماميته مع الشك ، فصب الماء على العضو للتبريد لو فرض عدم تحقق الغسل المعتبر في التطهير به لا يكون تطهيرا فاسدا ، ليكون مقتضى القاعدة صحته عند الشك في تحقق الغسل المذكور به ، كما لا تكون صلاة الصبح صلاة ظهر فاسدة ، لعدم قصدها منها.

ولو غض النظر عن ذلك فلا ينبغي التأمل بملاحظة المرتكزات التي تبتني عليها القاعدة في أن جريانها مشروط بما إذا أتى بالعمل بقصد العنوان الخاص الذي يحتمل مطابقته لها وعدمها ، ولا يكفي احتمال انطباق العنوان عليه من دون أن يكون مقصودا منه ، لرجوع المرتكزات المذكورة إلى أن إحراز خصوصيات العمل من شئون القائم به ، وهو انما يتم مع قصده له ، أما مع عدمه فلا وجه لاهتمامه به وإيكاله إليه.

وبالجملة : لا ينبغي التأمل في أن قصد الفاعل للعنوان معتبر في موضوع القاعدة ، إما لأن صدق الصحة والفساد والتمامية والنقص إنما هو بلحاظ

٤٧٧

خصوص الماهية المقصودة ، أو لاختصاص التعبد بالصحة ارتكازا بصورة القصد.

من دون فرق في ذلك بين ما يعتبر فيه القصد ثبوتا ، كالوضوء والصلاة ، وما لا يعتبر فيه ذلك ، كالتطهير من الخبث ، فلا بد من إحرازه بالقطع ، أو بالطرق العرفية المعول عليها عند المتشرعة ، كظهور حال الفاعل.

ومن ذلك يظهر أنها لا تجري لو كان منشأ الشك في الصحة هو الشك في النية ، بمعنى القصد للعنوان المعتبر في كثير من الامور العبادية وغيرها كالتذكية.

نعم ، تجري لو كان منشؤه الشك في النية بمعنى التقرب المعتبر في العبادات ، لو احتمل الرياء ونحوه مما يبطلها ، لأنها كسائر الشروط لا يتوقف عليها صدق العنوان على العمل ، نظير ما تقدم في جريان القاعدة المتقدمة عند الشك في الشروط.

كما ظهر بذلك أنه لو تردد نوع الفعل المقصود بين الصحيح والفاسد لم تنهض القاعدة بإحراز الصحيح ، كما لو اختلف المتعاقدان في إجارة الوقف وبيعه لو فرض عدم المسوغ للبيع ، أو تردد الصلاة المأتي بها بين فريضة قد صلاها المكلف واخرى لم يصلها ، فإنه لا تنهض القاعدة بإحراز الإجارة في الأول ، والصلاة التي لم يصلها في الثاني ، لأنها إنما تحرز صحة الفعل ذي العنوان الخاص في فرض قصده منه ، ولا تحرز قصده له.

نعم ، لو كان الأثر لصحة العمل من دون خصوصية النوع نهضت القاعدة بإثبات صحته وإن لم يحرز بها النوع ، فيجوز الائتمام بالمصلي في المثال الثاني ، لعدم أخذ خصوصية العصر فيه ، والمفروض إحراز القصد للفريضة في الجملة ، ومجرد التلازم في الفرض ونحوه بين الصحة والنوع الخاص لا يقتضي إحرازه ، بناء على ما هو الطاهر من عدم حجية القاعدة في لازم مؤداها.

٤٧٨

وكذا الحال لو احرز نوع الفعل وكان الشك في بعض أركانه المقومة له ، والتي لا بدّ من قصدها بقصده ، كالثمن والمثمن ، والزوج والزوجة وغيرها ، وإن توقفت الصحة على بعض خصوصياتها ، فاذا اختلف المتعاقدان في أن الثمن هو الحر أو العبد ، فأصالة الصحة لا تنهض بإحراز أنه العبد ، بنحو يترتب عليه جواز المطالبة به ، لعدم إحراز القصد إلى البيع به ، ليكون مقتضى صحته ترتب أثره المذكور ، وإنما يحرز القصد إلى البيع به ، ليكون مقتضى صحته ترتب تعين حاله إلا بناء على الأصل المثبت.

نعم ، بناء على عموم القاعدة لما إذا شك في شروط العوضين يحرز بها في المقام صحته من حيثية المثمن فيترتب آثار انتقاله للبائع ، كانعتاقه عليه لو كان أباه ، وأما الثمن فلا طريق لتعيينه ، بل يجري فيه ما يذكر في ما لو تردد بين أمرين كل منهما يصح جعله ثمنا ، كالعبد والحمار.

الأمر الخامس : تقدم أن العمل الذي يتصف بالصحة والفساد هو الماهيات الاعتبارية بلحاظ الارتباطية فيها بين أجزائها وشرائطها.

ولا يخفى أن الارتباطية لما كانت ناشئة من تقييد بعض الامور ببعض فهي تجري في جميع الموضوعات المقيدة إما بلحاظ دخولها في حيز الطلب ، كالعبادات ، وإما بلحاظ موضوعيتها للأثر ، كالعقود والإيقاعات وسائر الأسباب الشرعية ذات الآثار الخاصة ، كالتطهير من الحدث والخبث والتذكية ، واسباب القصاص والصمان. والرضاع المحرم وغيرها.

وفي كل منهما ..

تارة : يكون العمل الخارجي مطابقا لموضوع الأثر ، لتمامية أجزائه وشروطه فيه.

واخرى : يكون مخالفا له ، إلا أن المطابقة والمخالفة لا يكونان في الجميع منشأ لانتزاع الصحة والفساد عرفا ، بل يختص ذلك بالقسم الأول ـ وهو ما يقع

٤٧٩

في حيز الطلب ـ وبعض أفراد القسم الثاني ، وهو خصوص ما شرع بلحاظ الأثر الخاص له ، لتعلق غرض الشارع أو العرف بتحقيق أثره ، حتى يكون الأثر عنوانا له ووجها من وجوهه. سواء ابتنى على جعل الأثر المذكور ، لتضمنه الانشاء ، بحيث يكون ترتب أثره مقتضى نفوذه ومضيه ، كالعقود والإيقاعات ، أم لا ، بل كان ترتب أثره عليه تعبديا ، كالتطهير من الحدث والخبث والتذكية ونحوها ، مما يكون الغرض منه ترتب الأثر المعهود له.

دون بقية الموضوعات ذات الآثار المختلفة مما لم يشرع لأجل تحصيل أثره ، لعدم تعلق الغرض به ، كالقتل الموجب للقصاص والاتلاف الموجب للضمان والرضاع المحرم ونحوها.

وكأن الوجه في ذلك : أن تشريع الموضوع لأجل الأثر الخاص مستلزم لكونه الغرض النوعي منه ، بحيث يكون لاغيا بدونه عرفا ، فينتزع بلحاظه وصف الصحة والفساد له ، أما الأثر الذي لم يشرع موضوعه لأجله فلا يستلزم تخلفه لغوية موضوعه عرفا ، ليكون منشأ لانتزاع وصف الصحة والفساد.

ومجرد تقييد الحكم بترتبه عليه بتمامية الأجزاء والشروط لا يكفي في ذلك ، بل هو كتقييد الحكم بترتب بعض الآثار على بعض الحوادث الخارجية التي لا تستند للمكلف ببعض القيود ، كتقييد ترتب الميراث على الموت بعدم كفر الوارث ، وتقييد وجوب صلاة الآيات على الظلمة بترتب الخوف النوعي. فكما لا يوصف الموت الذي يترتب عليه الميراث بالصحة لا يوصف الرضاع الذي يترتب عليه التحريم بها ، وكما لا يوصف الموت الذي لا يترتب عليه الميراث بالفساد لا يوصف الرضاع الذي لا يترتب عليه التحريم به.

ومن هذا القسم العهد واليمين والإيلاء ، فإنها لم تشرع لآثارها المعهودة ، لعدم تعلق الغرض بترتّبها ، وإنما حكم بها تبعا لتمامية موضوعاتها ، بخلاف الطلاق ، لتضمنه الجعل والانشاء ، وكذا النذر بناء على تضمنه تمليك الله سبحانه

٤٨٠