المحكم في أصول الفقه - ج ٢

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٤٢

١
٢

٣
٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصّلاة والسّلام

على سيّدنا ونبيّنا محمد وآله الطيبّين

الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم

أجمعين ، إلى يوم الدين.

٥
٦

٧
٨

المقصد الرابع

في العام والخاص

جرى الأصحاب المتأخرون على فصل مباحث العام والخاص عن مباحث المطلق والمقيد.

وكأنّ مبنى الفرق بينهما عندهم على أنّ العام ما يفيد الشمول والسريان في الأفراد وضعا ، والمطلق ما يستفاد فيه ذلك من مقدمات الحكمة.

كما قد يظهر من بعض كلمات متقدميهم إطلاق العام على ما يكون حكمه شموليا ، والمطلق على ما يكون حكمه بدليا.

لكن الظاهر تداخل جملة من مباحثهما على كلا وجهي الفرق ، كمباحث الجمع بين العام والخاص ، والعمل بالعام قبل الفحص عن المخصص ، وتعقب الاستثناء لجمل متعددة وغيرها ، حيث يكون البحث فيها عن العام من حيثية ظهوره في تساوي الأفراد أو الأحوال من حيثية الحكم ، الذي لا يفرق فيه بين القسمين.

ولذا كان المناسب تعميم هذا المقصد لكلا القسمين ، بجعل موضوعه العموم والخصوص من الحيثية المذكورة ، وعقد فصل فيه لبيان منشأ ظهور المطلق في الإطلاق ، فإنه أولى مما جروا عليه من البحث في مقصدين مع تداخل جملة من مباحثهما ، ولا سيما مع أن استناد دلالة المطلق على السريان

٩

لمقدّمات الحكمة دون الوضع ليس اتفاقيا ، وكذا دلالة بعض ما عدّ من ألفاظ العموم على ذلك بالوضع ، كالنكرة في سياق النفي والنهي ، على ما يظهر عند الكلام فيها إن شاء الله تعالى.

بل لا إشكال في عموم المباحث المذكورة لما إذا استندت الدلالة على العموم لقرائن خارجية خاصة ، دون الوضع ومقدمات الحكمة ، من دون أن يجعل له عنوان يخصّه ، بل يطلق عليه عنوان العام عندهم في مقام البحث والاستدلال.

ومن هنا كان المناسب تعريف العام في محل الكلام بأنه : «ما دل على سريان الحكم في أفراد متعلّقه أو أحواله ، بحيث تتساوى فيه» مهما كان منشأ الدلالة.

وكثيرا ما جروا على ذلك في مقام الاستدلال والنظر في النسبة بين الأدلة وبيان حالها ، حيث يغافلون منشأ الدلالة على العموم عند إطلاق عنوان العام على الدليل.

نعم ، يخرج عن ذلك ما إذا كان الاستيعاب مأخوذا في مفهوم المتعلّق ، كالعشرة والشهر في قولنا : أضف عشرة رجال شهرا ، لوضوح أن نسبة الأجزاء له حينئذ ليست نسبة الفرد أو الحال للمتعلق ، بل نسبة الجزء للكل الذي به قوامه. ومجرد إمكان قصره عن بعضها بالاستثناء ـ كالعام بالإضافة للأفراد ـ لا يوجب عموم مفهوم العام له اصطلاحا بعد عدم شمول المهم من مباحث العموم والخصوص له.

أما الخاص فلا يراد به إلا «ما دلّ على حكم موافق أو مناف لحكم عام أوسع منه شمولا» سواء كان الموضوع فيه جزئيا أم كليا ، كقولنا : لا تكرم زيدا ، أو : لا تكرم النحويين ، بالإضافة لقولنا : أكرم العالم ، أو : كل عالم ، أو : أكرم عالما ، فهو عنوان إضافي ، حيث لا يصدق على الدليل عنوان الخاص في محل الكلام

١٠

مع قطع النظر عن عام أوسع منه شمولا ، وبلحاظه يصدق عليه وإن كان هو عاما في نفسه. وذلك هو المراد بالمقيّد ، وإن افترقا عندهم بأن الخاص في مقابل العام ، والمقيّد في مقابل المقيّد.

وحيث عرفت عموم العام للمطلق في محل الكلام يتعين عموم الخاص للمقيّد. وعلى ذلك جرى كثير من إطلاقاتهم في مقام الاستدلال وملاحظة النسبة بين الأدلة ، نظير ما ذكرناه في العام.

هذا ، وينبغي الكلام في مباحث العام والخاص في ضمن فصول ..

١١
١٢

الفصل الأول

في أقسام العموم

لا يخفى أنّ تعلق الحكم بالطبيعة بنحو يشمل جميع أفرادها ، إما أن يكون بنحو الانحلال ، بأن يرجع إلى أحكام متعددة بعدد أفرادها ، لكل منها أثره من إطاعة ومعصية وغيرهما. وإما ألا يكون كذلك ، بل يكون حكما واحدا متعلقا بالطبيعة ذات الأفراد.

وهو تارة : يقتضي الجمع بين الأفراد فعلا أو تركا.

وأخرى : يقتضي فردا واحدا منها بدلا بنحو يستلزم التخيير بينها عقلا.

والأول هو العموم الاستغراقي ، والثاني المجموعي ، والثالث البدلي.

وحيث كان صدق العموم على الجميع وانقسامه لها مبنيا على تعريفه بنحو يشملها كان مبنيا على محض الاصطلاح الذي لا مشاحة فيه.

فلا وقع مع ذلك لما ذكره بعض الأعاظم من أن في عدّ العموم البدلي من أقسام العموم مسامحة ، لمنافاة البدلية للعموم بلحاظ أن متعلق الحكم في العموم البدلي ليس إلا فردا واحدا ، وإن كانت البدلية عامة. فتأمل.

هذا ، وإن علم أحد الأقسام بعينه فلا إشكال ، وإلا لزم النظر فيما هو مقتضى الظهور النوعي.

والظاهر عدم الاشتباه أو ندرته بين العموم البدلي وقسيميه ، بل الوضع والقرائن العامة والخاصة وافية بتمييز موارده عن مواردهما. ولو فرض الاشتباه بينهما فلا يظهر لنا فعلا طريق لتعيين أحدهما.

١٣

وإنما الكلام في الاشتباه والتردد بين العموم الاستغراقي والمجموعي.

وقد ذكر بعض الأعاظم قدّس سرّه أن الأصل في العموم أن يكون استغراقيا ، لاحتياج العموم المجموعي إلى مئونة زائدة ، وهي مئونة اعتبار الأمور الكثيرة أمرا واحدا ، ليحكم عليها بحكم واحد ، وهو خلاف الأصل.

ويشكل بعدم وضوح لزوم ملاحظة الامور المتكثرة أمرا واحدا في العموم المجموعي ، بل يكفي لحاظها في أنفسها وجعل حكم واحد لها ، بنحو يكون واردا عليها بتمامها ، لا بنحو يكون واردا على أمر واحد منتزع منها ، ليرجع إلى لحاظ الوحدة بينها ويكون خلاف الأصل ، في قبال ما إذا جعل لكل منها حكم مستقل به ، الذي يكون العموم معه استغراقيا انحلاليا.

وذلك جار في تعاطف المفردات ، كما لو قيل : أكرم زيدا وعمرا وبكرا ، حيث لا ملزم بلحاظ الوحدة بينها لو كان ورود الحكم عليها بنحو المجموعية والارتباطيّة.

بل الظاهر أن العموم الاستغراقي هو المبني على نحو من العناية ، وهي ملاحظة الحكم الذي تضمنته القضية منحلا إلى أحكام متعددة بعدد الأفراد ، فإن ذلك إن لم يكن خلاف الظهور الأولي فلا أقل من كونه خلاف الأصل.

هذا ، وقد يقرب أصالة الانحلال في العموم بأن العموم المجموعي مستلزم لتقييد حكم كل فرد بإطاعة أحكام بقية الأفراد ، وهو خلاف الإطلاق.

لكنه يندفع : بأن إطلاق حكم الفرد بالنحو المقتضي لعدم دخل إطاعة أحكام بقية الأفراد فيه فرع كونه استقلاليا وكون العموم انحلاليا ، أما إذا كان ضمنيا لكون العموم مجموعيا فلا إطلاق فيه ، ليمنع من البناء على التقييد المذكور ، فلا مجال للاستدلال بالإطلاق على الانحلالية. وكذا الحال في تعاطف المفردات.

نعم ، يتجه الإطلاق في حكم الفرد مع تعدد الجمل ، كما في قولنا أكرم

١٤

زيدا ، وأكرم عمرا ، وأكرم بكرا.

فالعمدة في وجه البناء على الانحلال دون المجموعية هو انصراف العرف إليه من الإطلاق تبعا للمرتكزات الاستعمالية ، حيث تبتني المجموعية على الارتباطية الّتي تحتاج عندهم إلى مئونة بيان.

وقد سبق في آخر الفصل الخامس من المقصد الثاني عند الكلام في حكم النهي لو خولف ما ينفع في المقام فراجع.

١٥
١٦

الفصل الثاني

في ما يدل على العموم

اختلفت كلمات أهل الفن من قدماء ومتأخرين في تحديد ما وضعت له أسماء الأجناس ونحوها مما يدل على المفاهيم الكلية الذاتية والعرضية ، وأنه هل هو المطلق الساري في تمام الأفراد بنحو يكون الاستعمال مع التقييد مجازا ، أو ما يعمّه والمقيد.

وقد أطال المتأخرون تبعا لذلك في أقسام الماهية واعتباراتها ، واختلفوا في تعداد الأقسام وتحديدها ونسبة بعضها إلى بعض.

والظاهر أن الكلام في ذلك راجع الى تحديد المصطلحات وتشخيصها ، هو أمر لا يترتب عليه كثير فائدة ، بل لا أثر له فيما هو محل الكلام في المقام ، ليحسن إطالة الكلام فيه ومحاكمة آرائهم ، ولا سيما مع كثرة كلامهم وشدة الخلاف بينهم ، كما يظهر بالنظر في كلماتهم في المقام.

ولعل الأولى أن يقال : لحاظ الماهية في مقام الحكم عليها ..

تارة : يرجع إلى لحاظها بنفسها بما لها من حدود مفهومية مقومة لها من دون أن يسري إلى ما في الخارج من أفرادها ، فيكون الحكم مقصورا عليها بما هي كلي ذهني لا يسري إلى ما في الخارج كما في قولنا : الإنسان نوع ، وكما في موارد الحمل الأولي الذاتي الذي يقصد به شرح المفهوم وتحديده ، ولعل ذلك هو المراد بالماهية الذهنية.

واخرى : يرجع إلى لحاظها عبرة إلى ما في الخارج من أفرادها ، بحيث

١٧

يكون الحكم منصبا على الأفراد الخارجية وجاريا عليها حقيقة. ولعل ذلك هو المراد بالماهية الخارجية في كلماتهم.

وهي تارة : تلحظ بنفسها مع قطع النظر عما هو خارج عنها ، فيعبر عنها بالماهية لا بشرط ، كما في قولنا : أكرم العالم.

واخرى : تلحظ مع ما هو خارج عنها مقيدة بوجوده ، كما في قولنا : أكرم العالم العادل ، ويعبر عنها بالماهية بشرط شيء ، أو بعدمه ، كما في قولنا : أكرم العالم غير الفاسق ، ويعبر عنها بالماهية بشرط لا.

وبهذا يظهر أن انقسام الماهية إلى الأقسام المذكورة من الذهنية والخارجية المطلقة والمقيدة ليس كسائر الانقسامات راجعا إلى تباين الأقسام بخصوصياتها مع رجوع اشتراكها في المقسم إلى تماثل ما به الاشتراك بينها ، بل هو راجع إلى تبادل حالات الأمر الواحد ، وهو الماهية بحدودها المفهومية المحكية باللفظ التي يختلف لحاظها باختلاف الوجوه المتقدمة ، فهو نظير انقسام زيد إلى القائم والقاعد ، لا كانقسام الإنسان إلى الرجل والمرأة.

وإن كان قد يظهر من بعض كلماتهم أن التقسيم المذكور ونحوه حقيقي ، وأن الأقسام متباينة في أنفسها.

والأمر سهل ، إذا المهم معرفة الأقسام لا حال التقسيم.

هذا ، ولا إشكال ظاهرا في أن استعمال الألفاظ الموضوعة للماهية في القسم الأول ـ وهو الماهية الذهنية ـ حقيقة ، لقضاء الوجدان بعدم ابتنائه على العناية التي لا بد منها في المجاز ، وكذا القسم الثاني ، وهو الماهية الخارجية الملحوظة بنحو اللابشرط ، لاشتراكه مع الأول في الحكاية عن الماهية بحدودها المفهومية ، وسوقها عبرة للأفراد مقارن للاستعمال خارج عن المستعمل فيه.

وإنما الإشكال في القسم الثالث ، وهو الماهية الخارجية المقيدة بشرط شيء أو بشرط لا ، فقد حكي عن القدماء أن استعمالها فيه مجازي.

١٨

وعن السلطان ومن تأخر عنه أنه حقيقي ، وهو الأظهر ، لقضاء التأمل بوضع اللفظ للمعنى الواحد المحفوظ في حالتي الإطلاق والتقييد ، وهو الماهية بحدودها المفهومية. ومجرد ملاحظته مقيدا او الحكاية عن التقييد بدال آخر لا يوجب خروج اللفظ الحاكي عن الماهية عما هو الموضوع له ، نظير الإخبار والتوصيف اللذين لا يوجبان خروج اللفظ الدل على الموضوع عن معناه الحقيقي.

وتوهم : أخذ السريان والإطلاق فيها قيدا في الموضوع له ، فيكون التقييد مستلزما للتصرف في الموضوع له ويلزم المجاز.

مدفوع : بقضاء التأمّل بأن السريان أمر زائد على المفهوم عرفا ، حيث قد يؤخذ بدال آخر ، كأدوات العموم ، فلو كان مأخوذا في مدلول اللفظ كانت الأدوات المذكورة متمحضة في التأكيد ، وهو بعيد عن المرتكزات الاستعمالية جدا.

ودعوى : أن السريان وإن لم يؤخذ في الموضوع له إلا أن التقييد مستلزم لأخذ أمر زائد على الموضوع له في مدلول اللفظ ، وهو الخصوصية المتقومة بالقيد الزائدة على الماهية ، فيلزم المجاز.

مدفوعة : بأن خصوصية القيد ليست مأخوذة فيما يستعمل فيه اللفظ الموضوع للماهية المقيدة ، ليلزم أخذ أمر خارج عن الموضوع له في المستعمل فيه ، بل ليس المستعمل فيه إلا الماهية بحدودها المفهومية ، والخصوصية مستفادة من دال آخر ، وهو التقييد ، الذي هو مطرد ولا يبتني الاستعمال في مورده على العناية ، والذي هو نحو نسبة بين ذات المقيّد ـ وهو الماهية بحدودها المفهومية الموضوع لها اللفظ ـ والقيد تقتضي قصر الحكم على خصوص ما قارن القيد من الذات.

ولو كان الاستعمال معه مبنيا على الخروج باللفظ عن مدلوله إلى المقيّد

١٩

بما هو مقيّد لم يبق لأدوات التقييد والقيد مدلول قائم بحيالها ومؤدى بها ، بل كانت ألفاظا مهملة لا غرض من الإتيان بها إلا الإشارة والتنبيه إلى تبدل معنى اللفظ ، من دون أن تفيد معنى زائدا عليه ، وهو غير معهود في الاستعمالات العرفية.

ولا مجال لتنظيرها بقرينة المجاز والمشترك ونحوهما ، لأن تلك القرائن ذات مدلول خاص مباين للمعنى المراد من اللفظ ، وقرينتها إنما هي بلحاظ ملائمتها له ، لا لتمحضها للإشارة لاستعمال اللفظ فيه.

ويتضح ما ذكرنا فيما لو اريد بيان شجاعة زيد تارة : بقولنا زيد رجل. واخرى : بقولنا : زيد رجل شجاع ، حيث لا إشكال ظاهرا في وضوح الفرق في معنى الرجل بين الوجهين ، وابتناء الأول على الخروج به عن معناه ، واستعماله في خصوصية الشجاع زائدا عليه ، نظير : يا أشباه الرجال ولا رجال ، وعدم الخروج به في الثاني عن معناه ، وإنما افيدت الشجاعة بالتقييد زائدا عليه.

وبالجملة : ليس المستعمل فيه عند إرادة الماهية الذهنية والخارجية المطلقة والمقيدة إلا الماهية بحدودها المفهومية التي وضع لها اللفظ ، وليس مفاد التقييد إلا نسبة زائدة على الماهية لا توجب تبدل معنى اللفظ ، ليلزم المجاز ، غايته أن مفاد النسبة المذكورة قصر الحكم على خصوص واجد القيد من أفراد الماهية ، وهو لا يستلزم المجاز ، كما هو الحال في سائر النسب ، حيث لا تستلزم تبدل المستعمل فيه في أطرافها والخروج بها عن معناها ، بل إضافة معنى زائد عليها خارج عن المستعمل فيه.

ثم إن هذا إنما يقتضي عدم المجازية مع التقييد المتصل ، ولا ينهض بدفع المجاز مع ثبوت التقييد المنفصل الكاشف عن ثبوت الحكم للمقيد مع فرض نسبة الحكم للماهية لا بشرط من دون أخذ نسبة التقييد زائدا عليها ، ليجري ما تقدم في وجه عدم المجاز.

٢٠