المحكم في أصول الفقه - ج ٥

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٨

بالاستمرار زائدا على الحكم المغيى الذي هو مفاد الاستصحاب. فإن مفاد الاستصحاب الحكم بالبقاء بعد الفراغ عن الثبوت ، على أن يكون البقاء والاستمرار محكوما به بما أنه معنى اسمي ، لا من شئون الحكم الأول بما هو معنى حرفي ، كما هو الحال في النصوص ، وإلا فكل حكم مغيّا ببقاء موضوعه. ومن ثمّ كانت الغاية في النصوص مناسبة لاصالتي الحل والطهارة وظاهرة فيهما ، لا في الاستصحاب.

نعم ، قرّب شيخنا الأعظم قدّس سرّه دلالة حديث حماد على الاستصحاب ، لأن الاشتباه فيه غالبا يكون من جهة احتمال عروض النجاسة عليه ، وإلا فهو بحسب الأصل طاهر في نفسه ، فيلزم لأجل ذلك حمل الحكم بالطهارة في الصدر على الحكم باستمرارها بعد الفراغ عن ثبوتها ، لا بأصل ثبوتها.

قال قدّس سرّه : «والمعنى : أن الماء المعلوم طهارته بحسب أصل الخلقة طاهر حتى تعلم. أي : تستمر طهارته المفروضة إلى حين العلم بحصول القذارة له».

وفيه : أن مجرد غلبة كون منشأ هو الشك هو الشك في استمرار الطهارة بعد اليقين بحصولها سابقا لا يكشف عن تعبد الشارع بالاستمرار بعناية الفراغ عن أصل الحدوث. بل يمكن تعبده بأصل ثبوت الطهارة ، من دون نظر إلى سبق اليقين به ، وهو الظاهر من الحديث الملزم بحمله على أصالة الطهارة.

وكونها محكومة لاستصحابها المفروض جريانه غالبا ـ مع توقفه على قيام الدليل عليه ، فلا مجال لفرضه في مقام الاستدلال عليه ـ لا يمنع من إرادتها لبيان جريانها من هذه الحيثية ، لأن الأصل الحاكم لا يمنع من جريان المحكوم ذاتا ، بل هو نظير الحكم الأولي والثانوي ، فإن الثاني لا يوجب قصور الأول ذاتا ، بل يمنع من فعليته مع منافاته له عملا ، لا مع توافقهما ، كما في المقام.

فلا مانع من إرادة قاعدة الطهارة وبيان حيثيتها ولو لينتفع بها في الموارد القليلة التي لا يجري فيها الاستصحاب ، وهي موارد تعاقب الحالتين مع الجهل

٦١

بالتاريخ.

الثاني : ما ذكره المحقق المذكور في الكفاية من اختصاص الصدر بقاعدة الطهارة أو الحلية للأشياء بعناوينها الأولية ، كما هو الأصل في جعل الحكم ، من دون أن يدل على قاعدة الحل أو الطهارة الظاهرية ، وليس المراد بالغاية إلا بيان استمرار الحكم المذكور في الصدر ، كما هو مفاد الاستصحاب ، لا أنها تكون قرينة على اختصاص موضوع الحكم بما شك في طهارته أو حليته ، ليختص الصدر بقاعدة الحل أو الطهارة الظاهرية.

ويظهر ضعفه مما تقدم من عدم ظهور الغاية في الحكم بالاستمرار زائدا على الحكم المغيى المذكور في الصدر ، لتدل على الاستصحاب ، بل ليست مسوقة إلا لتقييد الحكم المذكور في الصدر ، لكونها رافعة لموضوعه ، فتكشف عن أخذ الشك في موضوعه ، وحيث يمتنع أخذ الشك بالحكم في موضوعه ، كانت الغاية قرينة على كون الصدر مسوقا للحكم الظاهري ، وإن كان مخالفا لظهوره البدوي ، فتختص بقاعدة الحل أو الطهارة الظاهرية ، دون الواقعية.

نعم ، لا يبعد التفكيك بين الصدر والذيل بحمل الأول على الحكم الواقعي ، والثاني على الحكم الظاهري في خصوص حديث حماد المختص بالماء ، كما ذكرناه في مباحث المياه.

بتقريب : أن حمل الصدر فيها على بيان الحكم الظاهري موجب لإلغاء خصوصية الماء ، وتقييده بخصوص الماء المشكوك ، مع كون خصوصيته كعمومه الأفرادي ارتكازيا ، فانس الذهن بذلك موجب لاستحكام ظهور الصدر في بيان عموم طهارة الماء بحسب أصله واقعا ، الملزم برفع اليد عن ظهور الغاية في كونها غاية للحكم المذكور في الصدر ، وتنزيلها على كونها غاية للعمل على الحكم المذكور وترتيب الأثر عليه ، فكأنه قيل : الماء كله طاهر فليعمل على ذلك حتى يعلم أنه قذر.

٦٢

ولا بد أن يكون العلم بكونه قذرا لطروء ما ينجسه ، لا لكونه بحسب أصله نجسا ، لأنه خلاف فرض العموم الأفرادي الارتكازي في الصدر ، ولا يلزم من ذلك إلا رفع اليد عن إطلاق الصدر الأحوالي ، وحمله على بيان الطهارة بحسب أصل الماء ، مع المحافظة على عمومه الأفرادي ، وخصوصيته.

وهذا بخلاف الموثّقين ، فإن الحكم بالحل والطهارة فيهما وارد على عنوان الشيء ، وليس لعنوانه خصوصية ارتكازية تقتضي الحل أو الطهارة الواقعيين.

كما لا يكون عمومهما لجميع أفراده ارتكازيا ، بل هو مما يقطع بعدمه ، لما هو المعلوم من اشتمال الأشياء على الحرام والنجس. كما لا يناسب فرض العلم بالحرمة والنجاسة في الذيل.

وحمله على خصوص الحرمة والنجاسة الطارئة بسبب ثانوي لا يوجب المحافظة على عمومه الأفرادي ، لأن العناوين الثانوية داخلة في عنوان الشيء بعين دخول العناوين الذاتية ، فيشملها العموم الافرادي المفروض ، بخلاف مثل عنوان الماء ، فإن تبادل العناوين العرضية على الفرد الواحد منه لا يوجب تعدد فرديته ، بل تعدد حال الفرد الواحد.

والحاصل : أن حمل الصدر في الموثّقين على الحكم الواقعي لا يناسب عمومه الأفرادي ، فيلزم لأجل ذلك حمله على بيان الحكم الظاهري الوارد في مقام العمل وترتيب الأثر على الحكم الواقعي على العموم المذكور ، وبذلك يكون العموم ارتكازيا.

ولا سيما بعد ظهور إضافة الحل للمكلف في موثق مسعدة في كونه إرفاقا به في مقام الإحراز والعمل ، لا حكما واقعيا تابعا لملاكه الواقعي.

الثالث : ما نسبه شيخنا الأعظم قدّس سرّه لصاحب الفصول في موثق عمار وحديث حماد من ظهور الصدر في بيان الطهارة الظاهرية والذيل في بقاء تلك

٦٣

الطهارة الذي هو مفاد الاستصحاب.

وفيه : ما عرفت من أن مفاد الغاية بقاء الحكم بالطهارة الذي تضمنه الصّدر ، لا الحكم ببقائها الذي هو مفاد الاستصحاب على أن مفاد الاستصحاب ليس هو الحكم ببقاء الطهارة الظاهرية ، بل لا معنى للتعبد ببقائها ، إذ مع بقاء موضوعها ـ وهو الشك ـ يقطع ببقائها ، ومع عدمه يقطع بعدمها ، بل ليس مفاد الاستصحاب إلا الحكم الظاهري ببقاء الطهارة الواقعية المتيقنة.

نعم ، لا ظهور لعبارة ـ الفصول في حمل الصدر على خصوص قاعدة الطهارة الظاهرية ، ليكون مفاد الذيل استصحابها ، بل الأعم منها ومن الطهارة الواقعية ، حيث قال : «الأول : أن الحكم الأولي للمياه أو الأشياء هو الطهارة ولو ظاهرا ...» ، فربما يرجع إلى الوجه الأول الذي تقدم عن المحقق الخراساني قدّس سرّه في حاشيته على الرسائل.

الرابع : دلالة النصوص على قاعدة الحل أو الطهارة الواقعية دون الظاهرية ومن دون أن يدل الذيل على الاستصحاب.

ويظهر ضعفه مما تقدم من عدم مناسبته للغاية.

هذا ، وقد ذكر بعض الأعاظم قدّس سرّه أن الحمل على ذلك يتوقف على أمرين ..

أولهما : كون العلم في الغاية طريقا محضا عما هو الغاية ، وليس بنفسه غاية ، لاستحالة إناطة الحكم الواقعي بعدم العلم بخلافه.

ثانيهما : كون القذارة والحرمة في الغاية كناية عن سببهما ، كانقلاب الخل خمرا ، فيكون المعنى : كل شيء حلال أو طاهر حتى يطرأ عليه سبب الحرمة أو النجاسة ، وحيث كان كلا الأمرين مخالفا للظاهر ، بل الظاهر كون العلم بنفسه غاية لزم الحمل على قاعدة الطهارة الظاهرية لا غير.

أقول : ما ذكره في الأمر الثاني من جعل الحرمة والقذارة كناية عن سببهما إن اريد به كونهما كناية عن السبب بعنوانه الأولي الذي اخذ في موضوع سببيته ـ

٦٤

كالخمرية والموت والملاقاة للنجاسة ـ فمن الظاهر تعذر ذلك. لاختلاف العناوين المذكورة مفهوما وموردا ، بنحو يمتنع الكناية عنها باجمعها ، ليصلح الكلام لضرب القاعدة العملية.

وإن اريد به كونهما كناية عن السبب بعنوان كونه سببا ، فكأنه قيل : كل شيء حلال أو طاهر حتى يتحقق سبب الحرمة أو النجاسة فيه ، فمن الظاهر أن القضية المذكورة واقعية عقلية بديهية ، وليست شرعية قابلة للجعل ، وإنما تصلح للجعل لو اريد منها بيان غاية الحكم الظاهري لبيان الوظيفة العملية عند الشك ، والتي لا بد من أخذ العلم فيها غاية بنفسه على نحو الموضوعية ، لا طريقا لما هو الغاية ، فالوجه المذكور في غاية الضعف.

وأضعف منه كون النصوص واردة لبيان ما يعم القاعدة الواقعية والظاهرية لا غير ، حيث يرد عليه ما تقدم في الوجه الأول مضافا إلى ملائمة الغاية لخصوص الظاهرية.

الخامس : ما عن بعض الأخباريين ، وهو الظاهر من صاحب الحدائق في موثق عمار وحديث حماد ونحوهما من نصوص الطهارة ، من ظهورها في إناطة النجاسة الواقعية بعلم المكلف ، فهي لبيان قاعدة الطهارة الواقعية مع الشك.

وفيه : ـ مع منافاته لظهور أدلة أسباب النجاسة بل صراحة كثير منها في تأثيرها واقعا ولو مع الجهل بها ـ أن العلم بالنجاسة لا يكون غاية للطهارة الواقعية ، لسبق النجاسة على العلم بها رتبة ، المستلزم لاجتماع الطهارة والنجاسة في الرتبة السابقة على العلم. بل لا يكون العلم بالنجاسة إلا غاية للطهارة الظاهرية ، فيكون الذيل قرينة على إرادة الطهارة الظاهرية لا غير.

وقد تحصل من جميع ما ذكرنا : أن النصوص المذكورة أجنبية عن الاستصحاب ، بل هي مختصة بقاعدة الحل أو الطهارة الظاهرية ، عدا حديث حماد ، حيث لا يبعد دلالته على قاعدة الطهارة الواقعية والظاهرية معا في الماء.

٦٥

هذه هي النصوص المستدل بها في المقام.

وقد ظهر بما تقدم أن عمدتها صحيحتا زرارة الاوليان المؤيدتان بصحيحة عبد الله بن سنان ، بل ربما تؤيدان بموثق عمار ، ومكاتبة القاساني ، وروايتي الخصال والإرشاد.

كما قد يؤيد مضمونهما بتسالم الأصحاب على الرجوع إلى الاستصحاب في كثير من موارد الشبهات الموضوعية بنحو لا يبعد كشفه عن نحو من التسالم على العموم.

وهو وإن اختص بالشبهات الموضوعية ، إلا أن الجهة الارتكازية المقتضية له لا تختص بها.

بل لعل استحكام الخلاف في الشبهة الحكمية ناشئ عن شبهة عدم اتحاد المشكوك مع المتيقن التي هي في الأحكام الكلية أقوى منها في الموضوعات الخارجية ، لتعليقها في لسان الأدلة بالعناوين القائمة بنفسها والمتباينة مفهوما في ما بينها.

ويأتي إن شاء الله تعالى دفع ذلك ببيان الضابط في الاتحاد الذي يشترك بين الشبهات الموضوعية والحكمية. وإن كنا في غنى عن التشبث بذلك بعد تمامية دلالة الصحيحتين وصلوحهما للاستدلال بلا حاجة إلى عاضد أو مؤيد.

بقي في المقام أمران ..

الأمر الأول : أن الأدلة المتقدمة مختلفة المفاد ، فمقتضى الثالث كون الاستصحاب من سنخ الطرق والأمارات المبنية على نحو من الكشف عن بقاء المستصحب لا مجرد التعبد ببقائه ، كما يظهر بمراجعة ما تقدم في تقريره.

وأما الوجوه الثلاثة الباقية فهي لا تتضمن إلا مجرد التعبد ببقاء المستصحب وترتيب الأثر عليه. وهو قد يبتني على فرض الطريقية والكشف عنه ، وقد لا يبتني على ذلك ، فيكون أصلا شرعيا تأسيسيا أو إمضائيا.

٦٦

وحيث كان فرض الطريقية والكاشفية محتاجا إلى عناية فلا مجال للبناء عليها من دون قرينة. ولا سيما بعد كون عمدة الدليل هو الأخبار الظاهرة في الإشارة إلى أمر ارتكازي ، فإن الارتكاز لا يقتضي الطريقية. وبهذا يكون الاستصحاب من الأصول العملية لا الطرق.

نعم ، الظاهر أنه من الأصول التعبدية ، لأنه لا يقتضي العمل ابتداء ، بل بتوسط تعبد الشارع بالحكم الذي يقتضيه ، والبناء عليه ، إما لاستصحاب الحكم بنفسه أو لاستصحاب موضوعه ، لأن ذلك هو المناسب للسيرة الارتكازية المدعاة ، وللاجماع لو تم ، بل لا ينبغي الإشكال فيه بملاحظة الاخبار التي هي عمدة أدلته ، لأنها لما تضمنت عدم نقض اليقين بالشك كان مرجعها إلى أن اليقين بالحدوث صالح للبناء على البقاء عند الشك شرعا ، كما هو صالح للبناء على الحدوث ذاتا ، ولذا يكون عدم ترتيب أثر البقاء نقضا له ، فكما يكون عمل المتيقن مبنيا على البناء على الواقع الذي تيقن به والبناء عليه ، كذلك يكون عمل المستصحب ، فاجتناب مستصحب الحرمة أو النجاسة لا يكون إلا بتوسط البناء على الحرمة ، لاستصحابها أو استصحاب موضوعها ، كما هو الحال في سائر الأصول والقواعد التعبدية ، كقاعدة الفراغ ، وأصالتي الحل والطهارة.

وهذا بخلاف الأصول والقواعد غير التعبدية ، الشرعية أو العقلية ، كأصالة البراءة ، وأصالة الاحتياط عند الأخباريين ، وقاعدة الاشتغال ، فإنها تقتضي العمل على ما يطابق احتمال السعة أو الضيق من دون تعبد بالمحتمل الذي يقتضيه.

بل يختلف الاستصحاب عن مثل قاعدة الحل للطهارة من القواعد والأصول التعبدية بما أشرنا إليه من أن التعبد بالمؤدى فيه بتوسط اليقين السابق به ، بحيث يكون اليقين محرزا له ، وإن لم يكن صالحا للكشف عنه ، أما التعبد بالمؤدى فيها فهو تعبد ابتدائي لا يبتني على وجود المحرز له.

ومن ثمّ كان ترتب العمل على الاستصحاب أشبه بترتبه على الأمارات ،

٦٧

وإن اختلفا في كون الإحراز فيها مبنيا على طريقية المحرز وكاشفيته ، أما الإحراز فيه فلا يبتني على ذلك ، كما ذكرنا.

وكأنه إلى ذلك نظر من ذكر أن مفاد أدلة الاستصحاب أن العمل في حال الشك هو العمل حال اليقين. وإلا فلا مجال للجمود على ذلك لما أشرنا إليه من أن مفادها ليس بيان لزوم العمل ابتداء ، بل بتوسط إحراز مقتضي العمل بالمحرز ، وهو اليقين.

إن قلت : فرض محرزية اليقين للاستمرار راجع إلى كونه أمارة عليه شرعا ، وإن لم يكن بنفسه كاشفا عنه ، إذ لا يعتبر في أمارية الأمارة كشفها وإفادتها الظن بنفسها ولو نوعا ، على ما تقدم في أول الكلام في الظن.

قلت : الذي لا يعتبر في الأمارة هو إدراك الجهة الموجبة لكشفها ، حيث قد تكون خفية على العرف ، ولا يطلع عليها إلا الشارع ، أما أصل كاشفيتها فلا بد منها ، وليس المجعول في الامارة إلا الحجية بعد فرض الكاشفية ، أما في الاستصحاب فليس المجعول والمدعى إلا المحرزية ، من دون فرض الكاشفية.

وقد تحصل : أن الاستصحاب ليس من الطرق والأمارات المبنية على الكشف ، بل هو أصل تعبدي إحرازي يقتضي العمل بتوسط فرض محرزية اليقين السابق لبقاء المتيقن تعبدا. فلاحظ.

الأمر الثاني : أشرنا آنفا إلى كثرة الأقوال في الاستصحاب وتعدد التفصيلات فيه ، إلا أن التفصيلات المذكورة على قسمين ..

الأول : ما يبتني على الكلام في مفاد كبرى الاستصحاب المستفادة من أدلته المتقدمة.

الثاني : ما يبتني على الكلام في تحقق أركان الاستصحاب وشروطه ـ التي ياتي الكلام فيها في المقام الثاني ـ في بعض الموارد.

أما الثاني فقد سبق أن أهميّته تقتضي بحثه في مقام مستقل ، وقد خصصنا

٦٨

له المقام الثالث.

وأما الأول فالمناسب بحثه في هذا المقام ، لأنه من شئونه ، لرجوعه إلى تنقيح سعة مدلول الأدلة التي اختص هذا المقام بالبحث عنها.

وهو ينحصر بالتفصيل بين صورتي الشك في الرافع والشك في المقتضي ، فيجري في الأول دون الثاني ، كما اختاره شيخنا الأعظم قدّس سرّه وتبعه غير واحد ، بدعوى اختصاص كبرى الاستصحاب المستفادة من نصوصه بذلك ، وذكر قدّس سرّه أن الذي فتح باب ذلك هو المحقق الخونساري في شرح الدروس.

وينبغي الكلام أولا في موضوع التفصيل المذكور ، ثم في وجهه ..

فاعلم : أن ظاهر شيخنا الأعظم قدّس سرّه كون المعيار في التفصيل المذكور إحراز استعداد المستصحب للبقاء لو لا الرافع ، بحيث يستند احتمال ارتفاع المتيقن لاحتمال وجود الرافع ، سواء احرز المقتضي له ، كما لو علم بعزم الفاعل على الاستمرار في الفعل ، واحتمل المزاحم المانع منه ، أم لم يكن محتاجا للمقتضي ، كالعدم الذي له استعداد الاستمرار في نفسه لو لا حدوث مقتضي الوجود ، كما يشهد بذلك تعبيره عن التفصيل المذكور بالتفصيل بين الشك في الرافع وغيره ، وظهور مفروغيته عن جريان الاستصحاب في العدميات ، وفي الأحكام الوضعية ، كالملكية والطهارة والنجاسة ، مع وضوح كونها كالاعدام في أن شأنها البقاء لو لا الرافع ، بلا حاجة إلى مقتضي البقاء.

ولعله لذا حمل بعض الأعاظم قدّس سرّه كلام شيخنا الأعظم والمحقق الخونساري قدّس سرّهما عليه واختاره هو أيضا.

نعم ، هو لا يناسب ما تكرر في كلماتهم من لزوم إحراز المقتضي في جريان الاستصحاب ، بل ما يظهر من بعض وجوه استدلالهم على التفصيل المذكور ، على ما يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

بل ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه أن حصول ملاك التفصيل في العدميات محتاج

٦٩

إلى تأمل وإن لم يستبعد حصوله ، مع ظهور حصول الملاك الذي ذكرناه ، فإن هذا قد ينافي ما ذكرنا. لكن لا مجال للخروج بذلك عما تقدم. بل لا بد من حمل المقتضي في كلامهم على ما يعم القابلية المذكورة.

إذا عرفت هذا ، فاعلم : أنه قد يستدل على التفصيل المذكور بوجوه ..

الأول : ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أن حقيقة النقض رفع الهيئة الاتصالية ، كما في نقض الحبل وحيث يعلم بعدم إرادة المعنى المذكور ، لعدم فرض الاستمرار في اليقين لا بنفسه ولا بلحاظ المتيقن ، تعين حمله إما على رفع اليد عن الأمر الذي من شأنه الثبوت والاستمرار ، لثبوت مقتضية ، أو على مجرد رفع اليد عما كان ثابتا ولو مع عدم المقتضي له.

والأظهر الأول ، لأنه أقرب إلى المعنى الحقيقي ، فيلزم لأجله رفع اليد عن إطلاق اليقين وتقييده بصورة وجود المقتضي.

وفيه .. أولا : أن النقض رفع الأمر المستحكم ، ففي لسان العرب : «النقض إفساد ما أبرمت من عقد أو بناء. وفي الصحاح : النقض نقض البناء والحبل والعهد. غيره : النقض ضد الابرام» وقريب منه في مفردات الراغب والقاموس. وعليه جرى قوله تعالى : (كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً)(١) ، وغيره من موارد استعماله في الكتاب العزيز.

وإطلاقه في الحبل بلحاظ إبرامه وتماسكه لا محض اتصاله ، ولذا لا يصدق مع عدم تماسكه. وعليه لا يكفي كون الشيء من شأنه البقاء لو لا الرافع ، كالعدم ، بل لا يكفي وجود مقتضي البقاء له ، كجاذبية الأرض المقتضية لبقاء الحجر في مكانه ، بل لا بد من استحكامه وإبرامه ، وهو أخص من المدعى.

وأما استعماله في النصوص في مثل نقض الوضوء مما يكون من شأنه البقاء من دون استحكام ، فهو لا يشهد بالاكتفاء بذلك في المعنى الحقيقي ، بل

__________________

(١) النحل : ٩٢.

٧٠

لا بد من حمله على نحو من التوسع ، نظير استعماله فيها في مثل نقض الصلاة مما ليس من شأنه البقاء ، بل لا بد فيه من الإبقاء. فلاحظ.

وثانيا : أن النقض لما كان متعلقا في النصوص باليقين فلا بد من ملاحظة الاستحكام فيه ، لا في المتيقن.

ودعوى : أن إضافة النقض إلى اليقين باعتبار ما يستتبعه من الجري على ما يقتضيه المتيقن والعمل عليه بترتيب أحكامه لا أحكام اليقين نفسه ، فهو ملحوظ في المقام طريقا للمتيقن ، لا موضوعا للعمل بنفسه ، فلا بد من صلوح المتيقن بنفسه للنقض ، لأن من شأنه البقاء لو لا الرافع.

مدفوعة : بأن النهي عن النقض في المقام لما كان طريقيا لبيان تنجز المتيقن باليقين السابق ولزوم الجري عليه ظاهرا لا واقعا ، فهو من شئون الطريق ، وهو اليقين بنفسه ، لا من شئون ذي الطريق ، وهو المتيقن.

وبعبارة اخرى : عدم ترتيب أحكام المتيقن واقعا انتقاض له بنفسه ، وعدم ترتيبها ظاهرا في مقام العمل نقض لليقين الذي هو طريق للمتيقن وموجب للجري على أحكامه ، وحيث كان المراد هو الثاني لزم كون الصالح للنقض هو اليقين لا المتيقن.

فالتحقيق : أن المصحح لإسناد النقض لليقين ما فيه من الاستحكام في النفس ، وفي ترتب العمل عليه ، لكون حجيته ذاتية ، فهو كالإرادة والعزم مما يصح إسناد النقض إليه بنفسه ، لا بلحاظ استحكام متعلقة. ولا يفرق في ذلك بين أفراد اليقين عرفا.

ودعوى : أن استحكام اليقين المصحح لإسناد النقض إليه إنما يكون باستحكام المتيقن لتحقق مقتضي البقاء فيه المستلزم لتحقق مقتضي البقاء في اليقين به.

مدفوعة : بأن تحقق مقتضي بقاء المتيقن لا دخل له باليقين به ، لعدم

٧١

السنخية بين مقامي الثبوت والإثبات ، بل مقتضي اليقين هو الطرق المثبتة للمتيقن ومانعة هو المعارضات للطرق المذكورة ، وهي أجنبية عن مقتضي بقاء المتيقن بالمرة.

على أن موضوع النهي عن النقض في أدلة الاستصحاب هو اليقين بالحدوث ، والمفروض بقاؤه واستحكامه حتى مع اليقين بعدم المقتضي لبقاء المتيقن.

الثاني : ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه من توقف صدق نقض اليقين بالشك على أن يكون زمان الشك قد تعلق به اليقين في زمان حدوثه ، لكون المتيقن مرسلا بحسب الزمان ، بحيث يكون من شأنه البقاء لو لا الرافع. أما لو كان محدودا بحد خاص فلا يقين في ما بعد ذلك الحد حتى ينتقض بالشك.

وفيه .. أولا : أن مرجع ذلك الى الحمل على انتقاض اليقين حقيقة ، الذي هو بمعنى ارتفاعه بعد وجوده ، والذي هو خارج عن اختيار المكلف ، ولا يستند للشك ، بل الى علته ، لأن الرافع لأحد الضدين علة ضده لا نفس الضد ، ومن المعلوم عدم إرادة ذلك ، بل المراد هو النقض العملي بعدم البناء على مقتضي اليقين وعدم ترتيب الأثر عليه ، الذي هو من شئون المكلف ويستند إلى شكه ، حيث يرتفع به الإحراز.

وقد عرفت أن صدق النقض العملي في المقام ادعائي ، لأن اليقين إنما يقتضي العمل في مورده حين حدوثه ، لا في غير مورده بعد ارتفاعه.

وثانيا : أن هذا لا يقتضي اعتبار تحقق مقتضي البقاء ، بل سبق اليقين بالبقاء ، لليقين بعلته التامة ولو خطأ ، فلو اعتقد المكلف في أول الأمر باستمرار المتيقن ثم تزلزل قطعه وشك في المقتضي جرى الاستصحاب ، وإن شك من أول الأمر بالاستمرار ولو لاحتمال طروء الرافع مع القطع بالمقتضي لم يجر الاستصحاب.

٧٢

وهذا في الحقيقة خروج عن الاستصحاب ، ورجوع إلى قاعدة اليقين بحمل اليقين على اليقين المنتقض بالشك والزائل معه ، المتفق معه موضوعا حتى بحسب الزمان. لكن مع تقييدها بخصوص الشك في البقاء مع استحكام اليقين بالحدوث المعتبر في الاستصحاب.

وهو ـ كما ترى ـ مما لا يلتزم به ، ولا مجال لحمل النصوص عليه ، إذ ليس فيها إلا يقين واحد ، فإما أن يحمل على اليقين المتحد مع الشك في المتعلق حتى بحسب الزمان ، والذي يزول معه ، فيفيد قاعدة اليقين على إطلاقها ولو مع الشك في أصل الحدوث ، أو على اليقين المتحد مع الشك في المتعلق من حيثية الذات دون الزمان والذي يبقى معه ، فيفيد الاستصحاب على إطلاقه ، ولو مع عدم سبق اليقين بالبقاء ، ولا ريب في تعين الثاني ، كما يظهر مما تقدم في رواية الخصال.

ومما ذكرنا ظهر أنه لا مجال لاصلاح الوجه المذكور بحمله على لزوم كون زمان الشك متعلقا لليقين تسامحا بسبب إحراز المقتضي ، لا حقيقة ليتوجه عليه ما تقدم.

لاندفاعه : بأن متعلق النقض في النصوص هو اليقين السابق ، وهو اليقين بالحدوث المفروض وجوده فعلا حين الشك ، لا اليقين بالبقاء ، ليكون تعذر وجوده الحقيقي مع الشك ملزما بالتنزل لوجوده التسامحي الناشئ من فرض المقتضي حينه مع أن كون وجود المقتضي مصححا للتسامح في وجود اليقين لا يخلو عن خفاء بعد كون المقتضي دخيلا في وجود المستصحب ثبوتا ، ولا سنخية بينه وبين اليقين به ، لأنه من شئون مقام الإثبات ، كما تقدم في الوجه الأول.

الثالث : أن المصحح لإسناد النقض في أدلة الاستصحاب إلى اليقين مع ارتفاعه حقيقة هو الملازمة الادعائية بين اليقين بالحدوث واليقين بالبقاء

٧٣

المتفرعة على ادعاء الملازمة بين نفس الحدوث والبقاء ، فعدم ترتيب أثر البقاء نقض لليقين بالبقاء حقيقة ولليقين بالحدوث ادعاء ، ولا يصح عرفا ادعاء الملازمة المذكورة مع عدم إحراز مقتضي البقاء ، لعدم المنشأ لها ، وإنما صح ادعاؤها مع إحرازه لعدم الاعتداد باحتمال طروء الرافع.

وقد يظهر من شيخنا الاستاذ قدّس سرّه اعتماد هذا الوجه مع اختصاره.

وفيه : أن ابتناء إسناد النقض لليقين على الملازمة الادعائية المذكورة لا يخلو عن خفاء ، لإمكان ابتنائه على ادعاء أن اليقين كما يقتضي العمل حينه يقتضي العمل بعده ، فيكون عدم ترتيب الأثر بعده نقضا له.

كما لم يتضح أيضا ابتناء تلك الملازمة ـ لو تمت ـ على عدم الاعتداد باحتمال طروء الرافع الملزم بفرض المقتضي.

لوضوح أن عدم الاعتداد باحتمال الرافع يقتضي حجية قاعدة المقتضي ولو مع عدم اليقين بالحدوث الذي هو مورد الاستصحاب ، لعدم خصوصية ذلك في الجهة الارتكازية المذكورة ، بل ظاهر أدلة الاستصحاب ابتناؤه على جهة ارتكازية اخرى ، وهي عدم رفع اليد عما علم ثبوته بمجرد الاحتمال ، بل لا بد من البناء على بقائه مطلقا. ولا أقل من كون ذلك مقتضى إطلاق أدلته ، لعدم صلوح الجهة المذكورة للمنع منه بعد عدم التنبيه إليها في الادلة.

ومجرد صلوحها لتصحيح ادعاء النقض ـ لو تم ـ لا يمنع من الحمل على الإطلاق ، لعدم انتقال الذهن إليها بمجرد ذلك ، بل لا بد من وضوح ابتناء الكلام عليها ، بنحو تكون من سنخ القرائن المحتفة به المانعة من انعقاد ظهوره في الإطلاق ، ولا مجال لاثبات ذلك.

وبعبارة اخرى : لو ثبت اختصاص الاستصحاب بصورة الشك في الرافع دون المقتضي كانت الجهة المذكورة صالحة للتفريق بينهما.

أما بعد إطلاق أدلته وعدم التنبيه فيها إليها فهي لا تمنع من انعقاد الظهور

٧٤

في الإطلاق ، لعدم بلوغها في الوضوح حدا يجعلها مما يحتف بالكلام ويصح الاتكال عليه في بيان المراد منه.

وهذا جار في الوجهين الأولين لو غض النظر عما تقدم في مناقشتهما.

وقد تحصل من جميع ما تقدم أن المتعين هو البناء على عموم الاستصحاب ، لإطلاق أدلته من النصوص المتقدمة التي عرفت أنها عمدة الدليل عليه.

نعم ، لو كان الدليل عليه السيرة أو الإجماع تعين البناء على التفصيل المذكور ، لأنه المتيقن منهما في الجملة.

تنبيه :

أشرنا في الأمر السابق إلى أن مفاد الاستصحاب هو إحراز المستصحب والتعبد به بادعاء كون المحرز له هو اليقين السابق.

وقد تعرضنا في الفصل الثالث من مباحث القطع عند الكلام في القطع الموضوعي إلى اختلاف كلماتهم في مفاده ومفاد الطرق والأمارات وبقية الأصول ، وأنه قد وقع الكلام بينهم في ذلك ، حيث ذهب بعضهم إلى أن مفاده تنزيل المستصحب منزلة الواقع ، وأخر إلى أن مفاده تنزيل الشك به منزلة العلم ، وثالث إلى أن مفاده جعل العلم بالمستصحب تعبدا ، وغير ذلك مما أطلنا الكلام في مناقشته هناك بما لا مجال لإطالة الكلام فيه بعد ذلك ، كما تعرضنا هناك لمفاد الطرق والأمارات ، وبقية الأصول. فراجع.

٧٥
٧٦

المقام الثاني

في أركان الاستصحاب وشروطه

والكلام في ذلك يقع في فصلين ..

يبحث في الأول منهما عن أركانه المقومة لمفهومه ، حسبما استفيد من الأدلة المتقدمة.

وفي الثاني عما يعتبر في جريانه من الشروط الخارجة عن مفهومه.

الفصل الأول

في أركان الاستصحاب

ومما تقدم في تعريفه وأدلته يتضح أن للاستصحاب ركنين يتقوم بهما ..

الأول : اليقين بتحقق المستصحب سابقا.

الثاني : الشك في بقائه واستمراره. والكلام في ما يتعلق بهما يقع في ضمن أمور ..

الأمر الأول : لا إشكال في أن ظاهر اليقين بدوا في تعريف الاستصحاب ونصوصه وكلمات الأصحاب هو اليقين الحقيقي ، الذي هو صفة نفسية تقابل الشك والظن والوهم ، إلا أنه لا إشكال عندهم ظاهرا في استصحاب مؤدى الطرق والأمارات ، وقد يستشكل في ذلك بعدم تحقق أحد ركني الاستصحاب

٧٧

فيه ، وهو اليقين.

بل قد استشكل المحقق الخراساني قدّس سرّه وغير واحد ممن تأخر عنه في تمامية كلا ركنيه ، لأن الشك في البقاء متفرع على اليقين بالحدوث ، المفروض عدم تحققه ، فلا يكون الشك في المقام إلا تقديرا.

لكن الظاهر اندفاعه ، بأن عنوان البقاء وإن كان متفرعا ثبوتا على الحدوث ، إلا أنه لا وجه لتفرع الشك في البقاء على اليقين بالحدوث ، بل هو يجتمع معه ومع الشك فيه ، على ما هو الحال في جميع الامور المترتبة خارجا أو مفهوما ، كما لعله ظاهر.

فالعمدة الإشكال من جهة اليقين ، وقد حاول غير واحد دفعه وتوجيه جريان الاستصحاب.

والمذكور في كلماتهم وجوه ..

الأول : أن مفاد الاستصحاب ليس إلّا التعبد ببقاء الأمر الحادث في فرض الشك فيه ، فيكون الحكم بالبقاء مرتبا وملازما للثبوت الواقعي وإن لم يتيقن به ، نظير حجية الخبر المنوط بعدالة المخبر.

وليس أخذ اليقين بالثبوت في أدلته إلا لكونه طريقا محضا يحرز معه موضوع الحكم بالبقاء والتعبد الظاهري به ، لا لكونه دخيلا في الموضوع ثبوتا ، فتقوم مقامه الطرق ، كما تقوم مقام القطع الطريقي في سائر الموارد.

وهذا هو الظاهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه حيث عرف الاستصحاب بأنه إبقاء ما كان ، وصرح بأن موضوعه ثبوت الشيء ، فلا بد من إحرازه بالعلم أو الظن المعتبر.

بل الظاهر أنه مراد المحقق الخراساني قدّس سرّه ، وإن كانت بعض فقرات كلامه قد توهم إرادة أن مفاد الاستصحاب نفس الملازمة بين الثبوت والبقاء ، وموضوعها الشك في البقاء على تقدير الثبوت ، فمع الشك المذكور يكون

٧٨

الاستصحاب فعليا ، وإن لم يكن هناك ثبوت واقعي أو إحراز له ، لعدم توقف الملازمة على وجود طرفيها.

قال : «هل يكفي في صحة الاستصحاب الشك في بقاء شيء على تقدير ثبوته وإن لم يحرز ثبوته في ما رتب عليه أثر شرعا أو عقلا .. فيكفي الشك فيه على تقدير الثبوت ، فيتعبد به على هذا التقدير ، فيترتب عليه الأثر فعلا في ما كان هناك أثر ... فتكون الحجة على ثبوته حجة على بقائه تعبدا للملازمة بينه وبين ثبوته واقعا ...».

ومن ثمّ أورد عليه بعض الأعاظم قدّس سرّه : بانه لا معنى للتعبد بالبقاء على تقدير الحدوث ، فإن الملازمة كالسببية لا تنالها يد الجعل ، بل ما يقبل الجعل هو التعبد بوجود شيء على تقدير آخر ، فتنتزع منه السببية والملازمة.

لكن من البعيد جدا إرادة المحقق الخراساني قدّس سرّه لذلك ، لما هو المعلوم من مذهبه في مثل السببية والملازمة من كونها منتزعة لا مجعولة.

بل من القريب جدا إرادته ما ذكرنا من أن مفاد الاستصحاب نفس التعبد بالبقاء في فرض الثبوت الواقعي ، الذي هو منشأ انتزاع الملازمة المذكورة ، فلا يكون فعليا إلا مع فعلية الثبوت ، وإن لم يمكن العمل عليه إلا بعد إحراز الثبوت ، لتوقف العمل بالحكم وتنجزه على إحراز موضوعه ، وعمدة ما يريد التنبيه عليه أن اليقين ليس دخيلا في الموضوع ، بل طريقا له.

وكيف كان ، فالظاهر أن الوجه المذكور ممكن في نفسه ، وكان المناسب لبعض الأعاظم قدّس سرّه التنبيه له وعدم الاقتصار على منع جعل الملازمة.

نعم ، الوجه المذكور مخالف لظاهر الأدلة ، لظهورها في موضوعية نفس اليقين للاستصحاب ، وحملها على كون ذكره لمحض الطريقية وأن الموضوع نفس الثبوت مخالف لظاهرها.

وثبوت ذلك في أدلة الأحكام الواقعية التي تقتضي المناسبات الارتكازية

٧٩

أو الجمع بين الأدلة تبعيتها للواقع ، نظير قوله تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ ...)(١) ، لا يقتضي البناء عليه في ما نحن فيه ونحوه من موارد الأحكام الظاهرية الراجعة إلى مقام الإحراز والتابعة للعلم ونحوه ارتكازا.

بل نصوص المقام تأبى ذلك بعد تضمنها التعبد بالاستصحاب بلسان عدم نقض اليقين بالشك ، الظاهر في دخل اليقين بنفسه في الإحراز ، كما سبق.

ومن ثمّ تقدم في التمهيد أنه لا بد من أخذ اليقين في تعريف الاستصحاب ، ولا مجال لتعريفه بأنه إبقاء ما كان. فراجع.

الثاني : أن مفاد أدلة اعتبار الطرق والأمارات تنزيلها منزلة العلم شرعا ، فتشاركه في أحكامه الشرعية ، ومنها عدم النقض بالشك ، الذي هو مفاد الاستصحاب.

ونحوه دعوى ظهورها في جعلها علما تعبدا فتلحقها أحكامه.

ويظهر الجواب عن ذلك بمراجعة ما تقدم منّا في الفصل الثالث من مباحث القطع عند الكلام في القطع الموضوعي ، حيث أطلنا الكلام هناك في حال المبنيين المذكورين وغيرهما.

الثالث : أن مفاد أدلة اعتبار الطرق والأمارات تنزيل مؤدياتها منزلة الواقع ، فتجري عليها أحكامه ، ومنها حرمة النقض ، بناء على أن حرمة النقض في الاستصحاب من أحكام نفس المتيقن لا اليقين.

وفيه : ـ مع أنه لا مجال لاستفادة التنزيل المذكور ، نظير ما تقدم في الوجهين السابقين ، وأن حرمة النقض من آثار اليقين لا المتيقن ، كما تقدم في رد القول باختصاص الاستصحاب بالشك في الرافع ـ أن الواقع التنزيلي وهو مؤدى الطريق يقطع بانتقاضه بانتهاء أمد الطريق ، وما يحتمل انتقاضه

__________________

(١) البقرة : ١٨٧.

٨٠