المحكم في أصول الفقه - ج ٥

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٨

لليمين لإثبات نفوذه ، أم مستفادا من انطباق الكبرى على الصغرى ، كما في المقام ونحوه مما كان موضوع الصغرى فيه مفاد القضية ، وكان المستفاد من الكبرى نفوذها وجعل مضمونها شرعا ، حيث يستلزم ذلك قيام الأثر بالموضوع المأخوذ في القضية المذكورة بخصوصياته العنوانية ، فإذا جرى الأصل فيه ترتب أثره.

وتوضيح ذلك : أن مفاد كبرى نفوذ العقد والنذر هو إمضاء مفاد العقود والنذور الواقعة من المكلفين وجعل مضمونها شرعا تبعا لإنشائه من المكلف.

فإذا اجر المكلف نفسه يوم الجمعة بديا نار فقد ملك منفعة اليوم المذكور بإزاء الدينار ، ومقتضى إمضاء الشارع لذلك هو ملكية الأجير للدينار وملكية المستأجر للمنفعة المذكورة شرعا ، فيكون يوم الجمعة بعنوانه موضوعا لملكية المنفعة شرعا ، فتحرز باستصحابه ، كما تحرز لو استفيد ملكية منفعة اليوم المذكور بعنوانه من كبرى شرعية مجعولة تاسيسا لا إمضاء.

وإذا نذر الأب الصدقة ما دام ولده حيا ، فحيث كان مفاد النذر هو تمليك الله سبحانه للمنذور كان مقتضى عموم نفوذ النذر إمضاء الشارع للتمليك المذكور بجعل ملكيته تعالى تبعا لجعل المكلف لها ، فتكون الحياة بعنوانها شرطا شرعيا للصدقة المملوكة ، فاستصحابها يحرز المشروط شرعا بمقتضى ما اشير إليه من التبعية في مقام التعبد بين المستصحب وأثره الشرعي.

ومنه يظهر أنه لا حاجة إلى توسط عنوان الوفاء بين المستصحب والأثر ، بل المستصحب بنفسه موضوع للأثر شرعا ، بسبب انطباق عموم الوفاء على مورده ، فيخرج عن الأصل المثبت.

نعم ، لا بد في ما ذكرنا من أن تنطبق الكبرى الشرعية على مفاد القضية على ما هي عليه من خصوصيات عنوانية ، بحيث تقتضي جعل الشارع لمضمونها مع قطع النظر عن عمل المكلّف في مقام الامتثال ، بل يكون عمل

١٤١

المكلف تابعا للجعل المذكور ، كما هو ظاهر مثل وجوب الوفاء بالعقد والعهد والنذر واليمين ، لأن الوفاء هو أداء ما ثبت على المكلف وتوفيته ، فهو ظاهر في ثبوت مضمون القضية المجعولة للمكلف لإمضائها من قبل الشارع ، بخلاف مثل عموم وجوب الفدية بالإفطار ، فإن انطباقه على مورده لا يقتضي إلا جعل نفس الوجوب الذي هو مفاد الكبرى ، والذي يتعلق به العمل.

ومنه يظهر الإشكال في جريان ما ذكرنا في وجوب إطاعة الأب ونحوه ، لأن الإطاعة عنوان ثانوي لفعل المكلف منتزع من متابعة أمر الامر ، ووجوبها لا يقتضي وجوب الفعل بالعنوان الذي وقع في لسان الامر أو بالخصوصيات المأخوذة منه ، ليكون إحرازها بالأصل مجديا في ترتب الأثر ، بل تحققها مستلزم عقلا لصدق عنوان الإطاعة ، الذي هو موضوع الأثر ، فيكون توسطه في ترتب الأثر على المستصحب موجبا لكون الأصل مثبتا ، بل وجوب إطاعة المولى منتزع من حرمة التصرف في مال الغير بغير إذنه ، ولا طريق لإثبات التكليف بعنوان الإطاعة ، فضلا عن العنوان المأخوذ في لسان المولى بالخصوصيات المأخوذة في القضية.

نعم ، تكليف الموالي العرفيين بالأمر المشروع ينصرف إلى إرادة إحرازه بالطريق الشرعي ، وهو الوجه في إجزاء الامتثال فيها بالطريق الشرعي المحرز لصحة العمل.

بل مقتضى ذلك كون الإتيان بما يحرز ظاهرا مشروعيته وصحته موجبا لتحقق الإطاعة واقعا ، لا ظاهرا ، كما هو الحال في مثل الوفاء بالنذر في ذلك ، كي يبتني على الأصل المثبت.

وحينئذ لو انكشف الخطأ بعد ذلك كان وجوب التدارك لأجل عدم تحقق غرض الامر الكاشف عن ملاك التكليف بالتدارك ، لا لعدم امتثال التكليف الأول. فلاحظ.

١٤٢

الأمر الرابع : تقدم أن استصحاب الحكم التكليفي إنما ينفع بلحاظ ترتب العمل عليه بلا واسطة. كما أن استصحاب الحكم الشرعي أو الموضوع الخارجي إنما ينفع بلحاظ ترتب أثره الشرعي ، بضميمة الملازمة العرفية بين التعبد بالشيء والتعبد بأثره.

ومن هنا فقد يستشكل في الاستصحابات العدمية في موردين ..

المورد الأول : استصحاب عدم التكليف.

وقد يستشكل فيه بوجهين ..

الأول : أن عدم التكليف ليس أمرا مجعولا للشارع ، فإن المجعول هو الأحكام الخمسة لا عدمها ، وإلا كانت الأحكام عشرة لا خمسة.

وقد دفع ذلك المحقق الخراساني قدّس سرّه بأن عدم التكليف وإن لم يكن حكما شرعيا إلا أن رفعه ووضعه تابع للشارع ، لأن سلطان الشارع على الحكم مستلزم لسلطانه على عدمه ، وذلك كاف في جريان الاستصحاب ، ولا يعتبر فيه كون المستصحب حكما شرعيا ، لعدم الملزم بذلك بعد صدق نقض اليقين بالشك.

هذا ، ولا يخفى أن مبنى الإشكال والدفع على ما هو مذهب غير واحد من أن مفاد الاستصحاب جعل الحكم المماثل ظاهرا.

وقد أشرنا عند الكلام في استصحاب مؤدى الطرق والأصول ، وفي أوائل هذا الفصل ، إلى بطلان المبنى المذكور ، وأن مفاد الاستصحاب ـ كسائر الطرق والأصول الإحرازية ـ هو التعبد بالمؤدى ولزوم البناء عليه ، وهو لا يختص بالأحكام الشرعية ، ولا بما يكون تحت سلطان الشارع ، بل يجري في الامور الخارجية التي لا دخل للشارع بها.

غايته أنه لا بد من ترتب العمل عليه ، وقد تقدم تقريب ترتبه على استصحاب التكليف بأن إحراز التكليف بالتعبد الشرعي كاف في المنجزية

١٤٣

المستتبعة للموافقة عقلا ، ويجري نظير ذلك في استصحاب عدم التكليف ، فإن إحراز عدم التكليف بالتعبد الشرعي كاف في المعذرية المستتبعة للعمل.

نعم ، قد يقال : يكفي في المعذرية عن التكليف عدم المنجز له ، كما هو مقتضى قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وهو مقطوع به بلا حاجة للاستصحاب المذكور ، فيكون الاستصحاب لغوا ، لعدم الأثر العملي له.

لكنه يندفع : بأن عدم استحقاق العقاب مع عدم التكليف لعدم المقتضي للعقاب ، ومع عدم تنجزه لعدم شرطه ، فإحراز عدم التكليف بالأصل إحراز لعدم المقتضي ، وبدونه لا يكون عدم العقاب إلا لعدم الشرط ، ومثل هذا كاف في رفع لغوية التعبد عرفا ، وإن كان عدم العقاب مقطوعا به على كل حال.

وقد تقدم توضيح ذلك عند الكلام في الاستدلال على البراءة بالاستصحاب.

الثاني : ما يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه حيث ذكر في آخر أدلة البراءة أنه استدل عليها بوجوه غير ناهضة ، وذكر في جملتها استصحاب البراءة المتيقنة حال الصغر ، وذكر له وجوها ..

منها : استصحاب عدم المنع من الفعل ، ثم قال : «وأما الإذن والترخيص في الفعل فهو وإن كان أمرا قابلا للجعل ، ويستلزم انتفاء العقاب واقعا ، إلا أن الإذن الشرعي ليس لازما شرعيا للمستصحبات المذكورة ، بل هو من المقارنات ، حيث إن عدم المنع عن الفعل بعد العلم إجمالا بعدم خلو فعل المكلف عن أحد الأحكام الخمسة لا ينفك عن كونه مرخصا فيه ، فهو نظير إثبات وجود أحد الضدين بنفي الآخر بأصالة العدم».

وقد حمله تلميذه الآشتياني قدّس سرّه على إرادة ما سبق من أن العدم ليس حكما شرعيا. وحمله بعض مشايخنا على ما سبق من عدم الأثر له في مقام العمل بعد القطع بعدم العقاب بقاعدة قبح العقاب.

١٤٤

وكلاهما مخالف لظاهره ، بل هو ظاهر في أن الأثر ليس للمنع ، لينفع استصحاب عدمه ، بل هو لضده ، وهو الترخيص والإذن اللازم للمستصحب ، فهو ظاهر في المفروغية عن جريان أصالة العدم لو كان الأثر لنفس الوجود الناقض لذلك العدم.

فالعمدة في رده : أنه لا يتم بناء على أصالة الإباحة عقلا ، وأن استحقاق العقاب مشروط بمنع الشارع ، كما هو الظاهر ، وإنما يتم بناء على أصالة الحظر عقلا وأن الرافع لاستحقاق العقاب هو الترخيص ، الذي هو خلاف التحقيق ، على ما أشرنا إليه عند الكلام في استصحاب البراءة في رد الوجه الثاني من وجوه الإشكال فيه. فراجع.

المورد الثاني : استصحاب عدم الموضوع للحكم الشرعي ، سواء كان أمرا خارجيا ـ كالخمرية ـ أم شرعيا ـ كالزوجية ـ لأن الأثر ليس للعدم المستصحب ، بل للوجود ، غاية الأمر أن عدم الموضوع ملازم واقعا لعدم ترتب حكمه ، فيبتني على الأصل المثبت. نعم ، لو كان العدم بنفسه مأخوذا في موضوع الحكم الشرعي أمكن استصحابه لترتيب حكمه.

ويندفع : بأنه كما يكون التعبد بوجود الموضوع مستتبعا عرفا للتعبد بحكمه ، كذلك يكون التعبد بعدم الموضوع مستتبعا عرفا للتعبد بعدم حكمه.

على أن استصحاب عدم الموضوع إنما يجري إذا استفيد من الأدلة دخل عنوانه في ثبوت الحكم ، وهو راجع إلى حكم الشارع بعدم ثبوت الحكم عند ارتفاع الموضوع بعنوانه تبعا لحكمه بثبوته عند ثبوته ، وهو كاف في صحة الاستصحاب ، إذ لا يراد من الملازمة بين الحكم وموضوعه في مقام التعبد خصوص الأحكام الخمسة ، بل مطلق ما يستفاد من الشارع ويكون مرجعا فيه ، نظير ما تقدم من المحقق الخراساني قدّس سرّه في استصحاب عدم الحكم التكليفي

وأما الإشكال في ذلك بمنافاته لظاهر صحيحتي زرارة ، حيث تضمنتا

١٤٥

الرجوع لاستصحاب الطهارة عند الشك في النوم وإصابة الدم ، مع أنه لو جرى الاستصحاب العدمي لكان المناسب التمسك باستصحاب عدم النوم وعدم إصابة الدم ، لحكومته على استصحاب الطهارة ، لأنه سببي بالإضافة إليه.

فيندفع : بأنه لا مانع من التنبيه للأصل المحكوم وإغفال الأصل الحاكم إذا لم يكن منافيا له عملا ، كما تقدم توضيحه في أدلة البراءة عند التعرض للاستدلال بموثقة مسعدة بن صدقة. فراجع.

بقي شيء ، وهو أن المستفاد من الأدلة ..

تارة : انحصار الحكم بالموضوع ، كما هو الحال في مثل نواقض الوضوء.

واخرى : مجرد دخل عنوانه فيه دون الانحصار ، كما هو الحال في أدلة النجاسات.

ففي الأول يكون استصحاب عدم الموضوع محرزا لعدم ثبوت الحكم مطلقا ، وفي الثاني لا يحرز باستصحاب عدم الموضوع إلا عدم ثبوت الحكم من حيثيته ، فلا ينافي ثبوته من حيثية اخرى ، بل يتعين الرجوع في ذلك إلى أصل آخر في الشبهة الحكمية ، كأصالة الطهارة أو استصحابها. فلاحظ.

الأمر الخامس : لا يعتبر في خروج الأصل عن كونه مثبتا كون مجراه تمام الموضوع للأثر الشرعي ، أو تمام المنشأ للعمل عقلا ، بل يكفي دخله فيه بعنوانه بنحو من أنحاء الدخل جزءاً كان ، أو شرطا ، أو مانعا أو غير ذلك.

ويكفي في ذلك تطبيق كبرى الاستصحاب في صحيحتي زرارة على الطهارة الحدثية والخبيثة ، مع وضوح أن المستصحب لا يكفي في ترتب الأثر المهم وهو صحة الصلاة ، بل لا بد معه من شروط وأجزاء أخر لا يحرزها الاستصحاب المذكور ، بل لا بد من إحرازها بأصل آخر أو وجدان.

ومن هنا تكرر في كلامهم أنه لا بأس بضم الوجدان للأصل في إحراز موضوع الأثر ، ولا يكون الأصل مثبتا بعد كون المستصحب بعنوانه دخيلا في

١٤٦

الأثر.

وإنما يكون مثبتا في ما لو كان الدخيل في الأثر هو العنوان اللازم أو المنتزع من جملة أمور بعضها مجرى الأصل ، كما لو كان موضوع الأثر هو وجود عشرة رجال في الدار ، وعلم بدخول تسعة ، وشك في وجود زيد معهم بعد العلم بسبق وجوده فيها ، فإن استصحاب بقائه لا ينفع في ترتيب الأثر المذكور بعد عدم دخله بعنوانه فيه.

ثم إن المستصحب الذي يكون جزءاً للموضوع ..

تارة : يكون دخيلا في ترتب الأثر الشرعي ، كما هو الحال في قيود الحكم وشروطه وموانعه ونحوها ، كطهارة الماء الموجبة لطهارة ما يغسل به والحيض المانع من وجوب الصلاة.

واخرى : يكون أمرا شرعيا دخيلا في ترتب العمل عقلا بلا واسطة شرعية ، كما هو الحال في شروط الواجب وقيوده وموانعه ، كطهارة البدن الموجبة لصحة الصلاة ، ونجاسة الثوب الموجبة لبطلانها ، لوضوح أن الصحة والبطلان ليسا مجعولين شرعا ، بل هما منتزعان من تمامية العمل وعدمها ، فلا يترتب على مثل ذلك إلا مقام الامتثال الذي هو من الواجبات العقلية ، وهو المعيار في العمل المصحح للجعل الشرعي.

وكما يجري الأصل في الأول بلحاظ الأثر الشرعي يجري في الثاني بلحاظ ترتب العمل عقلا ، لنظير ما تقدم في استصحاب التكليف وعدمه ، فكما كان المصحح له هو ترتب العمل عليه بلحاظ أن التعبد بالتكليف وعدمه كاف في المنجزية والمعذرية المستتبعتين للعمل عقلا ، فليكن المصحح لاستصحاب الشرط ونحوه في المقام هو ترتب العمل عليه ، بلحاظ كونه موجبا للتعبد بالامتثال الرافع لموضوع قاعدة الاشتغال.

كما أن المصحح لاستصحاب المانع ونحوه هو ترتب العمل عليه بلحاظ

١٤٧

كونه محرزا لعدم الامتثال المقتضي لحكم العقل بوجوبه.

ولذا أمكن تعبد الشارع بأصل الامتثال وبخصوصياته في موارد قاعدة الفراغ والتجاوز ، كما أمكن تعبده بعدمه في مورد قاعدة الشك قبل خروج الوقت ، أو الحكم بنجاسة وناقضية البلل الخارج قبل الاستبراء.

بل يكفي في خصوص الاستصحاب صحيحتا زرارة ، لوضوح أن الأثر المهم لاستصحاب الطهارة الحدثية والخبثية هو التعبد بامتثال أمر الصلاة.

إذا عرفت هذا ، فاعلم أن المحقق الخراساني قدّس سرّه تعرض لإشكال بعضهم في استصحاب الشرط والمانع لترتيب الشرطية والمانعية ، بدعوى : أن الشرطية والمانعية ليستا من المجعولات الشرعية ، بل هما من الامور الانتزاعية ، فلا يصح الاستصحاب بلحاظهما إلا بناء على الأصل المثبت ، حيث يكون الشرط مستلزما لوجود المشروط ، والمانع مستلزما لعدم ما يمنع منه.

وقد دفع قدّس سرّه ذلك : بأن الشرطية والمانعية والجزئية وإن كانت من الأمور الانتزاعية ، إلا أنها مما تناله يد الجعل شرعا تبعا ، ويكون أمره بيد الشارع وضعا ورفعا تبعا لوضع منشأ انتزاعه ورفعه ، ولا ملزم بأن يكون المستصحب أو الأثر المترتب عليه مجعولا مستقلا.

وهو مبني على ما ذكره قدّس سرّه عند الكلام في الأحكام الوضعية من السببية والشرطية والمانعية ونحوها مجعولة تبعا لجعل منشأ انتزاعها ، فيصح الاستصحاب بلحاظها.

ومن ثمّ لزم حمل ما ذكره قدّس سرّه على الشرط والمانع للمأمور به ، دون الشرط والمانع للتكليف ، لما ذكره هناك من عدم جعل الشرطية والمانعية للتكليف ، لا أصلا ولا تبعا ، فلا يجري الاستصحاب فيهما ، كما لا يجري في الموضوع بلحاظهما.

بل لا بد في تصحيح الاستصحاب في الشرط والمانع للتكليف من

١٤٨

جريانه بلحاظ منشأ انتزاع الشرطية والمانعية ، وهو التكليف المترتب وجودا وعدما على الشرط والمانع ، فالمصحح لاستصحاب السفر ليس هو شرطيته لوجوب القصر ، بل نفس وجوب القصر ، كما أن المصحح لاستصحاب النشوز هو نفس عدم وجوب الإنفاق لا مانعيته من الوجوب المذكور ، لأنهما أثر للمستصحب شرعا.

لكن ما ذكره قدّس سرّه بين القسمين غير تام في نفسه ، بل الظاهر أن الشرطية والمانعية في القسمين معا من الامور الانتزاعية التي لا تنالها يد الجعل لا أصلا ولا تبعا ، فليست هي من الآثار المصححة لاستصحاب موضوعها ، كما لا مجال لتصحيح الاستصحاب المذكور بلحاظ منشأ انتزاع الشرطية والمانعية ، وهو وجوب المقيد بالشرط وعدم المانع ، لأنه وإن كان مجعولا شرعيا إلا أنه ليس من آثار وجود شرط المكلف به ومانعة ، فوجوب الصلاة المقيدة بالطهارة أو عدم الحدث ليس من آثار الطهارة أو عدم الحدث ، بل هو تابع لتحقق سببه وشرطه كالبلوغ والوقت وغيرهما ، فقد يكون متيقنا تبعا لها مع العلم بعدم الطهارة أو الحدث ، فضلا عن الشك فيهما.

فالأولى تصحيح استصحاب الشروط والموانع ونحوها بما ذكرناه آنفا من أنه لا يعتبر في صحة الاستصحاب كون المستصحب تمام الموضوع للأثر شرعا أو للعمل عقلا ، بل يكفي كونه بعنوانه دخيلا في ترتب الأثر الشرعي ، أو في منشأ العمل عقلا ، وإن توقف على انضمام غيره إليه.

ولا يفرق في ذلك بين الشرط والمانع للتكليف والشرط والمانع للمكلف به.

غايته أن ما يتعلق بالتكليف دخيل في الأثر الشرعي ، وما يتعلق بالمكلف به دخيل في مقام العمل عقلا ، لرجوعه إلى إحراز قيود الامتثال ، على ما تقدم توضيحه.

١٤٩

الأمر السادس : يكفي في جريان الاستصحاب أن يكون لبقاء المستصحب أثر في مقام العمل سواء كان تعلق العمل به حين الشك في البقاء ـ كما في استصحاب طهارة الثوب لإثبات مشروعية الدخول في الصلاة به ـ أم بعده ـ كما في موارد الشك في تأخر الحادث ـ أم حين اليقين بالحدوث ـ كما في استصحاب بقاء الدم ثلاثة أيام لترتيب آثار الحيض بمجرد رؤيته ـ أم قبله ـ كما لو وجب تهيئة الطعام للضيف إن كان يبقى إلى الظهر ، وعلم يوم الخميس بمجيئه يوم الجمعة وشك في بقائه إلى الظهر ، فإن استصحاب بقائه للظهر موجب لتنجز وجوب تهيئة الطعام ، ولو بالمحافظة على مقدماته المفوتة ـ كل ذلك لعموم دليل الاستصحاب بعد تحقق أركانه من اليقين بالحدوث والشك في البقاء ، وترتب العمل الرافع للغوية.

ومن هنا ذهب غير واحد لجريان الاستصحاب في الامور المستقبلة.

ودعوى : انصرافه لصورة احتمال فعلية المشكوك ولو من جهة المورد.

مدفوعة : بأنه لا وجه للانصراف المذكور ، ولا سيما بعد كون القضية ارتكازية شاملة للجميع. كيف! ولازم ذلك اختصاصه بالصورة الأولى وعدم جريانه في الصورة الثانية ، لفرض العلم بارتفاع المشكوك فيها.

وإلحاقها بالصورة الأولى دون الأخيرتين ، تحكم بعد اختصاص المورد بالصورة الأولى ، واشتراك الجميع في الدخول تحت العموم الارتكازي.

الأمر السابع : اشتهر في كلام المتأخرين الفرق بين الأمارة والأصل في الحجية في لازم المؤدى كما أشرنا إليه آنفا.

وقد تصدى غير واحد لبيان الفرق بينهما في ذلك ، فذكر بعض الأعاظم قدّس سرّه لذلك وجها طويلا أسهب في ذكر مقدماته ..

وحاصله : أن مفاد أدلة اعتبار الأمارة تتميم كشفها وجعلها علما تعبدا بالإضافة إلى المؤدى ، فتترتب عليها آثار العلم به ، فكما كان العلم الحقيقي

١٥٠

بشيء مثبتا لآثاره ولوازمه وملزوماته مهما تعددت الوسائط ، فكذلك قيام الأمارة عليه ، بخلاف الأصول ، فإن أدلة اعتبارها لا تقتضي الا التعبد بمؤدياتها من دون أن تقتضي تتميم كشفها وجعلها علما ، لتشارك العلم في ذلك.

وفيه .. أولا : أنه ليس مفاد أدلة اعتبار الأمارة تتميم كشفها ولا جعلها علما تعبدا ، بل مجرد جعل حجيتها ، كما تقدم غير مرة ، وأوضحناه في مبحث القطع الموضوعي. فراجع.

وثانيا : أن إثبات العلم بالشيء لجميع أطرافه إنما هو بضميمة التلازم بين العلم بالشيء والعلم بلازمه بعد فرض الالتفات للملازمة ، والتلازم المذكور مختص بالعلم الوجداني ، دون العلم التعبدي المفروض ، بل هو تابع لدليل التعبد ، فمع فرض اختصاصه بالمؤدى لا وجه للتعدي للازم.

ولذا لا إشكال في إمكان التفكيك في حجية الأمارة بين المتلازمات ، لاختصاص دليل الحجية ببعضها ، كما في الظن بالقبلة الذي لا يلزم من حجيته حجية الظن بالوقت وإن استلزمه ، وكما في الإقرار ، بل يمكن التفكيك في الحجية حتى في اللوازم الشرعية ، كما في البينة التي قد يثبت بها حق الناس دون حق الله تعالى.

أما المحقق الخراساني قدّس سرّه فقد ذكر أن الأمارة لما كانت مبنية على الحكاية فهي كما تحكى عن المؤدى تحكي عن أطرافه من ملزومه ولوازمه ، ومقتضى إطلاق دليل حجيتها لزوم تصديقها في تمام ما تحكي عنه ، بخلاف الأصل ، فإنه لا يبتني إلا على محض التعبد الملزم بالاقتصار على مورده ، وهو المؤدى ، والتعدي إلى أثره الشرعي إنما هو بضميمة الملازمة بين التعبد بالشيء والتعبد بأثره ـ كما تقدم ـ فيلزم الاقتصار على مورد الملازمة المذكورة ، وهو الأثر الشرعي.

وما ذكره قدّس سرّه راجع إلى إمكان حجية الأمارة في لازم مؤداها تبعا لإطلاق

١٥١

دليل حجيتها.

وهو في محله لو فرض تمامية الإطلاق ، بأن يستفاد منه حجية الأمارة في تمام ما تكشف عنه ولو بضميمة الملازمة بين الظن بالشيء والظن بلازمه ، فإن الأمارة إنما تحكي بالذات عن نفس المؤدى ، لأنها مسوقة له ، وإنما يستفاد منها اللازم بضميمة التلازم بين الظن بالشيء والظن بلازمه ، فلو فرض إطلاق حجية الأمارة بالنحو الشامل لهذه الإفادة تعين البناء على حجيتها في اللازم.

لكن لا طريق لتمامية ذلك ..

أولا : لأن مبنى حجية الأمارة غالبا على إفادتها للظن نوعا لا شخصا ، واللوازم المذكورة غالبا لوازم اتفاقية شخصية ، فلا تكشف الأمارة عنها نوعا.

وثانيا : لأنه لو فرض كاشفيتها عنها بالوجه المعتبر فيها ، إما لكون مبنى حجية الأمارة على إفادتها للظن الشخصي ، المستلزم للظن باللازم وإن كان لزومه اتفاقيا شخصيا ، أو لكون اللازم نوعيا فيتبع الملزوم في حصول الظن نوعا به من الأمارة ، إلا أنه قد لا يكون لدليل الأمارة إطلاق يقتضي حجيتها في تمام ما هي كاشفة عنه وموجبة للظن به شخصا أو نوعا ، بل تختص حجيتها بعناوين وجهات خاصة لا تنطبق على اللوازم ، فحجية الإقرار تختص بالحق الثابت على المقر ، وحجية اليد تختص بالملكية ، وحجية الفتوى تختص بالحكم الشرعي ، إلى غير ذلك مما يختص بالمؤدى دون اللازم.

ولو فرض عموم دليل الحجية للازم في مورد كان حجة بلا كلام ، وخرج عما نحن فيه ، إذ لا يراد بالمؤدى إلا ما قام الدليل الخاص على حجية الأمارة فيه ، وإلا فلا معنى لكون الملكية مؤدى لليد لو لا حجيتها عليها ، ومحل الكلام إنما هو في استفادة حجية الأمارة في اللازم لمحض ملازمتها لما هي حجة فيه ، لا لقيام الدليل على حجيته فيه بالخصوص. وإثبات ذلك في غاية الإشكال ، بل المنع.

١٥٢

نعم ، مؤدى الكلام والخبر هو مضمونه المحكي به والمسوق له وإن لم يكن حجة فيه.

ومن هنا فقد ينزل ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه على خصوص ما كان مبنى طريقيته على حكايته وأدائه للمراد وإبرازه له ، كالخبر ونحوه ، دون ما يبتني على محض الكاشفية ، كاليد بالإضافة إلى الملكية.

بدعوى : أن مثل ذلك كما يحكي عن المؤدى يحكي عن لازمه ، فإطلاق دليل وجوب التصديق فيها يقتضي وجوب تصديقها في تمام ما تحكي عنه وإن كان مدلولا التزاميا.

ويشكل .. أولا : بأنه قد لا يكون لدليل الحجية إطلاق في وجوب التصديق ، لأخذ عنوان خاص فيه لا ينطبق على تمام ما يحكى عنه كالإقرار الذي كان مفاد دليل حجيته جوازه على المقر ، وهو لا يقتضي إلا تصديقه في ثبوت الحق عليه ، دون غيره مما يحكي عنه الخبر ، وإن كان هو المؤدى المطابقي له.

وثانيا : بأن موضوع التصديق لما كان هو الخبر والنبأ والشهادة ونحوها ، اختص بما يكون مخبرا عنه ، مما هو مؤدى الكلام وقد ساق المتكلم الكلام لبيانه وأبرزه به ، سواء كان مدلولا مطابقيا أم التزاميا ، دون غيره من اللوازم الواقعية التي لم يقصد المتكلم إبرازها بالكلام ..

وأما ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه من توجيه العموم لذلك ..

تارة : بأن القصد إنما يعتبر في الدلالة التصديقية الموجبة للإذعان بكون المؤدى مرادا للمتكلم ، دون الدلالة التصورية التي هي عبارة عن محض استفادة الشيء من الخبر وإن لم يقصده المخبر.

واخرى : بأنه يكفي في تحقق الدلالة التصديقية بالإضافة إلى اللوازم والملزومات مجرد التفات المتكلم والمخبر إلى أن لكلامه لوازم وملزومات ولو

١٥٣

إجمالا ، ولا يحتاج إلى قصد كل منها تفصيلا ، حيث يكون كل منها مخبرا عنه بعنوانه الإجمالي المذكور.

فهو مندفع بكلا وجهيه.

أما الأول ، فلأن الدلالة التصورية المذكورة لا تكفي في صدق العناوين التي اشتملت عليها الأدلة ، كعنوان النبأ والخبر والتصديق ونحوهما مما لا يصدق بالإضافة إلى ما لم يقصد المخبر إفادته بالخبر.

وأما الثاني ، فلأن مجرد العلم بوجود اللوازم ولو تفصيلا لا يكفي في صدق الخبر بالإضافة إليها ، بل لا بد من قصد الإخبار عنها وإفادتها بالكلام ، كما في موارد الكناية.

على أنه لو تم ذلك فإنما يكون الإخبار عنها بعنوان كونها لازم المؤدى ، لا بعناوينها المأخوذة في الأثر الشرعي ، فترتيب الأثر مبني على حجية الخبر في اللازم الذي لم يخبر عنه ، التي هي محل الكلام.

فالعمدة في وجه ذلك : أن الأدلة وإن اشتملت على عنوان التصديق والنبأ والخبر ونحوها مما يختص بما يقصد الإخبار عنه ، إلا أن المستفاد منها لما كان هو إمضاء سيرة العقلاء الارتكازية على العمل بخبر الثقة والجري معهم على عدم الاعتناء باحتمال تعمد الكذب أو الخطأ ، كان اللازم هو الرجوع في سعة موضوع الحجية إلى العقلاء ، وحيث كان بناؤهم على التعويل على الخبر في اللوازم والملزومات وإن لم يقصد المتكلم الإخبار عنها ، تبعا للتعويل عليه في المؤدى ، كان اللازم البناء على عموم حجيتها شرعا أيضا وعدم الجمود على عنوان التصديق.

لكن ذلك مختص بخبر الثقة ونحوه ، دون غيره مما لا يبتني على إمضاء سيرة العقلاء ، بل على حكم الشارع تعبدا بتصديق الخبر في خصوص مورد ،

١٥٤

كتصديق المرأة في العدة والحيض (١) وتصديق البائع في الكيل (٢).

فضلا عما لم يشتمل دليله على عنوان التصديق ، كالإقرار ، أو كانت حجيته ببناء العقلاء في خصوص مورد كاليد التي هي أمارة على الملكية ، والظواهر. فإن اللازم في جميع ذلك الرجوع لمقتضى الأدلة سعة وضيقا ، ولا ضابط لذلك.

ومن هنا ذكرنا في محله أن العام وإن كان حجة في العموم ، إلا أنه ليس حجة في لازمه ، وهو انتفاء عنوانه في مورد انتفاء حكمه ، وإن كان حجة في إثبات لازم الحكم في مورده ، كوجوب مقدمته ـ بناء على الملازمة ـ لأن المتيقن من بناء العقلاء على العمل بالعام الذي هو الدليل على حجية العموم هو رجوعهم إليه في إثبات حكم العام ولوازمه في مورد تحقق عنوانه ، لا في نفي عنوان العام في مورد انتفاء حكمه.

وبهذا ظهر أن البناء على حجية الاستصحاب من باب الظن النوعي بنحو يلحق بالامارات لا يستلزم حجيته في لازم مجراه ، لإمكان اقتصار العقلاء في العمل بالظن المذكور على خصوص مؤداه دون لوازمه.

وما يظهر من بعضهم من استلزام ذلك لحجيته في اللوازم ، لأن الظن بالملزوم مستلزم للظن باللازم في غير محله.

__________________

(١) يراجع الوسائل ج : ١٥ ، باب ٢٤ من ابواب العدد من كتاب الطلاق.

(٢) راجع الوسائل ج : ١٣ ، باب ٥ من ابواب عقد البيع وشروطه.

١٥٥

تتميم وتلخيص

قد ظهر من جميع ما تقدم أن التعبد بالشيء بنفسه بالأمارة أو الأصل لا يقتضي التعبد بلوازمه غير الشرعية ولا بما يترتب عليها من الآثار الشرعية. إلا أن يدل عليه الدليل بالخصوص ، إما لعموم دليل الحجية للوازم ، كما تقدم في بعض الأمارات ، أو لورود التعبد في خصوص مورد ينحصر فيه الأثر بذلك ، حيث يتعين الالتزام به رفعا للغوية ، بخلاف ما إذا كان الدليل هو الإطلاق ، حيث ترتفع اللغوية فيه بتنزيله على خصوص الموارد التي يكون للأمر المتعبد به أثر شرعي بلا واسطة.

كما أن إطلاق التعبد بالشيء يقتضي التعبد بجميع آثاره الشرعية ، بضميمة الملازمة العرفية التي تقدم التعرض لها آنفا.

إلا أن هذا لا ينافي قيام الدليل الخاص على التفكيك بين الآثار المذكورة وعدم التعبد ببعضها ، مثل ما قيل من ثبوت الضمان بشهادة رجل وامرأتين بالسرقة دون الحد. فلاحظ.

١٥٦

المبحث الثاني

في عدم المعارض

من الظاهر أن فعلية التعبد بمقتضى الأصل أو الأمارة مشروطة بعد تحقق موضوعها بعدم ما يكون مقدما عليه رتبة في مقام العمل ، كما أنها مشروطة بعدم المعارض الراجح أو المكافئ ، على ما يأتي تفصيله في مبحث التعارض إن شاء الله تعالى.

وحيث كان الاستصحاب يشارك بقية أنحاء التعبد في ذلك كان المهم النظر في نسبته إلى بقية أنحاء التعبد. إلا أنه حيث كان الكلام في ذلك يبتني ..

تارة : على كبريات عامة يشارك الاستصحاب فيها غيره ، كتقديم السببي على المسببي ، والتعبد الشرعي على الأصل العقلي.

واخرى : على ما يخص الاستصحاب ، لخصوصية في موضوعه ودليله.

كان المناسب إيكال الجهة الأولى إلى ما يأتي في مباحث التعارض إن شاء الله تعالى ، للاستغناء به في المقام ، ويخصّ الكلام في هذا المبحث بالجهة الثانية.

فاعلم أنه اشتهر بين متأخري الأصحاب تأخر الاستصحاب عن سائر الأمارات والطرق ، وتقدمه على سائر الأصول التي اخذ في موضوعها محض الشك ، كأصالتي البراءة والطهارة وغيرهما.

ولا يبعد بناء القدماء بحسب ارتكازاتهم على ذلك أيضا ، وإن لم يتوجهوا لضبطه ، حيث أوجب ذلك غفلتهم واضطرابهم في مقام العمل والاستدلال في

١٥٧

المسائل الفرعية ، حيث قد يعارضون الدليل بالاستصحاب أو يرجحونه عليه ، كما قد يعارضون الاستصحاب بغيره من الأصول أو يرجحونها عليه ، وإلا فمن البعيد خروجهم عن الضابط المذكور والتزامهم بلوازم ذلك.

وكيف كان ، فالكلام يقع في أمرين ..

الأمر الأول : في تقديم الأمارة والطريق على الاستصحاب.

ولهم في ذلك مبان ثلاثة ..

الأول : الورود الراجع إلى أن دليل حجية الأمارة موجب لورودها على الاستصحاب ، ورفعها لموضوعه حقيقة.

وقد يوجه ذلك بدعوى : أن المراد بالشك الذي تضمن الاستصحاب عدم نقضه لليقين ليس هو الحالة النفسية المقابلة لليقين التي لا ترتفع بقيام الحجة ، بل إما خصوص التحير وعدم الدليل ، أو ما يقابل اليقين ولو بالحكم الظاهري. ويكفي في ارتفاع الشك بأحد المعنيين المذكورين حقيقة قيام الحجة ، لانها دليل رافع للتحير موجب لليقين بالحكم الظاهري.

وتندفع : بأن حمل الشك على ذلك مخالف للظاهر ، لظهور مقابلته لليقين في كبرى الاستصحاب في كون المراد به الحالة النفسية المقابلة لليقين المتحدة معه موضوعا ، كما هو معناه لغة وعرفا ، على ما تقدم في الأمر الثاني من الفصل الأول في أركان الاستصحاب.

وأما ما تقدم في الأمر الأول من الفصل المذكور من أن اليقين لم يؤخذ في موضوع الاستصحاب بما هو صفة خاصة ، بل بما هو طريق صالح لأن يعتمد عليه ، ومن ثمّ يتعين التعدي لسائر الطرق ، وبه تم توجيه استصحاب مؤدى الطرق.

فهو انما يقتضي حمل الشك بمقتضى المقابلة على كونه مأخوذا لا بخصوصه وبما هو صفة خاصة ، بل بما هو أمر غير حجة ولا يعتمد عليه في

١٥٨

نفسه ، ومن الظاهر أن الشك بتمام أفراده كذلك ، وليس منه ما هو حجة في نفسه ، لينصرف عنه الشك بمقتضى القرينة المذكورة. وقيام الطريق المعتبر لا ينافي ذلك ليرتفع به موضوع الاستصحاب ، بل الاعتماد ـ في ظرف قيام الطريق ـ على الطريق ، لا على الشك المقارن له.

وغاية ما يقتضيه الوجه المشار إليه هو التعدي لغير الشك ـ كالقياس ـ مما لا يصلح لأن يعتمد عليه في نفسه ، فلا يصلح لنقض اليقين ، كالشك المقارن له ، وليس هو موردا للإشكال.

بل لو فرض كون مفاد الدليل جعل حجية نفس الشك ـ مثل ما دل على حجية الشك بالركعات ـ فهو مخصص لكبرى الاستصحاب ، لأن عدم نقض اليقين بالشك مستلزم لعدم حجيته ، فدليل حجية بعض أفراده مخصص لذلك. نعم ، لو فرض هناك شك يكون عند العقلاء حجة بنفسه وليس حجة تعبدية كانه مقتضى ما تقدم انصراف الشك في المقام عنه. فلاحظ.

وبالجملة : لا مجال لدعوى : ارتفاع موضوع الاستصحاب حقيقة بقيام الطريق المعتبر ، ليكون الطريق واردا على الاستصحاب ، لفرض بقاء الشك وعدم اعتباره معه ، فلا مجال لنقض اليقين به ، بل يلزم العمل معه على مقتضى اليقين بالسابق ، لإطلاق دليل الاستصحاب ، فيعارض الطريق المذكور.

ومما ذكرنا يظهر الإشكال في ما ذكره المحقق الخراساني قدّس سرّه في توجيه الورود في المقام من أن رفع اليد عن اليقين السابق بسبب قيام أمارة معتبرة على خلافه ليس من نقض اليقين بالشك ، بل باليقين.

فإنه إن رجع إلى أن المراد بالشك صورة عدم اليقين ولو بالحكم الظاهري ، فقد عرفت الإشكال فيه.

وإن رجع إلى أن النقض ليس بالشك ، بل باليقين بالحكم الظاهري المسبب عن قيام الأمارة والمقارن للشك.

١٥٩

فهو ـ مع عدم صلوحه لتوجيه الورود ، لعدم منافاته لبقاء موضوع الاستصحاب ، وهو الشك ـ موقوف على فعلية حجية الأمارة ، الموقوفة على عدم جريان الاستصحاب ، ولا وجه له مع فرض بقاء موضوع الاستصحاب ، وهو الشك وعموم دليله.

فلعل الأولى توجيه تقديم الطرق والأمارات على الاستصحاب بوجه يرجع إلى الورود بالتأمل ..

وحاصله : أن مقتضى أخبار الاستصحاب النهي عن نقض اليقين بالشك ، لا عن نقضه مع الشك ولو كان بأمر آخر غيره ، ومن الظاهر أن مقتضى دليل حجية الأمارة ليس هو نقض اليقين بالشك المقارن لها لينافي عموم الاستصحاب ، بل نقضه بالأمارة بخصوصيتها ، فلا تنافي أخبار الاستصحاب بوجه. فهو نظير قولنا : لا تنقض خبر زيد بخبر عمرو ، الذي لا يمنع من نقض خبر زيد بخبر بكر وإن قارن خبر عمرو.

إن قلت : هذا ينافي ما في ذيل صحيحة زرارة الأولى من قوله عليه السّلام : «وإنما تنقضه [ولكن ينقضه خ. ل] بيقين آخر» لظهوره في حصر الناقض لليقين باليقين وعدم انتقاضه بغيره وإن كان أمارة.

قلت : تقدم أن أخذ اليقين في موضوع الاستصحاب ليس بما هو صفة خاصة ، بل بما هو طريق تقوم مقامه سائر الطرق المعتبرة ، وذلك جار في اليقين الذي تضمنه الذيل المذكور ، لوضوح بعد التفكيك بينهما فيه.

على أنه لو غض النظر عن ذلك تعين حمل الحصر المذكور على كونه حصرا إضافيا بلحاظ حالتي المكلف النفسية من اليقين والشك ، لا حقيقيا ، ليعم الأمارة الخارجة عن حالات المكلف ، فهو أمر ارتكازي وارد مورد التأكيد لما تضمنه الصدر من عدم نقض اليقين بالشك ، لا لبيان أمر زائد على ذلك ، هو عدم صلوح غير اليقين والشك لنقض اليقين ، ليكون أمرا تعبديا رادعا عما عليه

١٦٠