المحكم في أصول الفقه - ج ٥

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٨

أولا : بمنع حصول الظن الشخصي في المقام من الحيثية المذكورة ، بل يختلف حصوله باختلاف الموارد جدا. وعدم الجهة الارتكازية المقتضية لإفادته الظن نوعا.

وقد أطال في ذلك شيخنا الأعظم قدّس سرّه بما لا مجال لمتابعته فيه بعد وضوح الحال.

وثانيا : أنه لا مجال لإثبات حجية الظن المذكور ، لا ببناء العقلاء ، لما تقدم ، ولا بحكم العقل ، إلا بناء على تمامية دليل الانسداد ، الخارج عن محل الكلام.

الأمر الرابع : الأخبار. قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه : «وأول من تمسك بهذه الأخبار ـ في ما وجدته ـ والد الشيخ البهائي ـ في ما حكي عنه ـ في العقد الطهماسي ، وتبعه صاحب الذخيرة ، وشارح الدروس ، وشاع بين من تأخر عنهم ...».

وهي جملة من النصوص ..

الأول : صحيحة زرارة ، قلت له : الرجل ينام وهو على وضوء أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال : «يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب والأذن ، فإذا نامت العين والاذن والقلب فقد وجب الوضوء. قلت : فإن حرك على [إلى. يب (١)] جنبه شيء ولم يعلم به؟. قال : لا حتى يستيقن أنه قد نام ، حتى يجيء من ذلك أمر بيّن ، وإلا فإنه على يقين من وضوئه ولا تنقض [ينقض اليقين. يب] اليقين أبدا بالشك ، وإنما تنقضه [ولكن ينقضه. يب] بيقين آخر» (٢)

وإضمارها لا يمنع من الاستدلال بها بعد ذكر الأصحاب لها في كتب أخبار الأئمة عليهم السّلام ، ولا سيما بعد كون الراوي لها زرارة ، حيث لا يحتمل أن يأخذ

__________________

(١) هذه وما بعدها إشارة إلى نسخة التهذيب.

(٢) الوسائل ج ١ ، باب : ١ من أبواب نواقض الوضوء ، حديث : ١.

٢١

هذه الخصوصيات من غير الإمام عليه السّلام.

على أنه قد رواها عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام في الحدائق ، ومحكي الفوائد للسيد بحر العلوم ، والفوائد المدنية للاسترآبادي. وإن لم يظهر لنا مأخذ ذلك بعد روايتها مضمرة في التهذيب والوسائل.

ولا ريب في دلالتها على الرجوع للاستصحاب في موردها ، وإنما الكلام في دلالتها على الرجوع إليه في جميع الموارد ، كما استدل بها عليه غير واحد.

وتوضيح ذلك : أن قوله عليه السّلام : «وإلا ...» لما كان راجعا إلى جملة شرطية تقديرها : وإن لم يجئ من ذلك أمر بيّن ... فقد وقع الكلام في جزاء الشرطية المذكورة ، وقد ذكر في كلماتهم ثلاثة وجوه ...

الأول : أن يكون محذوفا مقدرا اقيمت علته مقامه ، والتقدير : وإلا لا يجب الوضوء ؛ فإنه على يقين من وضوئه ...

الثاني : أن يكون هو قوله عليه السّلام : «فإنه على يقين من وضوئه» بأن تكون جملة إنشائية قصد بها بيان لزوم ترتيب أثر اليقين بالوضوء في فرض الشك المذكور.

وربما قيل : انها على ظاهرها في الأخبار ، على ما يأتي الكلام فيه.

الثالث : أن يكون هو قوله عليه السّلام : «ولا ينقض اليقين بالشك أبدا» ويكون قوله عليه السّلام : «فإنه على يقين من وضوئه» توطئة لذلك.

وظاهر شيخنا الأعظم قدّس سرّه تقريب الوجه الأول ، بل هو الذي أصر عليه جماعة ممن تأخر عنه.

ونظّر له شيخنا الأعظم قدّس سرّه ببعض الآيات ، كقوله تعالى : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ)(١) ، وقوله تعالى : (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ)(٢).

__________________

(١) آل عمران : ٩٧.

(٢) يوسف : ٧٧.

٢٢

واستشكل فيه بعض الأعاظم قدّس سرّه : ـ على ما في تقرير درسه ـ بأن لازمه التكرار في الجواب ، وبيان حكم المسئول عنه مرتين ، لأن الحكم بعدم إعادة الوضوء قد ذكر أولا بقوله : «لا حتى يستيقن ...» ، وهو لا يخلو عن حزازة.

ودعوى : أنه لا تكرار مع فرض حذفه وإقامة العلة مقامه.

مدفوعة : بأن المحذور ليس في تكرار ذكره ، بل في تكرار بيانه ، فإن حذفه وإقامة العلة مقامه لا ينفك عن قصده بالبيان.

هذا ، وقد أجاب عن ذلك شيخنا الاستاذ قدّس سرّه : بأن تكرار الحكم بعدم إعادة الوضوء ليس مقصودا بنفسه ، كي يكون بلا فائدة ، بل تمهيد لبيان علته والاستدلال عليه.

وما ذكره قدّس سرّه وإن كان كافيا في الجواب عن الإشكال ، إلا أن الظاهر أن دعوى الحذف لا تخلو عن تسامح للمحافظة على القواعد العربية في فرض الجزاء جملة واحدة.

والتأمل في هذا النحو من الاستعمالات قاض بكون العلة بنفسها هي الجزاء ، وأن المراد بذكرها التنبيه إليها ـ لكون الشرط بنفسه سببا في الحاجة إليها ـ ليتوصل إلى مقتضاها ويتضح تحقق الشرط بسببها ، فكأنه قيل : وإن لم يجئ من ذلك أمر بين فليلتفت إلى أنه على يقين من وضوئه ولا ... ، فالجزاء هو علة الحكم بنفسها وما هو المقصود من ذكرها استيضاح الحكم ، لا نفسه ، ليلزم التكرار.

وهذا هو الظاهر في جميع النظائر لكون العلة رافعة إلى ما قد يتوهم حصوله بسبب الشرط. فلاحظ.

أما بعض الأعاظم قدّس سرّه فقد اختار الوجه الثاني ، بتأويل الجملة الخبرية بجملة إنشائية ، وكأنّ مراده بذلك أن المراد بقوله عليه السّلام : «فإنه على يقين من وضوئه» ليس هو الإخبار عن سبق اليقين منه بالوضوء ، بل تنزيله شرعا منزلة

٢٣

المتيقن في لزوم البناء على بقاء الوضوء.

وفيه .. أولا : أن حمل الجملة المذكورة على الإنشاء بعيد عن ظاهرها جدا ، إذ لم يعهد جعل اليقين بنفسه وادعائه بمثل هذه الجملة.

وثانيا : أن مرجع ذلك إلى عدم وجوب الوضوء المبين أولا من دون زيادة فائدة ، فيلزم التكرار الذي فرّ منه.

وثالثا : أن ذلك لا يناسب قوله عليه السّلام بعد ذلك : «ولا ينقض اليقين أبدا بالشك».

إذ المراد باليقين فيه إن كان هو التعبدي ، بجعل هذه الجملة مؤكدة لما قبلها ، فعدم نقضه بالشك لازم لفرضه. مضافا إلى ما فيه من التفكيك بين اليقين ومقابله ، وهو الشك ، الذي لا إشكال في كون المراد منه الحقيقي.

وإن كان هو اليقين الحقيقي السابق ، بجعلها مفسرة لما قبلها ، فهو لا يخلو عن تكلف ظاهر مع ما فيه من التفكيك بين اليقينين في الجملتين.

بل الوجه المذكور لا يناسب ما ذكره في صدر كلامه ، من كون الجملتين قياسا من الشكل الأول ، لوضوح أن ذلك موقوف على اتحاد المراد باليقين في الجملتين ـ وهو اليقين الحقيقي السابق ـ الملزم بكون الجملة الاولى خبرية محضة ، وإلا كانت الصغرى عين النتيجة ، كما نبه له شيخنا الاستاذ قدّس سرّه.

هذا ، وقد احتمل بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه إبقاء الفقرة المذكورة على ظاهرها في الإخبار ، مع كونها هي الجزاء بنفسها.

قال مقرر درسه : «فيكون المستفاد منه بدلالة الاقتضاء أنه إن لم يستيقن بالنوم فهو متيقن بالوضوء ، ولا ينقض اليقين بالشك ، وإلا فلا ترتب بين كونه شاكا في النوم وكونه متيقنا بالوضوء».

وفيه : أن ما استفاده بدلالة الاقتضاء مصرح به في الحديث الشريف دون أن يتضح وجه تركيب الكلام.

٢٤

ومثله ما عن بعض الأعاظم قدّس سرّه (١) ـ وإن لم أتحققه ـ من أن الجملة المذكورة خبرية وكلتا الجملتين جزاء.

إذ لم يعهد جعل الجزاء جملتين ، إلا أن يرجع إلى ما سبق منا من ورودهما مورد التعليل.

وأما الوجه الثالث فلم أعثر عاجلا على من التزم به ، وإنما ذكر احتمالا في كلامهم.

ولا مجال له ، لأن توطئة الحكم راجعة إلى تعليله وبيان موضوعه ، نظير قولنا : إن جاء زيد فحيث كان عالما يجب إكرامه ، وهو لا يناسب عطف الجملة الاولى على الثانية ، بل ربطهما بما يقتضي التفريع ، كما في المثال المذكور.

إذا عرفت هذا ، فاعلم أن الوجه الثالث يقتضي عموم الرجوع للاستصحاب في جميع موارد الشك في انتقاض الوضوء ، لأن الحكم في الجزاء ـ على هذا الوجه ـ وإن اختص بالشك في انتقاض الوضوء من جهة النوم ، لأنه الموضوع في جملة الشرط ، فيلزم حمل الشك في الجزاء عليه ، كما يلزم حمل اليقين على خصوص يقين المورد ، إلا أن العلة المشار إليها في التمهيد تقتضي التعميم لجميع الموارد المذكورة ، لاشتراكها في العلة ، وهي سبق اليقين بالوضوء.

وأما التعميم لغير الوضوء فلا طريق له إلا دعوى : أن المناسبات الارتكازية تقتضي إلغاء خصوصيته ، لعدم دخلها عرفا ، ولا سيما مع إشعار قوله : «أبدا» في عدم شأنية اليقين للانتقاض بالشك.

إلا أن في بلوغ ذلك مرتبة الظهور الحجة إشكالا.

وأما دعوى : أنه مقتضى ظهور التعليل في كونه ارتكازيا ، لعدم خصوصية

__________________

(١) نسب الى بعض الأعاظم في تقرير درس شيخنا المعاصر الميرزا باقر الزنجاني قدّس سرّه. (منه عفي عنه).

٢٥

الوضوء ارتكازا في منشأ الحكم.

فمدفوعة : بعدم وضوح ظهور التركيب المذكور في التعليل المقصود به تقريب الحكم إلى ذهن السامع ليتقبله ، بل مجرد التفريع الذي يكفي فيه تفرع الحكم على موضوعه ، ولا يعتبر في الموضوع أن يكون ارتكازيا.

وأما الوجه الثاني فهو يقتضي الرجوع للاستصحاب في خصوص مورد الشك في النوم ، لأنه الموضوع في الشرطية ، دون مطلق الشك في انتقاض الوضوء ، فضلا عن مطلق الشك في انتقاض الحالة السابقة.

نعم ، الفقرة الثانية تقتضي عموم الرجوع للاستصحاب لو كانت جملة مستقلة غير مرتبطة بما قبلها ، قد اريد بها اليقين بالحدوث والشك في البقاء.

إلا أن الوجه المذكور لا يقتضي ذلك ، بل يقتضي كونها مؤكدة أو مفسرة لما قبلها ، فلا بد من الاقتصار على مقداره ولو لأنه المتيقن.

لكن أصر بعض الأعاظم قدّس سرّه على استفادة عموم جريان الاستصحاب مع التزامه بالوجه المذكور ، بدعوى : عدم دخل التقييد بالوضوء في الحكم ، وإنما ذكر لخصوصية مورد السؤال. بل ذكر أنه لا مجال لاحتمال دخل الخصوصية ، كي يقال : انه يكفي الاحتمال في سقوط الاستدلال.

ولا يرجع ما ذكره إلى محصل ظاهر ، فإن اليقين بالوضوء ـ على الوجه المذكور ـ ليس موضوعا للحكم ليمكن إلغاء خصوصية الوضوء ، بل هو بنفسه محكوم به ، فعمومه تابع لعموم موضوعه ، وحيث كان موضوع الجزاء تابعا لموضوع الشرط تعين اختصاص الحكم بالشك في النوم ، كما ذكرنا.

والقطع بعدم دخل الخصوصية ما لم يستند إلى ظهور الكلام حجة على القاطع ، ولا يكون حجة له في الخصام كما لا يكون موردا للنقض والابرام.

هذا ، وحيث ظهر مما تقدم ضعف هذين الوجهين فلا أهمية لقصور مقتضاهما ، بل يلزم النظر في مقتضى الوجه الأول الراجع إلى كون ذكر الجملتين

٢٦

لتعليل الحكم بعدم وجوب الوضوء ، إما لكون التعليل بنفسه جزاء للشرط ـ كما ذكرنا ـ أو لقيامه مقام الجزاء بعد حذفه ، كما ذكره مشايخنا العظام ، نفعنا الله تعالى بإفاداتهم.

ومن الظاهر أن صلوح الجملتين للتعليل بلحاظ كونهما قياسا من الشكل الأول منتجا للمطلوب ، ومقتضى عموم كبرى القياس المذكور ، وهي قوله عليه السّلام : «ولا ينقض اليقين أبدا بالشك» جريان الاستصحاب مطلقا من دون خصوصية للشك في الوضوء ، فضلا عن خصوصية الشك في النوم.

إن قلت : هذا موقوف على كون اللام في (اليقين) الذي تضمنته الكبرى للجنس لا للعهد ، وإلا كان مختصا باليقين بالوضوء.

قلت : لا مجال للعهد في المقام ، لأن اليقين في الصغرى قد اخذ محكوما به ، ومن الظاهر أن الكم تابع لموضوعه سعة وضيقا ، وحيث كان موضوع الصغرى هو موضوع جملة الشرط ، وهو الشك في النوم ، فاليقين المحكوم به هو اليقين بالوضوء في مورد الشك في النوم ، لا مطلقا ، فلو كانت اللام للعهد كان موضوع القضية الثانية هو خصوص اليقين المذكور ، وخرجت عن كونها كبرى عامة واردة مورد الاستدلال ، بل تكون عين الدعوى وكانت تكرارا لها من دون فائدة.

فغاية ما يمكن في توجيه دعوى اختصاص الكبرى باليقين بالوضوء هو كون اليقين في الكبرى مقيدا بالوضوء بقرينة تقييده به في الصغرى ، مع كون اللام جنسية ، ليشمل الشك من غير جهة النوم ، كما هو شأن الكبرى.

إلا أنه لا مجال له ، لأنه تقييد للإطلاق بلا ملزم ، ومجرد تقييده في الصغرى لا يقتضيه.

إن قلت : شرط القياس تكرر الأوسط في القضيتين ، وحيث كان المتكرر هنا هو اليقين فلا بد إما من إلغاء القيد المذكور في الصغرى أو المحافظة عليه

٢٧

وجعلها قرينة على التقييد في الكبرى ، وليس الأول بأولى من الثاني ، بل لا أقل من الإجمال المانع من الاستدلال.

قلت : التكرار المعتبر في انتاج القياس يعم ما إذا كان موضوع الكبرى أعم ، ولا ملزم بمطابقتهما في مثل ذلك ، كي يصلح التقييد في الصغرى للقرينية على التقييد في الكبرى ، ويخرج به عن مقتضى الإطلاق.

وما التزم به من المناطقة من تحليل القياس في مثل ذلك إلى قياسين محض اصطلاح لا أثر له في الاستدلال ولا في ظهور الكلام ، لينافي ما ذكرنا.

فغاية ما يلزم في المقام كون التقييد في الصغرى غير دخيل في الاستدلال ، وليس هو محذورا ، لعدم لزوم لغويته بعد كونه مفيدا لمضمونه مرادا بالبيان ، فلا مخرج عن الإطلاق.

ومن ثمّ كان الظاهر في أمثال هذا التركيب عموم الكبرى ، كما في قولنا : زيد عالم بالنحو ، والعالم في هذا الزمان يجب إكرامه ، وعمرو أخوك الأوسط ، والأخ ينبغي الإحسان إليه ، وهذا الكتاب مفيد للمبتدئ ، والكتاب المفيد يلزم نشره ، إلى غير ذلك.

مضافا إلى ما أشار إليه غير واحد من أن التعميم هو المناسب لكون التعليل ارتكازيا ، لعدم خصوصية الوضوء في الجهة الارتكازية المقتضية للعمل على اليقين السابق ، فلو اخذت فيه كان التعليل تعبديا ، وهو خلاف ظاهر التعليل ، لأنه مسوق لتقريب الحكم إلى ذهن السامع ، خصوصا من مثل الإمام عليه السّلام الذي لا يكلّف بالاستدلال.

إن قلت : هذا لا يناسب ما تقدم من إنكار السيرة على الاستصحاب ، إذ وجود الجهة الارتكازية المقتضية للعمل على اليقين السابق يستلزم جري العقلاء عليها في أمورهم.

قلت : لا تتوقف ارتكازية التعليل على بلوغ الارتكاز حدا يقتضي العمل

٢٨

بنفسه ، ليكون ملازما للسيرة ، بل يكفي فيه إدراك العقلاء للجهة المناسبة للجعل الشرعي ، بحيث يكون الجعل مألوفا لهم مقبولا عندهم بسبب التعليل.

فمثلا : تعليل اعتصام ماء البئر وطهارته بزوال التغير بأن له مادة وإن كان ارتكازيا ، إلا أن الارتكاز المذكور لو لا التعليل لا يكفي في استكشاف الحكمين بنحو يخرج بهما عن عمومات الانفعال واستصحاب النجاسة.

ومن ثمّ لا نلتزم بأن مفاد التعليل في المقام إمضاء بناء العقلاء على العمل بالاستصحاب ، ليكون قاصرا عما لو علم بعدم عمل العقلاء به ، كما لو ظن بانتقاض الحالة السابقة ، بل هو حكم تعبدي للشارع يتمسك بإطلاقه في المورد المذكور ، وإن كان ارتكازيا في الجملة ، بلحاظ أن في الجري على مقتضى اليقين السابق جهة ارتكازية تناسب جعله في مقام ضرب القاعدة العملية عند الشك.

والمتحصل : أنه لا ينبغي التأمل في ظهور الكبرى المذكورة في عموم الرجوع للاستصحاب من دون خصوصية للشك في انتقاض الوضوء ، كما هو مقتضى الإطلاق المناسب للارتكاز ، ولا يصلح التقييد في الصغرى لرفع اليد عن ذلك.

وأما احتمال كون مفاد الحديث الشريف عدم نقض اليقين بالشك في الجملة على نحو سلب العموم لا عموم السلب ، كي ينفع في الرجوع للقاعدة.

فهو موقوف على كون اللام استغراقية ، بمعنى أنها بنفسها موضوعة للعموم ، ليكون تسليط النفي عليها راجعا إلى نفي مفادها ، وهو العموم ، لا جنسية لتعريف الماهية التي لا يكون نفيها إلا بنفي تمام أفرادها.

والظاهر خلافه وأن اللام للتعريف الشخصي أو الجنسي لا غير. مع أن الحمل على سلب العموم لا يناسب التأبيد الذي تضمنه الكلام ، كما لا يناسب مقام التعليل والاستدلال ، لتوقف إنتاج الشكل الأول على كلية الكبرى ، ولا ينتج مع إهمالها أو جزئيتها.

٢٩

هذا ، وقد تعرض غير واحد للكلام في فقه الحديث ، وفي وجه التمثيل باستصحاب الوضوء ، دون استصحاب عدم النوم الذي هو سببي حاكم.

والأول : ـ مع وضوحه ظاهرا ـ ليس وظيفة للأصولي.

والثاني : لا دخل له بما نحن فيه من الاستدلال على الاستصحاب ، بل يتعلق ببعض المباحث الآتية ، كالاستصحاب في العدميات ، وحكومة الأصل الموضوعي على الأصل الحكمي. ولعله يأتي الكلام في ذلك هناك. والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق.

الثاني صحيحة اخرى لزرارة ، «قلت [لأبي جعفر عليه السّلام : انه. ع (١)] أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره ، أو شيء من مني فعلّمت أثره إلى أن اصيب له الماء ، فأصبت [الماء. ع] وحضرت الصلاة ، ونسيت أن بثوبي شيئا ، وصليت ، ثم إني ذكرت بعد [ذلك. يب] قال : تعيد الصلاة وتغسله.

قلت : [فاني. يب] فإن لم أكن رأيت موضعه و [قد. ع] علمت أنه أصابه ، فطلبته فلم أقدر عليه ، فلما صليت وجدته. قال : تغسله وتعيد.

[قال :. ع] قلت : فإن ظننت انه قد اصابه ولم اتيقن ذلك ، فنظرت فلم أر [فيه. يب] شيئا ، ثم صليت فرأيت [فرأيته. ع] فيه [بعد الصلاة. ع] قال : تغسله ولا تعيد الصلاة.

قلت : لم ذلك [ولم ذاك. ع]؟ قال : لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت [نظافتك ثم شككت. ع] فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا.

قلت : فإني قد علمت أنه قد أصابه ولم أدر أين هو فأغسله ، قال : تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنه [قد. يب] أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك [طهارته قال. ع] قلت : فهل علي إن شككت في أنه أصابه أن انظر فيه [فاقلبه. ع]؟ قال : لا ، ولكنك إنما تريد [بذلك. ع] أن تذهب الشك الذي وقع في

__________________

(١) هذه وما بعدها اشارة إلى نسخة العلل.

٣٠

نفسك.

[قال : ع] قلت : إن [فإن. ع] رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة. قال : تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثم رأيته [فيه. ع] وإن لم تشك ثم رأيته رطبا قطعت [الصلاة. يب] وغسلته ، ثم بنيت على الصلاة [فانك. ع] لأنك لا تدري لعله شيء أوقع [وقع. ع] عليك ، فليس ينبغي [لك. ع] أن تنقض اليقين بالشك [بالشك اليقين. ع]» (١).

ولا يهم إضمارها في التهذيب بعد ما تقدم في الصحيحة الأولى ، وبعد روايتها في العلل عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام بطريق صحيح أيضا.

ثم لا يخفى أن الاستدلال بها بلحاظ التعليل في صدرها وذيلها بالقياس المتضمن للكبرى الاستصحابية الظاهرة في العموم بالتقريب المتقدم في الصحيحة الاولى.

وأما قوله عليه السّلام : «تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنه قد أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك» فهو وإن كان دالا على الاستصحاب ، إلا أنه مختص بمورده ، والتعدي عنه لا يكون إلا بالمناسبات الارتكازية التي يغني عنها عموم التعليل المذكور.

هذا ، وقد يستشكل في الاستدلال بصدرها من وجهين ...

الأول : أنه لا ملزم بحمل اليقين فيه على اليقين قبل ظن إصابة النجاسة المفروض بقاؤه وكون الشك في استمرار المتيقن ، ليكون من موارد الاستصحاب ، بل قد يكون المراد باليقين فيه هو اليقين الحاصل بسبب الفحص وعدم الوجدان عند ظن الإصابة ، ومن الشك هو الشك في وجوده حين الصلاة ،

__________________

(١) أخذناها بتمامها من التهذيب ج ١ ص : ٤٢١ طبع النجف الاشرف ، ومن العلل باب : ٨٠ ص : ٣٦ طبع النجف الأشرف ، وخرجها في الوسائل متفرقة في ج ٢ ، باب ٧ حديث : ٢ ، وباب : ٣٧ حديث : ١ ، وباب : ٤١ حديث : ١ ، وباب : ٤٢ حديث : ٢ ، كل ذلك في أبواب النجاسات.

٣١

الحاصل من رؤيته بعدها ، حيث يحتمل كونه موجودا حين الصلاة ، لعدم استيعاب الفحص ، المستلزم لخطأ اليقين المسبب عنه ، كما يحتمل كونه واقعا بعدها ـ نظير ما تضمنه الذيل ـ مع عدم خطأ اليقين فيكون واردا مورد قاعدة اليقين ، فتحمل الكبرى عليها لا على الاستصحاب.

ويندفع : بأن حصول اليقين من الفحص محتاج إلى عناية لم يشر إليها في السؤال ، والمنسبق منه بقاء الشك ، وإلا فاليقين المسبب عن الفحص المستوعب لا يتزلزل غالبا بالرؤية بعد الصلاة مع فرض إمكان تجدد النجاسة بعدها. فتأمل.

كما أن كون رؤيته بعد الصلاة مثيرا لاحتمال وقوعه بعدها بنحو يقتضي تزلزل اليقين وتبدله بالشك ليكون من صغريات قاعدة اليقين محتاج إلى عناية أيضا ، ولذا نبه له الإمام عليه السّلام في الذيل ، فعدم التنبيه عليه من السائل ظاهر في عدمه.

بل ظاهر سؤال زرارة عن العلة لعدم الإعادة في الفرض المذكور هو مشاركته للفرضين السابقين اللذين حكم فيهما بالاعادة في حصول النجاسة حين الصلاة ، إذ لو كان المفروض فيه الشك في ذلك لم يكن بينه وبين الفرضين السابقين جهة مشتركة ، ليسأل عن وجه تخصيصه من بينها بعدم الإعادة ، بل كان عدم الإعادة واضح الوجه.

فالظاهر أن المراد باليقين بالطهارة هو اليقين السابق على ظن الإصابة ، وبالشك هو الشك حين الصلاة الحاصل من عدم استيعاب الفحص ، فيكون من موارد الاستصحاب.

بل هو المتعين بناء على ما في العلل من روايته هكذا : «فرأيته فيه» لظهوره في كون المرئي هو الذي ظن بإصابته أولا. والظاهر حجيته ، لأن نسبته إلى الرواية الاخرى نسبة المبين إلى المجمل ، وليسا من سنخ المتعارضين بعد الالتفات للنقل بالمعنى.

٣٢

الثاني : أن عدم نقض اليقين بالشك إنما يصلح لأن يكون تعليلا لجواز الدخول في الصلاة ظاهرا ، لفرض الشك حينه في النجاسة ، لا لعدم وجوب الإعادة واقعا بعد فرض انكشاف وقوع الصلاة مع النجاسة وفقدها للشرط ، لما قيل من أن الإعادة حينئذ تكون نقضا لليقين باليقين. فلا بد من توجيه التعليل.

هذا ، ومن الظاهر أن خفاء وجه التعليل وانطباق الكبرى الاستصحابية على المورد لا يمنع من التمسك بها في غيره بعد وفاء الكلام بالدلالة عليها.

نعم ، لو كان حمل الصحيحة على قاعدة اليقين رافعا للإشكال لكان مانعا من الاستدلال بها في المقام.

لكنها تشترك مع الاستصحاب في الإشكال المذكور ، فلا أثر للإشكال المذكور في ما هو المهم هنا ، وهو الاستدلال بالصحيحة ، وإنما تعرضنا لذلك متابعة لمشايخنا العظام نفعنا الله تعالى بإفاداتهم.

وكيف كان ، فقد يجاب عنه بوجوه ..

أولها : ما أشار إليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه من احتمال أن يراد من الشك هو الحاصل بعد الصلاة عند رؤية النجاسة ، لفرض أن رؤيتها لم توجب اليقين بحصولها حين الصلاة ، بل يحتمل وقوعها بعدها ، نظير ما ذكر في الوجه الأول.

لكنه قدّس سرّه ذكر أن ذلك خلاف ظاهر السؤال.

ويظهر وجهه مما تقدم ، مضافا إلى أن مقتضى التعليل حينئذ هو الصحة الظاهرية المستندة للاستصحاب ، ولا وجه للتنبيه لذلك والعدول عن التنبيه لصحة الصلاة واقعا مع النجاسة جهلا كما نطقت به النصوص والفتاوى.

ثانيها : ما ذكره المحقق الخراساني من أن الشرط في الصلاة ليس هو الطهارة الواقعية ، كي تكون الإعادة مع انكشاف عدمها نقضا لليقين باليقين ولا تنافي الاستصحاب.

بل الشرط في حال الالتفات إلى الطهارة هو إحرازها ، ولذا تصح الصلاة

٣٣

مع النجاسة جهلا بها ، والإحراز مبني على جريان الاستصحاب حين الصلاة ، المفروض تحقق موضوعه وهو الشك ، فالاستصحاب محقق للشرط واقعا ومقتض لعدم الإعادة حتى في فرض انكشاف عدم حصول الطهارة واقعا ، وبهذا صح التعليل بعدم نقض اليقين بالشك ، حيث تكون العلة هي إحراز الطهارة التي هي العلة لعدم الإعادة.

وفيه : أن ذلك خلاف ظاهر الأدلة الأولية الدالة على شرطية الطهارة للصلاة أو مانعية النجاسة منها ، وخلاف ما دل على أن ناسي النجاسة يعيد مع أنه قد يحرز الطهارة ظاهرا.

ومجرد صحة الصلاة مع النجاسة جهلا لا يقتضيه ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. بل لا وجه مع ذلك لاستصحاب الطهارة ، لفرض عدم كونها موضوعا للحكم الشرعي ، إلا بناء على كفاية ترتب الأثر على نفس الاستصحاب ، لا على المستصحب ، الذي هو خلاف مختاره قدّس سرّه.

وأما ما ذكره قدّس سرّه من توجيه جريان استصحابها ..

تارة : بعدم انعزالها عن الشرطية رأسا ، بل هي بمقتضى الأدلة الأولية شرط واقعي اقتضائي.

واخرى : بأنها من قيود الشرط ، لفرض أن الشرط إحرازها ، لا إحراز أمر آخر.

فهو كما ترى!

لاندفاع الأول : بأن المعتبر في الاستصحاب وغيره من أنحاء التعبد ترتب العمل التابع للحكم الفعلي ، لا الاقتضائي.

واندفاع الثاني : بأنه بعد فرض صحة العمل بدونها لا معنى لكونها قيدا للشرط ، إذ ليس المراد من قيد الشرط الذي يصح استصحابه إلا ما يكون قيدا بوجوده الواقعي ، كعدم حرمة أكل اللحم الذي قيد في الساتر الذي هو شرط في

٣٤

الصلاة ، لا مجرد ما يضاف إليه الشرط لفظا.

وأضعف من ذلك ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه في توجيه التعليل من أن تنجز النجاسة مانع من الصلاة ، فذكر الاستصحاب لبيان عدم تحقق المانع.

لظهور اندفاعه مما تقدم بمنافاته لظاهر الأدلة الاولية.

كيف! ولا ينبغي الإشكال في صحة الصلاة واقعا مع إحراز النجاسة ظاهرا خطأ مع تأتي قصد القربة إما رجاء أو للغافلة عن مانعية تلك النجاسة من الصلاة.

بل هو خلاف ظاهر التعليل ، لظهوره في كون علة عدم الإعادة هو استصحاب الطهارة بنفسه ، لا بلحاظ استلزامه عدم إحراز النجاسة ، إذ يكفي في ذلك فرض الشك بلا حاجة إلى كبرى الاستصحاب.

ثالثها : ما أشار إليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه من حسن التعليل بملاحظة اقتضاء الأمر الظاهري للإجزاء ، فيكون التعليل المذكور دليلا على قاعدة الإجزاء المذكورة وكاشفا عنها.

وقد استشكل فيه قدّس سرّه : بأن ظاهر التعليل كون الإعادة بنفسها نقضا لليقين بالشك ، لا أن عدم الإعادة مسبب عن عدم نقض اليقين بالشك بتوسط إجزاء المذكورة وكاشفا عنها.

وقد استشكل فيه قدّس سرّه : بأن ظاهر التعليل كون الإعادة بنفسها نقضا لليقين بالشك ، لا أن عدم الإعادة مسبب عن عدم نقض اليقين بالشك بتوسط إجزاء الأمر الظاهري الناشئ منه.

لكن ما ذكره قدّس سرّه غير ظاهر ، بل يكفي في حسن التعليل ابتناء عدم الإعادة على عدم نقض اليقين بالشك ولو بتوسط الإجزاء المذكور ، فرقا بين هذا الفرض والفرضين السابقين اللذين لا يجري فيهما الاستصحاب الذي يتحقق به الأمر الظاهري ، وإن شاركهما في وقوع الصلاة مع النجاسة.

وقد يناسب إرادة ذلك التعبير بقوله عليه السّلام : «لانك كنت على يقين ...» لظهوره في ملاحظة تمامية موضوع الاستصحاب سابقا حين الدخول في الصلاة لا فعلا حين انكشاف الحال والسؤال عن حكم الإعادة ، وإلا فالأنسب أن يقول : «لأنك على يقين ...» ، كما عبر بذلك في الصحيحة الاولى.

٣٥

وبالجملة : ابتناء التعليل على الوجه المذكور قريب جدا ، وهو المناسب لما أشرنا إليه آنفا من معروفية صحة الصلاة مع النجاسة عن عذر ، كما هو مقتضى النصوص والفتاوى ، ولذا كان هو المنصرف من الحديث بدوا.

بقي في المقام أمران :

الأول : أن ما ذكر في تقريب هذا الوجه من كون التعليل دليلا على قاعدة إجزاء الأمر الظاهري ، إن اريد به كونه دليلا عليها في خصوص المورد ، فهو في محله ، وإن كان يغني عنه النصوص الاخرى.

وإن اريد به كونه دليلا عليها على العموم ولو في غير المورد ، فهو موقوف على إلغاء خصوصية المورد ، ولا يخلو عن إشكال.

ومجرد التعليل لا يصلح لذلك بعد عدم كون عموم إجزاء الأمر الظاهري أمرا ارتكازيا ، ليتعين إرادته محافظة على ارتكازية التعليل ، بل هو أمر تعبدي محض ، فلعل التعليل مبني على تعبد خاص معلوم للسائل مختص بالمورد لا يجري في غيره.

بل حيث كان الاجتزاء بالصلاة مع النجاسة لعذر من غفلة ، أو جهل مركب ، أو تعبد شرعي مما يقرب وضوحه ، خصوصا عند مثل زرارة ، لكثرة نصوصه واشتهاره عند الأصحاب ، فلا مجال للبناء على عموم إجزاء الحكم الظاهري ، حتى لو كان ارتكازيا ، لأن الملزم بالبناء على ارتكازية التعليل عدم تأتي الغرض من التعليل ـ وهو تقريب الحكم إلى ذهن السامع ـ إلا بذلك ، وهو مختص بما إذا كانت الجهة التعبدية خفية ، أما إذا كانت واضحة جلية ، فيكون الاعتماد عليها وافيا بغرض التعليل أيضا ، ولا ملزم بالحمل على الجهة الارتكازية.

بل لا يبعد كون مرادهم بارتكازية التعليل ما يعم ذلك ، وهو كونه مشيرا إلى أمر واضح مرتكز في ذهن السامع لمناسبات عرفية ، أو لتعبد واصل.

٣٦

وعلى هذا يكون المتيقن في المقام التنبيه إلى تحقق الجهة المذكورة ، وهي العذر في الصلاة مع النجاسة بسبب الاستصحاب ، دفعا لتوهم مانعية الظن بالإصابة قبل الدخول في الصلاة من تحقق العذر المسوغ للدخول فيها ، لقياس الظن على العلم الحاصل في الصورتين الاوليين ، مع الفراغ عن أن تحقق العذر كاف في صحة العمل ولو في خصوص المورد تعبدا. فلاحظ.

الثاني : ظاهر المحقق الخراساني قدّس سرّه وغيره أن هذا الوجه مباين للوجه السابق ، وأن إجزاء الأمر الظاهري لا ينافي كون موضوع الحكم واقعا هو الطهارة الواقعية ، لا ما يعمها وإحراز الطهارة ، ولا خصوص الإحراز ، كما هو مقتضى الوجه السابق.

وقد استشكل في ذلك بعض مشايخنا بأنه لا يعقل إجزاء الأمر الظاهري إلا بتوسعة الواقع ، وجعل الشرط أعم من الواقع والظاهر.

وفيه : أنه ليس المراد بإجزاء الأمر الظاهري كون متابعته محققة لامتثال التكليف الواقعي ـ بمعنى مطابقة أمره ـ بل سقوط الإعادة والقضاء ، وهو كما يكون مع الامتثال يكون مع تبدل الملاك ، أو تعذر استيفائه ، ولذا لا يمكن فيه سقوط القضاء دون الإعادة ، ولا يعقل ذلك مع الامتثال الحقيقي.

بل فرض كون الأمر ظاهريا يستلزم فرض إناطة التكليف بالواقع المجهول ، ليكون إحرازه ظاهرا مستلزما لإحراز الأمر ظاهرا الذي هو المراد من الأمر الظاهري.

إذ لو كان منوطا بما يعم الواقع والظاهر كان الإحراز الظاهري للواقع مستلزما للامر الواقعي ، فيكون إجزاؤه مبنيا على كبرى إجزاء الأمر الواقعي الضرورية.

ولذا لا إشكال ظاهرا في بقاء موضوع الاحتياط مع الإحراز الظاهري ، وإن لم يكن لازما ، فمع استصحاب طهارة الثوب يبقى الموضوع للاحتياط بالصلاة

٣٧

في ثوب آخر معلوم الطهارة ، مع وضوح أنه لا موضوع له مع فرض تبدل موضوع التكليف ، بل يكون ذلك عدولا من أحد فردي الموضوع لفرد آخر ، نظير : ترك الثوب الذي طهر بماء المطر إلى الثوب الذي طهر بماء الفرات.

وبالجملة : لا ينبغي التأمل بملاحظة ما ذكرنا في الفرق بين المبنيين ثبوتا ، كما هو الحال في الفرق بينهما إثباتا ، فإن لسان تعميم الموضوع في مقام التشريع مباين للسان إجزاء المأتي به عما هو المشروع بعد الفراغ عن مباينته له.

ومن ثمّ تقدم منّا في مناقشة المحقق الخراساني أن إجزاء الصلاة في النجس مع إحراز طهارته خطأ لا يستلزم التصرف في الأدلة الأولية الظاهرة في كون الشرط هو الطهارة الواقعية.

هذا كله في الاستدلال بالتعليل الذي تضمنه الصدر ، وأما التعليل الذي تضمنه الذيل فقد استشكل فيه شيخنا الأعظم قدّس سرّه : بأن تفريع عدم نقض اليقين على احتمال تأخر الوقوع يأبى عن حمل اللام على الجنس.

والعمدة في ذلك : أن التفريع ظاهر في نحو ترتب بين المتفرع والمتفرع عليه ، نظير ترتب المعلول على العلة والحكم على الموضوع ، ومن الظاهر أنه لا ترتب بين الصغرى والكبرى ، بل ليس المترتب على الصغرى إلا النتيجة التي كون موضوعها مطابقا لموضوع الصغرى.

نعم ، قد يكون الترتب بين الصغرى والكبرى بلحاظ ترتّبهما في مقام الذكر والبيان ، حيث يمكن تقديم كل منهما ، لكنه خلاف الظاهر جدا.

وكأن ما ذكرنا هو مراد شيخنا الأعظم قدّس سرّه مما حكي عن مجلس درسه في توجيه ما سبق منه ، من أن شرط التفريع أن يكون المتفرع أخص من المتفرع عليه ومن أفراده ، كي يصح تفريعه عليه ، ضرورة أن تفريع العام على الخاص من المستهجنات.

وإلا فما ذكره من لزوم كون المتفرع أخص من المتفرع عليه غير ظاهر

٣٨

الوجه.

وكيف كان ، فلا ينبغي التأمل بملاحظة التفريع في عدم إرادة الجنس ، بل العهد لبيان عدم جواز نقض اليقين الحاصل في المورد بالشك الحاصل فيه ، الذي هو مفاد نتيجة القياس لا كبراه.

إلا أن المنسبق منها عدم خصوصية المورد ، وأن الشك ليس من شأنه أن ينقض اليقين ، لمناسبة ذاتيهما لذلك.

بل ورود القضية مورد التعليل ملزم بذلك محافظة على ارتكازية التعليل ، على ما سبق توضيحه في الصحيحة الأولى ، فيرجع التعليل المذكور إلى طيّ كبرى الاستصحاب العامة ، لوضوحها ، بل الإشارة إليها في النتيجة التي اخذ في الناقض والمنقوض فيها عنوان الشك واليقين.

ثم إن هذا الإشكال لا يرد في الصدر بناء على ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من روايته بالواو لا بالفاء.

لكن تقدم منا روايته بالفاء تبعا للتهذيب والعلل المطبوعين في النجف الأشرف ، والوسائل المطبوعة ـ بعشرين جزء ـ في إيران.

وحينئذ فقد يتوجه الإشكال المذكور فيه أيضا.

لكن حمله على العهد وبيان حكم خصوص مورد السؤال لا يناسب التأبيد جدا.

فإما أن يكون الصحيح هو العطف بالواو ، أو يكون ذكر الفاء بلحاظ الترتب الذكري ، وإن كان هو خلاف الظاهر في نفسه.

ومن ثمّ لا يبعد كون ذلك صالحا للقرينية على إرادة العموم من الذيل ، لأن الظاهر منه الإشارة إلى ما تقدم في الصدر ، فلاحظ.

وقد تحصل من جميع ما ذكرنا : أن الصحيحة بصدرها وذيلها وافية ببيان عموم الاستصحاب والتعبد بمضمونه.

٣٩

الثالث : صحيحة ثالثة لزرارة عن أحدهما عليهما السّلام ، قلت له : من لم يدر في أربع هو أم في ثنتين وقد أحرز الثنتين؟ قال : «يركع ركعتين وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب ، ويتشهد ، ولا شيء عليه. وإذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع وقد أحرز الثلاث قام فأضاف إليها اخرى ، ولا شيء عليه. ولا ينقض اليقين بالشك ، ولا يدخل الشك في اليقين ، ولا يخلط أحدهما بالآخر ، ولكنه ينقض الشك باليقين ، ويتم على اليقين فيبني عليه ، ولا يعتد بالشك في حال من الحالات» (١).

قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه : «وقد تمسك بها في الوافية ، وقرره الشارح ، وتبعه جماعة ممن تأخر عنه».

والاستدلال إنما هو بقوله عليه السّلام : «ولا ينقض اليقين بالشك» ، المتضمن لكبرى الاستصحاب المشار إليها.

وقد استشكل فيه بوجوه عمدتها ما أشار إليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أن قوله عليه السّلام : «قام فأضاف إليها اخرى» إن اريد به الإتيان بالركعة متصلة بما قبلها كان مطابقا للاستصحاب ، حيث يحمل اليقين فيه على اليقين سابقا بعدم الإتيان بالركعة الرابعة الذي يكون مقتضى الاستصحاب معه الإتيان بها وعدم الاعتناء بالشك المتجدد.

إلا أنه جار على مذهب العامة ومخالف لما عليه الإمامية من علاج الشك المذكور بركعة الاحتياط المفصولة ، ولظاهر الفقرة الأولى المتضمنة للإتيان بالركعتين بفاتحة الكتاب ، لوضوح عدم تعينها في الركعة الرابعة المتصلة. بل التعبير فيها بقوله عليه السّلام : «يركع ...» ظاهر في إرادة أنه يصلي صلاة مستقلة

__________________

(١) الكافي في باب السهو في الثلاث والأربع من كتاب الصلاة ، حديث ٣ ، ج ٣ ص : ٣٥١ وقد أخرج صدر الحديث في الوسائل ج ٥ ، في باب : ١١ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة حديث : ٣ ، وذيله باب : ١٠ من الأبواب المذكورة : حديث : ٣.

٤٠