المحكم في أصول الفقه - ج ٥

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٨

١
٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمّد وآله الطّيبين الطّاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

ربّ اشرح لي صدري ، ويسّر لي أمري ، واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي ، أنت حسبي ونعم الوكيل ، ونعم النصير ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، عليه توكلت وإليه انيب.

الابتداء بتحرير هذه المطالب عصر الجمعة الرابع من شهر شوال سنة ١٣٩٥

الابتداء بالقاء هذه المطالب في مجلس الدرس ليلة الاحد السادس من شهر شوال سنة ١٣٩٥

الابتداء بتبييض هذه المطالب في هذه الاوراق ليلة الاحد السادس من شهر شوال سنة ١٣٩٥

٥
٦

القسم الثّاني

فى الاستصحاب

٧
٨

القسم الثاني

في الاستصحاب

وينبغي التمهيد له بذكر أمور ..

الأمر الأول : الاستصحاب لغة استفعال من الصحبة.

ومن الظاهر مناسبة البقاء والاستمرار الذي هو مفاد الاستصحاب للمادة وهي الصحبة ، بنحو يصحح إطلاقها في المقام.

وأما هيئة الاستفعال فهي ..

تارة : تفيد طلب المادة ، كما في الاستغفار ، والاستشارة ، والاسترفاد.

وأخرى تفيد جعلها وتحقيقها خارجا بوجه ، كما في استعمال الشيء والاستكثار من الخير.

وثالثة : تفيد ادعاءها والحكم بها والبناء عليها ، كما في الاستكبار والاستحسان والاستقذار.

ولا يبعد كون إطلاق الهيئة المذكورة في المقام بلحاظ المعنى الثالث ، لرجوع الاستصحاب إلى البناء والحكم بمصاحبة المتيقن السابق في الزمان اللاحق وبقائه فيه ، خلافا لما قد يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه من ابتنائه على المعنى الثاني.

نعم ، لا يبعد رجوع المعنى الثالث للثاني بتكلف تنزيل الوجود الادعائي منزلة الوجود الحقيقي.

٩

وأما بحسب الاصطلاح فقد كثرت تعريفاته منهم ، حتى قيل : انها بلغت إلى نيف وعشرة ، ولعل الأنسب بمؤدى الأخبار تعريفه بأنه : التعبد الظاهري ببقاء الشيء في زمان الشك فيه للعلم بثبوته في الزمان السابق.

وما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أنه إبقاء ما كان ، مبني على إغفال موضوعية اليقين في الحكم بالبقاء ، وجعل العلة فيه مجرد سبق الوجود ، وهو خلاف ظاهر النصوص.

وحمل اليقين فيها على محض الطريقية للموضوع من دون أن يكون دخيلا فيه ، بلا وجه. ولعله يأتي الكلام في بعض الثمرات المترتبة على ذلك في محله إن شاء الله تعالى.

وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه من أنه عبارة عن عدم انتقاض اليقين السابق بلحاظ الجري العملي بالشك في بقاء المتيقن ، لأن ذلك أنسب بمفاد الأخبار.

ففيه : أن الظاهر من عبارة النصوص الكناية عما ذكرنا ، فلا معنى للجمود عليها في مقام التعريف.

ومثله ما ذكره ـ وسبقه إليه المحقق الخراساني قدّس سرّه ـ من تقييد متعلق اليقين بالحكم أو الموضوع ذي الحكم.

لوضوح أن ذلك ليس مقوما لمفهوم الاستصحاب ، بل شرط في جريانه ، كما هو الشرط في جميع التعبدات الشرعية في موارد الطرق والأصول.

هذا ، وأما بناء على عدم أخذ الاستصحاب من الأخبار ، بل من حكم العقل أو بناء العقلاء ، فكما يمكن تعريفه بما ذكرنا يمكن تعريفه بما هو المنشأ له ، وهو كون الشيء متيقنا سابقا مشكوكا في بقائه لاحقا.

والأول أنسب بإطلاق لفظ الاستصحاب ، لما تقدم من إطلاق هيئة الاستفعال بلحاظ ادعاء وجود المادة والبناء عليها. بل هو المناسب لعدّ بعضهم

١٠

الاستصحاب من أقسام حكم العقل.

والثاني هو المناسب لعدّ بعضهم له من الطرق والأمارات ، ولإطلاق الحجة عليه. فتأمل.

والأمر سهل ، لعدم الأثر لتحديد المعنى الاصطلاحي ، بل يلزم النظر في مفاد الأدلة ، ولم يؤخذ في شيء منها عنوان الاستصحاب.

الأمر الثاني : اشتهر في كلماتهم تعريف المسألة الأصولية بأنها المسألة الممهدة لاستنباط الحكم الكلي. والظاهر من الحكم الكلي هو الكبرى الشرعية العملية ، كوجوب الصلاة ، وحرمة الخمر.

وعليه يشكل دخول مسألة الاستصحاب في المسألة الأصولية ، فإنه وإن جرى في الشبهات الحكمية ، كنجاسة الماء الذي زال تغيره من قبل نفسه ، إلا أن فعلية موضوعه التي يتوقف عليها استنباط الحكم منه إنما تكون في الوقائع الشخصية ذات الحكم الشخصي ، ففعلية الشك في بقاء نجاسة الماء بعد اليقين بطهارته إنما تكون في فرض فعلية الماء الذي سبق تغيره بالنجاسة وزال تغيره بها ، والاستصحاب الجاري فيه لا يحرز حكما كليا ، بل جزئيا ، كالاستصحاب الجاري في الشبهة الموضوعية ، كما لو فرض احتمال ملاقاة الماء الطاهر للنجاسة. ومجرد اختلاف منشأ الشك لا يكون فارقا.

وليست فتوى المجتهد بالحكم الكلي في ذلك إلا لوجود الضابط العام لتحقق موضوع الاستصحاب في الجزئيات الكثيرة عند الابتلاء بها ، نظير فتواه بطهارة الماء لو شك في ملاقاته للنجاسة ، الذي له جزئيات كثيرة ، لا لفعلية جريانه بالإضافة إلى القضية الكلية قبل الابتلاء بوقائعها الشخصية.

وما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه من الاكتفاء فيه بفرض الموضوع ، وأنه لا يحتاج إلى تحقق الموضوع خارجا.

غير ظاهر ، فإنّ فرض الموضوع إنما يصحح فرض جريان الاستصحاب ،

١١

لا فعلية جريانه ، كما لعله ظاهر بالتأمل.

وهذا بخلاف مثل مسألة حجية خبر الواحد ، فإن فعلية موضوعها ـ وهو قيام الخبر على الحكم ـ لا تكون في الواقعة الشخصية ، بل يقوم الخبر على الحكم الكلي ولو مع عدم الابتلاء بموضوعه ، فيستنبط منه مفاده ـ وهو الحكم الكلي ـ ويفتي به المجتهد للعامي.

بل كذا الحال في مثل أصل البراءة ، فإن موضوعه وهو الشك قد يتعلق بالحكم الكلي كحرمة لحم الأرنب. فتأمل.

إن قلت : على هذا لا يتجه للمجتهد الفتوى بمؤدى الاستصحاب في الشبهات الحكمية ، لعدم تحقق موضوعه في حق العامي ، وهو اليقين والشك ، لانه يأخذه من المجتهد ابتداء ، لا بتوسط الموضوع المذكور ، وإنما يتحقق في حق المجتهد الفاحص عن الأدلة ، وهو لا يكفي في عمل العامي بمؤداه ، بخلاف الشبهة الموضوعية ، لأخذ اليقين والشك في موضوع الفتوى الموجب لتنبه العامي لهما وتحقق موضوع الاستصحاب في حقه.

قلت : أما اليقين بالحدوث فيكفي في تحققه في حق العامي رجوعه للمجتهد ، وأما الشك في البقاء فهو لازم لفرض جهل العامي واحتياجه للرجوع للغير ، وتمام الكلام في ذلك في مباحث الاجتهاد والتقليد عند الكلام في وجه فتوى المجتهد بمؤدى الأدلة والأصول إن شاء الله تعالى.

ثم إنه لا يفرق في ما ذكرنا بين كون الاستصحاب أصلا عمليا مأخوذا من الأخبار أو سيرة العقلاء وكونه أمارة معتبرة ، فإن البحث على الثاني وإن كان في الحجية ، إلا أنها كحجية اليد لا تنفع في استنباط الحكم الكلي ، بل الجزئي وإن كان مسببا عن الشبهة الحكمية ، لما ذكرنا من عدم فعلية موضوعه إلا بالإضافة إلى الموارد الجزئية.

هذا ، وقد ذكر غير واحد في وجه كون الاستصحاب في الشبهات

١٢

الحكمية من المسائل الأصولية كون الرجوع إليه من وظيفة المجتهد دون العامي ، بخلافه في الشبهات الموضوعية ، حيث يتسنى للعامي الرجوع إليه بعد أخذ كبراه من المجتهد ، كسائر المسائل الفرعية.

لكن الظاهر عدم صلوح ذلك ضابطا للمسألة الأصولية ، إذ لا وجه لاختصاص المسألة بالمجتهد بعد فرض عموم الشريعة إلا اختصاصه بالقدرة على تشخيص موضوعها ، لاحتياجه إلى النظر في الأدلة الذي لا يتيسر للعامي ، فالعامي في الحقيقة يعمل بالمسألة بعد رجوعه للمجتهد فيها وفي تشخيص صغراها ، وذلك جار في كثير من المسائل الفرعية ، كمانعية ما لا يؤكل لحمه من الصلاة ، حيث لا بد للعامي من الرجوع للمجتهد في تشخيص موضوعها ، وهو ما لا يؤكل لحمه من جهة الشبهة الحكمية.

وتمام الكلام في ضابط المسألة الأصولية في مقدمة هذا العلم.

وبالجملة : يشكل عدّ الاستصحاب من المسائل الأصولية على التعريف المتقدم حتى ما يجري منه في الشبهة الحكمية.

نعم ، يتجه ذلك في استصحاب عدم النسخ ، لتحقق موضوعه بالإضافة إلى الحكم الكلي. إلا أن الإشكال في جريانه في نفسه على ما يأتي الكلام فيه في مبحث الاستصحاب التعليقي ، إن شاء الله تعالى.

وإن كان الأمر غير مهم بعد أهمية المسألة وترتب كثير من الفروع عليها ومشابهتها للمسألة الأصولية في إمكان الرجوع إليها في الشبهات الحكمية ، ولا سيما مع مناسبتها لمباحث الأصول العملية التي نحن بصددها ، فإن ذلك ملزم بتحريرها ولو استطرادا.

ومن هنا كان المناسب عموم الكلام في حجية الاستصحاب للشبهات الموضوعية ، لأنها وإن لم تناسب غرض الأصولي ، إلا أن أهميتها وكثرة الفروع المترتبة عليها وعدم خصوصية الشبهات الحكمية في كثير من جهات الكلام

١٣

يقتضي التعميم المذكور. فلاحظ.

الأمر الثالث : اختلف في الاستصحاب ..

تارة : في كونه أمارة ، أو أصلا عقلائيا ، أو تعبديا شرعيا.

واخرى في حجيته وعدمه مطلقا ، أو على تفصيل ناشئ من الاختلاف في عموم دليله وخصوصه ، أو من الاختلاف في تحقق أركانه وشروطه في بعض الموارد.

وقد كثرت الأقوال في ذلك حتى حكي عن بعضهم أنها تبلغ نيفا وخمسين قولا.

وحيث لا مجال لإطالة الكلام في تفاصيل ذلك فاللازم النظر في الأدلة ، ليتضح منها حال تلك الأقوال إجمالا ، مع إهمال ما احتج به لكل قول على تفاصيله ، ونقضه وإبرامه ، وإن أطال شيخنا الأعظم في كثير منها ، لضيق المجال عن ذلك ، ثم ينظر بعد ذلك في الموارد المهمة التي وقع الكلام في تحقق أركانه فيها.

ومن هنا يناسب حصر الكلام بمقامات ثلاثة ...

يبحث في الأول منها عن أدلة المسألة وعن سعة مدلولها ، ليظهر حاله من حيثية كونه أمارة أو أصلا عاما أو خاصا. وفي الثاني عن أركانه وشروطه العامة وما يناسب ذلك.

وفي الثالث عن الموارد التي وقع الكلام في تحقق الأركان والشروط المذكورة فيها.

وهذا أولى مما صنعه شيخنا الأعظم قدّس سرّه وجرى عليه غيره من تأخير الكلام في الأركان عن التنبيهات التي عقدها لبيان الموارد التي وقع الكلام في جريان الاستصحاب فيها للكلام في تحقق أركانه.

لوضوح ابتناء الكلام في تلك الموارد على الكلام في الأركان ابتناء

١٤

الصغرى على الكبرى الملزم بتأخيره عنه.

وأشكل من ذلك جعله الكلام في الأركان في الخاتمة وعدم ذكره له في أصل المسألة ، مع كونه من أهم مباحثها ومقوماتها.

نعم ، جعله الكلام في الموارد المذكورة في ضمن تنبيهات خارجة عن محل الكلام هو المناسب لكونها من سنخ الصغريات لكبرى الاستصحاب ، إلا أن أهمية البحث في تلك الموارد وطوله أوجبا عدولنا عن ذلك ، وجعله في مقام مستقل في مقابل المقامين الآخرين ، على أنه من أركان البحث.

ثم إن شيخنا الأعظم قدّس سرّه استطرد في الخاتمة إلى ذكر حال الاستصحاب مع بعض القواعد من حيثية تقديمها عليه أو تقديمه عليها ، وأسهب في تحقيق تلك القواعد.

ويحسن منا متابعته في ذلك ، لأن أهمية تلك القواعد ، وخروجها عن صلب الكلام في الاستصحاب ، ومناسبتها له في الجملة يناسب ذكرها في خاتمته جدا.

وسوف نجري على هذا المنهج إن شاء الله تعالى ، مستمدين منه العون والتوفيق ، والتأييد والتسديد ، إنه أرحم الراحمين وولي المؤمنين ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، عليه توكلت وإليه انيب ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

١٥
١٦

المقام الأول

في أدلة الاستصحاب

وقد استدل عليه بوجوه كثيرة حسب اختلاف الأقوال ، وما ينبغي التعرض له أمور ..

الأمر الأول : الإجماع المدعى من بعضهم عليه في الجملة ، فعن المبادي دعوى إجماع الفقهاء على البناء على بقاء الحكم عند الشك في طروء رافعه ، وعن النهاية دعواه على البناء على بقاء كل شيء عند اليقين بثبوته والشك في رافعه.

بل قد يظهر من بعض الأعاظم قدّس سرّه وجود مدعي الإجماع على حجية الاستصحاب مطلقا.

لكن لا مجال للتعويل على مثل هذه الدعاوى في مثل هذه المسألة التي كثرت فيها الأقوال واختلفت فيها مباني الاستدلال.

نعم ، الظاهر تحقق الإجماع على الرجوع إليه في خصوص بعض الفروع في الشبهات الموضوعية التي هي غالبا مورد النصوص ، كالشك في الوضوء بعد الحدث أو العكس ، إلا أنه لا يناسب اهتمام الأصولي به ، ولا سيما مع الاكتفاء بالنصوص الواردة في تلك الموارد غالبا.

الأمر الثاني : بناء العقلاء على ذلك في جميع أمورهم ، كما ادعاه العلامة قدّس سرّه في محكي كلامه ، بل ربما ادعي اختلال النظام بدونه ، بل قد يقال : إنه أمر فطري لكل ذي شعور ، ولا يختص بالإنسان ، كما يشاهد في الطيور وغيرها

١٧

من رجوعها لأوكارها ، وطلب الماء والكلاء من مواضعها المعهودة لها.

هذا ، وقد اختلفت كلماتهم ...

تارة : في ثبوت بناء العقلاء وسيرتهم وعدمه مطلقا ، أو على تفصيل.

واخرى في حجيته على تقدير ثبوته.

أما الأول فهو غير ظاهر ، لأن المهم في المقام هو السيرة الارتكازية على العمل عليه على أنه أمر يصح الاعتماد عليه في مقام التعذير والتنجيز ـ المستتبعين للعقاب والثواب ـ في مورد الالتفات والشك ، نظير أصالة عدم القرينة أو عدم الغافلة.

ولا يكفي العمل عليه غفلة عن احتمال تبدل الحال ، لعدم ما يثيره ، أو للاطمئنان بعدم تبدله لغلبة أو نحوها ، أو للاحتياط في موافقة احتمال الواقع ورجاء تحصيله ، والمتيقن من سيرة العقلاء انما هو العمل على طبق الحالة السابقة لأحد الوجوه المذكورة ، لا البناء عليها بالوجه الذي هو محل الكلام ، بل لا طريق لنا لتحصيل اليقين به.

وأما ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه من أنه لا وجه لحصول الاطمئنان مع فرض الشك في البقاء ، والعمل برجائه إنما يصح فيما لو لم يلزم من العمل بدونه فوت المنافع أو حصول المضار المهمة ، وقريب منه ما ذكره بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه.

فيندفع : بأنه مع فرض كون العمل مع عدم البقاء سببا في فوت المنافع ووقوع المضار لا يصح العمل بالاستصحاب حتى لو فرض كونه حجة عندهم ، لأن العمل بالحجة إنما يصح في مقام التعذير والتنجيز غير التابعين للواقع ، لا مع الاهتمام بتحصيل الواقع لإناطة الأثر المقصود به ، لعدم صلوح الحجية للتأمين عن الآثار الواقعية ، كما لعله ظاهر ، بل في مثل ذلك إنما يصح العمل مع الوثوق بالواقع ، وكلما زاد الأثر الواقعي أهمية كان التحرز عن مخالفة الواقع والتوثق من

١٨

حصوله ألزم ، وإلا كان تفريطا منافيا للحكمة في تحصيل الغرض وموردا للوم العقلاء.

ولا مجال لما ذكره بعض الأعيان المحققين قدّس سرّه من إنكار لومهم في محل الكلام ، وأن المداقة لتحصيل الوثوق والاطمئنان لمحض الاحتياط غير اللازم بنظرهم.

نعم ، لو فرض مزاحمة احتمال محذور فوت الواقع بمحذور الاحتياط ، لما يتوقف عليه من خسارة أو نحوها ، لحقه حكم التزاحم من اختيار الأهم حسب اختلاف الموارد والأنظار.

ولا فرق في ما ذكرنا بين الشك في المقتضي والغاية والرافع ، فإن بناء العقلاء على البقاء في الاخيرين ، أو خصوص الأخير في مقام التعذير والتنجيز غير ظاهر بنحو يتحصل لهم سيرة معتدّ بها صالحة للاحتجاج.

نعم ، لا يبعد بناؤهم على أولوية البقاء في الجملة بنحو يرجحون العمل عليه عند الدوران بين محذورين مع فقد مرجح غيره وتعذر الاحتياط من دون أن يبلغ مرتبة الإلزام والاحتجاج التي نحن بصددها.

كما أنه لا إشكال في بنائهم عليه في الجملة في مقام التعذير والتنجيز في خصوص بعض الموارد ، كموارد الشك في السلامة ، إلا أنه ليس لأجل الاستصحاب ، بل لخصوصية فيها ربما تقتضي البناء عليها حتى مع الشك البدوي.

ومثله بعض الأصول العقلائية الخاصة ، كأصالة عدم النسخ ، وبقاء ذي الرأي على رأيه ، وعدم القرينة الصارفة عن ظاهر الكلام ، وغير ذلك ، فإن بناء العقلاء على الرجوع إليها لا يكشف عن عموم بنائهم على الاستصحاب ، وإن وافقته في الجملة.

وأما الثاني ـ وهو حجية السيرة على تقدير ثبوتها ـ فيظهر الكلام فيه مما

١٩

تقدم في خبر الواحد ، فقد ذكرنا هناك أن سيرة العقلاء إن كانت ناشئة عن أمر خارج عنهم من حاجة ملحة أو إرشاد مرشد أو نحوهما كانت حجيتها موقوفة على إمضاء الشارع لها ، فيكون الإمضاء تمام المقتضي للحجية ، وإن كانت ناشئة عن مرتكزاتهم التي أودعها الله تعالى فيهم وغرائزهم التي فطرهم عليها كانت تمام المقتضي للحجية من دون حاجة للإمضاء ، بل لا بد في رفع اليد عنها من ثبوت ردع الشارع عنها.

ومن الظاهر أن السيرة المدعاة في المقام من القسم الثاني.

وقد وقع الكلام بينهم في صلوح عموم النهي عن العمل بغير العلم للردع عنها.

وقد ذكرنا في خبر الواحد ما قيل في وجه عدم صلوح العموم المذكور للردع ، وأجبنا عنه بما يجري هنا.

كما أشرنا هناك إلى ما تقدم منا في تأسيس الأصل في الحجية من عدم ثبوت العموم المذكور بنحو يصلح للاحتجاج ، ليستفاد منه الردع هنا أو هناك. فراجع وتأمل جيدا.

الأمر الثالث : ما أشار إليه شيخنا الأعظم قدّس سرّه في عرض استدلالهم من أن الثابت في الزمان الأول لازم البقاء في الزمان الثاني ما لم يتجدد مؤثر العدم ، فإذا لم يعلم بتحقق مؤثر العدم فالراجح بقاؤه ، فيجب العمل عليه.

ولا يخفى اختصاص ذلك بصورة الشك في طروء الغاية والرافع ، ولا يجري مع الشك في المقتضي ، لعدم احتياج الارتفاع فيه إلى حدوث مؤثر العدم ، بل يكفي فيه انتهاء أمد المقتضي.

إلا أن يراد من مؤثر العدم ما يعم ذلك ، فيرجع إلى ما عن العضدي وغيره من أن ما تحقق وجوده ولم يعلم أو يظن عدمه فهو مظنون البقاء.

وكيف كان ، فهو يندفع ..

٢٠