المحكم في أصول الفقه - ج ٥

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٥

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ١
الصفحات: ٥١٨

تنبيه

ما سبق إنما هو في نسبة الاستصحاب إلى الأصول التي لم يؤخذ في موضوعها إلا الشك في الحكم الذي تجري فيه ، وهي البراءة والاحتياط ـ عند الأخباريين ـ وقاعدتا الحل والطهارة ، وأما نسبته إلى الأصول والقواعد الأخر التي اخذ فيها أمر زائد على الشك ، كالفراغ والتجاوز ونحوهما ، فلا إشكال في تقدم ما كان منها أخص منه موردا ، كقاعدتي الصحة والفراغ ، كما لا إشكال في تقدم الاستصحاب على ما اختص موضوعه بصورة عدم التعبد الشرعي ـ كالقرعة ، بناء على ما تقدم في أوائل الكلام في العلم الإجمالي ـ لوروده عليه.

وأما ما كان بينه وبينها عموم من وجه ـ لو فرض وجوده ـ فيلزم الرجوع فيه للمرجحات الدلالية ، ثم الرجوع إلى قواعد التعارض ، ولا ضابط لذلك ، ليتسنى لنا الكلام فيه هنا.

ويأتي بعض الكلام في ذلك في الخاتمة إن شاء الله تعالى. والله سبحانه ولي التوفيق والتسديد ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

١٨١
١٨٢

المقام الثالث

في الموارد التي وقع الكلام في تمامية

اركان الاستصحاب وشروطه فيها

بعد أن تعرضنا في المقامين الأولين إلى أدلة الاستصحاب ومفاده وتحديد كبراه وأركانه والشروط العامة والخاصة للعمل به يقع الكلام في هذا المقام في تمامية هذه الامور في خصوص بعض الموارد لجهات خاصة فيها أوجبت غموض حالها. وهو في ضمن فصول ..

الفصل الأول

في استصحاب العدم الأزلي

تقدم في ذيل الكلام في الأصل المثبت أنه لا مانع من استصحاب الامور العدمية لإثبات أثر العدم أو لنفي أثر الوجود.

ويقع الكلام هنا في إمكان استصحابه بلحاظ اليقين بالعدم الازلي حين عدم الموضوع ، حيث قد يمنع جريان الاستصحاب فيه.

وينبغي تمهيد الكلام في ذلك بأمرين ..

الأول : ما يحمل على الموضوع ..

١٨٣

تارة : يكون من شئون ماهيته أو لوازمها مع قطع النظر عن وجوده ، كزوجية الأربعة.

واخرى : يكون من لوازم وجوده أو مقارناته ، بحيث لا يعلم بانفكاكه عنه حين وجوده ، كقرشية المرأة.

وثالثة : يكون من طوارئه بعد الوجود ، كالبلوغ.

أما الأول فلا إشكال في عدم جريان الاستصحاب العدمي فيه لو فرض الشك في حال الموضوع وتردده بين الواجد والفاقد ، إذ لو فرض اتصاف الموضوع به واقعا لم يصح سلبه عنه وصح حمله عليه في فرض تقرره الذي هو لازم موضوعيته في القضية وإن كانت سالبة ، فلا يقين بسلبه عنه حتى بلحاظ حال ما قبل وجود الموضوع ، كي يستصحب.

والمعيار في ذلك على كون المحمول لازم ماهية الموضوع بما له من الحدود ولو كانت جزئية ، لا خصوص لازم الماهية النوعية.

ومن ثمّ استشكل غير واحد في استصحاب عدم الكرية أزلا ..

بدعوى : أن الكرية وإن لم تكن من لوازم ماهية الماء النوعية ، لعدم أخذ كمّ خاص في ماهية الماء ، إلا أنها لما كانت من سنخ المقادير المنتزعة من نفس الأجزاء المجتمعة في الوجود فهي لو ثبتت للفرد كانت من لوازم ماهيته المقومة له ، ولم تكن متيقنة العدم فيه حتى بلحاظ حال ما قبل وجوده.

وإن كان الظاهر اندفاع ذلك : بأن الكرية لما كانت متقومة بالوزن والمساحة فهي من عوارض الوجود القابلة للانفكاك عنه لمؤثرات خارجية ، كضعف الجاذبية الموجب لخفة الوزن ، والبرودة الموجبة للتقلص وقلة المساحة. وقد أطلنا الكلام في ذلك في مسألة الشك في الكرية من الفقه.

وأما الثاني فلا إشكال في جريان الاستصحاب العدمي فيه ، ولا يبتني على استصحاب العدم الأزلي.

١٨٤

وإنما الإشكال في الثالث ، حيث وقع الكلام في صحة استصحاب عدمه الثابت للموضوع قبل وجوده ، لترتيب آثار العدم المقارن لوجود الموضوع ، وعدمها ، وهو محل الكلام في المقام.

الثاني : أن موضوع الأثر ..

تارة : يكون هو وجود الذات بمفاد كان التامة ، كما لو قيل : إن وجد المطر فتصدق بدرهم.

واخرى : يكون هو وجود العرض بمفاد كان التامة أيضا من دون أخذ خصوصية الموضوع فيه وإن استحال تحققه بدونه ، لافتقاره إليه ، كما لو قيل : إن وجد البياض فتصدق بدرهم.

وثالثة : يكون هو وجود العرض بمفاد كان التامة مع أخذ خصوصية الموضوع فيه قيدا ، كما لو قيل : إن وجد بياض زيد فتصدق بدرهم.

ورابعة : يكون هو وجود العرض للموضوع واتصافه به وانتسابه له بمفاد كان الناقصة الذي هو مفاد القضية الحملية في مثل قولنا : إن كان ولدك أبيض فتصدق بدرهم ، أو التوصيف في مثل : أكرم الرجل العادل.

والظاهر خروج الصور الثلاث الاول عن محل الكلام ، لأن موضوع الأثر فيها لما كان هو الوجود المنتسب لموضوعه ـ من ذات أو عرض ـ فليس موضوعه خارجا هو الموجود ، بل الماهية المتقررة في عالمها مع قطع النظر عن الوجود ، ومن الظاهر أن تقررها أزلي ، فلا يتصور معه فرض العدم لعدم الموضوع ، بل الموضوع بنفسه أزلي.

ومجرد توقف وجود العرض في الصورة الثانية والثالثة على وجود موضوعه لا يوجب كون استصحاب عدمه بلحاظ حال ما قبل وجود موضوعه من استصحاب العدم الأزلي ، لأن موضوع الأثر ليس هو سلب العرض عن موضوعه ، بل سلب الوجود عن العرض بمفاد ليس التامة في مقابل كان التامة.

١٨٥

ويختص الكلام في المقام بالصورة الرابعة ، فيقع الكلام في إمكان استصحاب سلب العرض عن الموضوع بلحاظ حال ما قبل وجود الموضوع ، الذي هو مفاد السالبة بانتفاء الموضوع ، أو لا؟ بل لا بد من إحراز السلب بلحاظ حال ما بعد وجود.

إذا عرفت هذا ، فالظاهر أنه لا مانع من التمسك باستصحاب العدم الأزلي في مثل ذلك إما لنفي آثار الوجود ، أو لإثبات آثار العدم نفسه ، لتمامية أركان الاستصحاب وشروطه.

فإن الأثر إن كان لثبوت الوصف للموضوع بمفاد كان الناقصة ، الذي هو مفاد الحملية الموجبة فإحراز نقيض موضوع الأثر كاف في إحراز عدم ترتبه ، وحيث كان نقيض الحملية الموجبة الحملية السالبة كفى إحرازها في المقام في عدم ترتب الأثر المذكور ، وحيث كانت السالبة متيقنة بلحاظ حال ما قبل وجود الموضوع مشكوكة بلحاظ حال وجوده تعين استصحابها ، لتمامية ركنيه من اليقين والشك ، وتحقق شرطه وهو ترتب الأثر العملي ، فإذا قيل : إن كان زيد أبيض فأكرمه ، فموضوع الأثر مفاد : كان زيد أبيض ، ونقيضه مفاد : لم يكن زيد أبيض ، المتيقن بلحاظ حال ما قبل وجود زيد المشكوك حال وجوده ، فيستصحب ، ويترتب عليه عدم وجوب إكرامه ، وليس نقيضه مفاد : كان زيد غير أبيض ، ليستشكل بعدم صدقه بلحاظ حال ما قبل وجود زيد.

وإن كان الأثر للعدم المذكور ، كما لو قال : إن لم يكن زيد أبيض فأكرمه ، فترتبه بالاستصحاب المذكور أظهر.

هذا ، وقد منع غير واحد من جريان الاستصحاب المذكور. وما يمكن أن يستدل لهم به وجوه ..

الأول : أن العدم الأزلي المتيقن مغاير للعدم المشكوك المقارن لوجود الموضوع والذي هو مورد العمل ، لاستناد الأول لعدم الموضوع ، والثاني لأمر

١٨٦

آخر.

وفيه : أن تعدد المنشأ والعلة لا يوجب تعدد المعلول لا حقيقة ولا عرفا.

الثاني : ما ذكره سيدنا الأعظم قدّس سرّه في مستمسكه (١) من أن عدم العارض لما كان نقيضا لوجود العارض ، ولا بد من وحدة الرتبة بين النقيضين ، ومن المعلوم أن وجود العارض متأخر رتبة عن وجود المعروض ، وليس العدم الأزلي كذلك ، لأنه سابق عليه.

وفيه : أنه عدم العارض الأزلي متأخر رتبة عن وجود الموضوع كالعدم المقارن لوجود الموضوع ، لأن ملاك اختلاف الرتبة بين الشيئين كون أحدهما في مرتبة العلة للآخر ـ كالمقتضي ـ أو لعدمه ـ كالمانع ـ ومن الظاهر أن وجود الموضوع لما كان شرطا في وجود العارض كان من أجزاء علة ارتفاع نقيضه وهو عدمه ولو كان أزليا ، فالعدم الأزلي يستند إلى جملة من الامور ، منها عدم الموضوع ، ووجود الموضوع من جملة ما يكون دخيلا في رفعه ، فهو في رتبة سابقة عليه وإن تأخر عنه زمانا.

وبعبارة اخرى : التقدم الرتبي كما يكون بين تمام أجزاء العلة والمعلول يكون بينها وبين عدمه ، لأنها من سنخ الرافع له ، وحيث كان الموضوع من أجزاء علة المعروض ومتقدما عليه رتبة كان من سنخ الرافع لعدمه ومتقدما عليه رتبة ولو كان أزليا.

نعم ، ما هو العلة لوجود المعروض والمتقدم عليه في كل ان هو وجود الموضوع في كل ان ، لا في ان آخر ، فالعدم الأزلي متأخر رتبة عن وجود الموضوع حينه ، لا عن وجود الموضوع بعد ذلك ، والمتأخر رتبة عن وجود

__________________

(١) ذكر ذلك في عرض حجة المنع ، ودفعه بما لا مجال لإطالة الكلام فيه. وربما يظهر حاله بالتأمل في ما ذكرناه فراجع المسألة الثانية من فصل الماء الجاري من بحث المياه (منه عفي عنه).

١٨٧

الموضوع بعد ذلك هو عدم العرض حينئذ لا العدم الأزلي.

لكن هذا يرجع إلى اختلاف العدم الأزلي عن العدم المقارن لوجود الموضوع في العلة ، وهو لا يوجب تعددهما ، كما تقدم ، ولا سيما مع عدم كون الاختلاف في سنخ العلة ، بل في خصوصيتها الزمانية ، وإلا امتنع استصحاب العدم حتى بلحاظ حال وجود الموضوع ، لأن وجود العرض في كل ان متفرع على وجود الموضوع في ذلك الآن ، لا على وجوده في الآن السابق عليه الذي هو زمان اليقين.

بل امتنع الاستصحاب مطلقا ، لتفرع بقاء المستصحب على بقاء علته ، لا على حدوثها وتفرع حدوثه على حدوثها لا على بقائها. فلاحظ.

الثالث : أن العنوان الملحوظ قيدا وجوديا كان أو عدميا لما كان موضوعه المقيد به حاكيا عن الوجود الخارجي كان التقييد به في عالم الاعتبار ملحوظا في الرتبة اللاحقة للوجود ، فالعدم المأخوذ قيدا في موضوع الأثر هو العدم الخاص المتفرع على وجود الموضوع ، ولا مجال لاستصحابه ، لعدم اليقين به سابقا ، واستصحاب مطلق عدم ثبوت العنوان للموضوع لا يجدي في إحراز العدم الخاص المتفرع على وجود الموضوع إلا بناء على الأصل المثبت.

وفيه .. أولا : أن هذا إنما يجدي لو اريد بالاستصحاب إثبات الأثر المأخوذ في أدلتها التقييد بالعدم ، كما لو قيل : أكرم العالم الذي ليس أبيض ، أو الذي لم يكن أبيض.

أما لو اريد نفي الآثار التي اخذ في أدلتها التقييد بالوجود ، كما لو قيل : أكرم الرجل الأبيض ، فلا يجدي ذلك ، ضرورة أن ملاك انتفاء الأثر في مثل ذلك هو أن التعبد بنقيض موضوع الأثر يستلزم عرفا التعبد بعدمه ، ومن الظاهر أن نقيض ثبوت العرض المتفرع على وجود الموضوع هو عدم ذلك العرض الراجع

١٨٨

لمطلق سلبه ولو كان أزليا ، لا عدمه المتفرع على وجود الموضوع ، بل العدم المذكور مقابل للثبوت المذكور تقابل العدم والملكة لا تقابل النقيضين.

وثانيا : أن حكاية المقيد عن الموجود الخارجي وإن كانت مسلمة ، إلا أنها ناشئة عن نفس التقييد ، لكون القيد أمرا خارجيا لا يعرض إلا الموجود الخارجي ، أو نفس الحكم ، لاقتضائه العمل المتعلق بالموجود الخارجي ، وليست ناشئة عن اخذ الوجود في مرتبة سابقة على التقييد بالقيد ، بل في مرتبة التقييد لم تلحظ إلا الذات بنفسها.

ودعوى : أن قولنا : أكرم الرجل الأبيض ، أو الذي لا يكون أسود ، يرجع إلى مفاد قولنا : يجب إكرام الرجل الذي إن وجد كان أبيض ، أو الذي إن وجد لم يكن أسود ، لا شاهد لها ، لاختلاف المفهومين عرفا.

على أن القيد قد لا يكون قيدا للموضوع ، بل للحكم ، كما لو قيل : أكرم الرجل إن كان عالما ، أو إن لم يكن جاهلا ، فالتقييد بالعلم مستفاد من الشرطية التي كان شرطها جملة حملية موجبة أو سالبة ، لا من التوصيف.

إلا أن يراد من التقييد في توجيه مدعى الخصم ما يعم ذلك.

وثالثا : أن ما ذكر ـ لو تم ـ إنما يقتضي تأخر التقييد بالعنوان عن التقييد بالوجود رتبة ، كما لو اخذ الموجود عنوانا للمقيد ، كما لو قيل : أكرم الموجود الابيض ، أو الذي ليس بأسود ، لا كون العنوان المقيد به خصوص ما قارن الوجود ، بحيث يكون وجود الموضوع قيدا في نفس العنوان كي لا يتحد مع ما سبق الوجود ولا يصح استصحابه بلحاظه ، فإن ذلك مخالف لإطلاق العنوان.

ولذا لا مانع من التمسك باستصحاب العدم الأزلي لو كان الخطاب بلسان : أكرم الموجود الذي ليس بأسود ، فيحرز به أن زيدا الموجود ليس أسود ، وإن كان المتيقن هو السواد السابق على الوجود ، مع أخذ الوجود في موضوع

١٨٩

التقييد بعدم السواد.

وبالجملة : المعيار في مباينة العدم الأزلي للعدم الذي هو موضوع الأثر أخذ وجود الموضوع قيدا في نفس العدم الذي هو موضوع الأثر ، ولا يكفي فيه أخذه في مرتبة سابقة على التقييد به ، كما هو المدعى في هذا الوجه.

والفرق بينهما هو الفرق بين ما إذا قال : أكرم العادل عدالة حاصلة حين الدخول في الدار ، وما إذا قال : أكرم داخل الدار العادل ، فحيث كان دخول الدار قيدا في العدالة في الأول لا بد من إحرازه فيها بالاستصحاب ، ولا يكفي استصحاب العدالة المتيقنة في الشخص قبل دخوله الدار إلى حين دخوله لها ، لعدم الأثر للمستصحب ، أما في الثاني فحيث كانت العدالة على إطلاقها كفى اليقين بها قبل دخول الدار في استصحابها بعده وترتب الأثر عليها ، وإن كان التقييد بها متأخرا عن التقييد بالدخول لأخذه في موضوع التقييد بها.

وأما اعتبار وجود المعنون في صدق العنوان الوجودي المأخوذ في القضية ، فليس هو لتقييد العنوان الوجودي بذلك ، بل لتوقف صدق النسبة عليه ، فلا يصدق على الرجل أنه عالم إلا مع وجوده خارجا ، بخلاف العنوان العدمي المحض الراجع إلى مفاد السلب ، لفرض صدقه مع انتفاء الموضوع.

نعم ، لو اريد من العنوان العدمي ما ينتزع من مفاد السلب ويكون وصفا للموضوع بمفاد الموجبة المعدولة كان كالعنوان الوجودي في توقف صدقه على وجود الموضوع. لكنه خارج عن محل الكلام هنا ، ويأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

الرابع : ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه من أن المعتبر في موارد التقييد بالعدم هو العدم النعتي المأخوذ وصفا للموضوع ، والذي هو مفاد الموجبة المعدولة المحمول ، التي لا تصدق إلا بعد وجود الموضوع ، ولا يكفي في إحرازها

١٩٠

استصحاب مفاد السالبة بانتفاء الموضوع إلا بناء على الاصل المثبت.

وقد أطال في تقريب ذلك بذكر مقدمات بعضها يتعلق بمسألة تعنون العام المخصص.

وعمدة ما ذكره : أن تقييد موضوع الحكم بالعرض ـ ومنه الأمر العدمي ـ لا يراد به محض تقارنهما في الزمان ، ليكفي استصحاب العرض بمفاد كان التامة إلى حين وجود الموضوع ، بل يرجع إلى تخصيص الموضوع بخصوص الحصة المتصفة بالعرض ، لاستحالة إطلاق الموضوع مع التقييد بوجود عرضه ، للتدافع بين الإطلاق والتقييد المذكورين ، وحيث كان الاتصاف بالامور العدمية متفرعا على وجود الموضوع لم ينفع في إحرازه استصحاب مفاد السلب بلحاظ حال ما قبل وجوده إلا بناء على الأصل المثبت.

ولا يخفى أنه ذكر ذلك لبيان أن تخصيص العام بالعنوان الوجودي ـ كتخصيص عموم وجوب إكرام العلماء بما يتضمن عدم إكرام فاسقهم ـ موجب لتعنون الباقي بالعنوان العدمي المناقض له ، لما تقدم من استحالة إطلاق موضوع الحكم مع التقييد المذكور ، وأنه لا ينفع استصحاب عدم الخاص الأزلي لإثبات حكم العام ، لأنه لا يحرز اتصاف المورد بعدم الخاص.

فلو تم ما ذكره لم ينفع فيما لو ورد الحكم ابتداء على العنوان الوجودي ، واريد باستصحاب عدمه نفي الحكم ، كما لو قيل : إن كان ولدك مختونا فتصدق بدرهم ، لما أشرنا إليه ـ في ذيل الكلام في الأصل المثبت ، وفي الجواب الأول عن الوجه السابق ـ من أن الملاك فيه كون إحراز نقيض الموضوع موجبا لإحراز نقيض الحكم ، ومن الظاهر أن نقيض ثبوت العنوان للموضوع عدم ثبوته له الذي هو مفاد السالبة المحصلة الصادقة بلحاظ حال ما قبل وجود الموضوع ، لا اتصافه بعدمه الذي هو مفاد المعدولة المحمول ، بل ليس التقابل بين ثبوت

١٩١

العنوان والاتصاف بعدمه إلا تقابل العدم والملكة.

وأوضح من ذلك ما لو جعل الحكم ابتداء على مفاد السالبة ، كما لو قيل : إن لم يكن ولدك أسود فتصدق بدرهم ، لاتحادها مع السالبة بانتفاء الموضوع ، ولا وجه لتنزيلها على مفاد المعدولة ، مع أن الظاهر من مسلكه قدّس سرّه امتناع التمسك باستصحاب العدم الأزلي مطلقا حتى في مثل ذلك.

ومع الغض عن ذلك يتوجه الإشكال على ما ذكره بأن تخصيص العام بالعنوان الوجودي ـ كتخصيص عموم وجوب إكرام العلماء بنحو لا يشمل الفاسق منهم ـ وإن كان يكشف عن عدم إطلاق موضوع الحكم ، إلا أن إضافة قيد لموضوع الحكم يمكن ثبوتا بأحد وجوه ثلاثة ..

الأول : أن يكون القيد محض عدم وجود عنوان الخاص بمفاد ليس التامة ، فيكون موضوع الحكم مركبا من أمرين : عنوان العام ـ كالعالم ـ والعدم المذكور ـ كعدم فسقه ـ من دون أخذ النسبة بينهما.

ويكفي في مثل ذلك استصحاب العدم المذكور ، ليتم موضوع الحكم بضم مفاد الأصل للوجدان ، كما في سائر موارد الموضوعات المركبة ، وقد تقدم في المقدمة الأولى خروج استصحاب العدم في مثل ذلك عن استصحاب العدم الأزلي ، وجريانه بلا إشكال.

الثاني : أن يكون القيد هو عدم اتصاف المعنون بعنوان العام بعنوان الخاص ، الراجع إلى سلبه عنه بمفاد ليس الناقصة ، الذي هو مفاد كان الناقصة ، والذي يكون العدم فيه ملحوظا بما هو معنى حرفي مناقض للحمل ، فيكون الموضوع في المثال المذكور العالم الذي لم يكن فاسقا ، أو ليس فاسقا. وحيث كان مفاد السلب صادقا بلحاظ حال ما قبل وجود الموضوع أمكن استصحابه بلحاظ اليقين به حينئذ ، وكان من استصحاب العدم الأزلي الذي هو محل الكلام

١٩٢

في المقام.

الثالث : أن يكون القيد هو اتصاف المعنون بعنوان العام بعدم العنوان الخاص ، الذي هو المراد بالعدم النعتي ، والذي يكون العدم فيه ملحوظا بما هو معنى اسمي من طوارئ الموضوع وصفاته ، والذي هو مفاد المعدولة التي لا تصدق إلا بعد وجود الموضوع ، ولا مجال لاستصحابها بلحاظ حال ما قبل وجود الموضوع ، لعدم اليقين بها ، بل اليقين بعدمها حينئذ ، كما لا مجال لإحرازها باستصحاب عدم العرض بمفاد ليس التامة أو الناقصة إلا بناء على الأصل المثبت.

ومما ذكرنا يظهر اضطراب كلامه ، حيث يظهر منه ..

أولا : انحصار الأمر بالوجه الأول والثالث ، مع وضوح أن الثالث مقابل لمفاد حمل العنوان الوجودي الذي هو مفاد الموجبة تقابل العدم والملكة ـ كما اعترف به قدّس سرّه ـ والأول لا تعرّض فيه لنسبة العرض للموضوع ليقابل مفاد الموجبة ، وليس المقابل لمفاد الموجبة تقابل التناقض إلا الثاني.

وثانيا : أن مفاد السالبة بانتفاء الموضوع راجع إلى الأول ، ومفاد ليس الناقصة راجع إلى الثالث.

مع وضوح أن الأول لما كان مفاد ليس التامة كان مباينا للسالبة المتضمنة لنسبة العرض للموضوع ، والثالث مفاد المعدولة الموجبة التي هي مفاد كان الناقصة ، وليس مفاد الناقصة إلا الثاني. فكأن ذلك منه مبني على الخلط بين الثاني والثالث.

إذا عرفت هذا ، فالوجوه الثلاثة ممكنة في أنفسها ، ولا معين لأحدها ثبوتا ، وما يظهر منه قدّس سرّه من امتناع الأول إذا كان القيد من سنخ العرض الطارئ على الموضوع ، لأن انقسام العام باعتبار أوصافه ونعوته القائمة به في مرتبة سابقة

١٩٣

على انقسامه باعتبار مقارناته ، مما لم يتضح وجهه ، بل كيفية التقييد تابعة ثبوتا لغرض الامر ، وإثباتا لظهور الدليل ، ولا ملزم بأحد الوجوه.

نعم ، التقييد بالوجه الأول راجع إلى تقييد نفس الحكم ورفع إطلاقه الأحوالي ، وإناطته بالقيد المفروض زائدا على عنوان العام ، مع إبقاء العام على عمومه الأفرادي ، ولذا يكون الموضوع معه مركبا من عنوان العام والقيد من دون ملاحظة النسبة بينهما ، فلا يعتبر إحرازها ، بل يكفي إحراز أحدهما بالأصل والآخر بالوجدان.

أما التقييد بالوجهين الأخيرين فهو راجع إلى تخصيص العام ، ورفع عمومه الأفرادي وقصره على خصوص واجد القيد ، ولذا يلزم إحراز النسبة بين عنوان العام والقيد ، ولا يكفي إحراز القيد بنفسه معرى عنها ، وحيث كان محل الكلام هو تخصيص العام الراجع إلى قصر عمومه الأفرادي فلا مجال لاحتمال الوجه الأول وإن كان ممكنا في نفسه ، وتردد الأمر بين الوجهين الأخيرين.

وحينئذ نقول : ذكر قدّس سرّه أن التخصيص كاشف عن تقييد موضوع حكم العام بعدم العنوان الخاص ، فيكون موضوع حكم العام مقابلا لموضوع الخاص تقابل بشرط لا مع بشرط شيء ، ويكون المأخوذ في موضوع العام عنوانا مناقضا لعنوان الخاص.

ولازم ذلك الحمل على الوجه الثاني الذي هو مفاد السلب ، لأنه المناقض لمفاد الحمل ـ المأخوذ في الخاص ـ ولا وجه للحمل على الثالث الراجع إلى اعتبار الاتصاف بالعدم ، والذي يكون التقابل بينه وبين عنوان الخاص تقابل العدم والملكة ، لا النقيضين ـ كما اعترف به قدّس سرّه ـ بل هو مبني على ملاحظة العدم بما هو معنى اسمي يتصف به الموضوع ويحمل عليه ، وهو محتاج إلى عناية لا شاهد عليها ولا يقتضيها الجمع بين العام والخاص.

١٩٤

وعليه يتجه التمسك باستصحاب العدم الأزلي.

كما يتجه بناء على ما ذكرناه نحن من أن العام حتى لو لم يكن مقيدا بالوجه المذكور ، إلا أنه يكفي في ترتب حكمه إحراز عدم كون الفرد من أفراد الخاص ، لوضوح أن مفاد السلب محرز لذلك.

هذا ، ولو فرض التصريح في دليل الخاص بأخذ مفاد السلب قيدا في موضوع الخاص فالأمر أظهر ، بأن قيل مثلا : إنما يجب إكرام العالم إذا لم يكن فاسقا ، فإن إرجاعه لمفاد المعدولة خروج عن مفاده بلا وجه ، نظير ما تقدم فيما لو جعل مفاد السلب موضوعا للحكم ابتداء ، كما لو قيل : إن لم يكن ولدك أسود فتصدق بدرهم.

وبالجملة : رجوع التخصيص إلى أخذ الاتصاف بعدم الخاص قيدا في موضوع حكم العام لا وجه له ، فضلا عن إرجاع جميع موارد أخذ العنوان العدمي إلى ذلك ، بل هو موقوف على أخذ العدم بما هو معنى اسمي يتصف به الموضوع قيدا ، وهو محتاج إلى عناية لا شاهد لها ، بل هي خلاف ظاهر الأدلة في كثير من الموارد ، وليس الظاهر منها إلا أخذ السلب بما هو معنى حرفي مقابل للحمل في موضوع الحكم ، وحيث كان مفاده متحدا مع مفاد السالبة بانتفاء الموضوع ، تعين إحرازه باستصحابها ، كما ذكرنا.

وأما ما ذكره بعض السادة المعاصرين قدّس سرّه (١) من أن التقييد نحو من التوصيف ، إذ ليس المراد من الاتصاف إلا عروض خصوصية خارجة عن الذات وطروءها عليها.

ففيه : أن التقييد نحو نسبة تلحظ في مقام الجعل بين الحكم والقيد ، وهو أجنبي عن التوصيف القائم بين الصفة والموصوف.

__________________

(١) المرحوم السيد ميرزا حسن البجنوردي (رحمه الله تعالى).

١٩٥

نعم ، نفس القيد قد يكون هو الاتصاف الذي هو مفاد بشرط شيء ، وقد يكون عدمه الذي هو مفاد بشرط لا ، كما قد يكون أمرا آخر ، فليس التقييد متحدا مع التوصيف ولا ملازما له ، بل التوصيف قد يكون موضوعا للتقييد.

هذه عمدة الوجوه المذكورة في المقام ، وربما كان هناك وجوه اخرى لا يهم الكلام فيها بعد ما تقدم.

وقد تحصل أنه لا مانع من الرجوع لاستصحاب العدم الأزلي فيما إذا كان المهم هو إحراز مفاد السلب ، إما لكونه موضوعا للأثر أو قيدا فيه ، أو نقيضا لموضوع الأثر أو لقيده. وهو المطابق للمرتكزات العرفية ، لما هو المرتكز من أن العدم هو الأصل ، وإن كان في صلوح ذلك للاستدلال مع قطع النظر عن عموم الاستصحاب إشكالا. فلاحظ.

١٩٦

الفصل الثاني

في استصحاب الأحكام الوضعية

ذهب الفاضل التوني قدّس سرّه إلى عدم جريان الاستصحاب إلا في الأحكام الوضعية ، لكن لا بمعنى جريانه في نفس الحكم الوضعي ، كالسببية والمانعية ونحوهما ، بل بمعنى جريانه في نفس الأسباب والشروط والموانع ، كالبلوغ الذي هو سبب للتكليف ، والطهارة التي هي شرط للصلاة ، والحيض المانع منها ، فليس التفصيل في الحقيقة بين الأحكام الوضعية وغيرها ، بل بين موضوعاتها وغيرها.

وعمدة ما ذكره في وجهه ـ على طول كلامه ـ هو عدم عروض الإجمال والشك في بقاء الحكم التكليفي ـ الذي هو مورد العمل ـ إلا من جهة الشك في حدوث سببه أو شرطه أو مانعة أو بقائها ، لوفاء الأدلة بالجهات الاخرى.

وهو كما ترى! لإمكان الشك من جهات اخرى ، لإجمال الأدلة ، كما لو شك في حال السبب ، وأنه سبب حدوثا وبقاء أو حدوثا فقط ، أو في مفهومه ، أو نحو ذلك مما لا مجال معه لاستصحاب نفس السبب ، بل فيحتاج لاستصحاب نفس الحكم.

وقد تصدى شيخنا الأعظم قدّس سرّه لتعقيب كلامه بما لا حاجة لمتابعته فيه.

نعم ، هنا نزاع آخر في جريان الاستصحاب في نفس الأحكام الوضعية ، كالسببية ، والشرطية ، والمانعية ، والملكية ، والحجية وغيرها ، ومنشؤه النزاع في أن الأحكام الوضعية مجعولة بأنفسها أو منتزعة من الأحكام التكليفية.

١٩٧

وقد تعرض شيخنا الأعظم قدّس سرّه ومن تبعه للكلام في ذلك في مبحث الاستصحاب ، وأطالوا الكلام فيه وفي تفصيلاته.

لكن لا مناسبة بين ذلك وبين الاستصحاب ، بل ينبغي التعرض له في مقدمة علم الأصول (١) ، كما يتعرض لحقيقة الحكم التكليفي أيضا ، لأنه من مبادئه المهمة.

والذي يهمنا هنا هو أن الأحكام الوضعية إذا كانت منتزعة لا تنالها يد الجعل يمتنع جريان الاستصحاب فيها ، إذ لا حقيقة لها ، لتكون موردا للعمل الذي هو الشرط المهم في جريان الاستصحاب وغيره من التعبدات الشرعية. ووضوح ذلك يغني عن إطالة الكلام فيه.

__________________

(١) راجع أوائل الجزء الأول من هذا الكتاب.

١٩٨

الفصل الثالث

في استصحاب الكلي والمردد

تقدم أنه لا بد من كون المستصحب بعنوانه موردا للعمل ولو بتوسط ما يترتب عليه من الأثر الشرعي.

وحينئذ فإن كانت الخصوصية الفردية دخيلة في موضوع الأثر لزم إحرازها بنفسها في الاستصحاب ، ولا يجدي استصحاب الكلي الجامع بينها وبين غيرها.

وإن لم تكن دخيلة فيه ، بل كان الأثر للكلي تعين استصحابه ، ولا يجدي استصحاب الخصوصية إلا بلحاظ ملازمته لاستصحاب الكلي ، لأن اليقين بالفرد مستلزم لليقين بالكلي.

وقد تقدم في الأمر الثالث في ذيل الكلام في الأصل المثبت توضيح ذلك.

ويقع الكلام هنا في بعض أقسام استصحاب الكلي والفرد لخصوصية فيها مع قطع النظر عما تقدم.

والكلام في ذلك في مقامين ..

١٩٩

المقام الأول

في استصحاب الكلي

واعلم أن للشك في بقاء الكلي أقساما ينبغي التعرض لها ولحكمها ..

الأول : الشك في بقاء الكلي للشك في بقاء فرده المعين الذي علم بوجوده في ضمنه سابقا.

ولا إشكال هنا في جريان الاستصحاب في الكلي وترتيب أثره.

الثاني : الشك في بقاء الكلي ، لتردد الفرد الذي علم بوجوده في ضمنه بين معلوم الارتفاع ومعلوم البقاء ، كما لو تردد الحدث الواقع بين الأصغر الذي يرتفع بالوضوء والأكبر الذي يبقى معه.

ويلحق به ما لو كان التردد بين معلوم البقاء ومشكوك الارتفاع ، لعدم الفرق بينهما في أكثر جهات الكلام الآتي.

والظاهر هنا جريان استصحاب الكلي أيضا ـ كما ذكر غير واحد ـ وترتب أثره ، وإن لم يحرز به أثر خصوص الفرد الطويل ، لعدم تمامية أركان الاستصحاب فيه.

نعم ، قد يتنجز أثره لو كان طرفا لعلم إجمالي منجز مسبب عن العلم بوجود أحد الفردين.

وقد يستشكل فيه بوجوه ..

أولها : أن الكلي الطبيعي الذي هو موضوع الأثر الشرعي لا وجود له إلا بعين وجود أفراده ، فمع فرض عدم جريان الاستصحاب في الفرد ، لعدم تمامية أركانه فيه لا مجال لجريان الاستصحاب في الكلي.

٢٠٠